فصل: سورة ق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة ق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

مجيد‏:‏ وافر المجد، واسمٌ من اسماء الله الحسنى، يقال‏:‏ مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد‏.‏ ويقال‏:‏ مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد‏.‏ والمجد‏:‏ المروءة والسخاء والكرم والشرف‏.‏ رجعٍ بعيد‏:‏ البعث بعد الموت بعيدٌ كما يقولون‏.‏ ما تنقص الأرض‏:‏ ما تبليه الأرض من الاجسام بعد الموت‏.‏ حفيظ‏:‏ حافظ لتفاصيل الأشياء كلها‏.‏ كذّبوا بالحق‏:‏ كذبوا بالنبوة الثابتة‏.‏ مريج‏:‏ مختلط، مضطرب‏.‏ ما لها من فروج‏:‏ ليس فيها شقوق‏.‏ مددناها‏:‏ بسطناها‏.‏ رواسي‏:‏ جبالا ثوابت تمنع الأرض من ان تميد‏.‏ من كل زوج‏:‏ من كل صنف‏.‏ بهيج‏:‏ ذو بهجة وحسن‏.‏ منيب‏:‏ راجع‏.‏ حَب الحصيد‏:‏ حب الزرع المحصود‏.‏ باسقات‏:‏ طويلات، يقال بسقت النخلة بسوقا طالت‏.‏ الطلع‏:‏ أول ما يخرج من ثمرها‏.‏ نضيد‏:‏ منضود بعضه فوق بعض‏.‏ كذلك الخروج‏:‏ مثلَ ما ننبت النباتَ، كذلك نخرجكم من قبوركم‏.‏

‏{‏ق‏}‏‏:‏ حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان‏.‏

أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف‏:‏ إنا أرسلناك يا محمد لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة، بل عجِبوا أن جاءهم رسولٌ منهم ينذِرهم بالبعثِ بعد الموت، وزادوا في هذا الانكار فقالوا‏:‏ هذا شيء عجيب‏.‏

ثم زادوا في الانكار والتعجب بقولهم‏:‏

‏{‏أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ‏}‏

أبعدَ ان نموتَ ونصير تراباً نرجع أحياء مرة اخرى‏!‏ ذلك البعثُ بعد الموت رجوعٌ بعد الوقوع‏.‏

ثم اشار الله تعالى الى دليل جوازِ البعث وقدرته تعالى عليه فقال‏:‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ‏}‏‏.‏

قد علمنا ما تأكلُ الأرض من أجشامهم بعد الموت وتُبليهم، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان، والى أين صارت، فلا يصعُب علينا بعثُهم من جديد، وعندنا كتابٌ حافظٌ لتفاصيل الأشياء كلها‏.‏

ثم بين الله تكذيبهم بالنبوة الثابتة فقال‏:‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ‏}‏

إنهم لم يتدبروا ما جاءهم به الرسولُ، وهو الحقُّ الثابت، بل كذّبوا به دون تدبُّرٍ وتفكر، فهم في قلقٍ من أمرهم واضطرابٍ لا يستقرون منه على حال‏.‏

ثم وجّه انظارهم الى دليلٍ يدحض كلامهم لو فكروا فيه‏:‏ ألم ينظُروا إلى السماء والأرض وإلى الحبال الرواسي عليها، وكيف زيَّنَ السماءَ بالكواكب وليس فيها شقوق، وإلى الماء النازل من السماء الذي أنبت به الجنّاتِ من مختلف الأصناف والألوان، والنخلَ الباسقاتِ وطلعها المنضدَ الجميل‏.‏‏.‏ كل هذه الاشياء من أجلِ العباد ليعيشوا آمنين في هذه الحياة الدنيا متمتعين‏.‏ وكما أنزلنا الماء من السماء وأحيينا به الأرض- كذلك نُخرجكم أيها الناس من قبوركم ونبعثكم حياة اخرى‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ الخروج‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 22‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

الرسّ‏:‏ البئر التي لم تبنَ بالحجارة‏.‏ واصحاب الرسّ‏:‏ قوم شعيب‏.‏ الأيكة‏:‏ الشجر الكثير الملتف، وهم من قوم شعيب ايضا‏.‏ تُبَّع‏:‏ احد ملوك حمير في اليمن‏.‏ أفعَيِينا‏:‏ أفَعجِزنا‏.‏ في لبس‏:‏ في شك‏.‏ الوسوسة‏:‏ حديث النفس، وما يخطر بالبال‏.‏ حبل الوريد‏:‏ عِرق كبير في العنق‏.‏ قعيد‏:‏ مقاعد له كالجليس بمعنى المجالس‏.‏ رقيب‏:‏ مراقب‏.‏ عتيد‏:‏ مهيأ، حاضر‏.‏ سكرة الموت‏:‏ شدّته‏.‏ تَحيد‏:‏ تميل‏.‏ يوم الوعيد‏:‏ يوم وقوع العذاب الذي وُعدوا به‏.‏ سائق وشهيد‏:‏ سائق يسوقها الى المحشر، وشاهد يشهد عليها‏.‏ الغطاء‏:‏ الحجاب‏.‏ وهو الغفلة والانهماك في اللذات، وقصر النظر‏.‏ حديد‏:‏ قوي نافذ‏.‏

بعد ان ذكر اللهُ تعالى تكذيبَ المشركين للنبيّ- ذكر المكذِّبين للرسُل من الأقوام السابقة مثل قوم نوحٍ وأصحابِ الرسّ وثمود، وعادٍ وفرعون وقوم لوط وقوم تُبَّع وغيرهم، وما آل اليه أمرُهم من الدمار والعذاب‏.‏ وكل ذلك تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم وتهديد لكفار قريش بأنهم سيصيبهم ما أصابَ الذين قبلهم إن أصرّوا على الكفر والعناد‏.‏ ثم بعد هذا العرض يقول الله تعالى‏:‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏

هل عجَزنا عن ابتداء الخلْق الأول، حتى نعجِزَ عن إعادتهم مرة اخرى‏!‏ بل هم في ريبٍ من ان نخلقهم من جديد‏.‏ ‏{‏كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏‏.‏

ثم ذكر الله تعالى دليلاً اخر على إمكانه وقدرته، وهو علمُه بما في صدور الناس جميعا‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏

فلا يخفى علينا شيءٌ من أمرِ البشر‏.‏

ثم بين أكثر من ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏

ونحن لعلمِنا بأحواله كلها اقربُ اليه من عِرق الوريد، الذي هو في جسده ذاته‏.‏

أخرج ابنُ مردويه عن أبي سعيد الخدريّ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نزل اللهُ في ابن آدم أربع منازل‏:‏ هو أقربُ اليه من حبل الوريد، وهو يحُول بين المرء وقلبه، وهو آخذ بناصيةِ كل دابة، وهو معهم أينما كانوا»‏.‏

ثم ذكر اللهُ تعالى ان الانسانَ موكَّلٌ به مَلَكان يكتبان ويحفظان عليه عملَه وأقواله، فهو تحت رقابة دائمةٍ شديدة دقيقة، وكل شيء مسجَّلٌ عليه تسجيلاً دقيقا‏.‏

ثم بعد ذلك يبين الله تعالى أن الانسانَ عند الموت ينكشفُ له كل شيء فقال‏:‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏‏.‏

ومعنى ذلك أن النفسَ وهي في سكرات الموت ترى الحقَّ كاملاً واضحاً، تراه بلا حجاب في تلك الساعة، وتدرك ما كانت تجهل، وهو الحق الذي كنتَ تفرّ منه ايها الكافر، ها قد جاءك فلا حيدَ عنه ولا مناص‏.‏

ثم بعد ذلك ينعطف الحديث الى يوم القيامة‏:‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ونفخ في الصور نفخةَ البعث، وذلك اليوم ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 6‏]‏، هو يومُ الوعيد الذي اوعد اللهُ الكفّارَ أن يعذّبهم فيه بعد الحساب‏.‏ يومذاك تأتي كل نفسٍ إلى ربّها ومعها سائقٌ يسوقها اليه، وشاهدٌ يشهد عليها بما عملتْ في الدنيا من خير او شر‏.‏

ثم يقال للمكذَِّب‏:‏ لقد كنتَ في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا الذي تراه من الأهوال والشدائد، فأزلنا عنكَ الحجابَ الذي كان يغطّي عنك أمور الآخرة، ‏{‏فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ قويّ نافذٌ لا يحجبه شيء، فلا مهرب عن عذاب الحريق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 35‏]‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏24‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ‏(‏25‏)‏ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ‏(‏26‏)‏ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏27‏)‏ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ‏(‏28‏)‏ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ‏(‏30‏)‏ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ‏(‏31‏)‏ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ‏(‏32‏)‏ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ‏(‏33‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ‏(‏34‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

القرين‏:‏ المصاحب، الملَكُ الموكل بالمرء‏.‏ معتدٍ‏:‏ متجاوز للحق ظالم‏.‏ مريب‏:‏ شاكّ في الله وفي دينه، يقال‏:‏ أرابَ الرجلُ صار ذا ريبة، وأرابَ الرجلَ اقلقه وازعجه‏.‏ قال قرينه‏:‏ الشيطان الذي أطغاه‏.‏ كان في ضلال بعيد‏:‏ بعيد عن الحق‏.‏ وأزلفت الجنة‏:‏ قُربت وأُدْنِيَتْ‏.‏ غير بعيد‏:‏ في مكان قريب‏.‏ لكل أواب‏:‏ لكل تائب راجع عن المعصية الى الطاعة‏.‏ حفيظ‏:‏ حافظ لحدود الله وشرائعه‏.‏ منيب‏:‏ مخلص‏.‏ ولدينا مزيد‏:‏ مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‏.‏

لا يزال الحديث عن يوم القيام وما يجري فيه‏.‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ‏}‏

وقال الملَكُ الموكَّل به الذي كان يسوقه الى الموقف‏:‏ هذا الذي وكَّلتني به يا ربُّ من بني آدم قد أحضرتُه وما هو مسجَّل عليه من قولٍ وعمل‏.‏

فيقال للملَكَين ‏(‏السائق والشهيد‏)‏‏:‏ ألقِيا في جهنمَ كلَّ كفّار عنيد، منّاعٍ للخير، ظالمٍ متجاوزٍ للحق، قد عَبَدَ غير الله‏.‏ ألقياه في العذاب الشديد‏.‏

فيقول ذلك الكافر عندما يرى العذاب‏:‏ ربِّ إن قريني من الشياطين أطغاني‏.‏ فيردّ عليه قرينه بقوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ‏}‏ كان طبعهُ الكفرَ والضلال والبعد عن الحق‏.‏

قال تعالى للكافرين وقرنائهم‏:‏ لا تختصِموا لديَّ في هذا الموقف، وقد قدّمتُ اليكم في الدنيا وعيداً على الكفر مع رسُلي إليكم فلم تؤمنوا‏.‏

‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏

لا يغيَّر قضائي الذي قضيته، ولا أَظلم أحداً، فلا أعذبه بغير جرم اجترمه، ولا أعذبُ احداً مكان احد‏.‏

وبعد ذلك يذكر مكان حلول الوعيد بقوله‏:‏

‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏؟‏‏}‏

وهذا يقال تقريعاً للكافرين إذ تطلب جهنمُ المزيدَ منهم‏.‏

وبعد هذا الحوار يأتي ذِكرُ حال المتقين‏.‏ وهو مشهد يختلف كل الاختلاف، وديعٌ أليف تقرَّب فيه الجنة من المتقين حتى تتراءى لهم ويشهد المؤمنون فيه الترحيب والتكريم من رب العالمين‏.‏

‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏

وقُرّبت الجنة للذين آمنوا واتقوا ربهم بحيث تكون بمرأى العين منهم، إكراماً لهم، فيرون ما أعدّ اللهُ لهم من نعيم وحبور، ولذةٍ وسرور، ويقال لهم‏:‏ ‏{‏هذا مَا تُوعَدُونَ‏}‏ من كل خير‏.‏ ثم يصفهم الله تعالى بأوصاف كريمة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ‏}‏

ثم يؤذَن لهم بالدخول بسلام خالدين فيها أبدا، ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ الخلود‏}‏‏.‏

وبعد ذلك يعلن المولى تعالى ببشارة عظيمة‏:‏

‏{‏لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ‏}‏‏.‏

إنهم يجدون فيها كل ما يشتهون‏.‏ ثم يمنُّ الله تعالى بكرمه أن يزيدَهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينُهم ولم يدرْ بخَلَدِهم، وتلك الضيافة الكبرى من الرحمن الرحيم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابو بكر‏:‏ يوم يقول لجهنم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ بالياء‏.‏ والباقون‏:‏ نقول بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 45‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏36‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ‏(‏38‏)‏ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ‏(‏39‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ‏(‏40‏)‏ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ‏(‏42‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ‏(‏43‏)‏ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ‏(‏44‏)‏ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ‏(‏45‏)‏‏}‏

القرن‏:‏ الجيل من الناس‏.‏ أشدّ منهم بطشا‏:‏ اشد منهم قوة‏.‏ فنقّبوا في البلاد‏:‏ طافوا في البلاد طلباً للرزق‏.‏ مَحيص‏:‏ مَهْرب‏.‏ لَذِكرى‏:‏ لعبرة‏.‏ او ألقى السمعَ وهو شهيد‏:‏ أصغى الى ما يتلى عليه وهو حاضر، ويفطن لما يقال‏.‏ لغوب‏:‏ تعب‏.‏ أدبار السجود اعقاب الصلوات، والأدبار جمع دُبُر ومعناه الأصلي الظهر ومؤخرة كل شيء‏.‏ الصيحة‏:‏ النفخة الثانية يوم القيامة‏.‏ بالحق‏:‏ بالبعث‏.‏ يوم الخروج‏:‏ من القبور‏.‏ بجبّار‏:‏ بمسيطر ومسلَّط، انما انت داعٍ ومنذر‏.‏

يبين الله تعالى لرسوله الكريم أنه مهما بلغت قوة قومه وغناهم فإنهم لم يبلغوا قوة الذين كانوا قبلهم من الأمم، فقد كان السابقون أشدَّ قوة وبطشا، وطوّفوا في البلاد وامعنوا في البحث والطلب ولم يغنِ عنهم كل ذلك من الله شيئا‏.‏

وفي هذا الذي نتلوه عليك من أخبار الماضين ذكرى وعبرةٌ لمن كان له قلبٌ يدرك الحقائق ويفهم ما يقال له، ويصغي وهو حاضرٌ شاهد‏.‏

ثم أعاد الدليلَ مرة أخرى على إمكان البعث، فبيّن ان الله خلق السمواتِ والأرضَ وما بينهما في ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب‏.‏‏.‏ وما دام الله قادراً على خلْق هذا الكون العجيب فإنه قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى‏.‏

‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏

اصبر على ما يقوله المشركون في شأنِ البعث من الأباطيل التي لا مستَنَدَ لها ولا دليل‏.‏ وسبِّحْ بحمدِ ربك وقت الفجر ووقتَ العصر وبعضَ الليل وفي أعقاب جميع الصلوات‏.‏

وقد وردت احاديث صحيحة في تحديد التسبيح بأن يقول‏:‏ سبحانَ الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمدُ لله ثلاثاً وثلاثين مرة، واللهُ اكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ويختمها بقول لا إله الا الله وحده لا شريك له، له الملْكُ وله الحمدُ يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، بعد كل صلاة‏.‏

‏{‏واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد‏}‏

أصغِ ايها الرسول لما أُخبرك به من اهوال يوم القيامة، يوم ينادي الملَكُ من مكان قريب من الناس، يوم يسمعون النفخةَ الثانية بالحق الذي هو البعث‏.‏

‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ الخروج‏}‏ من القبور‏.‏

ثم لخص ما تقدم بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير‏}‏

إلينا رجوع الناس جميعهم يوم البعث والجزاء‏.‏ وفي ذلك اليوم يخرجون من الأرض بعد ان تتشقق عنهم مسرعين الى المحشَر‏.‏

‏{‏ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ‏}‏‏.‏ هو عظيم بما فيه من الاهوال ولكنه علينا سهلٌ يسير‏.‏

ثم يخاطب الرسولَ الكريم مسلياً له بقوله‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ فاتركهم إلينا، ‏{‏وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ‏}‏ ولا مسيطِر حتى تجبرهم على الإيمان‏.‏ ما عليك الا البلاغ، ولذلك ‏{‏فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ‏}‏‏.‏

سورة الذاريات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الذاريات‏:‏ الرياح تذرو الترابَ وغيره، وهي تحمل معها الحياة لأنها تسوق السحاب، كما تحمل الدمار احيانا‏.‏ فالحاملات وقرا‏:‏ الوقر هو السحاب، تحمله الرياح موقَرة بالغيث يسوقها الله الى حيث يشاء‏.‏ فالجاريات يُسرا‏:‏ السفن تجري في يسر على سطح الماء‏.‏ فالمقسّمات أمرا‏:‏ الملائكة التي تحمل أوامرَ الله لتبليغها الى رسُله‏.‏ انما توعَدون‏:‏ هو البعث وهو صدق، والدين‏:‏ هنا الحساب والجزاء‏.‏ والسماءِ ذات الحبك‏:‏ السماء ذات الطرق المحكمة النظام‏.‏ إنكم لفي قول مختلف‏:‏ مضطرِب متناقض‏.‏ يؤفكُ عنه مَن أُفك‏:‏ يُصرف عنه من صرف عن الايمان‏.‏ الخرّاصون‏:‏ الكذابون‏.‏ في غمرة‏:‏ في جهل يغمرهم‏.‏ ساهون‏:‏ غافلون عما أُمروا به‏.‏ أيان يوم الدين‏:‏ متى يوم الجزاء‏.‏ يفتنون‏:‏ يحرقون‏.‏ فتنتكم‏:‏ عذابكم العدّ لكم‏.‏ أقسَم الله تعالى بهذه الأشياء‏:‏ بالرياح المثيراتِ للتراب وغيره، وبحملها للسُحب فالحاملات منها ثقلاً عظيما من الماء، وبالسفن الجارية تمخرُ البحار، وبالملائكة تقسِم أوامرَ الله وتبلّغُها إلى رسله الكرام- أنّ البعث لحقٌّ صادق، وان الدّين ‏(‏وهو الجزاء على اعمالكم‏)‏ لحاصِل‏.‏ واقسم الله تعالى بالسماء ذاتِ الجمال والبهاء، المحكَمةِ البنيانِ والنظام، أنكم أيّها المشرِكون المكذِّبون للرسولِ لَفي قولٍ متناقضٍ مضطرب ‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ أي يُصرف عن الدين والحق، من صرَفَه عنه جهلُه وهواه‏.‏

‏{‏قُتِلَ الخراصون الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ‏}‏

هلك الكذّابون القائلون في شأن القيامة بالظنّ، الذين هم مغمورون في الجَهل، غافِلون عما أُمروا به‏.‏

وهم يسألون استهزاءً فيقولون‏:‏ متى يومُ الجزاء‏؟‏ قل لهم يا محمد إن يومَ الدّين ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ أيْ في جهنمَ يُحرقون، ويُقال لهم‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تظنون انه غير كائن وتستعجلون وقوعه مستهزئين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏ قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ما يهجعون‏:‏ ما ينامون‏.‏ الأسحار‏:‏ أواخر الليل‏.‏ وفي أموالهم حق‏:‏ نصيب‏.‏ للسائل‏:‏ للطالب‏.‏ المحروم‏:‏ المتعفف الذي لا يسأل‏.‏ يُطلق على الواحد والجمع‏.‏ قوم منكَرون‏:‏ مجهولون غير معروفين‏.‏ فراغَ الى أهله‏:‏ فذهب الى اهله خفية وسرا‏.‏ فقرّبه اليهم‏:‏ وضعه بين أيديهم‏.‏ فأوجس منهم خيفة‏:‏ أضمر في نفسه الخوف منهم‏.‏ امرأته‏:‏ سارة‏.‏ في صرة‏:‏ في ضجة‏.‏ فصكت وجهها‏:‏ ضربت بيدها على جبهتها‏.‏ وقالت‏:‏ عجوز عقيم‏:‏ أنا كبيرة السن لا ألد‏.‏

بعد ان ذكر الكفارَ المنكرينللبعث والزاءِ وما ينتظرهم يومَ القيامة- ذكَرَ هنا حالَ المؤمنين المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم في جَنّة الخُلد، لأنهم آمنوا وكانوا محسِنين في الدنيا، وكانوا يقيمون صلاةَ الليل ويتهجّدون في معظمِه، ويستغفِرون اللهَ تعالى في وقت الأسحار كما جعلوا في أموالِهم جزءاً للفقراءِ والمساكين، والذين لا يَجِدون ولا يَسالون‏.‏

ثم ذَكرَ بعد ذلك بعضَ الآيات الكونية في الأرض والنفس‏.‏ وفي الأرضِ دلائلُ على وجود الخالق العظيم، وفي أنفسِكم ايها الناسُ كذلك آياتٌ واضحةٌ أفلا تُبصِرون دلالتها‏؟‏‏.‏ وفي السماء أسبابُ رِزقكم، وكذلك ما توعَدون من كل شيء، فاعملوا وتوكّلوا على اللهِ الرزاقِ الكريم ولا تخافوا‏.‏

ثم أقصِمَ اللهُ تعالى بعزّته وجلاله ان البعثَ حقٌّ ‏{‏مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ فلا تشكّوا فيه، يعني أن بَعْثَ الناسِ يومَ القيامة حقٌّ كأنكم تسمعون وترون‏.‏

ثم تطرّقَ إلى قصة إبراهيم مع ضيوفه، تسليةً لرسوله الكريم‏.‏ وقد تكرر ذكر ابراهيم كثيراً لأن النبيَّ على دينه، ولأنّ قريش كانت تقول إنّهم على دِين إبراهيم‏.‏

هل علمَت يا محمد قصةَ الملائكة، ضيوفِ إبراهيم، الذي وفدوا عليه فأكرمهم وهو لا يعرفُهم، ولذلك قال لهم‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ مجهولون لنا لا نعرفهم‏.‏

ثم أسرع إبراهيم الى أهله خِفية وقدّم لضيوفه عجْلا سمينا مشويّا، فقرّبه إليهم، فلم يأكلوا منه، فقال منكِرا لحالهم‏:‏ ألا تأكلون‏؟‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ خافَ منهم في نفسِه، ظناً منه ان امتناعَهم عن الأكل إنما كان لشرّ يريدونه‏.‏

‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ وطمأنوه بقولهم‏:‏ لا تخفْ منا، إنا رسُل ربك إلى قوم لوطٍ، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 70‏]‏‏.‏

ثم زادوا طمأنتهم له‏:‏ فقالوا‏:‏ أبْشِر يا إبراهيم بغلامٍ عليم‏.‏ هذا هو ابنه اسحاق من زوجته سارة‏.‏ فلمّا أقبلت سارة وفوجئت بالبِشارة صاحت وضربت بيدها على جبينها، وقالت‏:‏ أنا عجوز عقيم فكيف ألِد‏؟‏ كما جاء واضحاً في سورة هود 72 ‏{‏قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً‏}‏ ‏{‏قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم‏}‏

كذلك قضى ربك بحكمتِه، إنه هو الحكيم في كل ما يقضي، العليم الذي لا يخفى عليه شيء‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابو بكر‏:‏ انه لحقٌّ مثلُ ما انكم تنطقون برفع مثل، والباقون‏:‏ مثلَ بالنصب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 46‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ما خطبكم‏:‏ ما شأنكم الذي أُرسلتم من أجله، والخطب‏:‏ الشأن الخطير‏.‏ الى قوم مجرمين‏:‏ هم قوم لوط‏.‏ مسوَّمة‏:‏ معلّمة، عليها علامة خاصة‏.‏ للمسرفين‏:‏ الذين جاوزوا الحد في الفجور‏.‏ آية‏:‏ علامة‏.‏ بسلطان مبين‏:‏ بحجّة واضحة‏.‏ فتولى بركنه‏:‏ فتولى بقوته معتزاً بها وبجنوده‏.‏ نبذناهم‏:‏ طرحناهم، ألقيناهم في البحر‏.‏ مُليم‏:‏ فعلَ ما يلام عليه من الكفر والعناد‏.‏ الريح العقيم‏:‏ التي لا خير فيها، لا تلقح شجرا، ولا تحمل مطرا‏.‏ كالرميم‏:‏ كالبالي من كل شيء‏.‏ فعتَوا‏:‏ فاستكبروا عن امتثال الأوامر‏.‏ الصاعقة‏:‏ نار تنزل من السحاب بالاحتكاكات الكهربائية‏.‏

قال إبراهيمُ يخاطب الضيوفَ بعد ان سلَّم عليهم وهو لا يعرفهم‏:‏ ما شأنُكم، وفيم أُرسِلتم‏؟‏ فقالوا له‏:‏ إنّا أُرسِلنا الى قومِ لوطٍ المجرِمين، ومعنا أوامرُ من الله تعالى بإهلاكهم‏.‏ ولم يجِدوا فيها غيرَ أهلِ بيتٍ من المسلمين‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم‏}‏

وجعلنا بَلَدهم عِبرةً بما أنزلنا بِها من العذابِ والدّمارِ، وذِكرى للّذين يخافون الله‏.‏

وكذلك أرسل اللهُ موسى إلى فرعونَ وقومه بحجّةٍ واضحة ومعجزاتٍ باهرة، فأعرض فرعونُ عن الإيمان برسالة موسى معتدّاً بقوّته وما عندَه من جنودٍ ومُلكٍ، وقال عن موسى‏:‏ إنه ساحر او مجنون‏.‏ فأغرقه الله هو وجنودَه في البحر ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ أيْ مقترفٌ من الأعمال ما يُلام عليه‏.‏

وكذلك في قصة عادٍ عبرةٌ وعظةٌ، حيث أهلكهم اللهُ بالرِيح العقيمِ العاتية‏.‏ ومثلُهم قومُ ثمودٍ، أهلكهم اللهُ بالصاعقة، وقبلَهم قومُ نوحٍ أغرقَهم الله بذُنوبهم،‏.‏ وقد تقدمت قصة الجميع اكثر من مرة في سورة الأعراف وهود بأوسعَ من ذلك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي‏:‏ فاخذتهم الصعقة‏:‏ والباقون‏:‏ الصاعقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 60‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

والسماءَ بنيناها بأيدٍ‏:‏ بنيناها بقوة‏.‏ وإنا لموسِعون‏:‏ يعني ان هذا الكون فيه أمور تذهل لما يتسع فيه من المجرّات والاجرام السماوية التي تتمدد وتتسع دائما‏.‏ والأرضَ قرشناها‏:‏ مهّدناها كالفراش ليعيش الناس عليها‏.‏ فنِعم الماهدون‏:‏ فنعم المهيّئون لها نحن‏.‏ ومن كل شيء خلقنا زوجين‏:‏ ذكراً وانثى‏.‏ ففِروا الى الله‏:‏ التَجِئوا اليه، واعتصموا به‏.‏ أتواصَوا به‏:‏ هل أوصى بعضهم بعضا بهذا القول‏؟‏ فما أنتَ بملوم‏:‏ ما أنت بمسئول عن عدم استجابتهم‏.‏ فان للذين ظلموا ذنوبا‏:‏ نصيبا‏.‏ مثلَ ذَنوبِ اصحابهم‏:‏ مثل نصيب أصحابهم من الكفار من الأمم الماضية‏.‏

بعد إشارات سريعة الى قصصِ بعضِ الأنبياء الكرام، وذِكر شيءٍ من أفعال أقوامهم- يأتي ذِكرُ قدرة الله تعالى على خلْق هذا الكون ببناءِ السماء بهذا الإحكام المنفرد، وبأن التوسِعةَ مستمرةٌ على الزمن، وأن في الكون أجراماً من السُدُم والمجرّات تتمدَّد وتتوسّع دائما الى ما شاء الله‏.‏‏.‏ وهذه ابحاثٌ في عِلم الفلك مذهلةٌ لمن شاءَ ان يطّلع عليها، فانه سيجدُ العَجَبَ العُجاب‏.‏‏.‏ وان الله تعالى فرشَ لنا هذه الأرضَ ومدّها لنا لنعيشَ عليها بأمانٍ وسلام، وخلَق من كل شيء ذكراً وأنثى لاستمرار الحياة وبقائها الى أن يشاءَ خالقُها‏.‏ ولذلك ينصحنا الله تعالى أن نلجأ اليه، ونسارعَ إلى طاعته، كما نصَح من أرسَل رسله اليهم من المشركين‏.‏

كذلك شأن الأمم مع رسلهم، ما جاء رسولٌ إلى قومه إلا قالوا عنه ساحر أو مجنون‏.‏

‏{‏أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏

أأوصى بعضُهم بعضاً بهذا القول‏؟‏ بل هم قوم طاغون تجاوزوا كلَّ حدٍّ في طعنِهم على الرسُل والأنبياء‏.‏

ثم خاطب الرسولَ الكريم مسلّياً له بقوله‏:‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ أَعرِض عن هؤلاء المعانِدين المنكِرين يا محمد، فما أنتَ بملومٍ على عدَم استجابتهم ولا بمسئول، وداوِم على التذكير فإن الذِكرى تنفع مَن في قلوبهم استعدادٌ للهداية من المؤمنين‏.‏

ثم بين بعد ذلك كلّه ما هو المرادُ من خلْق الجِنّ والإنس فقال‏:‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ لا أريدُ منهم رِزقاً لأني غنيٌّ عن العالمين، ولا أريدُ ان يطعموني لاني أطعِم ولا أطعَم‏.‏ ان الله وحدَه هو المتكفّل برزقِ هذا الخلق ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين‏}‏‏.‏

ثم بيّن ان للذين ظلموا أنفسَهم بالكفر نصيباً من العذاب مثلَ نصيبِ أصحابهم من الأمم الماضية، فلا يستعجلني قومُك أيها الرسول بإنزالِ العذاب قبل أوانه‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ‏}‏

ختم السورة الكريمة بهذا الانذار الشديد الذي سينالهم يوم القيامة‏.‏

سورة الطور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

الطور‏:‏ هو طور سيناء، والطور في اللغة‏:‏ الجبلُ، وفناء الدار، وجبلٌ قرب العقبة يضاف الى سيناء وسينين، وجبلٌ بالقدس عن يمين المسجد، وجبلٌ مطلّ على طبرية‏.‏ «القاموس»‏.‏ ويقال لجميع بلاد الشام الطور‏.‏ «معجم البلدان»‏.‏ كتاب مسطور‏:‏ كل كتاب نزل من عند الله، مسطور‏:‏ مكتوب بسطور منتظمة‏.‏ ورَقٍّ منشور‏:‏ الرق بفتح الراء‏:‏ جلدٌ رقيق يكتب فيه‏.‏ منشور‏:‏ مفتوح للناس‏.‏ البيت المعمور‏:‏ الكعبة المعمورة بالحجّاج والطائفين‏.‏ والسقف المرفوع‏:‏ السماء وما فيها من عجائب‏.‏ والبحر المسْجور‏:‏ المملوء، يقال‏:‏ سجر النهر ملأه، والمسجور‏:‏ البحر الذي ماؤه اكثر منه «القاموس»‏.‏ تمور‏:‏ تضطرب وترتج‏.‏ في خوضٍ يلعبون‏:‏ الذي يلْهون بالباطل، وأصل الخوض‏:‏ السيرُ في الماء، ثم غلبَ على الخوض في الباطل‏.‏ يدعّون‏:‏ يدفعون دفعا عنيفا‏.‏ اصلَوها‏:‏ ذوقوا حرها‏.‏

اقسم الله تعالى بخمسة مقدَّسات في الأرض والسماء، بعضُها مكشوفٌ معلوم وبعضُها مغيَّب مجهول، بطورِ سيناء الذي كلّم الله عليه موسى، وبالكتُب المنزلة من عنده ‏(‏وعبر عنها بكتابِ، بالإفراد، لأنها وحدةٌ واحدة تدعو الى نهجٍ واحد‏)‏ في صحفٍ ميسّرة للقراءة، وبالبيت المعمور بالعبادةِ ليلَ نهار، وبالسماء وما فيها من عجائب الكون، وبالبحر المملوء بالمخلوقات‏.‏

اقسم الله تعالى بهذه المقدسات أن عذابه لا بدّ أن يقع بالكافرين لا يستطيع أحدٌ دفعه عنهم، وذلك يوم القيامة، يوم تضطربُ السماء اضطراباً شديداً بما فيها، وتسير الجبال سيراً شديداً وتمرُّ مر السحاب‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ اعداءِ الله الذين يخوضون في الباطل ويتخذون الدينَ لَهواً ولعبا‏.‏ ففي ذلك اليوم يُدفعون الى النار دفعاً شديدا ويقال لهم‏:‏ ‏{‏هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ‏}‏ فادخلوها وقاسوا حَرَّها وعذابها‏.‏ وسواء عليكم أصبرتم ام لم تصبروا، فليس لكم منها مَهرب، وأنتم تلاقون اليوم ذلك الجزاء الذي كنتم توعَدون به على أعمالكم السيئة في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

فاكهين‏:‏ نفوسُهم طيبة متمتعين بما أعطاهم الله من نعيم الجنة‏.‏ وقاهم‏:‏ حفظهم‏.‏ وزوّجناهم بحورٍ عين‏:‏ الحور‏:‏ نساء الجنة‏.‏ وما ألَتناهم من عملهم‏:‏ ما أنقصناهم‏.‏ رهين‏:‏ مرعون بعمله عند الله‏.‏ يتنازعون‏:‏ يتعطَون ويتجاذبون‏.‏ لا لغو فيها ولا تأثيم‏:‏ ان خمر الجنة لا تذهبُ بعقل الشارب، فيلغو ويأثمُ في كلامه‏.‏ غلمان‏:‏ مماليك مختصون بهم‏.‏ مكنون‏:‏ مصون‏.‏ مشفِقين‏:‏ خائفين‏.‏ السّموم‏:‏ النار‏.‏ البر‏:‏ الواسع الاحسان‏.‏

بعد ان بيّن ما يصيب الكافرين الكذّابين من العذاب، ذكَر هنا بالمقابل ما أعدّ الله للمؤمنين وما يتمتعون به في جنّات النعيم من مختلِفِ أنواع الملذّات في المسكَن والمأكل والأزواج هم وذريّاتهم الطيبة، لا ينقُصُهم شيئاً من ثواب أعمالهم، وكل انسان يعطى على قدْر ما قدّم من عمل صالح‏.‏ ويُنعم الله عليهم بأنواع الفاكهة واللّحم ومما يشتهون، ويجلسون على الأسرّة يتجاذبون أطراف الاحاديث، ويشربون من شراب الجنة ‏{‏كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ فيها شرابٌ لا يَعْبَث بالعقل، ولا يدع شاربها يتكلم باللغو او الباطل‏.‏ ويقوم على خدمتهم غلمانٌ غاية في الحسن والجمال ‏{‏كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ من حيث الصفاء والبياض وحُسن الرونق‏.‏

ثم يُقبل بعضهم على بعض يتساءلون ويتحدّثون في أخبار الدنيا وما مرّ عليهم، ويقولون‏:‏ كنا في دار الدنيا خائفين من عذاب الآخرة، ‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم‏}‏، اذ تفضّل برحمته لنا، ووقانا عذاب النار‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم‏}‏

انا كنّا نعبده في الدنيا، ونسأله ان يمنَّ علينا بالمغفرة والرحمة، فاستجابَ لنا وأعطانا مآلنا، انه هو المُحسِن الواسعُ الرحمة والفضلز

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو‏:‏ واتبعناهم ذرياتهم بدمع ذريات‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ واتبعتهم ذرياتهم بالجمع‏.‏ والباقون‏:‏ واتبعتهم ذريتهم بالإفراد وكلمة ذرية تقع على الواحد والجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 44‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

الكاهن‏:‏ الذي يوهم الناسَ أنه يعلم الغيب عن طريق اتصاله بالجنّ‏.‏ نتربص‏:‏ ننتظر‏.‏ المنون‏:‏ المنية، والدهر‏.‏ ريب المنون‏:‏ حوادثُ الدهر وصروفه‏.‏ أحلامهم‏:‏ عقولهم‏.‏ قومٌ طاغون‏:‏ ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد‏.‏ تقوّله‏:‏ اختلقه من عند نفسه‏.‏ من غير شيء‏:‏ من غير خالق‏.‏ خزائن ربك‏:‏ خزائن رزقه‏.‏ المصيطرون‏:‏ بالصاد وبالسين‏:‏ القاهرون، المسلَّطون، سيطر عليه‏:‏ تسلط عليه‏.‏ بسلطان مبين‏:‏ بحجة واضحة‏.‏ من مَغرم مثقلون‏:‏ من غرامة ثقيلة عليهم‏.‏ كيداً‏:‏ شراً‏.‏ مَكيدون‏:‏ يحيق بهم الشر ويعود عليهم وباله‏.‏ كسفا‏:‏ جمع كسفة وهي القطعة من الشيء‏.‏ مركوم‏:‏ متراكم بعضه فوق بعض‏.‏

يأمر الله تعالى رسوله الكريم أن يداوم على التذكير والموعظة، وعدم المبالاة بما يكيد المشركون، فما أنت ايها الرسول، بفضل ما أنعم الله به عليك من النبو ورجاحة العقل بكاهن، ولا بمجنون كما يزعمون، ولا انت شاعرٌ كما يقولون حتى يتربّصوا بك حوادثَ الدهر ونكباته‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ انتظِروا، فإني معكم من المنتظرين‏.‏

ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏؟‏‏}‏

هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء، والمجنونُ لا عقل له، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً‏!‏‏؟‏، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها‏.‏

ثم زادوا في الإنكار ونسَبوا الى النبيِّ الكريم أنه اختلق القرآن من عنده، بل هم بمكابرتهم لا يؤمنون‏.‏ فإن صحَّ ما يقولون فليأْتوا بحديثٍ مثل القرآن، ان كانوا صادقين في قولهم ان محمداً اختلقه‏.‏

ثم انتقل الكتابُ الى الردّ عليهم في إنكارهم وجودَ الخالق كما هو شأن الدهريين فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون‏؟‏‏}‏

هل خُلقوا من غير إله، ام هم الّذين خلَقوا أنفسَهم، فلا يعترفون بخالقٍ يعبدونه‏.‏

وهل هم الذين خلَقوا السمواتِ والأرضَ على هذا الصنع البديع‏؟‏ بل حقيقةُ أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون‏.‏

وهل عندهم خزائنُ ربّك يتصرفون بها، ‏{‏أَمْ هُمُ المسيطرون‏}‏ القادرون المدبِّرون للأمور كما يشاؤون‏.‏ الحقيقة ان الأمرَ ليس كذلك، بل اللهُ هو المالكُ المتصرف الفعال لما يريد‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي المسيطرون بالسين‏.‏ والباقون بالصاد‏.‏ يقال‏:‏ سيطر وصيطر‏.‏

روى البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال‏:‏ سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرِب بالطّور، فلما بلغ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون‏؟‏ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسيطرون‏}‏ قال‏:‏ كادَ قلبي يطير، وأثّرت فيه هذه الآياتُ وكان ذلك من أسباب دخوله الاسلام‏.‏

وكان جبير من الذين وفَدوا على النبي الكريم بعد وقعةِ بدرٍ في فداء أسرى قريش‏.‏

فاذا كانت أقوالُهم هذه غيرَ صحيحة فهل يدَّعون انهم ارتقوا بمصعَدٍ إلى السماء وسمعوا شيئاً من الله‏؟‏

‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ‏}‏

فليأتِ الذي استمع شيئاً بحجّة واضحةٍ تصدِّق دعواه‏.‏

ثم رد على الذين قالوا ان الملائكة بناتُ الله، وسفّه احلامهم، اذ اختاروا له البناتِ ولأنفسِهم البنينَ فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون‏}‏ كما تشاؤون وتحبّون‏؟‏ ولماذا يكذِّبون رسول الله‏؟‏ هل طلبَ منهم أجرة باهظة تُثقل كواهلهم ‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ‏}‏‏؟‏ أم عندَهم عِلم الغيب، فهم يكتبون منه ما يشاؤن‏؟‏ بل يريد هؤلاء المشركون بقولهم هذا وافترائهم كيداً في رسول الله وفي الناس‏.‏ فإن كان هذا ما يريدون فكيدُهم راجعٌ إليهم ووبالُه على أنفسهم‏.‏ ام لهم الهٌ يعبدونه غير الله يمنعهم من عذاب الله‏؟‏ ‏{‏سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ‏}‏‏.‏

ان هؤلاء القوم معانِدون مكابرون، فحتى لو رأَوا بعضَ ما سألوه من الآيات، فعاينوا بعضَ السماءِ ساقطاً لكذّبوا وقالوا‏:‏ هذا سحابٌ بعضُه فوق بعض‏.‏ وذلك لن الله ختم على قلوبهم، وأعمى أبصارَهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يُصعقون‏:‏ يهلكون‏.‏ دون ذلك‏:‏ غيره‏.‏ بأعيُننا‏:‏ في حِفظنا ورعايتنا‏.‏ إدبار النجوم، بكسر الهمزة‏:‏ وقتُ مغيبها‏.‏

يتّجه الخطاب هنا الى الرسول الكريم تسليةً له بأن يدعَ هؤلاء الكفار وشأنهم حتى يلاقوا يومَهم الذي يهلكون فيه‏.‏‏.‏ لا تكترثُ تكذيبم وعنادهم، فإن لهم يوما لا يجدون فيه من يدافع عنهم أو ينصرهم‏.‏ بل ان لِلذين ظلموا انفسهم بالكفر، مثل هؤلاء، عذاباً آخر قبل يوم القيامة، ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ فاصبر يا محمد لحكم ربك بإمهالهم، وعلى ما يلحقُك من أذاهم، فإنك في حِفظِنا ورعايتنا فلا يضرّك كيدهم، ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ في الليل، وسبِّحه حين تغيبُ النجوم، واذكر الله في جميع الحالات والأوقات، آناءَ الليل وأطرافَ النهار‏.‏

سورة النجم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

النجم‏:‏ جنس النجوم‏.‏ هوى‏:‏ سقطَ وغرب‏.‏ ما ضلّ‏:‏ ما حادَ عن الطريق المستقيم‏.‏ صاحبكم‏:‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما غوى‏:‏ ما اعتقد باطلا، ولا حاد عن الهدى‏.‏ وما ينطِق عن الهوى‏:‏ وما يقول عن هوى نفسه‏.‏ شديد القوى‏:‏ الملَكُ جبريل‏.‏ ذو مِرة‏:‏ ذو حصافة عقل وقوة عارضة‏.‏ فاستوى‏:‏ فاستقام، واستوى لها عدة معان اخرى‏.‏ وهو بالأفق الأعلى‏:‏ وهو بالجهة العليا من السماء‏.‏ ثم دنا‏:‏ ثم قرب‏.‏ فتدلّى‏:‏ فنزل‏.‏ فكان قاب قوسين أو أدنى‏:‏ فكان قربُه قَدْرَ قوسين أو أقرب، والقابُ‏:‏ المقدار‏.‏ أفتمارونه‏:‏ افتجادلونه على ما يراه‏.‏ نزلةٌ اخرى‏:‏ مرة أخرى‏.‏ سِدرة المنتهى‏:‏ شجرة عظيمة مباركة‏.‏ جنة المأوى‏:‏ جنة الخلد التي تؤوي المؤمنين‏.‏ يغشى‏:‏ يستر ويغطي‏.‏ ما زاغ البصرُ‏:‏ ما مال بصر محمد عما رآه‏.‏ وما طغى‏:‏ وما تجاوز ما أُمر به‏.‏ آيات ربه الكبرى‏:‏ عجائب ملكوته‏.‏

لقد أقسَم الله تعالى بخلْق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتَها الا هو، وهي نجومُ السماء، بأن محمّداً، صاحبَكم يا معشرَ قريش وتعرفونه حقَّ المعرفة، وهو محمد الأمين كما سمَّيتموه- ما عَدَلَ عن طريق الحق، وما اعتقدَ باطلا، ولا يتكلّم إلا بوحيٍ من الله تعالى‏.‏ وقد نقل إليه هذا الوحيّ من ربه الأعلى وعلّمه إياه جبريلُ الأمين، شديدُ القوى، ذو حصافة عقل ورأي سديد، فاستقام على صورته الحقيقية‏.‏ ولقد رآه النبيُّ عليه الصلاة والسلام مرَّتَين‏:‏ مرةً على الأرض في غارِ حِراء، ومرةً أخرى ليلةَ المعراج‏.‏ ورأى من عجائبِ صنع الله ما رأى، مما استطاعَ أن يخبركم به‏.‏ وقد اوحى الله الى عبدهِ ما أوحى، ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏، بل لقد رأى جبريلَ ببصرِه حقيقةً، فلا العينُ اخطأت فيما رأت، ولا القلبُ شكّ فيما رأت العين بل أيقنَ وجزم بصدقها‏.‏ ‏{‏أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى‏}‏ وبعد هذا كلّه تجادِلونه على ما يراه وتكذّبونه‏!‏‏!‏ كذلك رآه مرةً أخرى عند سِدرة المنتهى بقرب الجنة، ‏{‏إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى‏}‏ من فضلِ الله ما لا يحيط به وصف‏.‏‏.‏ لقد رأى من عجائب آياتِ ربه الكبرى ما يَبْهَرُ الفؤاد ويجِلُّ عن الوصف‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ هشام‏:‏ ما كذّب بتشديد الدال‏.‏ والباقون‏:‏ ما كذَب بدون تشديد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب‏:‏ افَتمرونه بفتح التاء، اي تغلبونه‏.‏ والباقون‏:‏ افتمارونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 26‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

اللات والعزَّى ومناة‏:‏ اصنام كانت تعبدها العرب في الجاهلية وأبطلَها الاسلام‏.‏ اللات‏:‏ كانت صخرة مربعة بالطائف، وبها سمى العربُ في الجاهلية زيدَ اللات، وتَيْم اللات‏.‏ وكانت في موضع منارةِ مسجد الطائف اليسرى اليوم‏.‏ وبعد فتحِ الطائف بعث الرسولُ الكريم المغيرةَ بنَ شُعبة فهدمها وحرقها بالنار‏.‏ العُزّى‏:‏ شجرة من السَمُرِ كانت بوادِ حَراضِ عن يمين الذاهب الى العراق، وأولُ من اتخذها ظالم بن اسعد، وكانت أعظمَ الاصنام عند قريش‏.‏ وبها سمت العرب‏:‏ عبدَ العزى‏.‏ فلما كان عامُ الفتح دعا النبي خالدَ ابن الوليد فقال له‏:‏ انطلق الى شجرةٍ ببطن نَخْلَةَ فاعصرها، فقتلَ سادِنَها وقطع الشجرة‏.‏ مَناة‏:‏ وهي أقدم هذه الاصنام، وكان صنمه منصوباً على ساحل البحر بناحية المشلل بِقَديدٍ، بين المدينة ومكة‏.‏ وكانت العرب جميعا تعظّمه وتذبح حوله‏.‏ وكانت الأوسُ والخزرج تعظّمه أكثرَ من جميع العرب، وكانوا يحلقون رؤوسهم عند مناة‏.‏ وبعد فتح مكة أرسل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عليَّ بنَ ابي طالب كرم الله وجهه فهدَمها وأخذ ما كان لها‏.‏ وكان من جملة ما وجدَ عندها سيفان، فوهبَهما الرسولُ الى علي رضي الله عنه‏.‏ والعرب تسمى‏:‏ عبدَ مناة وزيدَ مناة، وكانت أقدم الاصنام الثلاثة‏.‏ ضِيزى‏:‏ جائرة، يقال‏:‏ ضاز يضيز ضيزا‏:‏ اعوجّ وجار، وضازه حقَّه ظَلَمه‏.‏ من سلطان‏:‏ من حجة‏.‏

يخاطب الله تعالى قريشاً فيقول‏:‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللات‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أخبِروني عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله وهي اللات والعزى ومناة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ هل لها قدرة توصف بها‏؟‏

وبعد ان أنّبهم على سُخف عقولهم بعبادة الاصنام، التي كانوا يزعمون انها هياكل للملائكة وان الملائكة بناتُ الله، قال‏:‏

‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى‏}‏ ان هذه القسمة جائرة، وغير عادلة‏.‏

ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذِب والافتراء في عبادةِ الأصنام وتسميتها آلهةً بقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏

هي أسماء لفّقتموها، وما تتبعون الا الظنَّ الذي تهواه أنفسكم في هذا الشأن‏.‏ أما الآن وعلى لسان محمدٍ، فقد جاءكم من ربكم الهدى لو تتبعونه‏.‏

ومع هذا فإن هذه الأصنام لا تنفعكم، ولا تشفع لكم عند الله، وما هي الا أباطيل من صنع الكهنة والسَدَنة ليأكلوا أموالَ الناس بالباطل‏.‏‏.‏ اما كل ما في هذا الكون دنيا واخرى، فهو مِلك له تعالى، لا شريك له ولم يلد ولم يولد‏.‏

وان كثيرا من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئا، ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى‏}‏، فاذا كان هذا حالُ الملائكة المقربين عند الله، فكيف حال الأصنامِ الجامدة الميتة‏!‏‏!‏

قراءات‏:‏

قرأ رويس ويعقوب‏:‏ اللاتّ بتشديد التاء، والباقون‏:‏ اللات من غير تشديد‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ مناءة بمدّ الالف والهمزة المفتوحة، والباقون‏:‏ مناة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 32‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏‏}‏

مبلغهم من العلم‏:‏ منتهى علمهم‏.‏ كبائر الإثم‏:‏ الجرائم الكبرى كالقتل والسرقة وما يترتب عليه حد‏.‏ والفواحش‏:‏ ايضا من الكبائر وهي ما عظُم قبحها‏.‏ اللّمم‏:‏ مقاربة الذنب والدنو منه، او ما صغُر من الذنوب‏.‏ أنشأكم‏:‏ خلقكم‏.‏ أجنّة‏:‏ جمع جنين، وهو الولد ما دام في بطن أمه‏.‏

بعد ان عاب الله عبادةَ الأصنام التي لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا شفاعة، وكرر هنا تسفيه أحلامهم بأنهم سمّوا الملائكة بناتِ الله، فمن أين أتاهم ان الله له اولاد هي الملائكة‏!‏‏؟‏ إنه تعالى غني عن المساعدة وعن الصاحبة والولد، وكلامهم هذا كله دعوى من غير دليل، ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً‏}‏‏.‏ فأعرِض أيها الرسول عن هؤلاء الذين لا همَّ لهم الا جمع حطام الدنيا، لأن ذلك الذي يتبعونه هو منتَهى ما وصلوا اليه من العلم، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى‏}‏ فهؤلاء قومٌ لا تجدي فيهم الذكرى ولا تؤثر فيهم الموعظة، فلا تبتئس بإنكارهم وكفرهم، اللهُ أعلمُ بهم‏.‏

ثم بين بعد ذلك ان الله تعالى هو مالك هذا الكون المتصرفُ فيه، ولذلك فهو القادرُ على الجزاء‏.‏ وهو عادلٌ يحب العدل، ولذلك يبيّن جزاء الذين أساؤا والذين أحسنوا‏.‏ وقد بيّن أوصافَ المحسِنين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم‏}‏

يعني ان المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائرِ المعاصي والفواحش، فإذا وقعوا في معصيةٍ وتابوا فَ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة‏}‏ يغفر كل ذنب كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وعلى هذا يكون اللَّمَمُ هو الإتيان بالمعصِية ‏(‏من أيّ نوعٍ‏)‏ ثم يتوب عنها‏.‏

ولذلك ختم الآية بان هذا الجزاء، بالسُّوءى والحسنى، مستند الى علم الله بحقيقة دخائل الناس فقال‏:‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى‏}‏ فهو أعلمُ بأحوالكم، وعندَه الميزانُ الدقيق، وجزاؤه العدْل، واليه المرجع والمآل‏.‏

ويرى كثير من المفسرين ان الآية تعني أن الذي يجتنب الكبائرَ يكفِّر الله عنه الصغائرَ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏، وهذه الآية مدنية‏.‏ وعلى كل حالٍ فالله تعالى واسعُ المغفرة، رؤوف بعباده حليم كريم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وخلف‏:‏ الذين يجتنبون كبير الإثم بالافراد، والباقون‏:‏ كبائر الاثم بالجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 41‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏ وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

تولى‏:‏ أعرضَ عن اتباع الحق‏.‏ أكدى‏:‏ قطع العطاء وأمسك وبخِل‏.‏ ينبَّأ‏:‏ يخبر‏.‏ صحف موسى‏:‏ التوراة‏.‏ ووفى‏:‏ أتم ما أُمر به وأكمل‏.‏ ان لا تزر وازرةٌ وزر اخرى‏:‏ لا تحمل نفس ذنب نفس اخرى، كل انسان يؤخذ بذنبه‏.‏ ثم يُجزاه‏:‏ يجازيه الله على عمله، يقال‏:‏ جزاه على عمله، وجزاه عملَه‏.‏ الأوفى‏:‏ الأكمل‏.‏

أَعلمتَ يا محمدُ بأمر ذلك الجاحد الذي أعرضَ عن اتّباع الحق، وقد أعطى قليلا من المال ثم قطع عطاءه، أأ، زل عليه وحيٌ فصار عندَه علمُ الغيب فرأى ان ما صنعه حق‏؟‏‏.‏

ان الشرائع التي يعرفها ذلك الرجل على غير هذا‏.‏ ألَم يُخْبرَ بما في صُحف موسى، وابراهيمَ الذي بلغَ الغايةَ في الوفاء بما عاهد الله عليه‏!‏‏!‏ وكانت قريش تدّعي أَنها على دِين ابراهيم، بينما أن دين ابراهيم يخالفُ ما يقولون وما يعملون‏.‏

لقد اتفقت الأديان على أنه لا تحمل نفسٌ ذنوبَ نفسٍ أخرى، وانه ليس للانسان الا جزاء، وأن عمله سوف يُعلَن يومَ القيامة فيراه الناس، ثم يجزيه الله على عمله أوفَى جزاءٍ فيضاعِفُ له الحسنةَ اضعافا كثيرة، ويجازيه بالسيئة مثلَها فقط او يعفو عنها، ‏{‏نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 49‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 62‏]‏

‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏ أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

المنتهى‏:‏ المعاد يوم القيامة‏.‏ تُمْنَى‏:‏ تصبّ في الرحم وتدفع فيه‏.‏ النشأة الاخرى‏:‏ البعث يوم القيامة‏.‏ أغنى‏:‏ كفى عبده وأغناه عن سؤال الناس‏.‏ أقنى‏:‏ أعطاه فوق الغنى من لمال ما يُقتنى ويُدّخر‏.‏ الشّعرى‏:‏ نجم مضيء وهي معروفة بالشّعرى اليمانية، أشدّ نجمٍ لمعاناً في السماء، يبلغ قطرها ضِعف قطر الشمس، وأكثر لمعاناً من الشمس بِ 27 مرة‏.‏ وكان بعض العرب يعبدونها في الجاهلية‏.‏ عاداً الأولى‏:‏ قوم هود‏.‏ المؤتفكة‏:‏ قرى قوم لوط، ائتفكت الأرض‏:‏ انقلبت بمن عليها‏.‏ أهوى‏:‏ أسقطها في الأرض، خسف بها الارض‏.‏ غشّاها‏:‏ غطاها العذاب‏.‏ آلاء رَبِّكَ‏:‏ نِعمه‏.‏ مفردها إلي بفتح الهمزة وكسرها‏.‏ تتمارى‏:‏ تشك‏.‏ أزفت‏:‏ دنت واقتربت‏.‏ الآزفة‏:‏ الساعة يوم القيامة‏.‏ كاشفة‏:‏ من الكشف والإظهار‏.‏ أفمن هذا الحديث‏:‏ يعني القرآن‏.‏ سامدون‏:‏ لاهون‏.‏

في ختام هذه السورة الكريمة يعجَب اللهُ تعالى من أمر الانسان، وانه كيف يتشكّك في أمر الله وقدرته، ويجادل ويماري في أمر الرسالات‏!‏‏!‏ فمهما طالَ وجودُ الانسان في هذه الحياة فان مصيره الموتُ والرجوعُ إليه‏.‏ ان الله تعالى وحده خلَقَ ما يسرُّ وما يُحزِن، فأضحك وأبكى، وذلك بأن أنشأ للانسان دواعي الضحك ودواعي البكاء‏.‏ وقد يضحك غداً مما أبكاه اليوم، ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس في غير جنون ولا ذهول، إنما هي الحالاتُ النفسية المتقلبة بيدِ مقلِّب القلوب‏.‏ وأنه هو يهب الحياة ويأخذُها، وانه خلَقَ الزوجين‏:‏ الذكر والانثى، من نطفةٍ فيها آلاف الحيوانات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة‏.‏ وهو الذي يحيينا مرةً أخرى يومَ البعث، وانه سبحانه ‏{‏هُوَ أغنى وأقنى‏}‏ فأعطى ما يكفي، وزادنا رضىً بما يُقْتَنَى ويُدّخر‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى‏}‏ وقد نصّ بشكل خاص بانه ربّ الشعرى اليمانية ‏(‏ألمع نجمٍ في كوكبة الكلب الأكبر، وأَلْمع ما يُرى من نجوم السماء‏)‏- لان بعض العرب كانوا يعبدونها‏.‏ وكان قدماء المصريين يعبدونها ايضا، لأن ظهورها في جهة الشرق نحو منتصف شهر تموز قبل شروق الشمس- يتفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى، وهو اهم حادث في العام، وابتداء عام جديد‏.‏

لقد أهلك الله عاداً الأولى قومَ هود، وأهلم ثمودَ قوم صالح، فما أبقى عليهم‏.‏ كذلك أهلك قوم نوح من قبلهم، وقد كانوا اكثر ظُلماً وأشدَّ طغياناً من عاد وثمود‏.‏ أما المؤتفكة قم لوط، فقد قلَب بهم الارض وخسفها لطغيانهم وكفرهم‏.‏

‏{‏فَغَشَّاهَا مَا غشى‏}‏ فأحاط بها من العذاب الشديد المرعب ما لا يوصف‏.‏

‏{‏فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى‏}‏ فبأيّ نِعمِ ربك عليك أيها الانسانُ تشكّ وترتاب‏!‏‏!‏ وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 6‏]‏‏.‏ إن هذه كلَّها أدلةٌ على وحدانية ربك وربوبيته‏.‏

‏{‏هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى‏}‏

هذا هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جاءكم نذيراً بالقرآن الكريم، وهو من النذُر الأولى التي أُنذرت بها الأمم السابقة‏.‏

‏{‏أَزِفَتِ الآزفة‏}‏

قربتْ القيامة، ولا ينشِف عن وقتها الا الله، ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏‏.‏

فما لكم ساهون لاهون‏!‏‏!‏ وهل بعدَ هذا كلّه ينبغي أن تعجَبوا من هذا القرآن، وهو حديثٌ عظيم فيه كل ما يقودكم الى الهدى والصلاح والسعادة‏!‏‏!‏ وتضحكون استهزاء وسخريةً ولا تبكون، كما يفعل الموقنون‏!‏‏.‏

‏{‏فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا‏}‏

بهذا يختم الله تعالى هذه السورةَ الكريمة، فاسجدوا لله الذي انزلَ القرآنَ هدىً للناس، واعبدوه وحدَه لا اله الا هو‏.‏ وهنا موضعُ سجدةٍ واجبة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن كثير‏:‏ عاداً الَّولى بإدغام التنوين باللام‏.‏ والباقون‏:‏ عاداً الأولى‏.‏ وقرأ حفص‏:‏ وثمودَ بغير تنوين‏.‏ والباقون‏:‏ وثموداً بالتنوين‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تتمارى بتاءين‏.‏ وقرأ يعقوب‏:‏ تمارى بتاء واحدة‏.‏

سورة القمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

وإن يروا آية‏:‏ وان يروا دليلاً على نبوة محمد‏.‏ مستمر‏:‏ دائم‏.‏ أهواءهم‏:‏ ما زينه لهم الشيطانُ من الوساوس والأوهام‏.‏ مستقر‏:‏ منتهٍ الى غاية ينتهي اليها‏.‏ مزدجَر‏:‏ ما فيه الكفاية لزجرهم‏.‏ حكمة بالغة‏:‏ واصلةٌ غايةَ الإحكام والابداع‏.‏ فما تُغني النذر‏:‏ فما يفيد المنذِرون لمن انصرف عنهم‏.‏ نُكُر‏:‏ بضم النون والكاف، كل ما تنكره النفوس وتعافه‏.‏ خشّعا‏:‏ جمع خاشع وهو الذليل‏.‏ الأجداث‏:‏ القبور‏.‏ مهطِعين الى الداع‏:‏ مسرعين منقادين لمن يدعوهم الى الحشر‏.‏ عُسُر‏:‏ صعب شديد الهول‏.‏

يخبرنا الله تعالى باقترابِ يوم القيامة، ونهايةِ الدنيا وانقضائها، وأنّ الكونَ يختلُّ كثيرٌ من نظامه عند ذاك، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا الشمس كُوِّرَتْ وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1-2‏]‏، والتكدُّر هو الانتثار، فعبّر بالماضي، وهنا التعبير جاء بالماضي، وكما قال في آخر سورة النجم ‏{‏أَزِفَتِ الآزفة‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وقد روى الامام أحمد عن سهلِ بن سعد، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «بُعثتُ أنا والساعةُ هكذا، وأشار باصبعَيه السبّابةِ والوسطَى»‏.‏

وهنا يقول‏:‏ اقتربت القيامة، وسينشقُّ القمرُ لا محالة‏.‏ وتشير الابحاثُ الفلكية الى ان القمر يدنو من الأرض ويستمرُّ بالدنوّ منها حتى يبلغَ درجةً يتمزقُ عندها ويصير قِطعاً كلّ واحدةٍ تدور في فلكها الخاص‏.‏ وهذا طبعاً سيحدُث عند انتهاء هذه الحياةِ الدنيا، ولا يعلم وقتَ ذلك الا الله‏.‏

ويقول المفسّرون الأقدمون‏:‏ ان انشقاق القمر قد حدَث فعلا، ويرون عدة أحاديث أسندوها الى أنس بن مالك وعبد الله بن عباس، وجبير بن مطعم، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم‏.‏ ويقول ابن كثير‏:‏ قد كان هذا في زمان رسول الله كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة‏.‏

والروايةُ عن خمسة من الصحابة فقط فكيف تكون متواترة‏؟‏ واللهُ اعلم‏.‏

لقد كذّب هؤلاء الكفار النبيَّ الكريم، وأعرضوا عن الإيمان به، وقالوا‏:‏ إنه كاهن وساحر يُرهِب الناسَ بسحره‏.‏ بذلك كذّبوا بالحق إذ جاءهم ‏{‏واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ فهو منتهٍ الى غاية يستقر عليها‏.‏ ان هذا الكون يا محمد يسير وفق قوانينَ منتظِمة محدّدة مستقرة‏.‏ وان امرك ايها الرسول سينتهي الى الاستقرار بالنصر في الدنيا والفوزِ بالجنّة في الآخرة‏.‏

ولقد جاء لهؤلاء المكذِّبين من الأخبار عن الماضِين الذين كذّبوا الرسلَ، فهلكوا، ما يردعُهم ويزجُرهم عما هم فيه من الغيِّ والشرك والفساد‏.‏ وهو ‏{‏حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِي النذر‏}‏‏.‏ إنه حكمةٌ عظيمة بالغةٌ غايتها في الهداية والارشاد الى طريق الحقّ لو انهم فكّروا واستعملوا عقولهم، ولكن أيّ نفعٍ تفيد النذُر لمن اتَّبع هواه وانصرف عنها‏!‏‏؟‏‏.‏ أعرِضْ أيها الرسول عن هؤلاء الكفار، وانتظِر يومَ يدعو الداعي الى أمرٍ شديدٍ تنكره النفوس، ولم يروا مثلَه لما فيه من هول وعذاب‏.‏

انه يوم الفزَع الاكبر، يوم تراهم‏:‏

‏{‏خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ‏}‏‏.‏

يخرجون من قبورهم في حالةِ هلع عظيم، خاشعة أبصارهم من شدة الهول، كأنهم من كثرتهم وسرعة انتشارهم جرادٌ منتشر‏.‏ كما قال تعالى ايضا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 4‏]‏، فهم في أول أمرِهم يكونون كالفَراش حين يموجون فزِعين لا يهتدون أين يتوجهون، ثم يكونون كالجراد المنتشِر عندما يتوجهون للحشْر‏.‏ في ذلك اليوم يخرجون مسرعين الى الداعي، ينظرون إليه في ذلٍّ وخضوع، لما يرون من الهول حتى ‏{‏يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ هذا يوم صعب شديد‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ نُكْر بضم النون واسكان الكاف، والباقون‏:‏ نُكُر بضم النون والكاف‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم‏:‏ خُشّعاً بضم الخاء وتشديد الشين جمع خاشع‏.‏ والباقون‏:‏ خاشعاً ابصارهم على الافراد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 17‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ازدُجر‏:‏ زجروه عن التبليغ‏.‏ فانتصِر‏:‏ فانتقم لي منهم‏.‏ منهمر‏:‏ منسكب بقوة‏.‏ فالتقى الماء على أمرٍ قد قُدِر‏:‏ فالتقى ماء السماء بماءِ الأرض، على حال قدّره الله‏.‏ ذات ألواحٍ ودُسُر‏:‏ الواحٍ من الخشب ومسامير، ودسر جمعُ دسار‏.‏ بأعيننا‏:‏ بحِفظنا وحراستنا‏.‏ تركناها آية‏:‏ تركنا السفينة آية وحجّة‏.‏ مدّكر‏:‏ معتبر، متذكر، متعظ‏.‏ ونذُر‏:‏ جمع نذير بمعنى إنذار‏.‏

يبيّن الله تعالى هنا ان شأنَ الرسول الكريم مع قومه كشأنِ نوحٍ مع قومه‏.‏ فبعد ان أخبرَ أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجرٌ لو تذكّروا- ذَكَر هنا قصة قوم نوح الذين كذّبوا نبيَّهم قديماً قبل قريش، ورمَوه بالجنون ومنعوه من تبليغ رسالته بأنواع الأذى والتخويف‏.‏

فدعا نوح ربه‏:‏ لقد غلبتُ على أمري، فانتقِم منهم بعذابك‏.‏ فاخبره الله تعالى أنه أجاب دعاءه فقال‏:‏

‏{‏فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ‏}‏ أي بماء متدفق من السماء، وفجَّر من الأرض عيوناً فالتقى ماءُ السماء بماءِ الأرض وأهلك الكذّابين من قوم نوحٍ بالطوفان ‏{‏على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‏}‏ وفق أمرٍ قدَّره الله تعالى‏.‏

‏{‏وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ‏}‏

وحملنا نوحاً ومن معه على سفينة مصنوعة من الخشب والمسامير، تجري على الماء بحِفظ اللهِ ورعايته، وذلك جزاءً منا لنوحٍ الذي كذّبه قومه ولم يؤمنوا به‏.‏

ثم بين الله تعالى انه أبقى أخبارَ السفينة وإغراقَهم عبرةً لمن بعدهم فقال‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ فهل يوجَدُ مِن بينِهم من يتّعظ ويعتبر‏!‏‏!‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏

انظروا كيف كان العذابُ الذي حلّ بهم ما أشدَّه، وما أفظع إنذاري لهم بما أحللته بهم‏.‏ وقد تقدمت قصة نوح في أكثرَ من سورة وذكر في القرىن في ثلاثةٍ وأربعين موضعا‏.‏

ثم بين ان هذا القصص وامثاله إنما يُروى في القرآن للعبرة، وانه يسَّر معناه، وسهله للتذكّر والاتعاظ، فهل من متعظ‏؟‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ ففتّحنا بتشديد التاء، والباقون‏:‏ ففتحنا بغير تشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 32‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

الريح الصرصر‏:‏ الباردة اشد البرد‏.‏ نحس‏:‏ شؤم‏.‏ مستمر‏:‏ دائم‏.‏ تنزع الناس‏:‏ تنقلهم‏.‏ أعجاز نخل‏:‏ أصول النخل‏.‏ منقعِر‏:‏ منقلع، يقال قعرت النخلة، قلعتُها من أصلها فانقعرت‏.‏ بالنذُر‏:‏ بالرسل‏.‏ وسُعر‏:‏ جنون‏.‏ يقال‏:‏ سَعِرَ فلان فهو مسعور‏:‏ جنّ فهو مجنون‏.‏ كذّاب أشِر‏:‏ شديد البطر، متعاظم‏.‏ فارتقبْهم واصطبر‏:‏ فانتظرهم واصبر على أذاهم‏.‏ كل شِرب محتضَر‏:‏ الشِرب بكسر الشين‏:‏ النصيب، ومحتضر‏:‏ بفتح الضاد‏:‏ يحضره صاحبه في نوبته‏.‏ صاحبهم‏:‏ هو الذي قتل الناقة‏.‏ فتعاطى‏:‏ فاجترأ على هذه الجريمة‏.‏ فعقر‏:‏ فضرب قوائم الناقة بالسيف‏.‏ كهشيم المحتظِر‏:‏ الهشيم‏:‏ كل زرع ونبات وشجر يابس، والمحتظر‏:‏ الذي يعمل حظيرة لغنمه ويتساقط منه بعض اجزائه وتتفتت حال العمل‏.‏

في هذه الآيات الكريمة يذكر الكتاب قصةَ عاد، قوم هود، وقصة ثمود قوم صالح، وقد ذُكر هود سبع مرات في القرآن وصالحٌ تسعاً‏.‏

ولقد كذّبت عادٌ نبيَّهم هودا ولم يؤمنوا به، فانظُروا يا معشر قريش كيف أنزلتُ بهم عذاباً شديداً، ريحاً باردة مدوَّية في يومِ شؤمٍ دائم، تقتلع الناسَ من أماكنهم وترميهم كأنهم أعجازُ نخلٍ قد انقلَع من الأرض ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏‏.‏ وقد كرر هذه الآية لبيان هولِ ما نزلَ بهم من عذاب‏.‏

ثم اردف ذلك بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏

لقد أنزلناه سهلاً ميسَّراً ليبيّن للناس العبر والعظات فهل يتعظون‏؟‏‏.‏

ثم اردف بقصة ثمود، وكيف كذّبت نبيّهم صالحاً، وكيف تعجّبوا من ان يأتيه الوحي والنبوة من بينهم، وفيهم من هو أحقُّ منه، ثم شتموه بأنه كذاب أشِر‏.‏ وقالوا‏:‏

‏{‏إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ‏}‏

لو اتبعنا صالحاً هذا فيما يدعونا إليه لكُنّا ضللنا، وصرنا مجانين‏.‏

ثم بين الله تعالى بأنهم‏:‏

‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر‏}‏

سيعلمون قريباً يوم ينزل بهم العذابُ من هو الكذّاب المنكِر للنعمة، هم أم رسولنا إليهم صالح‏.‏

ثم بين الله لصالح انه مرسلٌ لهم الناقة آيةً، وامتحاناً، فانظِرْهم يا صالح واصبر على أذاهم وخبِّرهم أن ورود الماءِ مقسومٌ بينَهم وبين الناقة، ‏{‏كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ‏}‏ كل نصيب يحضره صاحبه في يومه‏.‏

فلم تعجبْهم القِسمة، فدعوا صاحبَهم ‏(‏وهو الذي عبَّر الله عنه في سورة الشّمس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبعث أَشْقَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 11-12‏]‏ ليفعل فِعْلته‏.‏

‏{‏فتعاطى فَعَقَرَ‏}‏

فتهيأ لعقر الناقة وضرَب قوائمها بالسيف فعقَرها، ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏‏؟‏

ثم أخذتهم صيحةُ العذاب فكانوا مثلَ الهشيم اليابس الذي يجمعه صاحبُ الحظيرة لماشيته‏.‏

ثم يكرر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ ليوجّههم الى القرآن ليتذكروا ويتدبروا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وحمزة ورويس‏:‏ ستعلمون بالتاء‏.‏ والباقون‏:‏ سيعلمون بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

حاصبا‏:‏ ريحا تحمل الحصباء‏.‏ السحَر‏:‏ آخر الليل‏.‏ بطشَتَنا‏:‏ عذابنا الشديد‏.‏ فتماروا بالنذر‏:‏ فشكّوا وجادلوا في الانذارات‏.‏ راودوه عن ضيفه‏:‏ نازعوه في ضيوفه ليفجُروا بهم، وهم يظنون انهم من البشر‏.‏ الضيف يطلق على الواحد والجمع‏.‏ فطمسنا أعينهم‏:‏ حجبناها عن الإبصار فلم تر شيئا‏.‏ بكرة‏:‏ أول النهار‏.‏ مستقر‏:‏ دائمٌ وثابتٌ مستمر‏.‏

ثم يذكر قصص قوم لوطٍ وفرعونَ باختصار، فقد كذّبت قوم لوط بما جاءهم من انذار، فأرسل الله عليهم ريحاً شديدةً ترميهم بالحصى، ونجّى آل لوط المؤمنين من هذا العذاب في آخر الليل، وذلك كله نعمةٌ من الله ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ‏}‏ ‏{‏إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 57‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بالنذر‏}‏

لقد أنذرهم رسولُهم لوط من عذابِ الله فشكّوا في ذلك وسخِروا منه، بل توعّدوه كما جاء في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 167‏]‏‏.‏

ثم طلبوا منه ضيوفَه ليأخذوهم ويفجُروا بهم لَمّا رأوهم على صورة شبابٍ مُرْدٍ حسان، فَطَمَسَ الله أعينَهم وحجَبها عن الإبصار‏.‏ وذهبَ الملائكةُ بعدَ أن أفهموا لوطاً بأنْ يخرج ليلاً من تلك القرية الظالمة‏.‏ وصبَّحَهم عذابٌ مستقر أهلكهم ودمّر بلادَهم وقال الله لهم‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ‏}‏ ثم كرر الآية الكريمة ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ‏}‏

يسّرناهُ على الأفهام للاتعاظ والتذكُّر من قبل أصحابها‏.‏

ثم ذكر قصة فرعون وآله بآيتين، وأنهم كذّبوا رسولهم موسى، ولم يؤمنوا بآيات الله‏.‏

‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏

لقد أهلكهم الله إهلاك قويّ لا يُغلب، عظيمِ القدرة على ما يشاء‏.‏ وقد ذُكرت قصة فرعون وموسى بعدد من السور بين مطول ومختصر‏.‏