فصل: تفسير الآيات رقم (11- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

تفسّحوا في المجالس‏:‏ توسّعوا‏.‏ ولْيفسحْ بعضكم لبعض‏.‏ فسح له في المجلس‏:‏ وسّع له ليجلس‏.‏ يفسح الله لكم‏:‏ في رحمته ويوسع لكم في ارزاقكم‏.‏ انشُزوا‏:‏ انهضوا لتوسعوا للقادمين‏.‏ يرفع الله الذين آمنوا‏:‏ يعلي مكانتهم‏.‏ ويرفع اهل العلم كذلك‏.‏ ناجيتم الرسول‏:‏ إذا أردتم الحديث معه‏.‏ فقدّموا بين يدي نجواكم صدقةً‏:‏ فتصدقوا قبل المناجاة‏.‏ أأشفقتم‏:‏ أخفتم‏.‏ وتاب الله عليكم‏:‏ رفع عنكم هذه الصدقة، ورخَّص لكم في المناجاة من غير تقديم صدقة‏.‏

بعد ان أدّب الكتابُ المؤمنين بأدب الحديث والبعدِ عما يكون سبباً للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان- علّمهم كيف يعاملون بعضَهم في المجالس، من التوسُّع فيها للقادمين، والنهوض اذا طُلب اليهم ذلك‏.‏ وأشار إلى أن الله يُعلي مكانة المؤمنين المخلصين، والذين أوتوا العلم بدرجاتٍ من عنده ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

فالآية فيها أدبٌ جَمٌّ وتشمل التوسع في إيصال جميع انواع الخير الى المسلم وادخال السرور عليه، كما قال الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا يزالُ اللهُ في عَوْنِ العبد ما دام العبدُ في عون أخيه‏.‏

ولما اكثر المسلمون من التنافُس في القُرب من مجلس الرسول الكريم لسماعِ أحاديثه، ولمناجاته في أمورِ الدين، وشَقّوا في ذلك عليه- أراد الله ان يخفّف عنه فأنزل قوله تعال‏:‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

اذا أردتم مناجاةَ الرسول فتصدّقوا قبل مناجاتكم له، ذلك خيرٌ لم وأظهرُ لقلوبكم‏.‏ فإن لم تجدوا ما تتصدّقون به فإن الله تعالى قد رخّص لكم في المناجاةِ بلا تقديم صدقة، ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ‏}‏‏.‏

ولما علم اللهُ أنهم تحرّجوا من تقديم الصدقات وإن كثيرا منهم لا يجدُ ما يأكل، عفا عنهم ورفع الصدقة وقال‏:‏

‏{‏فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏‏.‏

لأن الصلاةَ تطهّر النفوس، والزكاة فيها نفعٌ عام للمؤمنين، واطاعة الله ورسوله خير ما يأتيه المؤمن ويتحلى به، ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ فهو محيط بنواياكم وأعمالكم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم‏:‏ بالمجالس بالجمع‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالمجلس على الافراد‏.‏ وقرأ عاصم ونافع وابن عامر انشزوا بضم الشين‏.‏ والباقون‏:‏ إنشِزوا بكسر الشين، وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ألم تر‏:‏ أخبِرني، وهو اسلوب من الكلام يراد به التعجب واظهار الغرابة للمخاطب‏.‏ الذين تولوا قوما الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏:‏ هم المنافقون واليهود‏.‏ قوما غضب الله عليهم‏:‏ هم اليهود‏.‏ ما هم منكم ولا منهم‏:‏ لأنهم مذبذبون‏.‏ ويحلفون على الكذب‏:‏ يعني يحلفون بأنهم معكم وهم كاذبون‏.‏ جُنة‏:‏ بضم الجيم، وقاية وسترا‏.‏ استحوذ عليهم الشيطان‏:‏ استولى عليهم‏.‏

هذه الآيات الخمسُ في المنافقين وأخبارهم، وكذِبِهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي بعدَ أربَعِ سورٍ سورةٌ خاصة بالمنافقين‏.‏

ألم تر أيها الرسول إلى هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهودَ المغضوبَ عليهم أولياءَ يناصحونهم وينقولن إليهم أسرار المؤمنين‏!‏ إنهم ليسوا من المؤمنين إلا في الظاهر، كما أنهم ليسوا من اليهود، ‏{‏مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏‏.‏

ثم بين الله تعالى أنهم يَحلِفون الأيمان الكاذبة ليُظهروا أنهم مسلمون، ويَشهدوا ان محمدا رسولُ الله، والله يشهدُ إنهم كاذبون‏.‏ لقد أعدّ الله لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في الدنيا، وأشدّ منه في الآخرة، وذلك على أعمالهم السيّئة وأقوالهم الزائفة وعدم ثباتهم على شيء‏.‏

‏{‏اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

لقد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وتستّروا بالأيمان الكاذبة فجعلوها وقايةً لأنفسهم من القتل‏.‏ وبها انخدع كثيرٌ من المؤمنين ممن لا يعرِف حقيقةَ أمرِهم، وبهذه الوسيلة صلُّوا كثيراً من الناس عن سبيلِ الله، فلهم عذابٌ شديد الإهانة يوم القيامة‏.‏

ثم بين الله تعالى أن كلَّ ما عندَهم من أموالٍ واولاد لا يُغنيهم شيئا، ولا يدفع عنهم العذابَ الذي أُعِدَّ لهم‏.‏

‏{‏أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

اذكر لقومكَ أيها الرسولُ حالَهم يومَ يبعثُهم الله جميعا من قبورهم فيحلِفون له أنهم ما كانوا مشرِكين كما كانوا يحلِفون لكم في الدنيا، ويظنون انهم بِقَسَمِهِم هذا ينجون من عذابِ الله‏.‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ فيما يحلفون عليه، كما جاء في قوله تعالى‏:‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ثم بين الله السببَ الذي أوقعَهم في الضلال، وهو أن الشيطان استولى عليهم فغلَبَتْ أهواؤهم وتَبِعوا شهواتِهِم‏.‏

‏{‏فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله‏}‏ الشيطانُ الذي أغواهم‏.‏ وأولئك هم جنودُ الشيطان وحِزبُه‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ‏}‏‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

يحادّون‏:‏ يعادون، يخالفونه فيما أمر ونهى‏.‏ في الأذلّين‏:‏ في أذلّ من خلَقَ الله‏.‏ كَتَبَ اللهُ‏:‏ قضى وحكم‏.‏ أيّدهم‏:‏ قواهم ودعمهم‏.‏ بروح منه‏:‏ بنور وعزم من عنده‏.‏ يوادّون‏:‏ يتقربون إليهم بالمودة والمحبة‏.‏

ان الّذين يخالفون أَوامر الله ونواهيَه، ولا يطيعون الرسول فيما شَرَعَ وبيّن- هم في عِداد الّذين بلغوا الغايةَ في الذِلّة والهوان‏.‏‏.‏ بالقتلِ والأسرِ والهزيمة في الدنيا، وبالخِزي والنَّكالِ والعذاب في الآخرة‏.‏

وقد قضى الله وحَكَمَ في أُمّ الكِتابِ بأن الغَلَبةَ والنصر له ولرسُله، وقد صَدَق في ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏‏.‏ متى أراد شيئاً كانَ، ولم يجدْ معارِضاً ولا ممانعاً على شرط ان يكون المؤمنون صادقين في إيمانهم يعملون بِجدّ وإخلاص، ويتّخذون لكلِّ شيء عدَّتَه‏.‏

ثم بين تعالى ان الإيمانَ الحقّ لا يجتمع مع موالاة أعداء الله، ممهما قرُبَ بهم النسبُ ولو كانوا آباءً او أبناءً او إخواناً او من العشيرة القريبة‏.‏ وهذا معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

لا تجدُ قوما يجمعون بين الإيمان باللهِ ورسولهِ واليوم الآخر، ومَودَّةِ أعدائه مهما كانت قرابتُهم‏.‏

‏{‏أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏‏.‏

فهؤلاء الذين يُخلِصون لله ولا يوالون الجاحدين الذين يحادُّون الله ثَبَّتَ اللهُ في قلوبهم الإيمانَ وأيَّدهم بقوّة منه، ويُدخِلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها لا ينقطع نعيمها، قد أحبَّهم اللهُ وأحبّوه ورضيَ عنهم ورضُوا عنه‏.‏

‏{‏أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون‏}‏‏.‏

لأنهم اهلُ السعادة والفلاح والنصر في الدنيا والآخِرة ونِعْمَتِ الخاتمة‏.‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

الذين كفروا‏:‏ هم بنو النضير من اليهود، وذلك بنقضهم العهدَ بينهم وبين رسول الله‏.‏ لأول الحشر‏:‏ وهو جمعهم واخراجهم من المدينة‏.‏ حصونهم‏:‏ واحدها حصن، كان اليهود يسكنون منفردين عن العرب في قلاع مسوَّرة محصنة‏.‏ فأتاهم الله‏:‏ جاءهم عذابه‏.‏ من حيث لم يحتسبوا‏:‏ من حيث لم يخطر لهم ببال‏.‏ يخرِّبون بيوتهم بأيديهم‏:‏ كانوا يهدمون بيوتهم من قبل ان يغادروها‏.‏ الجلاء‏:‏ الخروج عن الوطن‏.‏ اللينة‏:‏ النخلة‏.‏ شاقّوا الله ورسوله‏:‏ خالفوهما وحاربوهما‏.‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

هو الذي أجلى الذين كفروا من أهل الكتاب «وهم بنو النضير، اكبر قبائل اليهود» أجلاهم من ديارهم، وكان هذا اول مرة حُشروا فيها واخرجوا من المدينة فذهب بعضهم الى الشام، وبعضهم الى خيبر‏.‏ وما ظننتم أيها المسلمون ان يخرجوا من ديارهم، لتوّتهم، وظنوا هم ان حصونهم تمنعهم من بأس الله‏.‏‏.‏ فأخذهم الله من حيث لم يظنوا ان يؤخذوا، والقى في قلوبهم الرعب الشديد‏.‏

‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين‏}‏‏.‏

وكانوا يخرّبون بيوتهم ليتركوها غير صالحة للسكنى بعدهم، وتخرّبها ايدي المؤمنين من خارج الحصون ليقضوا على تحصنهم ويخرجوهم أذلاء‏.‏

‏{‏فاعتبروا ياأولي الأبصار‏}‏‏.‏

اتعظوا يا ذوي البصائر السليمة، والعقول الراجحة، بما جرى لهؤلاء القوم المتكبّرين المتجبّرين من حيث لم تنفعهم أموالُهم، ولا اسلحتهم‏.‏

وعلينا نحن اليوم ان نعتبر ولا نخاف من شدة تسلّح اليهود وما عندهم من قوة وأموال، فلو اتفقنا واتحدنا، وجمعنا شملَنا على قلبٍ واحد صمَّم على الجهاد، واعددنا لهم ما نستطيع من العدة- لكان النصر لنا بإذن الله، سيكون مآل اليهود كمآل اسلافهم المتبجّحين‏.‏ ولا يمكن ان يأتينا النصرُ من الشرق ولا من الغرب فما النصر الا من عند الله، ومن عند انفسِنا وايماننا وعزمنا على استرداد اراضينا بأيدينا‏.‏ عندها يكون الله معنا والنصر لنا بإذنه‏.‏

ثم بين الله تعالى أن الجلاء الذي كُتب عليهم، كان اخفَّ من القتل والأسر فقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار‏}‏‏.‏

ولولا ان الله قدّر جلاءهم عن المدينة، وخروجهم أذلاّء، لعذّبهم في الدنيا بما هو أفظعُ منه من قتلٍ او أسر، ولهم في الآخرة عذاب النار في جهنم وبئس القرار‏.‏

كلّ ذلك الذي اصابهم في الدنيا، وما ينتظرهم في الآخرة- إنما كان لأنهم عادوا لله ورسولَه أشدّ العداء، ومن يخالف الله ويعاديهِ فإن الله سيعاقبه اشدّ العقابز

‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله‏}‏‏.‏

عندما حاصر الرسول الكريم واصحابه يهودَ بني النضير قطعوا بعض نخيلهم حتى يذلّوهم ويجبروهم على الاستسلام، فقال الله تعالى‏:‏ أي شيء قطعتموه من النخل او أبقيتموه كما كان، فهو بأمر الله، فلا حرجَ عليكم فيه، ليعزّ المؤمنين، وليخزيَ الفاسقين المنحرفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ما أفاء الله على رسوله‏:‏ ما رده الله من اموال بني النضير، والفيء‏:‏ معناه في اللغة الرجوع‏.‏ ومعناه في الشرع‏:‏ ما أُخذ من أموال الاعداء من غير قتال‏.‏ فما اوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏:‏ فما اسرعتم في السير اليه بخيل ولا إبل‏.‏ من أهل القرى‏:‏ من اهل البلاد التي تفتح بلا قتال‏.‏ كي لا يكون دُولة بين الاغنياء‏:‏ كي لا يتداوله الاغنياء بينهم دون الفقراء‏.‏

يبين الله تعالى هنا حكْم ما أخذ من اموال بني النضير بعد ما حل بهم من الإجلاء ويقول‏:‏ إن الموال التي تركها بنو النضير في بيوتهم هي فيءٌ لله وللرسول يضعها حيث يشاء‏.‏‏.‏ لأن ما افاءه الله وردّه على رسوله من أموالهم قد تم مع أنكم ايها المسلمون لم تسرعوا اليهم بالخيل ولا بالإبل ولم تقاتلوهم، بل نزلوا على حكم الرسول الكريم، فالله يسلّط رسله على من يشاء من عباده بلا قتال‏.‏ ‏{‏والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ «كانت اموال بني النضير مما افاء الله تعالى على رسوله خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقةَ سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدّةً في سبيل الله تعالى»‏.‏

ثم بين الكلامَ في حكم ما أفاء الله على رسوله من قرى الأعداء عامة فقال‏:‏

‏{‏مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ما ردّه الله على رسوله من أموال أهلِ القرى بغير قتال فهو لله، وللرسول، ولذي القربى من بني هاشم وبني المطلب، ولليتامى الفقراء، وللمساكين ذوي الحاجة والبؤس، ولابن السبيل المسافر الذي انقطع في بلد وليس لديه مال، يُعطى ما يوصله الى بلده‏.‏

‏{‏كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ‏}‏‏.‏

انما حكمْنا بهذه الأحكام وجعلنا المال مقسما بين من ذكَرنا لئلا يأخذه الاغنياء منكم، ويتداولوه فيما بينهم، ويحرم الفقراء منه‏.‏

وما جاءكم به الرسول من الأحكام والتشريع فتمسّكوا به، وما نهاكم عنه فاتركوه‏.‏ ثم حذّر الله الجميع من مخالفة أوامره ونواهيه فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏‏.‏

‏{‏لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ‏}‏‏.‏

كذلك يعطَى من الفيء الذي افاءه الله على رسوله للفقراء المهاجرين الذي أُخرجوا من ديارهم وتركوا اموالهم طلباً لمرضاة ربهم، ونيلاً لثوابه، ونصرة الإسلام واعلاء شأنه، ‏{‏أولئك هُمُ الصادقون‏}‏ في ايمانهم وهجرتهم، فحق لهم من ربهم النعيم المقيم وجزيل الثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

الذين تبوَّؤا الدار‏:‏ هم الانصار الذين سكنوا المدينة‏.‏ ولا يجدون في صدورهم حاجة‏:‏ الحاجة هنا‏:‏ الحسد والغيظ‏.‏ مما أوتوا‏:‏ مما أُعطي المهاجرون من الفيء‏.‏ ويؤثِرون‏:‏ ويقدمون غيرهم على انفسهم، ولو كان بهم خَصاصة‏:‏ ولو كانوا فقراء‏.‏ ومن يوقَ شح نفسه‏:‏ ومن يحفظ نفسه من البخل والحرص على المال‏.‏ المفلحون‏:‏ الفائزون‏.‏ لا تجعل في قلوبنا غِلا‏:‏ بغضا وحسدا‏.‏ الذين نافقوا‏:‏ اظهروا الإسلام واضمروا الكفر‏.‏ ليولُّنّ الادبار‏:‏ ليهرُبُنَّ‏.‏ بأسُهم بينهم شديد‏:‏ خلافاتهم بينهم كثيرة‏.‏ وقلوبهم شتى‏:‏ متفرقة ومملوءة بالبغضاء على بعضهم‏.‏

ثم مدح اللهُ تعالى الأنصار وأثنى عليهم ثناء عاطرا حين طابت انفسهم عن الفيء، ورضوا أن يكون للمهاجرين من اخوانهم، وقال‏:‏ إنهم مخلصون في إيمانهم، ذوو صفات كريمة، وشيم جليلة، تدلّ على كرم النفوس، ونبل الطباع‏.‏

‏(‏1‏)‏ فهم يحبّون المهاجرين، وقد أسكنوهم معهم في دورهم، وآخَوهم، وبعضهم نزل لأخيه من المهاجرين عن بعض ماله‏.‏

روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال المهاجرون‏:‏ «يا رسول الله ما رأينا مثلَ قوم قِدمنا عليهم‏:‏ حُسْنَ مواساةٍ في قليل، وحسنَ بذل في كثير‏!‏ لقد كفونا المئونة، وأشركونا في المهيّأ، حتى لقد خشينا ان يذهبوا بالأجر كله، قال‏:‏ لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم»‏.‏

والمهيأ‏:‏ كل ما يريح الانسان من مكان او طعام‏.‏ فعلّمهم الرسول الكريم ان يثنوا على اخوانهم الانصار ويدعوا لهم مقابل ما اكرموهم به‏.‏

‏(‏2‏)‏ وهم لا يحسّون في انفسهم شيئا مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره‏.‏

‏(‏3‏)‏ ويؤثرون اخوانهم المهاجرين على انفسهم ويقدّمونهم، ولو كان بهم حاجة، وهذا منتهى الكرم والايثار، وغاية التضحية‏.‏ ولذلك ورد في بعض الروايات ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم ارحم الأنصارَ وأبناء الأنصار‏.‏

ثم بين الله تعالى ان الذي ينجو من البخل يفوز برضا الله ويكون من المفلحين فقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون‏}‏‏.‏

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اتقوا الشحّ، فإن الشح قد أهلكَ من كان قَبلكم، حَملَهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلّوا محارمهم» رواه الإمام احمد والبخاري في‏:‏ الأدب المفرد، والبيهقي‏.‏

وقال الرسول الكريم‏:‏ «لا يجتمعُ الإيمانُ والشحُّ في قلبٍ عبدٍ أبداً» رواه الترمذي وابو يعلى عن انس بن مالك رضي الله عنه‏.‏

وليس المراد من تقوى الشح الجودَ بكل ما يملك، وانما ان يؤديَ الزكاة، ويَقري الضيف ويعطي ما يستطيع كما روي عن الرسول الكريم انه قال‏:‏ «بَرِئَ من الشحّ من أدى الزكاةَ وقَرَا الضيف، وأعطى في النائبة»‏.‏

ثم جاء المدحُ لمن تبع الانصارَ والمهاجرين، وساروا على طريقتهم في كل زمان ومكان الى يوم القيامة فقال تعالى‏:‏

‏{‏والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان‏}‏‏.‏

وهذا يشمل المسلمين الذين اتبعوا الهدى وطبقوا الشريعة، في كل مكان وزمان‏.‏

كما جاء في سورة براءة الآية 100 ‏{‏والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

هؤلاء هم المؤمنون حقا، فهم يستغفرون لأنفسِهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان‏.‏ ‏(‏ويشمل هذا جميعَ الصحابة الكرامِ وتابعيهم وكلَّ من سار على هداهم‏)‏، ثم يزيدون فيدْعون الى الله أن لا يجعلَ في قلوبهم حَسداً وحِقدا للمؤمنين جميعا، فكيف ببعضِ من يسبُّ كرامَ الصحابة، ويُبغضهم‏!‏ عافانا الله من ذلك وطهّر قلوبنا من الغل والحسد والبغضاء‏.‏

فالقرآن تتجلّى عظمته في هذا الربط المتين‏:‏ ربطَ أول هذه المة بآخرها، وجعلها حلقة واحدةً مترابطةً في تضامن وتكافل وتعاطف وتوادّ، ويمضي الخَلَفُ على آثار السلف، صفاً واحدا على هدف واحد، في مدار الزمان واختلاف الأوطان‏.‏

نسأل الله تعالى ان يجمع كلمةَ العرب والمسلمين، ويوحّدَ صفوفهم تحت رايةِ القرآن وسنة رسوله الكريم، انه سميع مجيب‏.‏

ثم يأتي الحديث عن المنافقين، وكَذِبهم وخداعهم، وعدم وفائهم بما قالوا لإخوانهم اليهود الذين اتفقوا على بُغض الرسول الكريم والمؤمنين، فيقول تعالى تعجّباً من كفرهم وكذبهم ونفاقهم‏:‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً‏}‏‏.‏

الم تَعْجَبْ من حال هؤلاء المنافقين الذين خدعوا إخوانهم في الكفر، اليهودَ من بني النضير، حيث قالوا لهم اصمُدوا في دِياركم ولا تخرُجوا، فإننا سننصركم، وإن أُخرجْتم من المدينة لنخرجنَّ معكم، ولا نطيعُ في شأنِكم أحدا ابدا‏.‏

‏{‏وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏‏.‏

إن قاتلكم المسلمون قاتلنا نحن معكم‏.‏ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون فيما وعدوا به‏.‏

ثم بين كذبهم بالتفصيل فقال‏:‏

‏{‏لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏‏.‏

وقد خرج بنو النضير من ديارهم أذلاء فلم يخرج المنافقون معهم، وقوتلوا فلم ينصروهم، ولو نصروهم وقاتلوا معهم لانهزموا جميعاً‏.‏

ثم بين الله السببَ في عدم نُصرتهم لليهود، والدخول مع المؤمنين في قتال فقال‏:‏

‏{‏لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏‏.‏

انكم ايها المسلمون اشدّ مهابةً في صدور المنافقين واليهودِ من الله، وذلك لأنهم قوم لا يعلمون حقيقة الإيمان‏.‏

ثم أكد جُبن اليهود والمنافقين وشدة خوفهم من المؤمنين فقال‏:‏

‏{‏لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ‏}‏‏.‏

ان هؤلاء اليهود والمنافقين معهم قد ألقى اللهُ في قلوبهم الرعب، فلا يواجهونكم بقتالٍ مجتمعين، ولا يقاتلونكم إلا في قرى محصّنة او من وراء جدرانٍ يستترون بها‏.‏

ذلك لأنهم متخاذلون، وهم في الظاهر أقوياء متّحدون، لكنهم في حقيقة الأمر قلوبُهم متفرقة، وبينهم العداوةُ والبغضاءُ والحسد‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله ان هؤلاء قد سبقهم غيرُهم قبلَهم من يهودِ بني قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عنها ‏{‏ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وحالُنا اليومَ مع اليهود مثلُ حالهم في السابق، فهم في الظاهر أقوياء، عندهم أسلحة كثيرة وطائرات حديثة وصواريخ ودبابات، وهذا كله ليس سرَّ قوتهم، وانما سرُّ قوتهم خذلانُنا نحن وتفرُّقُ كلمتنا، ومحاربة بعضنا بعضا‏.‏ فلو عدنا الى ديننا وجمعْنا شملنا واتحدنا وأعددنا العدة بقدر ما نستطيع- لهزمنا اليهود، فانّ بأسهم بينهم شديد وقلوبهم شتى، ومجتمعهم متفكك مملوء بالجريمة والفِسق والقذارة التي ليس لها مثيل‏.‏ فمتى يفيق العربُ من سباتهم ويوحدون صفوفهم‏!‏ لو اجتمعت العراق وسوريا والأردن وفلسطين اجتماعا حقيقيا لكفى هذا، وبإمكانهم وحدهم ان يهزموا اليهود ويستعيدوا أرضهم وكرامتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

لغد‏:‏ يوم القيامة، كأنه من قربه يوم غد، وكل آت قريب‏.‏ نسوا الله‏:‏ لم يطيعوه وجروا وراء اهوائهم وملذاتهم‏.‏ فأنساهم انفسهم‏:‏ بما ابتلاهم من الغفلة وحب الدنيا، فصاروا لا يعرفون ما ينفعها مما يضرها‏.‏

في هذه الآيات الكريمة نصيحةٌ للمؤمنين وتعليم وتهذيب لهم أن يلزموا التقوى، ويعملوا الصالحات ويقدّموا الخيرات والمالَ والجاه للمحتاجين، حتى يجدوه امامهم يوم القيامة‏.‏ وقد كرر الله تعالى الحديث على التقوى لما لها من فوائد وعليها يبنى المجتمع الصالح‏.‏

‏{‏واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ لا يخفى عليه صغيرة ولا كبيرة في هذا الكون الواسع‏.‏

ثم ضرب الأمثالَ لنا تحذيراً وإنذاراً من ان نقع في حب الدنيا، فننسى واجباتنا، ونغفُل عما ينقصنا فقال‏:‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

لا تكونوا كالذين نسوا حقوق الله وما عليهم من الواجبات، فأنساهم الله انفسَهم حتى اصبحوا كالحيوانات لا همَّ لهم الا شهواتهم وملذاتهم والجري وراء الدنيا‏.‏

‏{‏أولئك هُمُ الفاسقون‏}‏‏.‏

الخارجون عن طاعة الله، فاستحقّوا عقابه يوم القيامة‏.‏ فالانسان له حقوق وعليه واجبات، والدنيا أخذٌ وعطاء، فلا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حِلْمَهُ، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله‏.‏

ثم بين الله تعالى أن من يعمل الحسناتِ يذهب الى الجنة، وان من يعمل السيئاتِ يذهب الى النار، وانهم لا يستوون‏.‏ فلا يستوي من يذهب الى النار يعذَّب فيها، ومن يذهب الى الجنة ينعُم فيها، ‏{‏أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون‏}‏ بكل ما يحبّون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

خاشعا‏:‏ منقادا متذللا‏.‏ متصدعا‏:‏ متشققا‏.‏ عالمَ الغيب‏:‏ كل ما غاب عن حواسنا من العوالم التي لا نراها‏.‏ الشهادة‏:‏ ما حضر من الاجرام المادية التي نشاهدها‏.‏ القدّوس‏:‏ المنزه عن النقص‏.‏ السلام‏:‏ الذي ينشر السلام في هذا الكون والامان والنظام‏.‏ المؤمن‏:‏ واهب الأمن للخلق أجمعين‏.‏ المهيمن‏:‏ الرقيب الحافظ‏.‏ العزيز‏:‏ الغالبُ على امره‏.‏ الجبار‏:‏ الذي جَبَرَ خلقه على ما اراد، والعالي الذي لا يُنال‏.‏ المتكبر‏:‏ صاحب الكبرياء والعظمة المنفرد بها‏.‏ الخالق‏:‏ الموجِد للأشياء على مقتضى الحكمة‏.‏ البارئ‏:‏ المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها، والغرض الذي وجدت له‏.‏ المصوِّر‏:‏ موجد الاشياء على صورها ومُختلف اشكالها كما اراد‏.‏ الأسماء الحسنى‏:‏ الأسماء الدالّة على المعاني التي تظهر في مظاهر هذا الوجود، فنظم الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته‏.‏

في ختام هذه السورة الكريمة يُشيدُ الله تعالى بالقرآن الكريم، وأنه هو الإمام المرشجُ الهادي للمؤمنين، وان مِن عظمة هذا القرآن ان له قوةً فائقة لو أُنزل مثلها على جبلٍ لخشع ولانَ من خشية الله وكلامه، وان البشر أَولى ان يخشعوا لكلام الله وتَلينَ قلوبهم فيتدبّروا ما فيه ويسيروا على هديه‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏ في حكم القرآن، وعظمة مُنزله، ويهتدون بنوره الى سواء السبيل، ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏‏.‏

ثم وصف الله تعالى نفسَه بجليل الأسماء والصفات التي هي سرُّ العظمة والجلال، وذكر ان عظمةَ القرآن جاءت من عظمة الخالق، فأورد سبحانه احدَ عشر اسماً من أسمائه الحسنى فسّرناها باختصار في اول هذه الآيات، فهو الإله الذي لا ربَّ غيره ‏{‏لَهُ الأسمآء الحسنى‏}‏ يسبّح له ما في السموات وما في الارض وهو العزيزُ الحكيم‏.‏

وثد شرحنا التسبيح فيما مضى، وتجيء هذه التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى بحسن الختام‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

تلقون اليهم بالمودَة‏:‏ تودونهم وتخبرونهم بأخبارنا‏.‏ يُخرجون الرسولَ وإياكم‏:‏ من مكة‏.‏ أن تؤمنوا بالله‏:‏ من اجل ايمانكم بالله‏.‏ سواء السبيل‏:‏ الطريق القويم المستقيم‏.‏ إن يثقفوكم‏:‏ ان يظفَروا بكم‏.‏ أرحامكم‏:‏ قراباتكم‏.‏

تقدم الكلامُ عن سبب نزول هذه الآيات، في الصحابيّ حاطب بن أبي بلتعة، وهو صحابي من المهاجرين الذين جاهدوا في بدرٍ ‏(‏وهؤلاء لهم ميزة خاصة‏)‏ وانه كتب الى قريش يحذّرهم من غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة مع امرأة، وان الرسول الكريم كشف امره، وأرسل سيدنا علي بن ابي طالب مع عددٍ من الصحابة الكرام وأخذوا الكتاب من المرأة‏.‏ وقد اعترف حاطب بذنبه، وقال للرسول عليه الصلاة والسلام‏:‏ واللهِ ما كفرتُ منذ أسلمت، ولا غششتُ منذ آمنت، لكنّي كتبت الى قريش حمايةً لأهلي من شرهم، لأني لست قرشياً ولا يوجد لي عشيرةٌ تحميهم‏.‏ فعفا عنه وقبل عذره‏.‏ والآية عامة في كل من يصانع العدوَّ او يُطْلعه على أسرار المسلمين، او يتعاون معه‏.‏ ومعناها‏:‏

يا أيها الذين آمنوا، لا تصادِقوا الأعداء، فلا تتخذوا اعداء الله واعداءَكم انصارا‏.‏

‏{‏تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏‏.‏

تعطونهم المحبة الخالصة، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الإيمان بالله ورسوله، وقد اخرجوا رسول الله واخرجوكم من دياركم ‏{‏أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ‏}‏ لأنكم آمنتم بالله ربكم‏.‏ فإن كنتم خرجتُم من دياركم للجهاد في سبيلي وطلبِ رضاي فلا تُسِرّوا اليهم بالمحبة، أو تسرِّبوا إليهم الاخبار، وأنا أعلمُ بما أَسررتم وما اعلنتم‏.‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل‏}‏‏.‏

ومن يتخذْ أعداءَ الله أولياءَ وانصاراً فقد انحرف وضل عن الطريق المستقيم‏.‏ ذلك أن هؤلاء الذين تحبّونهم سراً، إن يظفروا بكم تَظْهَرْ لكم عداوتهم، ويمدوا إليكم أيديَهم وألسنتهم بالأذى والقتل وبكل ما يسوؤكم‏.‏ وكم متنَّوا ان تكفروا بالله بعد إيمانكم، إنهم يودّون لكم كل ضرر وأذى في دينكم ودنياكم، فكيف بعد هذا تحبّونهم سرا، وتمدونهم بالأخبار‏!‏

ثم بين ان ما جعله بعضُ الصحابة من مودّتهم ‏(‏للمحافظة على الأهل والولد‏)‏ لا ينبغي ان يقدَّم على المصلحة العامة، وامورِ الدين فقال‏:‏

‏{‏لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏‏.‏

لا ينفعكم شيء يوم القيامة، لا قراباتكم ولا أولادكم، لا ينفع المرءَ في ذلك اليومِ الا العملُ الصالح والاخلاص في دينه وايمانه، واللهُ تعالى يفصِل بينكم يوم القيامة، فيذهب اهلُ النار الى النار، واهل الجنة الى الجنة، ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم‏:‏ يفصل بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ يفصِّل بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد المشددة‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابو عمرو‏:‏ يفصل بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاج مبنيا للمجهول‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ يفصل بضم الياء وفتح الفاء والصاد المشددة‏.‏ فهذه اربع قراءات والمعنى واحد لان الفعل فَصَل يَفصِل، وفَصَّل يُفصِّل بمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

الأسوة‏:‏ بضم الهمزة وكسرها‏:‏ القدوة‏.‏ برَآءُ‏:‏ جمع بريء يعني متبرئين منهم‏.‏ لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏:‏ لا تسلّطهم علينا فتنزل البلاء علينا بأيديهم‏.‏ ومن يتولّ‏:‏ ومن يعرِض‏.‏

بعد ان بيّن للمؤمنين خطر موالاة الكفار ولو كانوا من أقربائهم وأولادهم- جاء هنا يذكّرهم بما فعل جدُّهم إبراهيم ‏(‏فإن قريشَ والعرب عامة يعتقدون ان نسبهم متصلٌ بابراهيم‏)‏ وكيف تبرأ هو والذين هاجروا معه من أهلِهم وقومهم، وعادوهم، وتركوا لهم الديار، فهلاَّ تأسّيتم ايها المؤمنون بهذا النبي العظيم‏!‏

قد كانت لكم قدوة حسنةٌ تقتدون بها في أبيكم إبراهيمَ والذين معه، حين قالوا لقومهم‏:‏ تبرأْنا منكم، ومن الآلهة التي تعبدونها من دوِ الله، لا يجمعُنا بكم شيء، كَفَرْنا بكم، وظهر بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء التي لا تزول أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده‏.‏‏.‏‏.‏ فلا تجاملوهم أيها المسلمون ولا تُبدوا لهم الرأفةَ وتستغفروا لهم‏.‏

وأما قولُ إبراهيم لابيه‏:‏ ‏{‏لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ‏}‏ فإنما كان عن مَوْعِدَةٍ وعدها إياه، فلما تبيّن له انه عدوٌ للهِ تبرّأ منه، كما جاء في سورة التوبة الآية 114‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏

ثم بين الله كيف ترك إبراهيمُ والذين معه قومهم وأوطانهم والتجأوا الى الله‏:‏

‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير‏}‏‏.‏

ربّنا قد اعتمدْنا عليك في جميع أمورنا، ورجعنا اليك بالتوبة، ومصيرُنا اليك‏.‏ فاقتدوا بهم أيها المؤمنون‏.‏

‏{‏رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ واغفر لَنَا‏}‏‏.‏

ربّنا لا تجعلّنا بحالٍ نكون فيها فتنة للكافرين، بأن تُظهرَهم عينا فيفتنونا بذلك، واغفر لنا ذنوبنا، ‏{‏رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

ثم كرر ما تقدّم للاقتداء بإبراهيم عليه السلام ومن معه فقال‏:‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر‏}‏‏.‏

لقد كان لكم أيها المؤمنون في إبراهيمَ والذين معه قدوةٌ حسنة في معاداتكم لأعداء الله، وهذه القدوةُ لمن كان يرجو لقاء الله في اليوم الآخر‏.‏

‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد‏}‏‏.‏

ومن يعرض عن هذا الاقتداء فقد ظلم نفسه، والله غنيّ عن إيمانه، بل عن جميع خلقه، محمود بأياديه وآلائه‏.‏

‏{‏عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ من الكافرين مودّةً بتوفيقهم للايمان، ‏{‏والله قَدِيرٌ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ وقد صدقت نبوءةُ القرآن ففُتحت مكة، وأسلم كثيرٌ من المشركين الذين نهاهم الله عن مودّتهم، ودخل الناسُ في دين الله أفواجا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ إسوة بكسر الهمزة‏.‏ وقرأ عاصم‏:‏ أسوة بضم الهمزة وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أن تبروهم‏:‏ ان تحسنوا اليهم بكل خير‏.‏ البر‏:‏ كلمة تجمع معاني الخير والاحسان‏.‏ تقسطوا اليهم‏:‏ تعدلوا فيهم‏.‏ المقسِطين‏:‏ العادلين‏.‏ ظاهَروا‏:‏ ساعدوا‏.‏ ان تولوهم‏:‏ ان تكونوا لهم اصدقاء واحياء وانصارا‏.‏

في هاتين الآيتين الكريمتين يضعُ الله لنا قاعدةً عظيمة، ويبيّن أن دِينَ الاسلام دينُ سلام ومحبة وإخاء، فيقول‏:‏ من عاداكم فعادُوه وقاتِلوه، أما الذين سالموكم ولم يقاتلوكم، ولم يخرجوكم من دياركم- فعليكم ان تسالِموهم وتكرموهم، وتحسِنوا اليهم، وتعدِلوا كل العدل في معاملتكم معهم، ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين‏}‏ العادلين‏.‏

أما الذين حاربوكم في دينكم ليصدّوكم عنه، وأجبروكم على الخروج من ديارِكم، وعاونوا على اخراجكم- فهؤلاء ينهاكم الله عن أن تتخذوهم أنصارا، بل قاتِلوهم وشدِّدوا عليهم ‏{‏فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏‏.‏

ولننظر الآن من هو عدوُّنا الذي اغتصب أرضنا، وشرّد منها أهلنا وأقرباءنا، ومن من الدول التي ظاهرتْهُ وعاونته على إخراج أهلِنا من ارضهم، وأمدّته بالسلاح والمال، فان هذه الدولة الكبرى هي عدوّنا الأول‏.‏‏.‏ فاستيقظوا أيها العرب وتنبّهوا واعرفوا عدوكم‏.‏ والأمر واضحٌ لا يحتاج الى دليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

امتحنوهن‏:‏ اختبروهن‏.‏ علِمتموهن مؤمنات‏:‏ تيقنتم من ايمانهنّ‏.‏ فلا تَجعُوهن الى الكفار‏:‏ لا ترجعوهن الى أزواجهن الكفار‏.‏ وآتوهم ما انفقوا‏:‏ اعطوا الازواج الكفار ما دفعوا من مهور لزوجاتهم‏.‏ ولا جناح عليكم‏:‏ لا اثم عليكم‏.‏ ولا تمسكوا بعصَم الكوافر‏:‏ لا تبقوا النساء الكافرات على عصمتكم وأبطلوا عقد الزواج بهن‏.‏ واسألوا ما انفقتم‏:‏ اطلبوا كل ما دفعتم لهن من مهر وغيره‏.‏ ولْيسألوا ما انفقوا‏:‏ وليطلبوا هم ‏(‏يعني الكفار‏)‏ ما انفقوا على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن اليكم‏.‏ وان فاتكم شيء من ازواجكم الى الكفار‏:‏ ان ذهبت احدى زوجاتكم الى الكفار‏.‏ فعاقبتم‏:‏ فظفرتم وكانت العقبى لكم يعني النصر‏.‏

في اتفاق صلح الحديبية جاء نص يقول‏:‏ ان من جاء محمدا من قريش بغير إذنِ وليّه ردّه اليه، ومن جاء قريشا من المسلمين لم تردّه اليهم‏.‏‏.‏ ومضى العهد بين الطرفين على أتمّه‏.‏

ثم جاءت نساء مؤمنات مهاجرات، وكانت أُولاهن أُم كلثوم بنتَ عقبة بن ابي معيط الأموية‏.‏ فقدِم أخواها عمار والوليد، فكَلّما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرِها ليردها الى قريش، فنزلت هذه الآية‏.‏ فلم يردّها الرسول الكريم وزوّجها زيدَ بن حارثة، ثم تزوجها الزبير بن العوام بعد استشهاد زيد، فولدت له زينب، ثم فارقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميدا، ثم توفي عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهرا وتوفيت رحم الله الجميع‏.‏

فتبين من عمل النبي عليه الصلاة والسلام ان العهدَ كان يشمل الرجال دون النساء‏.‏ والله تعالى يقول‏:‏

‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار‏}‏‏.‏

فاذا تبين لكم أنهنّ صادقات في ايمانهم فلا يجوز ان تردوهن الى الكفار، لأنهن‏:‏ ‏{‏لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ‏}‏‏.‏

‏{‏وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ‏}‏‏.‏

أعطوا الأزواج الكافرين ما انفقوا من مهرٍ وغيره على زوجاتهم المهاجرات اليكم‏.‏ ولا حرج عليكم ان تتزوجوا هؤلاء المهاجرات اذا دفعتم اليهن مهورهن‏.‏

‏{‏وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر‏}‏‏.‏

اذا بقيت زوجةٌ من الزوجات في دار الكفر ولم تسلم فلا تتمسكوا بعقد زواجها وأبطِلوه‏.‏ كذلك اذا لحقت زوجة بدار الكفر فأبطِلوا عقدها، فانها تعتبر طالقة‏.‏

‏{‏وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ‏}‏‏.‏

اذا كان لكم مهر عند زوجة في دار الكفر فلكم ان تطلبوه، واذا جاءت زوجة أحد الكفار وأسلمت وهاجرت فعلى من تزوَّجها ان يدفع ما عليها لزوجها السابق‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

هذا التشريع هو حكم الله، يحكم به بينكم، فاتبعوه ولا تخالفوه، والله عليم بمصالح عباده، حكيم في كل ما يفعل‏.‏

‏{‏وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ‏}‏‏.‏

إن ذهبت زوجةٌ من زوجاتكم الى الكفار مرتدةً عن دينها، ولم يردّوا الى زوجِها المهرَ الذي دفعه، ثم حارتموهم، فأَعطوا الذين ذهبت زوجاتُهم مثلَ ما انفقوا، وذلك من الغنائم التي تكسبونها من الكفار‏.‏

‏{‏واتقوا الله الذي أَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ امتثلوا اوامره، وتقيدوا بأحكامه ان كنتم صادقين في ايمانكم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو عمرو واهل البصرة‏:‏ ولا تمسكوا بفتح التاء وبتشديد السين المفتوحة‏.‏ والباقون‏:‏ ولا تمسكوا بضم التاء واسكان الميم وكسر السين‏.‏ وأمسك ومسَّك لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

يبايعنك‏:‏ يعاهدنك على الطاعة والالتزام بالاوامر واجتناب النواهي‏.‏ ببهتان‏:‏ بباطل وكذب‏.‏ غضبَ الله عليهم‏:‏ طردهم من رحمته‏.‏ يئسوا من الآخرة‏:‏ يئسوا من ثوابها لأنهم لم يؤمنوا بها‏.‏ كما يئس الكفار من اصحاب القبور‏:‏ لانهم يعتقدون انهم لا يرجعون‏.‏

يا ايها النبي إذا جاءك المؤمناتُ يعاهدنك ويقدّمن لك الطاعة، ويعبدن الله ولا يشركن به شيئا، ولا يسرقن من مال احد، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادَهن كما كان يفعل اهل الجاهلية، ولا يُلحقن بأزواجهنّ من ليس من اولادهم بهتانا وكذبا يختلقنه بين ايديهن وارجلهن، ولا يخالفنك في معروف تدعوهنّ اليه- فعاهِدْهن على ذلك، واطلب لهن المغفرة من الله، ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يغفر الذنوب جميعا، ويشمل عباده برحمته‏.‏

ثم كرر الله النهيَ هنا عن موالاة المشركين‏.‏ فقد بدأ اولُ السورة بنداء المؤمنين ونهيهم عن موالاة المشركين، ثم خُتمت بتكرار النهي عن موالاتهم، وأن الله غضبَ عليهم وطردَهم من رحمته‏.‏‏.‏ والغرض هو تحذير المؤمنين من اعداء الله، وان لا يأمنوهم على شيء، ولا يركنوا الى اكاذيبهم ودسائسهم‏.‏

ثم بين أوصافهم ومعتقداتهم بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور‏}‏‏.‏

انهم لا يرجون لقاء الله ولم يؤمنوا بالبعث، كما يئس الكفار من بعث موتاهم مرة اخرى‏.‏

نسأل الله حسن الختام، والحمد لله رب العالمين‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

كبر مقتاً‏:‏ ما أعظمه من بغض‏.‏ المقت أشد البغض، ويقال رجل مقيت وممقوت اذا كان مبغضا للناس‏.‏ بنيان مرصوص‏:‏ بنيان محكم كأنه قطعة واحدة‏.‏ زاغوا‏:‏ انحرفوا عن الحق‏.‏ أزاغ الله قلوبهم‏:‏ صرفها عن قبول الحق‏.‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ‏.‏‏.‏‏}‏

قدّس اللهَ ونزّهه كلُّ شيء في هذا الكون‏:‏ بعضُها بلسان الحال، وبعضها بلسان المقال‏.‏ وقد تقدم ان كل شيء في هذا الوجود يسبّح الله، ويشهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرها من صفات الكمال، وهو الغالبُ على كل شيء، الحكيم في تدبير خلقه‏.‏

وبعد ان وصف نفسَه بصفات الكمال، وجّه المؤمنين الى الاخلاق الفاضلة، والصدق في القول والعمل، فخاطبهم بقوله‏:‏

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏ ّ‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان اناس من المؤمنين يقولون‏:‏ لَوَدِدْنا ان الله دلّنا على أحبِّ الاعمال اليه فنعمل به، فأخبر الله نبيّه ان احب الاعمال اليه ايمانٌ بالله لا شكّ فيه، وجهادٌ في سبيله‏.‏ فلما فُرضَ الجهادُ كره ذلك ناسٌ من المؤمنين وشقّ عليهم أمرُه، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

ثم بيّن الله شدة قبحِ مخالفة القول للعمل وأنه بلغ الغاية في بُغض الله له فقال‏:‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ‏}‏

إن أبغضَ شيء عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون‏.‏ فتحَلُّوا بالصدق، والوفاء بالوعد، وجميل الخصال تنتصروا‏.‏

ثم مدح الذين صدقوا وقاتلوا في سبيله بعزم واخلاص فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ‏}‏‏.‏

ان الله تعالى يحب النظامَ في كل شيء، وهو يحبُّ الذين يقاتلون في سبيله منتظمين في أماكنهم كأنهم بنيانٌ متلاحمُ الأجزاء، كأنه قطعة واحدة، فالنظام أساسُ بنيان الأمة، وان وعدَ الله حقّ، وقد وعد المجاهدين بالنصر إذا أخلصوا وصدَقوا وحافظوا على النظام‏.‏ وقد سبقتنا الأممُ المتحضّرة بالنظام ودقة المحافظة عليه، في جميع أعمالها‏.‏

والجهادُ يبدأ في البيت بالتربية الاسلامية الصحيحة البعيدة عن التزمُّت والتعصب،

وفي المدرسة وفي المزارع والحقول، والتجارة، وفي المصانع، وباكتساب العلوم وإجادتها واتقان استعمالها كما اتقنها أسلافُنا الأولون‏.‏ فالصناعة والعلم والزراعة من الامور الضرورية في حياتنا، فاذا أتقنّاها باتَ يمكننا ان نجاهدَ جهادا حقيقيا، فلا جهادَ إلا بعلمٍ وعمل وتصنيع‏.‏

وبعد ان هذّب المؤمنين وعلّمهم ان يكونوا صادقين في أقوالهم وافعالهم، وحضّهم على اتّباع النظام في الجهاد- ذَكَرَ أن حالهم يشبه حالَ موسى مع قومه حين ندبَهم للقتال فلم يطيعوه، بل آذوه أشدَّ الايذاء، فوبّخهم الله على ذلك بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِي‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

اذكر يا محمد لقومك حين قال موسى لقومه‏:‏ يا قومي، لمَ تُؤذونني وتخالِفون أَمري، وانتم تعلمون أنّي رسولُ الله اليكم‏؟‏

فأصرّوا على المخالفة والعصيان‏.‏

فلما أصروا على الانحراف، صرف الله قلوبهم عن الهدى ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏ الذين خرجوا عن طاعته‏.‏

وأتى بمثلٍ آخر يشبه حالَهم، وهو بنو اسرائيل حين قال لهم عيسى‏:‏ إني رسولُ الله وإني مصدّقٌ بالتوراة، وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه، واني مبشِّر برسولٍ سيأتي من بعدي اسمه أحمد، وقد جاء هذا التبشير صريحا في التوراة والانجيل‏.‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

فلمّا جاء الرسولُ الكريم احمدُ، عليه صلوات الله وسلامه، بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة، كذّبوه وقالوا‏:‏ هذا الذي جئتنا به سحرٌ مبين‏.‏

ومثلُ هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وفي هذا تسلية لرسوله الكريم على ما أصابه من قومه ومن غيرهم من الجاحدين، وأن الانبياء مِن قبله نالهم الأذى وكذّبهم أقوامهم‏.‏ وفيه ايضا تهذيبٌ وتربية للمؤمنين بان لا يؤذوا النبي بل يُخلِصوا في ايمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

الاسلام‏:‏ معناه هنا الاستسلام والانقياد لأمر الله‏.‏ نور الله‏:‏ دينه الذي يدعو اليه الرسول الكريم‏.‏ بأفواههم‏:‏ يعني بأكاذيبهم واباطيلهم‏.‏ والله متم نوره‏:‏ والله مظهرٌ دينَه، وقد صدق‏.‏ بالهدى‏:‏ بالقرآن‏.‏ ودين الحق‏:‏ الدين الصحيح‏.‏ نصر من الله وفتح قريب‏:‏ فتح مكة‏.‏ الحواريون‏:‏ الأصفياء والخلاّن‏.‏ انصار الله‏:‏ الناصرون لدينه‏.‏ ظاهرين‏:‏ غالبين‏.‏

من أشدُّ ظلماً وعدواناً ممن اختلقَ على الله الكذب، وهو يدعو الى الاسلام‏!‏ لقد دعاهم الرسولُ الكريم الى نبذ الشِرك، ودعاهم الى الايمان بالله وحده فلم يؤمنوا، وأثاروا حوله الشكوك والافتراءات، ‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏ الّذين يفترون على الله الكذب‏.‏

ثم بين الله تعالى أنهم حاولوا إبطالَ الدِين وردَّ المؤمنين عنه، لكنّهم لم يستطيعوا وخابوا في سعيهم فقال‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏‏.‏

ان هؤلاء الجاحدين من قريشٍ، وبني اسرائيل في المدينة، والمنافقين معهم- حاولوا القضاءَ على الإسلام بالدسائس والأكاذيب فخذلَهم الله تعالى، وأظهر دِينه فهو الدينُ القيم الذي انار الكون، وخاب سعيهم‏.‏

‏{‏والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى أنه ارسل رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن الذي هدى الناس وأنار الون، وبدينِ الاسلام الحق ‏{‏لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون‏}‏‏.‏ وقد وردت هاتان الآيتان في سورة التوبة، مع تغيي ربسيط في الالفاظ في الآية الأولى‏.‏

وبعد ان حث على الجهاد في سبيله، ونهى المسلمين ان يكونوا مثلَ قوم موسى او قوم عيسى- بيّن هنا ان الايمان بالله والجهادَ في سبيله بالمال والنفس تجارةً رابحة، لأن المجاهدين ينالون الفوز بالدنيا، فيظفر واحدهم بالنصر والغنائم وكرائمِ الاموال والثوابَ العظيم في الآخرة اذ يحظى بالغفران، ورضوان الله، والخلود في جنات عدن‏.‏

فهذه هي التجارة الرابحة، الثبات على الايمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بأموالكم وانفسكم، وذلك هو الخير العظيم، ثم يتبعه الغفران، والخلود في ‏{‏جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم‏}‏ وأيّ فوز اعظم من هذا‏!‏‏!‏

ثم أتبع ذلك كله ببشرى عظيمة يحبها المؤمنون وينتظرونها وهي‏:‏

‏{‏وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ‏}‏

نعمة كبرى تحبونها‏:‏ النصر من الله، وفتح مكة‏.‏ وهو آت قريب‏.‏ وقد أنجز الله وعده‏.‏

‏{‏وَبَشِّرِ المؤمنين‏}‏ يا محمد بهذه النعم، وان الله تعالى نصَرَهم لأنهم آمنوا حقيقة، وجاهدوا جهاداً كبيرا ولم ينتظروا من أحدٍ ان يساعدَهم وهم قاعدون‏.‏‏.‏ كما يفعل العرب والمسلمون اليوم‏.‏

ثم امر الله تعالى المؤمنين ان يعملوا ويجدّوا ويكونوا انصار الله في كل حين، فلا يتخاذلوا ولا يتناحروا ويتحاربوا، وان لا يتوكلوا فيقعدوا ويطلبوا النصر، بل عليهم ان يعملوا ويجاهدوا حتى يكتب الله لهم النصر‏.‏ فقالك

‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله‏}‏ فاستعدّوا وأعدّوا من قوتكم ما استطعتم، ولا تنتظروا من أعدائكم ان يحلّوا لكم قضيتكم وينصروكم‏.‏

وكيف ينصرونكم والبلاء منهم، وهم الذين يدعمون عدوكم ويمدّونه بالمال والسلاح‏!‏‏!‏

وخلاصة القول‏:‏ كونوا أنصار الله في جميع أعمالكم وأقوالكم واستعدّوا دائما، كما استجاب الحواريّون لعيسى‏.‏

‏{‏فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ‏}‏‏.‏

وانتم أيها المسلمون في هذا العصر اذا كنتم تريدون ان تبقوا في بلادكم وان تستردوا الاراضي المقدسة وما اغتُصب من وطنكم، على يد اليهود والدولة الكبرى حليفتهم والمؤيدة لهم- فجاهدوا جهادا حقيقيا في سبيل الله ينصركم الله، وتصبحوا ظاهرين غالبين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف‏:‏ متم نوره بضم الميم والاضافة بجر نوره‏.‏ والباقون‏:‏ متم نوره بتنوين متم، ونصب نوره‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ننجيكم من عذاب أليم بفتح النون الثانية وبتشديد الجيم‏.‏ والباقون‏:‏ ننجيكم بضم النون الأولى واسكان الثانية وكسر الجيم دون تشديد‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو‏:‏ كونوا انصاراص لله بالتنوين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ كونوا انصار الله بالاضافة‏.‏ وقرأ نافع وحده‏:‏ من انصاريَ الى الله بفتح الياء‏.‏ والباقون‏:‏ انصاري الى الله‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

القدّوس‏:‏ صفة من صفات الله ومعناها‏:‏ المنزه عن النقائص‏.‏ الأُميون‏:‏ هم العرب، لأنهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة إلا نسبة قليلة منهم‏.‏ يزكيهم‏:‏ يطهّرهم من الشرك وآخرين لمّا يلحقوا بهم‏:‏ وغيرهم من الناس سيأتون بعدهم‏.‏

يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص، المتصفُ بالكمال، ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

والله تعال ىهو الذي ارسلَ رسولَه محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب الأميين الذين لا يقرأون ولا يكتبون، كي يتلو عليهم القرآن، ويزكّيهم بالاخلاق الفاضلة ويطهرهم من الشرك وعبادة الاوثان، ويعلّمهم الشرائع والعلم النافع ليقودوا العالم وينشروا القِيَم الفاضلة في الشرق والغرب‏.‏‏.‏ وقد كان ذلك من أولئك الأميين بفضل الاسلام وتحت راية القرآن‏.‏

‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ‏}‏

وأي ضلالٍ اكبر من عبادة الاصنام وإتيان الفواحش، كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يخاطب النجاشيّ ملكَ الحبشة لما هاجروا اليه‏:‏

«أيها الملك كنّا قوماً أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجِوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصِدقه وأمانته وعفافه‏.‏ فدعانا الى الله لنوحّده ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان‏.‏ وأمرَنا بصدق الحديث، وأداء الامانة وصلة الرحم، وحُسن الوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكْل مال اليتيم، وقذف المحصنات‏.‏ وأمَرَنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام‏.‏»

‏{‏وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏

وبعثه الله تعالى الى جماعات آخرين من العرب وغيرِهم من جميع العالم لم يجيئوا بعد، سيأتون ويحملون مِشعلَ الهداية وينشرون نور الاسلام في مشارق الارض ومغاربها‏.‏ وهذا يعني أن هذه الأمة المباركة موصولةُ الحلقات ممتدة في جميع اطراف الأرض على مدى الزمان، تحمل هذه الأمانةَ وتُخرج الناس من الظلمات الى النور‏.‏ والتاريخُ شاهد على ذلك، وهذه الآية من دلائل النبوة، ومن الأدلّة على ان القرآن من عند الله‏.‏

‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ والله ذو العزة والسلطان‏.‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم‏}‏

إن ذلك الاختيارَ من الله، اختيارَ رسوله الكريم في هذه الأمة التي هي خير أمةٍ أُخرجت للناس- فضلٌ كبير من الله لا يَعدِله فضل، وتكريم كبير لأمة الاسلام السابقين واللاحقين منهم‏.‏

نسأل الله تعالى ان يرد زعماء هذه الأمة الى دينهم، ويبصّرهم شئون أمتهم ويهديهم سواء السبيل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

حُملوا التوراة‏:‏ عُلِّموها وأمروا ان يعملوا بها‏.‏ ثم لم يحملوها‏:‏ لم يعملوا بها‏.‏ الأسفار‏:‏ جمع سِفر وهي الكتب، السفر الكتاب‏.‏ هادوا‏:‏ تهوّدوا يعني‏:‏ اليهود‏.‏ أولياء الله‏:‏ أحبّاء الله‏.‏ بما قدّمت أيديهم‏:‏ بسبب أعمالهم وكفرهم‏.‏ الغيب‏:‏ ما غاب علمُه عن الخلق‏.‏ والشهادة‏:‏ ما شاهدوه وعلموه‏.‏

الكلام في هذه الآيات الكريمة عن اليهود وكَذِبهم، وتعنُّتِهِم، وتبجُّحهم، فبعد ان منّ الله على هذه الأمة بإرسال رسول من أنفسِهم‏.‏ قال اليهود‏:‏ إن هذا الرسولَ لم يُبعث اليهم، ولذلك يردّ الله عليهم مقالهم بأنهم لو عملوا بالتوراة وفهموها حقَّ الفهم، لرأوا فيها وصفَ النبي الكريم والبشارة به، وانه يجب عليهم اتّباعه، لأنه رسول ورحمة للعالمين‏.‏

وما مثلُهم في حَملِهم للتوراة وتركهم العملَ بها الا كمثل الحمار الذي يحمل الكتبَ ولا يفهم منها شيئا، ولا يجديه حملُها نعفا‏.‏

ثم زاد في توبيخهم بقوله‏:‏

‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

وكيف يهتدون وهم متكبرون وقد رانَ الضلالُ على قلوبهم‏؟‏‏.‏

ثم زاد الله تعالى في توبيخهم على تماديهم في الغيّ والضلال بأن تحداهم أن يتمنّوا الموت اذا كانوا صادقين في زعمهم انهم وحدَهم أحباءُ الله وأولياؤه‏.‏ فقال‏:‏

‏{‏قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قل لهم ايها الرسول‏:‏ أيها اليهود، إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم، وأنكم أحباء الله وحدكم، فتمنوا من الله الموتَ حتى تذهبوا اليه ان كنتم صادقين، وتلاقوا ربكم‏.‏

ثم أخبر الله تعالى بأنهم لن يتمنوا الموت ابدا، لما يعلمون من سوء أفعالهم وكذبهم على الله وعلى الناس، ‏{‏والله عَلِيمٌ بالظالمين‏}‏ لا يخفى عليه شيء‏.‏

ثم أخبر أن الموتَ عاقبة كل حيّ، لا مهربَ منه فقال‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

قل لهم أيها الرسول‏:‏ إنكم ميتون، ولا مهرب لكم من الموت، ثم تُرجَعون الى خالقكم الذي يعلمُ السر والعلانية، فيخبركم بما كنتم تعملون، وتحاسَبون على كل ما قلتموه وعملتموه‏.‏ وأيّ تهديد ووعيد أشد من هذا القول لو كانوا يعقلون‏!‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

اذا نودي للصلاة‏:‏ اذا أُذّن لها‏.‏ فاسعَوا الى ذكر الله‏:‏ فامشوا الى الصلاة‏.‏ وذروا البيع‏:‏ اتركوه‏.‏ فاذا قضِيت الصلاة‏:‏ أُدّيت وانتهت‏.‏ فانتشِروا‏:‏ تفرقوا في طلب الرزق والعمل‏.‏ اللهو‏:‏ كل ما يلهى عن ذكر الله‏.‏ انفضّوا‏:‏ انصرفوا‏.‏

الحديثُ في هذه الآيات الكريمة عن صلاةِ الجمعة، وهي ركعتان بعد خطبتين يلقيهما الإمام، وهي فرضُ عَين، وقد ثبتت فرضيتها بالكتاب والسنّة والاجماع‏.‏

وتجب صلاةُ الجمعة على المسلم الحرّ العاقلِ البالغ المقيمِ القادرِ على السعي إليها، ولا تجب على المرأة والصبيّ، والمريضِ والمسافر، وكلِّ معذور مرخَّص له في ترك الجماعة، كعذر المطر والوحل والبرد ونحو ذلك، ولا تصحّ إلا جماعة‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل يوم الجمعة، وفضل الصلاة فيها، والحثّ عليها والاستعداد لها بالغسل والثياب النظيفة والطِّيب‏.‏

ويجوز للنساء والصبية ان يحضروا الجمعة، فقد كانت النساء تحضر المسجدَ على عهد رسول الله وتصلّي معه‏.‏ ومن صلى الجمعةَ سقطت عنه فريضة الظهر، ومن أراد زيادة فليرجع الى كتب الفقه‏.‏

‏{‏ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع‏}‏

يا أيها الذين آمنوا‏:‏ إذا أُذَّن للصلاة يوم الجمعة فاذهبوا الى المسجد لحضور الصلاة وذِكر الله، واتركوا البيعَ وكلَّ عمل من الاعمال، وامشوا الى الصلاة بسَكينة ووقار، ولا تسرعوا في مشيكم‏.‏ والأفضلُ ان يبكّر الانسان بالذهاب الى المسجد، فاذا لم يستطع فليمشِ الهوينا‏.‏ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال‏:‏ بينما نحن نصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ سمع جلبةَ رجالٍ، فلما صلى قال‏:‏ ما شأنكم‏؟‏ قالوا‏:‏ استعجلنا الى الصلاة‏.‏ قال‏:‏ فلا تفعلوا، إذا اتيتم فامشُوا وعليكم السَكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا «‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

ذلك الذي أُمِرْتم به أنفعُ لكم ان كنتم من ذوي العلم الصحيح، فصلاةُ الجمعة عبادة من العبادات الممتازة لأنها تنظم المسلمين وتعوّدهم على النظام، وفيها الخطبة فيها موعظةٌ حسنة وتعليم للمسلمين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم‏.‏

روى الامام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏» من اغتسلَ يوم الجمعة، ومسَّ من طِيب أهله إن كان عنده، وليس أحسنَ ثيابه، ثم خرج يأتي المسجد، فيركع إن بدا له، ولم يؤذِ أحدا، ثم أنصتَ اذا خرج إمامُه حتى يصلي، كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى «‏.‏

‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

فاذا أديتم الصلاة فتفرقوا في الأرض لمتابعة أعمالكم ومصالحكم الدنيوية التي فيها معاشُكم، واطلبوا من فضلِ الله ما تشاؤون من خَيري الدنيا والآخرة، واذكُروا الله بقلوبكم وألسنتِكم كثيراً، لعلّكم تفوزون بالفلاح في الدنيا والآخرة‏.‏

هذا هو روح الاسلام‏:‏ الجمعُ بين المحافظة على الجسم والروح معا، وهذا هو التوازن الذي يتّسم به الدين الاسلامي، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 77‏]‏‏.‏ هل هناك أجملُ وأحلى من هذا الكلام‏؟‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً‏}‏‏.‏

روى الامام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة اذ قدمت عِير ‏(‏ابل محمَّلة طعاما وغي رذلك من الشام‏)‏ فابتدرها الناس حتى لم يبق في المسجد الا اثنا عشر رجلاً انا فيهم وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

والذي قدِم بهذه التجارة دِحْيةُ الكلبي من الشام، وكانت العادةُ إذا قدمت هذه العير يُضرب بالطبل ليؤذَنَ الناسُ بقدومها، فيخرجوا ليبتاعوا منها، فيخرج الناس‏.‏ فصادف مجيءُ هذه العِير وقتَ صلاة الجمعة، فترك عدد من المصلّين الصلاة وذهبوا اليها‏.‏ فعاتبهم الله على ذلك وافهمهم ان اصلاة لها وقتٌ محترم ولا يجوز تركها‏.‏ ثم رغّبهم في سماع العظات من الأئمة وان الله عنده ما هو خير من اللهو ومن التجارة، فقال‏:‏

‏{‏قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين‏}‏

فاطلبوا رزقه وتوكلوا عليه، ولا يأخذ كل انسان الا ما كُتب له‏.‏ والله كفيل بالأرزاق للجميع‏.‏

وكان عراك بن مالك، رضي الله عنه، اذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال‏:‏ اللهم إنّي أجبتُ دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتَني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين‏.‏ عراك هذا من التابعين من الفقهاء العلماء‏.‏