فصل: سورة الحاقة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة الحاقة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏الْحَاقَّةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ‏(‏3‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ‏(‏5‏)‏ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ‏(‏6‏)‏ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ ‏(‏8‏)‏ وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ‏(‏9‏)‏ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ‏(‏10‏)‏ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ‏(‏11‏)‏ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ‏(‏14‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ‏(‏15‏)‏ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ‏(‏16‏)‏ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

الحاقة‏:‏ القيامة، قال في لسان العرب‏:‏ سُميت حاقة لأنها تحُق ‏(‏بضم الحاء‏)‏ كل انسان من خير او شر‏:‏ ومثلها القارعة‏:‏ فهي من أسماء يوم القيامة، سميت قارعة لشدة هولها‏.‏ وما أدرك‏:‏ اي شيء أعلمك ما هي‏؟‏‏.‏ الطاغية‏:‏ هي صيحة العذاب والصاعقة التي تأخذ الظالمين‏.‏ بريحٍ صرصر‏:‏ ريح باردة مهلكة لها صوت شديد‏.‏ عاتية‏:‏ بالغة العنف‏.‏ سخّرها عليهم‏:‏ سلطها عليهم‏.‏ حسوما‏:‏ تتابعت تلك الايام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم‏.‏ الحسم‏:‏ القطع‏.‏ أعجاز نخل خاوية‏:‏ اصول النخل المقطوعة منذ زمن، فهي جوفاء فارغة‏.‏ فهل ترى لهم من باقية‏:‏ فهل ترى لهم أثرا باقيا‏؟‏ والمؤتفكات‏:‏ المنقلبات، وهي قرى قوم لوط‏.‏ بالخاطئة‏:‏ بالأعمال الخاطئة الفاحشة‏.‏ فأخذَهم أخذةً رابية‏:‏ فأخذهم الله بذنوبهم أخذةً زائدة في الشدة‏.‏ طغى الماء‏:‏ زادَ وتجاوز حده وارتفع‏.‏ حملناكم‏:‏ حملنا آباءَكم‏.‏ في الجارية‏:‏ في السفينة التي تجري على الماء‏.‏ تذكرة‏:‏ موعظة‏.‏ تعيَها‏:‏ تفهمها وتحفظها‏.‏ واعية‏:‏ فاهمة حافظة‏.‏ حُملت الأرض والجبال‏:‏ رفعت من اماكنها وازيلت‏.‏ فدُكتا دَكة واحدة‏:‏ دُقَّت كلّ منهما وهُدمت‏.‏ وقعت الواقعة‏:‏ قامت القيامة‏.‏ واهية‏:‏ متداعية‏.‏ والمَلَك على أرجائها‏:‏ والملائكة واقفة على نواحيها‏.‏

‏{‏الحاقة مَا الحآقة‏؟‏‏}‏‏.‏

أي شيء أعلَمَكَ بها أيّها الانسان‏!‏‏؟‏ إنها فوق ما تسمعه وتراه، وتتصوّره العقول، فهي خارجة عن دائرةِ علومِ المخلوقات، لعِظَم شأنها، ومدى هولها وشدتها‏.‏

ثم ذكر اللهُ تعالى بعضَ الأمم التي كذّبت، فنزل بها ما نزل من العذاب، مثل ثمود وعادٍ الّذين كذبوا بالقيامة، فأهلكَ اللهُ ثمودَ بالصاعقة كما جَاءَ في سورة فصّلت ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏، وهذا معنى الطاغية، والرجفة كما جاء في سورة الأعراف‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

واما عادٌ فأهلكهم الله بريحٍ باردة عنيفة، سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم، ‏{‏فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة، وأُبيدوا ولم يبقَ منهم أحد‏.‏

كذلك فرعون وقومه أخذّهم الله بكفرهم‏.‏ والمؤتفكاتُ أيضاً، قرى قوم لوط، لأن الله قَلَبَ تلك القرى فجعل عاليَها سافلَها بسبب خطيئتهم ومعصيتهم‏.‏ وقد ذكر فرعونَ وقومَ لوطٍ وعاداً وثمود اكثر من مرة‏.‏

ثم ذكر حادثة الطوفان زمن نوح باختصار‏.‏

لما حصل الطوفان وارتفع الماء وجاوز حدَّه حتى علا فوق الجبال- حَمَلْنا آباءكم من مؤمني قومِ نوحٍ في السفينة، وأنجيناهم من الغرق‏.‏ وذلك لنجعلَ نجاةَ المؤمنين وإغراقَ الكافرين عبرةً لكم وعظة، وتفهَمَها كل أُذُنٍ حافظةٍ سامعةٍ عن الله فتنتفع بما سمعت‏.‏

وبعد ان قصّ الله علينا أخبارَ السابقين- شَرَعَ يفصّل لنا أحوال يوم الحاقّة والقيامة والقارعة والواقعة وما يكون فيه من أهوال‏:‏

فاذا نَفخ الملَكُ النفخة الأولى يكون عندها خرابُ العالم، فتُزال الأرضُ والجبال عن اماكنها‏.‏

‏{‏فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة‏}‏‏.‏

في ذلك اليوم تقوم القيامة، وتتصدّع السماءُ وتتشقّق، لأنها تكون ضعيفة واهية‏.‏ وترى الملائكة واقفةً على جوانبها‏.‏

‏{‏وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏}‏‏.‏ من الملائكة الشِداد الاقوياء‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ‏}‏‏.‏

في ذلك اليوم تُعرضون امام الله وتحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة لا يخفى على الله من اموركم شيء‏.‏‏.‏ وهذا كله يجري بأمر الله، لا ندري كيف ومت ىيكون، وكل امور الآخرة مخالفة لأوضاعنا وعقولنا لا ندركها، فندعُ تفصيلَ ذلك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور قَبله بفتح القاف وسكون الباء‏:‏ اي من تقدمه من القرون الماضية‏.‏ وقرأ ابو عمرو والكسائي‏:‏ ومن قِبله بكسر القاف وفتح الباء اي ومن عنده من أتباعه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ لا تخفى منكم خافية بالتاء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ لا يخفى بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 37‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ‏(‏19‏)‏ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‏(‏20‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏21‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏22‏)‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‏(‏23‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‏(‏24‏)‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‏(‏25‏)‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‏(‏26‏)‏ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ‏(‏27‏)‏ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ‏(‏28‏)‏ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ‏(‏29‏)‏ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ‏(‏32‏)‏ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏34‏)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ‏(‏35‏)‏ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ‏(‏36‏)‏ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

هاؤم‏:‏ خذوا‏.‏ ظننتُ‏:‏ علمت، أيقنت‏.‏ راضية‏:‏ يرضى بها صاحبها‏.‏ عالية‏:‏ في القدر والمكان‏.‏ قطوفها‏:‏ جمع قِطف بكسر القاف، ما يقطف من الثمر‏.‏ دانية‏:‏ قريبة سهلة التناول‏.‏ هنيئا‏:‏ يعني كلوا واشربوا سائغا بلا تنغيص ولا كدر‏.‏ أسلفتم‏:‏ قدمتم‏.‏ الأيام الخالية‏:‏ الايام الماضية في الدنياز يا ليتها كانت القاضية‏:‏ على حياته فيرتاح ولم يُبعث‏.‏ ما أغنَى عني ماليه‏:‏ لم يغن عني مالي الذي جمعته في الدنيا شيئا‏.‏ هلكَ عني سُلْطَانِيَهْ‏:‏ ذهب عني كل ما املك من قوة ومال وصحة‏.‏ غُلّوه‏:‏ شدوه بالقيود، والغلّ هو القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق‏.‏ صَلّوه‏:‏ ألقوه في النار حتى يصلاها‏.‏ ذرعُها‏:‏ طولها‏.‏ فاسلكوه‏:‏ فاجعلوه في هذه السلسلة الطويلة‏.‏ حميم‏:‏ قريب او صديق‏.‏ غِسلين‏:‏ صديد اهل النار‏.‏

بعد ان قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء، وتقفُ الملائكة على جوانبها، ويوضع العرشُ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء- بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر، وهم‏:‏ السعداءُ أصحاب اليمين، والأشقياءُ أصحاب الشمال‏.‏ فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم، ويغدُون مسرورين فرحين، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها‏.‏ وكل واحدٍ منهم يقول‏:‏ إني علمت أن ربّي سيحاسبني حسابا يسيرا، ‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ مرضيّة خاليةٍ مما يكدِّر، ‏{‏فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ وهي جنة الخلد ذاتُ المكان الرفيع والثمارِ المختلفة التي يسهُل تناولها‏.‏ وكلهم في نعيمٍ وحبور ويقول لهم ربهم‏:‏ ‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية‏}‏‏.‏‏.‏ كُلوا من ثمار جنةِ الخلد هنيئاً، واشربوا من شرابها مريئا، وذلك كلّه جزاءَ ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية‏.‏

واما الأشقياء، وهم الذين كذّبوا الرسلَ، ولم يؤمنوا بالله ولا البعث والحساب- فإن الواحدَ منهم حين ينظر في صحيفة أعماله بعد أن تلقّاها بشماله- ينفر منها ويقول‏:‏

‏{‏ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية‏}‏‏.‏

يا ليتني لم أتلقّ كتابي، ولم أعلم أي شيء عن حسابي، ويا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها كانت نهايةَ الحياة، لم أُبعث بعدَها ولم ألقَ ما أنا فيه من عذابٍ وسوء منقلَب‏.‏

‏{‏مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏‏.‏

لم ينفعني مالي وما جمعتُ في الدنيا، وذهَب عنّي كلُّ عزٍّ وجاهٍ وصحة وقوة‏.‏‏.‏ ذهبَ ذلك كلُّه وبقيَ العذابُ والوبال‏.‏

وعندها يقال لزبانية جهنم‏:‏

‏{‏خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ‏}‏‏.‏

خذوه وأدخِلوه في النار مقيَّدا، في سلسلة طولها سبعون ذراعا لُفُّوها على جسمه حتى لا يستطيعَ حَراكا‏.‏ وليس المرادُ أن طولَها كذلك، ولكن القصدَ إهانته وبيانُ هول العذاب‏.‏ فقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان بخيلاً ممسِكاً لا يُطعِم الفقراء والمساكين ولا يحثّ الناسَ على إطعامهم‏.‏ لذلك‏:‏

‏{‏فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ‏}‏

ليس له صديقٌ ولا قريب يدفع عنه في هذا اليوم‏.‏ وطعامُه من صديدِ اهل النار، الذي لا يأكله الا الخاطئون المذنبون أمثاله ممن أصرّوا على الكفر والجحود وماتوا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 52‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏40‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ‏(‏44‏)‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ‏(‏46‏)‏ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ‏(‏51‏)‏ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

فلا أقسِم‏:‏ معناها، فأُقسِم‏.‏ بما تبصرون‏:‏ بما تشاهدون من المخلوقات وما في هذا الكون العجيب‏.‏ وما لا تبصرون‏:‏ كل ما غاب عنكم وما اكثره‏.‏ ولا بقول كاهن‏:‏ الكاهنُ مَنْ يتنبأ بالغيب كذباً وزورا، وكان هذا النوع من الناس شائعا عند العرب في الجاهلية‏.‏ ولو تقوّل‏:‏ لو افترى علينا‏.‏ الأقاويل‏:‏ الأكاذيب، الاقوال المفتراة‏.‏ لأخذْنا منه‏:‏ لأمسكناه‏.‏ باليمين‏:‏ بيمينه‏.‏ الوتين‏:‏ الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسمَ بالدم النقي الخارج من القلب، فاذا قطع هذا العِرقُ مات الانسان حالا‏.‏ حاجزين‏:‏ مانعين‏.‏ وإنَّه لحقُّ اليقين‏:‏ وان القرآن الكريم لحقٌّ ثابت من عند الله‏.‏

بعد هذه الجولةِ مع الجاحدين وما ينتظرُهم من عذاب في ذلك اليوم الشديد الهول- يعود الكتابُ ليؤكّد أن ما يتلوه الرسولُ الكريم هو القرآنُ الكريم من عندِ ربّ العالمين، وأن الأمرض لا يحتاج إلى قَسَم أنه حقٌ، صادرٌ عن الحق، وانه ليس شعرَ شاعرٍ، ولا كهانةَ كاهنٍ، ولا افتراءَ مفترٍ، فما هو بحاجة الى توكيدِ يمين‏.‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

تكرر هذا التعبيرُ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ‏}‏ في القرآن الكريم، وهو يمين عظيم‏.‏ وهو كما يقول المتأكد من أمرٍ من المور‏:‏ لا حاجة الى اليمين عليه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

لقد حارتْ قريش في أمرِ الرسولِ الكريم، وتبلبلت آراء زعمائها في ما يتلوه عليهم، فقال بعضُهم إنه كاهن، وقال بعضُهم إنه مجنون، وقال بعضهم إنه شاعر، وقال بعضهم إنه ساحر‏.‏‏.‏ ولم يستقرّ رشأيهم على شيء، حتى إن أكبرَ أعدائه- وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر- قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله‏:‏ «يا معشرَ قريش، انه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم‏:‏ ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر‏.‏ لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم‏.‏ وقلتم كاهن‏!‏ لا واللهِ ما هو بكاهن‏.‏ قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم‏.‏ وقلتم شاعر‏!‏ لا واللهِ ما هو بشاعر‏.‏ قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها‏:‏ هَزَجَه وَرجَزه‏.‏ وقلتم مجنون‏!‏ لقد رأينا الجنون فما هو كذلك‏.‏ يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم امر عظيم‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏

أُقسِم بما تشاهدون من هذا الكون العجيب وما فيه حولَكم من مخلوقات، وبما غابَ عنكم مما لا تشاهدونه، وما أكثره‏.‏‏.‏‏.‏ أنّ هذا القرآن هو قولُ رسولٍ كريم أنزلَه اللهُ عليه، ‏{‏وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ‏}‏ حيث كان بعض زعماء قريش يقول عنه إنه شاعر ‏{‏وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ وليس هو بقولِ كاهن من كهنةِ العرب كما تزعمون، بل هو‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين‏}‏ أنزله على عبده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وبعد ان أثبت اللهُ تعالى أن القرآن الكريم تنزيلٌ من رب العالمين، ليس بشعرٍ ولا كهانة- أكّد هنا أن الرسولَ الأمين لا يمكن ان يتقوَّلَه، اذ لو فعلَ ذلك لأخذْنا منه بيمينه، وقطَعْنا منه نِياطَ قلبه فيموتُ حالا، فلا يستطيعً أحدٌ منكم مهما بلغتْ قوَّتُه ان يحجِزَ عقابنا عنه‏.‏ وهذا معنى‏:‏ ‏{‏فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى أنّ هذا القرآن تذكِرةٌ وعِظةٌ لمن يتقي الله ويخشاه، وأنه حسرةً على الكافرين حينما يَرَوْنَ ثوابَ المؤمنين، ‏{‏وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين‏}‏ فهو حقٌّ ثابت لا ريبَ فيه‏.‏ ولو ان منكم مكذِّبين‏.‏

ثم امر رسوله الكريم أن يسبِّح ربه العظيم وينزّهَه، ويشكره على ما آتاه من النِعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم‏.‏

سورة المعارج

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 18‏]‏

‏{‏سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ‏(‏1‏)‏ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ‏(‏2‏)‏ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ‏(‏3‏)‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏ يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

سأل‏:‏ طلب‏.‏ ليس له دافع‏:‏ لا يستطيع أحد رده‏.‏ المعارج‏:‏ الدرجات، والمصاعد‏.‏ واحدها معرج بكسر الميم ومعرج بفتحها، ومعراج‏.‏ الروح‏:‏ جبريل‏.‏ المُهل‏:‏ المعدن المذاب كالفضة والحديد وغير ذلك، وعكر الزيت‏.‏ العهن‏:‏ الصوف‏.‏ حميم‏:‏ قريب، صديق‏.‏ الفصيلة‏:‏ العشيرة‏.‏ لظى‏:‏ جهنم‏.‏ الشَّوى‏:‏ واحدها شواة، جلدة الرأس‏.‏ جمعَ فأوعى‏:‏ جمع المال وخبأه في وعاء، وبَخِل به ولم يصرف منه في وجوه الخير‏.‏

كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب، فما هذا العذاب‏؟‏ ومتى يكون‏؟‏ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون، منكرين ومستهزئين‏:‏ متى هذا الوعد‏؟‏ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار‏.‏ فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة‏.‏

إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة، لن يستطيع أحدٌ ردَّه، وسيأتيهم من الله تعالى خالقِ السموات وما فيها من مسالك، والذي يعصَدُ جبريل والملائكة اليه في يومٍ طويلٍ شاقّ على الكافرين مقدارُه خمسون الف سنة من ايامنا هذه‏.‏ ويجوز ان يكون أطول، فليس المرادُ من ذِكر الخمسين تحديدَ العدد، بل بيان شدةِ ذلك اليوم وعظم هوله‏.‏ فاصبرْ يا محمدُ على استهزائهم واستعجالهم العذابَ ‏{‏صَبْراً جَمِيلاً‏}‏‏.‏

ثم بين الله تعالى ان هذا اليومَ آتٍ لا شكّ فيه فقال‏:‏

‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً‏}‏‏.‏

إن الكفار الجاحدين يرون يوم القيامة مستحيلاً لا يَقَع، ونراه واقعاً قريباً غير متعذَّر على قدرتنا، فَلْيحذروه‏.‏

ثم ذكر وقتَ حدوث ذلك اليوم وشيئاً من أهواله فقال‏:‏

‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل‏}‏

إنه يوم شديدُ الهول تذوب فيه السماءُ كالمعادن المنصهرة ويصيرُ لونُها مثل عَكْرِ الزيت أما الجبال فتغدو مثل الصوف المنفوش تتطاير في أرجاء الكون‏.‏ وفي ذلك الهول الشديد يصير كل انسان مشغولاً بنفسه، لا يسألُ عن أقاربه ولا أصدقائه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وإنهم لَيرون بعضهم البعض لكنه لا يسال أحدٌ عن احد، ويتمنى الكافر لو يفدي نفسَه من عذاب يوم القيامة ببنيه، وزوجته، وأخيه وعشيرته التي ينتمي اليها، بل وبجميع من في الأرض، علّه ينجو من العذاب‏.‏‏.‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ لا يمكن ان ينجيه شيء، ولا يُقبل منه فداءٌ ولو جاء بأهل الأرض جميعا‏.‏ بل إن مصيرَهُم الى لظى جهنّم الشديدةِ الحرارة حتى تنزعَ جلدةَ الرأس عنه‏.‏

‏{‏تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى وَجَمَعَ فأوعى‏}‏

انها تنادي أولئك المجرمين الذين تولَّوا عن الدعوة في الدنيا، وأعرضوا عن الحق، وجمعوا المالَ وكدّسوه في خزائنهم، ولم يؤدوا حقّ الله فيه‏.‏

فهل هناك اكبر من هذا التهديد والوعيد لمن بَخِلَ بماله، وأعرضَ عن الله ورسوله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فاعتبِروا يا أولي الألباب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ سأل سائل بالهمزة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ سال بغير همزة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تعرج بالتاء‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ يعرج بالياء‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ولا يسأل بفتح الياء‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ ولا يسأل بضم الياء مبنيّاً للمجهول‏.‏ وقرأ حفص وحده‏:‏ نزاعة بالنصب‏.‏ والباقون‏:‏ نزاعة بالرفع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

خلق هلوعا‏:‏ ضجورا سريع الحزن اذا اصابه مكروه، واذا أصابه الخير فهو منّاع له‏.‏ حق معلوم‏:‏ نصيب معيَّن للسائل من الفقراء، وللمحروم الذي لا يسال الناس‏.‏ مشفقون‏:‏ خائفون‏.‏ حافظون‏:‏ يحفظون انفسهم عن الحرام‏.‏ راعون‏:‏ لا يخلّون بشيء من حقوقها‏.‏

في هذه الآيات الكريمة يبيّن اللهُ تعالى حقيقة النفس البشرية عندما يمسُّها شرّ أو خير، ويبين حقيقةَ الجاحدين المانعين للخير، الذين يَضْجَرون بسرعة اذا مسّهم الشر، ويمنعون أداءَ حقِّ المال اذا أصابهم خير‏.‏ ثم قال‏:‏

‏{‏إِلاَّ المصلين الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ان هؤلاء المتّصفين بهذه الصفات الطيبة، وهي إقامةُ الصلاة والمداومة عليها، والّذين يجعلون في أموالهم نصيباً معيّنا للفقراء والمساكين، ويصدِّقون بيوم القيامة، ويخافون عذابَ ربّهم، ويتحلَّون بالعفة فلا يَقْربون إلا نساءَهم او جواريَهم- فإنهم غيرُ مَلُومين‏.‏

‏{‏فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون‏}‏

فالذين لا يتعفّفون، ويَجْرون وراءَ شهواتِهم في الحرام أولئك هم المعتدون الذين تجاوزوا أوامرَ الله ورسوله‏.‏

‏{‏والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏

والّذين يؤدّون الأماناتِ ويحافِظون على العهود ويؤدّون شهاداتِهم بصِدق، ويحافظون على صلاتهم ‏{‏أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ‏}‏، هؤلاء الذين يتحلَّون بهذه الصفات الرفيعة- لهم الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بشر‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص‏:‏ شهاداتهم بالجمع‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ شهادتهم بالإفراد‏.‏ وقرأ ابن كثير‏:‏ لأمانتهم بالافراد‏.‏ والباقون‏:‏ لأماناتهم بالجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قبلك‏:‏ بكسر القاف وفتح الباء، نحوك جهتك، في الجهة التي تليك‏.‏ مهطعين‏:‏ مسرعين، والفعل أهطع‏:‏ يأتي بمعنى نظر في ذلٍّ وخشوع، وبمعنى أسرع‏.‏ عِزين‏:‏ جماعات مفردها عِزَة بكسر العين وفتح الزاي‏.‏ بمسبوقين‏:‏ بمغلوبين‏.‏ الأجداث‏:‏ القبور، واحدها جَدَث بفتح الجيم والدال‏.‏ النصُب‏:‏ كل ما نصب للعبادة من دون الله، كالأصنام وما شابهها‏.‏ يوفضون‏:‏ يسرعون‏.‏ خاشعة أبصارهم‏:‏ أبصارهم ذليلة‏.‏ ترهَقُهم‏:‏ تغشاهم‏.‏

ما بالُ هؤلاء الّذين كذّبوا برسالتك مسرِعينَ إليك، يجلِسُون حوالَيْك جماعاتٍ جماعات، ليسمعوا ما تتلوه عليهم من آياتِ الله، ثم يردّدونها فيما بينَهم ساخرين‏!‏‏!‏ ولا يعون ما تُلقيه عليهم من رحمة الله وهدْيه‏!‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ثم بين مآلهم وأنهم لا يدخلون الجنةَ أبداً فقال‏:‏

‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أيطمعَ هؤلاء في ان يدخلوا الجنةَ، وقد كذّبوك ايُّها الرسول ولم يؤمنوا برسالتك، وهم معرِضون عن سماع الحق‏!‏‏!‏ كلا‏:‏ لا مطمعَ لهم في ذلك ولا نصيب‏.‏ وكيف يطمعون في دخولِ الجنة، وهم يكذّبون بالبعث والجزاء‏؟‏ وقد خلقناهم من ماء مهين‏.‏

ثم أوعدهم بأنهم إن لم يؤمنوا ويرجعوا عن كفرهم- أهلكَهم واستبدلَ بهم قوماً غيرهم خيراً منهم فقال‏:‏

‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏‏.‏

لقد أقسَم الله تعالى بربِّ المشارقِ والمغارب ‏(‏وهي مشارقُ الشمس ومغاربها‏)‏ وببقية النجوم والكواكب، فهي تُشرق كل يومٍ من مكان، وتغرب كذلك ‏(‏فمشارقُ الشمس متعدّدة وكذلك مغاربها‏)‏ إنه لَقادر على ان يُهلكَهم ويأتي بخلْقٍ خيرٍ منهم، وما هو بعاجز عن هذا التبديل‏.‏

ثم سلّى جلّ جلالُه رسولَه الكريم عما يقولون ويسخرون بأنهم سيلاقون يومهم الذي وعدَهم الله، وهناك سيلقون جزاءهم‏.‏ في ذلك اليوم يَخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي كأنهم يهرولون الى النُصُب التي كانوا يعبدونها في الدنيا، ولكنّ حالَهم مختلفٌ، فإنهم يأتون وأبصارُهم خاشعة أذلاَّء تعلو وجوهَهكم الكآبة والحزن‏.‏

‏{‏ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ‏}‏

ذلك اليوم هو يوم القيامة وما فيه من أهوال عظام هو موعدُهم، وفيه ينالون جزاءَهم، وبئس المصير‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حفص وابن عامر‏:‏ نُصُب بضم النون والصاد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ نَصَب بفتح النون والصاد، وهما لغتان‏.‏ او ان النصب بضم النون والصاد جمع نصب بفتح النون وسكون الصاد‏.‏ والله اعلم‏.‏

سورة نوح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ‏(‏9‏)‏ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ‏(‏10‏)‏ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ‏(‏11‏)‏ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

ليلا ونهارا‏:‏ دائما‏.‏ جعلوا أصابعهم في آذانهم‏:‏ سدّوا آذانهم حتى لا يسمعوا‏.‏ استغشَوا ثيابهم‏:‏ تغطوا بها لئلا يروا‏.‏ يُرسِل السماءَ عليكم‏:‏ يرسل المطر‏.‏ مدرارا‏:‏ غزيرا‏.‏

لقد اخبر الله تعالى في أول هذه السورة الكريمة أنه أرسل نوحاً الى قومه لينذرَهم بأسه قبل أن يأتيَهم عذابٌ شديد‏.‏ فقال نوح‏:‏ يا قوم إنّي نذيرٌ لكم، فعليكم أن تعبدوا اللهَ وحده وتطيعوه، فإن أطعتُم وآمنتم يغفرْ لكم ذنوبَكم ويمدّ في أعماركم ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ ووقتٍ محدّد، إن أمر الله اذا جاء لا يُردّ ولا يؤجَّل ‏{‏لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

فعصاه قومُه ولم يستجيبوا له فقال‏:‏ يا رب، لقد دعوتُ قومي لعبادتك ليلاً ونهاراً فلم تزدهم دعوتي لهم إلا فِرارا من دِينك، وإني كلّما دعوتُهم لتغفرَ لهم، سدُّوا مسامعَهم بأصابعهم وغطوا رؤوسهم بثيابهم حتى لا يسمعوا الحقَّ وأصروا على كفرهم ‏{‏واستكبروا استكبارا‏}‏‏.‏ ثم إنتي دعوتُهم بأعلى صوتي جهارا، كما دعوتُهم سِرا، وقلت لهم‏:‏ ‏{‏استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً‏}‏ يُغِيثْكم ويُرْسِلِ الأمطار عليكم غزيرةً تُخصِب أرضَكم وتُحيي زروعكم، ويمدُّكم بالأموالِ والبنين، ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ تجري من تحتِها، لتعيشوا بأحسنِ حال‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة وابو عمرو‏:‏ انِ اعبدوا الله بكسر النون لالتقاء الساكنين‏.‏ والباقون‏:‏ أنُ اعبدوا الله بضم النون‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ دعائي بفتح الياء‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب‏:‏ دعائي باسكان الياء كما هو في المصحف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 20‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ‏(‏13‏)‏ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ‏(‏14‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ‏(‏15‏)‏ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ‏(‏16‏)‏ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ‏(‏19‏)‏ لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

ترجون‏:‏ معناه هنا تخافون، وقد يستعمل للأمل‏.‏ وقارا‏:‏ عظمة واجلالا‏.‏ اطوارا‏:‏ في حالات متعددة‏.‏ طباقا‏:‏ بعضها فوق بعض، او يشبه بعضها بعضا في الإتقان‏.‏ بساطا‏:‏ مبسوطة واسعة‏.‏ فجاجا‏:‏ واسعة‏.‏

قعد أن دعاهم نوح الى الله في السرّ والعلَن، وطلبَ إليهم ان يَستغفِروه حتى يرزقَهم الغيثَ كي يحسِّن وضعَهم، ويمدّهم بالأموالش والبنين‏.‏‏.‏ وحاولَ ان يهذِّب نفوسهم بأن يتّبعوا مكارمَ الأخلاق- استنكر نوحٌ على قومه وتعجّب من إعراضِهم كيف لا يهابون الله ولا يخافون من قُدرته وعظَمته‏.‏ ‏{‏مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً‏}‏ مختلفةً فكنتم نطفةً في الأرحام، ثم علقةً، ثم مُضغةً، ثم عِظاما، ثم كسا العظام لحماً، ثم انشأكم خَلْقاً آخر ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏

ثم ينبّهُهُمْ إلى هذا الكونِ العجيب وهذه السماواتِ وإتقان صُنْعِها، إذ جعلَ القمرَ فيها يشعُّ بالنور، وجعلَ الشمسَ كالسراجِ تُوَلّد الضوءَ‏.‏ ولقد خلقكم اللهُ من هذه الأرضِ مثلَ ما أنبتَ النباتَ منها، ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً‏}‏ بعد الموتِ، فيخرجُكم يومَ القيامة‏.‏ واللهُ جعلَ لكم الأرضَ مبسوطةً لتسلكوا فيها الطرقَ المريحةَ الواسعةَ أين ش~ئتُم من نواحيها وأرجائها وتسعوا في مناكبها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 28‏]‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏21‏)‏ وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ‏(‏22‏)‏ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ‏(‏23‏)‏ وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ‏(‏24‏)‏ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ‏(‏27‏)‏ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

كُبارا‏:‏ بضم الكاف وفتح الباء المشددة‏:‏ كبيرا عظيما‏.‏ لا تذَرُنّ‏:‏ لا تتركن‏.‏ وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونَسْراً‏:‏ اسماء اصنام كانوا يعيدونها‏.‏ مما خطيئاتِهم أغرقوا‏:‏ من اجل ذنوبهم اغرقوا بالطوفان‏.‏ ديّارا‏:‏ احدا يعمر الديار‏.‏ تبارا‏:‏ هلاكا‏.‏

بعدَ ان يئس نوحٌ من قومه في هذه المدَّة الطويلة التي قضاها بينَهم توجّه الى ربه وقال‏:‏ ربّ إنهم عَصَوني واتَّبعوا طواغيتَهم من الأغنياءِ الأقوياء الذين لن تزيدَهم أموالُهم وأولادُهم الا خُسرانا‏.‏ وقد مكروا بي وبدِينك مكراً كبيرا جدًا، وقالوال لأتباعهم‏:‏ لا تتركوا آلهتكم التي تعبُدونها ولا تتركوا وَدّاً ولا سُواعاً ولا يغوثَ ويعوقَ ونَسْرا‏.‏ وقد أطاعهم الناسُ فأضلّوهم ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً‏}‏‏.‏

‏{‏مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً‏}‏‏.‏

وبسببِ ذُنوبهم أغرقَهم الله بالطوفان، وأُدخِلوا بعدَ ذلك ناراً عظيمة‏.‏ وذلك يومَ القيامة، ولم يجِدوا لهم أنصاراً يَحْمُونَهم من عذابِ الله‏.‏

ثم قال نوح بعدَ يأسِه الشديد‏:‏ ‏{‏رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يا ربّ، لا تترك على الأرضِ أحَداً من الكافرين، إنّك يا ربّ إن تَتركْهم دونَ هلاكٍ ‏{‏يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً‏}‏‏.‏

ثم طلب نوح الغفرانَ ولأبوَيه وللمؤمنين والمؤمنات، وأعادَ الدعاءَ على الكافرين مرّةً اخرى فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً‏}‏‏.‏

أي خُسراناً وبُعداً من رحمتك‏.‏ أما سيدُنا محمد الرسولُ العربي الكريم فإنه لم يَدْعُ على قومه بل دَعا لهم أكثرَ من مرَةٍ وكان يقول‏:‏ «اللهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يَعلمون» وقد استجابَ له‏.‏ ونسأل اللهَ تعالى ان يهديَ العربَ الى سَواء الطريق ويجمع كلمتَهم، ويوحّد صفوفَهم ليواجهوا عدوَّهم المشترك، وان يقوّوا صِلَتَهم بجميع المسلمين ‏{‏وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 29‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ ودا بضم الواو‏.‏ والباقون‏:‏ ودا بفتح الواو‏.‏ وقرأ ابو عمرو‏:‏ مما خطاياهم، والباقون‏:‏ مما خطيئاتهم‏.‏

سورة الجن

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏ وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

النفر‏:‏ ما بين الثلاثة والعشرة‏.‏ عجبا‏:‏ عجيبا بعديعا لا يشبهه شيء من كلام الناس‏.‏ الجد‏:‏ بفتح الجيم العظمة والوقار والقدر‏.‏ يقال جد يجد جدا‏:‏ عظم، وفي الحديث «تبارك اسمك وتعالى جَدّك» السفيه‏:‏ الجاهل، الطائش‏.‏ سفه يسفه سفها وسَفاها وسفاهة‏:‏ خفّ وجهل وطاش‏.‏ شططا‏:‏ غلوا، وافراطا‏.‏ يعوذون‏:‏ يستجيرون ويلتجئون‏.‏ كان الرجل في الجاهلية اذا امسى في مكان خالٍ يقول‏:‏ أعوذُ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ولا يعوذ بالله‏.‏ رهقا‏:‏ إثما، وحَمْلَ المرء على ما لا يطيق‏.‏

قل يا محمد لأمتك‏:‏ أوحى اللهُ إليَّ أنه استمعَ إلى تلاوة القرآنِ جماعةٌ من الجنِّ فدُهِشوا من عَظَمتِه وبلاغته فقالوا لقومهم‏:‏ إنّا سَمِعْنا قرآناً بديعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، فدُهِشوا من عَظَمت~ه وبلاغته فقالوا لقومهم‏:‏ إنّا سَمِعْنا قرآناً بدينعاً لم نسمَعْ مثلَه من قبلُ، يدعو الى الهُدى ‏{‏فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً‏}‏‏.‏ وقل لهم‏:‏ إنه جلَّ وعلا ما اتخذَ زوجةً ولا ولدا‏.‏ وعلى لسان الجنّ أخبرهم يا محمد انه كان يقول سفهاؤنا على الله قولاً بعيداً عن الحقّ والصواب، وأنّا كنا نظنّ أن لن يَكذِب احد على الله تعالى فينسبَ اليه الزوجة والولد، ويصفه بما لا يليق به‏.‏ وكذلك أخبر قومك يا محمد أن بعض الجن يقولون إن رجالاً من الانس كانوا يستعيذون برجال من الجن ولا يستعيذون بالله فزادهم الجن ضلالا وطغيانا‏.‏ وأن الجنّ ظنّوا كما ظننتم معشَرَ الانس، ان الله لن يبعثَ أحداً بعد الموت ولن يبعثَ رسولاً من البشَر إليهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وحفص‏:‏ وأنه تعالى بفتح الهمزة وكل ما هو معطوف عليها، وذلك في احد عشر موضعا الى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون بكسر الهمزة في هذه المواضع كلها الا في قوله تعالى ‏{‏وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 18‏]‏ فانهم اتفقوا على الفتح‏.‏

اما من قرأ بالفتح في هذه المواضع فعلى العطف على قوله «فآمنا به» كأنه قيل فصدقناه وصدّقنا انه تعالى جدّ ربنا الخ‏.‏‏.‏‏.‏ واما من قرأ بالكسر في هذه المواضع فعلى العطف على‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 17‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

لقد أراد الجن ان يستمعوا خبر السماء فوجدوها ‏{‏مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً‏}‏ تنقضّ عليهم، وقالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً‏}‏ يهلكه ويحرقه‏.‏

وان الجن قالوا‏:‏ نحن لا نعلم، أعذابٌ أُريد بمن في الأرضِ من هذه الحِراسَة الشديدة على السّماء لمنعِ الاستماع، أم أرادَ بهم ربُّهم خيراً وهدى‏.‏

وان الجن منهم الأبرارُ الصالحون، ومنهم دون ذلك ‏{‏كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً‏}‏ وفرقاً شتّى وأهواءَ مختلفة‏.‏

وأنا أيقنّا أنا لن نُعجز اللهَ أينما كنّا في الأرض، ولن نُعجِزَه هَرَباً من قضائه، فإنّ الله قادرٌ علينا حيث كنّا‏.‏

وأما لما سَمِعْنا القرآن آمنّا به، فمن يؤمن بربِّه فلا يخافُ نَقْصاً من حَسَناته، ولا ظُلماً يلحقه أبدا‏.‏

وأنا فريقان‏:‏ مسلمون مُقرون بالحق، وقاسِطون جائرون عادِلون عن الحق، فمن أسلمَ ‏{‏فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً‏}‏ وقصَدوا سبيلَ الحق، ‏{‏وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً‏}‏ يوم القيامة‏.‏

الى هنا انتهى كلام الجن‏.‏ ثم عاد الحديث الى ذِكر ما أُوحيَ الى الرسول الكريم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً‏}‏‏.‏

أوحى الله إلى الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لو استقام الانسُ والجنُّ على الحقّ والعملِ بشريعة العدل، ولم يَحِيدوا عنها- لأسقيناهم ماءً غزيرا، ولرزقناهم سَعة في الرزق ورخاءً في العيش‏.‏ يقال سقاه وأسقاه‏.‏ والفعلان وردا في القرآن الكريم‏.‏

ولنختبرهم، كيف يشكرون لله نِعمه عليهم‏.‏

‏{‏وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً‏}‏‏.‏ أي عذاباً شديداً‏.‏

ومن يغيّر او يبدّل، ولا يتّبع أوامرَ الله ونواهيَه يُدْخِله اللهُ عذاباً شاقاً لا يطيقُ له حملا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ هل الكوفة ويعقوب‏:‏ يسلكه بالياء‏.‏ والباقون نسلكه بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 28‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

المساجد‏:‏ جمع مسجد، موضع السجود للصلاة والعبادة، وتشمل جميع المعابد‏.‏ فلا تدعوا‏:‏ فلا تعبدوا‏.‏ عبد الله‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ لبدا‏:‏ بكسر اللام وفتح الياء، جماعات والمراد‏:‏ متراكمين متزاحمين‏.‏ وسيأتي انه قرئ‏:‏ لُبدا بضم اللام وفتح الباء، وهما لغتان‏.‏ ولا رشدا‏:‏ ولا نفعا‏.‏ ملتحَدا‏:‏ ملجأ وملاذا‏.‏ امدا‏:‏ غاية‏.‏ رصدا‏:‏ راصدا يرصده‏.‏

قل أوحي إليّ أن المساجدَ لله فلا تعبُدوا فيها مع الله أحدا‏.‏ وانه لمّا قامَ محمد صلى الله عليه وسلم يعبدُ اللهَ ويقرأُ القرآن كاد الجِنُّ يكونون مزدَحِمين عليه جماعاتٍ، نعجُّباص مما رأوه وسمِعوه‏.‏

وقال بعض المفسّرين‏:‏ لمّا قامَ عبدُالله بالرسالة يدعو الله وحدَه مخالفاً المشركين في عبادَتِهم الأوثان، كادَ الكفّارُ لِتظاهُرِهم عليه وتعاوُنِهم على عَداوته يزدَحِمون متراكمين جماعاتٍ جماعات‏.‏

قل يا محمد لأولئك الّذين خالَفوك‏:‏ إنما أعبدُ الله ربِّي ولا أُشركُ به في العبادة أحدا‏.‏

ثم بين انه لا يملك من الأمر شيئا وأن كل شيءٍ بيدِ الله‏:‏

‏{‏قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً‏}‏‏.‏

لستُ أملك لكم دفعَ ضرر ولا تحصيلَ هدايةٍ ونفع، وانما الّذي يملِكُ ذلك كلَّه هو الله تعالى‏.‏

ثم بين الكتاب عجز الرسول عن شئون نفسِه بعد عجزِه عن شئون غيره فقال‏:‏

‏{‏قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً‏}‏‏.‏

إنه لا يجيرني من الله ولا يدفع عني عذابَ الله إن عصيتُه أحد، ولن أجِد من دونه ملجأً ولا ملاذا، ولن ينصرني منه ناصر‏.‏

‏{‏إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ‏}‏ إنني لا أملِك إلا تبليغاً عن اللهِ ورسالاته التي بعثني بها‏.‏

ثم بيّن جزاء الذين يعصُون الله ورسوله فقال‏:‏

‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً‏}‏‏.‏

ومن يعصِ الله فيما أمَرَ به، ويكذّب برسوله- فإن جزاءه نارُ جهنم يَصلاها خالداً فيها ابدا‏.‏

‏{‏حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً‏}‏‏.‏

وعندما يرون جهنم والعذابَ الذي أُعدَّ لهم سيعلمون من هم المستضعَفون‏؟‏ المؤمنون الموحدون لله تعالى أم المشركون الذين لا ناصرَ لهم ولا معين‏!‏

ثم أمر الله رسولَه الكريم ان يقول للناس‏:‏ إنه لا عِلمَ له بوقتِ الساعة، ولا يدري أقريب وقتُها أم بعيد، فهو لا يعلم شيئاً من الغَيب إلا اذا أعلمه اللهُ به‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏

‏{‏إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً‏}‏‏.‏

الا رسولاً ارتضاه لِعِلْمِ بعضِ الغيب، فإنه يُدخِل من بين يدي الرسولِ ومن خَلْفِه حفظةً من الملائكة تحولُ بينه وبين الوساوس، فالله يصونُ رُسلَه ويحفظهم من كل شيء‏.‏

‏{‏لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ‏}‏ وقد عَلِمَ تفصيلاً بما عندهم، ‏{‏وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً‏}‏ فعلم عدد الموجودات كلّها، لا يغيبُ عنه شيءٌ منها‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر‏:‏ لُبدا بضم اللام‏.‏ والباقون لبدا بكسر اللام وفتح الباء‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة‏:‏ قل انما ادعو ربي بفعل الأمر، والباقون‏:‏ ق لانما ادعو ربي بالفعل الماضي‏.‏

وهكذا انتهت هذه السورة الكريمة بردّ كل شيء اليه تعالى، وانه يراقب كل شيء حتى رسُله الكرام‏.‏

سورة المزمل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ‏(‏7‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

المزمل‏:‏ المتلفف بثيابه ومثله المتزمل، يقال ازَّمَّل وتزمل بثوبه التفّ به وتغطى، وزمَّل غيره اذا غطاه‏.‏‏.‏ رتّلِ القرآن ترتيلا‏:‏ اقرأه على مهل وبين حروفه بوضوح‏.‏ قولاً ثقيلا‏:‏ الوحي وما فيه من كلام عظيم وتكاليف شاقة‏.‏ ناشئةَ الليل‏:‏ الاستيقاظ من النوم والقيام للصلاة‏.‏ أشدّ وطأ‏:‏ اكثر مشقة‏.‏ وأقومُ قيلا‏:‏ أثبتُ قراءة وأصوب، لحضور القلب وهدوس الاصوات‏.‏ سَبْحا‏:‏ تقلبا وتصرفا في مهام امورك، واشتغالا في امور الرسالة‏.‏ وتبتَّلْ اليه تبتيلا‏:‏ انقطع الى الله وأخلص اليه‏.‏ واتخذْه وكيلا‏:‏ فوض كل امورك اليه‏.‏

هذه الآياتُ من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد روي في الاحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول، وظنّ ان به هو مسّاً من الجنّ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه، فقال لأهله‏:‏ زمِّلوني وملوني، لقد خشيتُ على نفسي‏.‏ واخبر خديجةَ الخبر‏.‏ فنزلت هذه الآياتُ‏:‏

‏{‏ياأيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً‏}‏‏.‏

يا أيها المتلفّف بثيابه، قُم في الليلِ وانشَط للصلاة، لتستعدَّ للأمرِ الجليل، وهو تبليغُ دعوة ربّك للناس‏.‏ ثم بيّن له المقدارَ الذي يصلّيه‏:‏ نصفَ الليل، أو أقلَّ من النصف، او زِدْ عليه بقدْرِ ما تستطيع، واقرأ القرآن ببيانٍ ووضوحٍ وترتيب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا قبل ان تُفرضَ الصلواتُ الخمس‏.‏

ثم أخبره تعالى بأنه سيُلقي عليه قرآناً عظيماً فيه تكاليفُ شاقة على المكلَّفين، فاستعدَّ لهذا الأمر يا محمد‏.‏ ثم بيّن له بوضوحٍ أن الصلاةَ بالليل والنهوضَ للعبادة شديدُ الوطأة، ولكنّه أقْوَمُ وأثبتُ لقراءة القرآن، لِحضورِ القلب، ولأن الليلَ تهدأ فيه الأصواتُ وتنقطعُ الحركة، فيكون الذهنُ أجْمَعَ، والنفسُ أصفَى للتدبُّر والتأمل في أسرار القرآن الكريم‏.‏

‏{‏إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً‏}‏

ان لك في النهارِ وقتاً طويلاً تَصْرِفه في العملِ والاشتغال بأمور الرسالة، ففرّغ نفسَك في اللّيل لعبادةِ ربّك‏.‏

ثم انتقلَ بعد ذلك إلى أمرِ الرسول الكريم بتبليغ الدعوةِ والانقطعاِ لذلك وتفويضِ أموره كلّها إليه‏:‏

‏{‏واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً‏}‏

استعنْ على تبليغ دعوتك بذِكر الله، وانقطعْ إليه في عبادَتِك وأمورك جميعها‏.‏

ثم بين له أنه ليس هناك إلا اللهُ وحدَه، فاتجهْ إليه بالعبادة، هو مالكُ هذا الكون العجيب الكبير، ‏{‏فاتخذه وَكِيلاً‏}‏ وفوِّض أمورك إليه، واستمدَّ القوةَ والعون منه لتحملَ العِبء الثقيلَ الذي القي عليك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وابو عمرو‏:‏ وطاء بكسر الواو وفتح الطاء وبعدها الف‏.‏ والفعل واطأ يواطئ مواطأة ووطاء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ وطئا بفتح الواو وسكون الطاء‏.‏ والفعل وطئ وطئا‏.‏ وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب‏:‏ رب المشرق، بكسر الباء‏.‏ والباقون‏:‏ رب المشرق برفع الباء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 19‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا ‏(‏14‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

هجراً جميلا‏:‏ تبعّد عن خصمك بلا عتاب ولا اذى‏.‏ أولي النَعمة‏:‏ بفتح النون، اصحاب النعيم المتنعمين بأموالهم واولادهم‏.‏ النعمة بفتح النون‏:‏ الرفاهية وطيب العيش‏.‏ والنِعمة بكسر النون‏:‏ ما أنعم الله به على الانسان من رزق ومال وغيره‏.‏ مهِّلهم وأمهلهم‏:‏ اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم‏.‏ أنكالا‏:‏ جمع نكل ‏(‏بكسر النون‏)‏ وهو القيد الشديد‏.‏ ويقال‏:‏ فلان نكل شر‏.‏ وطعاماً ذا غصة‏:‏ هو الطعام الذي لا يستساغ، يقف في الحلق فلا يدخل ولا يخرج‏.‏ الكثيب‏:‏ الرمل المجتمع كالتل، جمعه كثبان وكثب وأكثبة‏.‏ مَهيلا‏:‏ ينهال ويتحرك من الرياح ولا يثبت‏.‏ أخذاً وبيلا‏:‏ اخذا ثقيلا‏.‏ منفطر‏:‏ متصدع، متشقق‏.‏

بعد ان بيّن اللهُ لعبادِه كيف تكون العبادةُ وكان ذلك في أوائل الدعوة- أدَّب الرسولَ الكريم بآدابٍ رفيعة يعامِل بها المكذّبين‏.‏

اصبر أيها الرسولُ على أذى سفهاء قومك، ولا تكترثْ بما يتقوّلون عليك مثل قولهم‏:‏ «ساحر أو شاعرٌ أو مجنون» او غيرِ ذلك من الأباطيل‏.‏ ابتعدْ عنهم، ولا تتعرّضْ لهم بأذى وخالفْهم في الأفعال، مع المداراة والحِلْم والصبر‏.‏

ثم أمر رسولَه ان يترك أمرَ المشركين إليه، أولئك الذين أبطرتْهم النعمةُ، فالله هو الكفيلُ بمجازاتهم وسوف لا يكون ذلك طويلا‏.‏ ثم ذكر أنه سيعذّبهم بالأَنكالِ والقيودِ الشديدة والنارِ المستعرة، وبالطعام الذي لا يُستساغ بل ينشبُ في الحَلْق، وبالعذابِ الأليم‏.‏

متى يكون هذا‏؟‏ سيكون‏:‏

‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً‏}‏‏.‏

ذلك يومً القيامة، يومَ تُزلزَلُ الأرضُ وتصير الجبال مفتتة كالرمال التي تنهالُ ولا تثبُتُ على حال ثم تُنْسَفُ نسفاً، فلا يبقى منها شيء‏.‏

وبعد ان خوّف المكذّبين بأهوالِ القيامة بيّن لهم ما لقيَ مَن قبلَهم من المم السالفة وما حلّ بهم من العذابِ والدمار فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً‏}‏‏.‏

إنا أرسلْنا اليكم يا أهلَ مكة والعربَ والعالمَ اجمعَ محمداً يشهدُ عليكم يومَ القيامة، كما أرسلنا الى فرعونَ موسَى يدعوه إلى الحق، فعصَى فرعونُ الرسولَ الذي أرسلناه اليه، فأخذناه أخذاً شديداً، حيث أهلكناه ومن معه بالغَرق‏.‏ فاحذَروا ان تكذّبوا رسولكم، فيصيبكم مثلُ ما أصابه‏.‏ ثم أعاد تهديدَهم وتخويفَهم بعذابِ الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً‏}‏

إن كفرتم وأصرَرْتُم على جُحودكم فكيف تَتّقون عذابَ ذلك اليوم الذي يَشِيبُ لِهولِهِ الأطفال، وتنشقُّ السماء‏!‏ ووعدُ الله واقعٌ لا محالة، واللهُ لا يُخلِفُ وعْدَه‏.‏

ثم بعد ما بيّن ما يقع في ذلك اليوم من أهوالٍ مخيفةٍ أخذَ يذكّرهم بأنّ هذه الأشياءَ التي قدّمها ما هي الا موعظة، فمن شاءَ الانتفاعَ بها ‏{‏اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً‏}‏ فاختارَ طريقَ السلامة بالإيمان والتقوى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهذا من الترغيب في الأعمال الصالحة بعدَ ذلك الترهيبِ والتخويف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

أدنى‏:‏ اقل‏.‏ يقدّر الليل والنهار‏:‏ يقدر طول الليل والنهار وقصَرهما ويعلم مقاديرهما واجزاءهما وساعاتهما‏.‏ فتاب عليكم‏:‏ فخفّفَ عنكم بأن تصلّوا ما تستطيعون وما تطيقون‏.‏ فاقرأوا ما تيسّر من القرآن‏:‏ فصلّوا ما يمكنكم وما يتيسر لكم من صلاة الليل‏.‏

ثم تُختم السورةُ بهذه الآية الطويلة وفيها تخفيفٌ ورحمةٌ للمؤمنين‏.‏ ويقول معظم المفسّرين إن هذه الآية نزلت بعدَ عامٍ من نزول سورة المزمل‏.‏

إن ربك يا محمد يعلمُ انك تقوم أقل من ثلث الليل احيانا، وتقوم نصفه وثلثه في بعض الاحيان، وان طائفة من اصحابك كذلك تقوم من الليل كما تقوم انت، والله يقدّر طول الليل والنهار، وهو يعلم انكم لا تستطيعون احصاء اجزاء الليل والنهار ‏(‏لانه لم يكن عندهم ساعات يضبطون فيها الاوقات‏)‏‏.‏ فخفف الله عليكم للاعذار التي تحيط بكم من مرض او سفر او جهاد للعدو، ولذلك صلّوا ما تستطيعون من صلاة الليل، وواظبوا على الصلاة وأداء الزكاة‏.‏ وتصدقوا في سبيل الخير، على الفقراء والمساكين والاعمال العامة‏.‏

‏{‏وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله‏}‏‏.‏

أي شيء تفعلوه من وجوهِ البرّ والخير والإحسان تلقَوا ثوابَهُ عندَ الله بأضعاف ما قدّمتموه‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ فاستغفِروا الله من فعلِ السيّئات والتقصيرِ في الحسناتِ، إن الله غفور رحيم دائماً وأبدا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله‏}‏ دليلٌ من دلائل النبوة، لأن الآية مكية، والجهادُ لم يُفرض إلا بعدَ الهجرة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر وابو عمرو‏:‏ ونصفه وثلثه بالجر، والباقون‏:‏ ونصفه وثلثه بالنصب‏.‏ والحمد لله اولا وآخرا‏.‏

سورة المدثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏ قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

المدّثر‏:‏ اصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها‏.‏ أنذِر‏:‏ حذّر قومك من عذاب الله ان لم يؤمنوا‏.‏ كبِّر‏:‏ عظم‏.‏ وثيابك فطهّر‏:‏ اعتن بالنظافة في ثيابك وفي نفسك‏.‏ تقول العرب عن الرجل اذا نكث العهد ولم يف به‏:‏ انه لَدَنِس الثياب‏.‏ واذا وفى ولم يغدر‏:‏ انه طاهرُ الثوب‏.‏ فالمطلوب‏:‏ تطهير النفس والثياب والجسم‏.‏ الرجز‏:‏ الذنب، وكل محرّم، وعبادة الاوثان‏.‏ ولا تمنن تستكثر‏:‏ لا تمنَّ بعملك على غيرك، ومعنى تستكثر‏:‏ لا تستكثر ما أعطيتَ وبذلت‏.‏ الناقور‏:‏ الصور الذي ينفخ فيه يوم القيامة‏.‏

يا أيها الذي تدثَّر بثيابه رعباً وخوفاً من رؤية الملَكِ، قُمْ وشمِّرْ عن ساعِدِ الجد، وأنذِر الناسَ عذابَ يوم عظيم، وادعُهم الى الدِين القويم، ولْيتركوا عبادةَ الأوثان وما عندهم من الخرافات‏.‏‏.‏ ادعُهم إلى معرفة الحق لينجُوا من هول شذلك اليوم العظيم‏.‏

‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏

عظّم ربك، وخُصَّه وحدَه بالتعظيم‏.‏ وطهِّر ثيابك وجسمك ونفسَك، والطهارةُ اساسٌ عظيم في دين الاسلام‏.‏

يقول الاستاذ بثنام في كتابه أصول الشرائع‏:‏ ان كثرةَ الطهارة في دين الإسلام تدعو معتنقية إلى رقيّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتّباع أوامره خير قيام‏.‏

‏{‏والرجز فاهجر‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

اهجر المعاصي والآثام وابتعدْ عن الغرور والمنِّ فيما تعلِّمُ وتعطي، ولا تمنُنْ على أصحابك فيما تعلّمهم وتبلّغهم عن الوحي مستكثراً ذلك عليهم، ولا تستكثر أي شيء بَذَلْتَه للناس، لأن الكريم يستقلُّ ما يُعطي وان كان كثيراً، وأعطِ عطاءَ من لا يخاف الفقر‏.‏ وفي هذا تعليمٌ لنا أ، نعطيَ ما استطعنا من غيرِ منٍّ ولا أذى‏.‏

‏{‏وَلِرَبِّكَ فاصبر‏}‏

اصبر في أداء رسالتك على أذى قومك، ابتغاءَ وجه ربك، ولا تجزَعْ من أذى من خالفَك‏.‏

وبعد ان وجّه اللهُ الرسولَ الكريم الى التحلّي بمكارم الاخلاق، والبعدِ عن الجفاء والسَّفَه وكلِّ ما لا يليق بأصحابِ المقامات العالية- أتى بوعيدِ الاشقياء وما سيلقونه من عذابٍ فقال‏:‏

‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏‏.‏

فاذا جاء وعدُ ربك ونُفخ في الصُّور فذلك اليومُ يومٌ شديد الهول على الكافرين، غيرُ هيّنٍ ولا يسير، وليس له مثيل ‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 2‏]‏‏.‏ هل يوجد اعظم من هذه الصورة لذلك اليوم‏؟‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏!‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 31‏]‏

‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏ وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ذرْني ومن خلقتُ وحيدا‏:‏ اتركني واياه ولا تشغل قلبك به‏.‏ وهذا الفعل لا يستعمل منه الا فعل الأمر والمضارع، فلم تستعمل العرب منه الفعل الماضي‏.‏ ذرني وفلانا‏:‏ كِلْه إليّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وحيدا‏:‏ خلقته في بطن امه وحيدا لا مال له ولا ولد‏.‏ وكان يقال للوليد بن المغيرة‏:‏ الوحيد، لانه وحيد في قومه، فمالُه كثير، من إبلٍ وخيل وغنم وتجارة وزرع وعبيد وله عشرة ابناء الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ممدودا‏:‏ كثيرا‏.‏ شهودا‏:‏ حضورا معه يتمتع بمشاهدتهم‏.‏ ومهّدت له تمهيدا‏:‏ بسطت له الرياسة والجاه العريض‏.‏ سأرهقه صعودا‏:‏ ساكلفه عقبة شاقة لا تطاق، وهذا كناية عن العذاب الشديد‏.‏ وقدَّر‏:‏ هيأ ما يريده‏.‏ فقُتل كيف قدر‏:‏ لعنه الله كيف قدّر ما قاله من الطعن في القرآن‏.‏ عبس‏:‏ قطب ما بين عينيه‏.‏ وبَسَر‏:‏ كلح وجهه وظهرت الكراهية عليه‏.‏ سِحر يؤثر‏:‏ ينقَل ويروى‏.‏ سأصليه سَقر‏:‏ سأُدخله في جهنم‏.‏ لا تبقي ولا تذر‏:‏ لا تبقي لحما، ولا تترك عَظماً الا أحرقته‏.‏ لواحة للبشر‏:‏ تسوِّدُ بشرتهم‏.‏ عدّتهم‏:‏ عددهم‏.‏ فتنة‏:‏ اختبار وامتحان‏.‏ ذكرى‏:‏ تذكرة وموعظة للناس‏.‏

في هذه الآيات عرضٌ لذِكر أحدِ زعماء قريش الكبار، هو الوليدُ بن المغيرة‏.‏ وكان من اكبر أثرياء قريش ورؤيائها، يُقال له «العَدْل» لأنه كان عَدْلَ قريشٍ كلّها، إذ كانت قريش تكسو البيتَ، والوليد يكسوه وحدَه‏.‏ وكان ممن حرَّم الخمرَ في الجاهلية، ولكنه أدركَ الإسلامَ وهو شيخٌ كبير وعادى النبيّ عليه الصلاة والسلام وقاوم دعوته بشدّة‏.‏ وقد سمع القرآنَ وتأثر به وقال عنه‏:‏ لقد سمعُ من محمدٍ كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن‏.‏‏.‏ والله إن لَه لحلاوةً، وان عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لمثْمِر، وان أسفلَه لَمُغْدِق، وانه يعلو ولا يُعلى عليه‏.‏

ومع ذلك فقد بقي على عنادِه وكفره وجمع قريشاً وقال لهم‏:‏ «إن الناسَ يأتونكم أيامَ الحج فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا‏:‏ كاهنٌ، ويقول هذا‏:‏ شاعر، ويقول هذا‏:‏ مجنون، وليس يُشبه واحداً مما يقولون‏.‏ ولكن أصلَحُ ما قيل فيه أنه ساحر، لأنه يفرق بين المرء وأخيه والزوج وزوجته»‏.‏ وقد مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر، وأسلمَ من اولاده خالدُ بن الوليد وهشام وعمارة، والوليدُ بن الوليد‏.‏

دَعني ومن خلقتُه وحيداً فإني سأكفيكَ أمره، هذا الذي أنعمتُ عليه بمالٍ كثير، وعَشَرة بنين يحضرون معه المحافلَ ويتمتع بمنظرهم و‏{‏وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً‏}‏ وبسطتُ له الرياسةَ والجاه العريضَ والسيادة في قومه، فكان سيّداً مطاعاً عزيزا، ثم يطمع ان أَزيدَ في ماله وبنيه وجاهه بدون شكر، ‏{‏كَلاَّ‏}‏ لا أفعلُ ولا أزيدُ‏.‏ وقال المفسّرون‏:‏ وقد تبدّلت حال الوليد بعد نزول هذه الآية وماتَ على أسوأ حال‏.‏

‏{‏إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً‏}‏

انه كان للقرآن معانِدا مكذِّبا‏.‏

‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً‏}‏

سأكلفه عذاباً شاقاً لا راحة فيه‏.‏

‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏

انه فكر وزوّر في نفسه كلاما في الطعنِ في القرآن بعدما سمعضه وأعجبه، قاتلَه الله ولعَنه، كيف قدّر وقال لقريش إن محمّداً ساحر، وان هذا القرآن سِحر يؤْثَر ويروى‏.‏

‏{‏ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر‏}‏

ثم نظر في وجوه الناس، ثم قطَب وجهه وزادَ في كُلوحه، ثم أعرضَ عن الحق الذي عرفه، وتعاظَمَ ان يعترفَ به ‏{‏فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ ينقله الرواة عن الأولين، ونقله محمد عن غيره ممن كانَ قبلَه من السحرة‏.‏

‏{‏إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر‏}‏

ما هذا الا قولُ الخلق تعلَّمه محمدُ وادّعى أنه من عند الله‏.‏

ثم بين الله تعالى ما هو جزاؤه يوم القيامة فقال‏:‏

‏{‏سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏

سأدخِله جهنم ليحترقَ بها ويذوقَ أشدّ العذاب، وما أدراك ما جهنم‏؟‏ إنها لا تبقي لحماً ولا تترك عظماً الا أحرقَتْه، تأكل الأخضَر واليابسَ كما يقولون، وانها تُلَوِّحُ الوجوهَ والبشرةَ وتسوِّدُها، عليها تسعةَ عشرَ من الملائكة موكَّلون بها، كما جاءَ في قوله تعالى ايضا‏:‏ ‏{‏عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 6‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وما جعلْنا خزنةَ النار الا ملائكةً تقدَّم وصفُهم بالشِدة والغِلظة، وما جعلنا عِدَّتَهم تسعةَ عشر الا فتنةً واختبارا للذين كفروا، وذلك‏.‏

‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏‏.‏

ليحصل اليقينُ لليهود والنصارى بنبوة محمدٍ لموافقةِ ما جاءَ في القرآن لكتُبهم، فقد شهِدَ عددٌ من علماءِ اليهود والنصارى آنذاك ان عدَّةَ الخزنة تسعةَ عشر‏.‏

‏{‏وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً‏}‏‏.‏

ولكيَ تطمئن قلوبُهم بذلك، ولا يشكّ أهلُ التوراة والإنجيل والمؤمنون بالله في حقيقةِ ذلك العدد‏.‏

‏{‏وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏‏.‏

وليقول المنافقون والمشركون الكافرون‏:‏ ما الذي أراده اللهُ بهذا العدَدِ المستغرَبِ استغرابَ المثل‏؟‏

‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ‏}‏‏.‏

والله تعالى كما أضلَّ المنافقين والمشركين يُضِلُّ مِنْ خلْقه من يشاءُ فيخذُله عن إصابة الحق، ويهدي من يشاء منهم فيوفّقه إلى الخيرِ والهدى‏.‏ وما يعلم جنودَ ربّك ومقدارهم إلا هو سبحانَه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ‏}‏ وما سَقَرُ إلا تذكرة للبشَر وتخويفٌ لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 56‏]‏

‏{‏كَلَّا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

كلاّ‏:‏ تأتي لمعانٍ أربعة‏:‏

الأول‏:‏ ان تكون للردع والزجر، وهو الغالبُ في استعمالها، مثل قوله تعالى ‏{‏قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 61، 62‏]‏ والمعنى انتهوا عن القول‏.‏

الثاني‏:‏ ان تكون للرد والنفي فتردّ شيئا وتثبت آخر مثل ان يقول المريضُ الذي لم يعمل ينصح طبيبه‏:‏ شربتُ ماء، فيقول الطبيب‏:‏ كلا، بل شربتَ لبنا‏.‏ معناه ما شربت ماء، ولكنْ شربتَ لبنا‏.‏

الثالث‏:‏ تكون بمعنى ألا، يُستفتح بها الكلامُ للتنبيه، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏‏.‏

الرابع‏:‏ ان تجيء جواباً بمعنى حقاً وتكون مع القسَم، مثل قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏كَلاَّ والقمر‏}‏ ومعناه حقاً، وأُقسم بالقمر الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

أدبر‏:‏ ولى‏.‏ أسفر‏:‏ اضاء‏.‏ انها لإحدى الكبر‏:‏ غن جهنم لاحدى الدواهي الكبيرة‏.‏ رهينة‏:‏ مرتهنة بعملها‏.‏ ما سَلككم‏:‏ ما ادخلكم‏.‏ نخوض مع الخائضين‏:‏ نخالط اهل الباطل في باطلهم وكثر من الكلام الذي لا خير فيه‏.‏ حتى أتانا اليقين‏:‏ حتى اتانا الموت‏.‏ مستنفرة‏:‏ نافرة، هاربة‏.‏ القسورة‏:‏ الأسد‏.‏ منشَّرة‏:‏ منشورة‏.‏

كلا‏:‏ لا سبيلَ لكم إلى إنكار سقَرَ وصفتها المخيفة‏.‏ وأُقسِم بالقمر، وبالليلِ إذا ولّى وذهب، وبالصُّبح إذا تبلّج وأضاء- إن جهنّم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العِظام لإنذار البشَر لمن شاءَ ان يقبلَ الإنذارَ او يتولّى عنه‏.‏

وهذا تهديد وإعلام بأن من تقدم الى الطاعة والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم جازاه الله بثواب لا ينقطع ابدا، ومن تأخر عن الطاعة ولم يؤمن بمحمد عوقب عقابا لا ينقطع ابدا‏.‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏

فهي محبوسة بعملها، مرهونة عند الله بكسْبها‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين‏}‏ لأنهم فكّوا رقابَهم بحُسْنِ أعمالهم، وبطاعتهم وإيمانهم‏.‏‏.‏ ولذلك فانهم ‏{‏فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين‏}‏‏؟‏‏.‏

فقد جزاهم الله أحسنَ الجزاءِ فهم في غرفاتِ الجناتِ يسألُ بعضهم بعضاً عن المجرمين‏.‏ ويقولون لهم‏:‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ‏؟‏‏}‏ ما الذي أدخلكم جهنم‏؟‏ فاجابوهم أن هذا العذابَ الذي هم فيه سببه اربعة أمور‏:‏

الاول‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين‏}‏ لم نصلِّ مطلقا لاننا لم نكن نعتقد بوجوب الصلاة علينا‏.‏

الثاني‏:‏ ‏{‏وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين‏}‏ ولم نكن من المحسنين، ولم نتصدق بفضل اموالنا على الفقراء والمساكين‏.‏

الثالث‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين‏}‏ وكنا لا نبالي بالخوض في الباطل مع من يخوض فيه، ونكثر من الكلام الذي لا خير فيه‏:‏ في حق محمد واصحابه، وفي امر القرآن فنقول انه سحر وشعر وكهانة‏.‏

الرابع‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين‏}‏ وكنا نكذب بيوم القيامة، ولم يؤمن بالبعث والنشور والجزاء والحساب، ‏{‏حتى أَتَانَا اليقين‏}‏ حتى جاءنا الموت فعرفنا اننا كنا في ضلال تائهين‏.‏

ولذلك قال الله تعالى معقبا على اعترافهم بجرمهم ‏{‏فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين‏}‏ فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات واعترافهم بجريمتهم لا يمكن ان يشفع لهم احد، لأن لهم النار خالدين فيها ابدا‏.‏

ثم اكد توبيخهم والتقريع عليهم بقوله‏:‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏؟‏‏}‏

فما لهم عن التذكير بالقرآنِ والعظة به منصرفين، كأنهم حميرٌ فرَّت من اسدٍ يطاردُها ليفترسَها‏.‏

ثم بين انهم بلغوا في العناد حداً لا يتقبله عقل، فقال‏:‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً‏}‏

فكل واحدٍ منهم يريد ان ينزِلَ عليه كتابٌ مفتوح من السماء‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ إن كان محمد صادقاً فليصبحْ عندَ رأسِ كل واحدٍ منا صحيفةٌ فيها براءة من النار ‏(‏كلا‏)‏‏:‏ زجرٌ وتوبيخٌ على اقتراحهم لتلك الصحف، ‏{‏بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة‏}‏ لانهم لم يؤمنوا بها‏.‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ‏}‏ حقا ان القرآن تذكرة بليغة ك افية، فمن شاء ان يذكره ولا ينساه فعل‏.‏

وما يذكرون الا بمشيئة الله، هو أهل لأن يتقى، وأهل لان يغفر لمن اتقاه‏.‏‏.‏ بابه مفتوح دائما‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ اذا دبر اذا بالف بعد الذال، ودبر بوزن ضرب‏.‏ وقرأ نافع وحمزة وحفص‏:‏ اذ ادبر، اذ بسكون الذال، وأدبر بوزن أكرم‏.‏ ودبر وأدبر لغتان‏.‏

سورة القيامة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏(‏1‏)‏ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ‏(‏2‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ‏(‏3‏)‏ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ‏(‏4‏)‏ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ‏(‏5‏)‏ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ‏(‏7‏)‏ وَخَسَفَ الْقَمَرُ ‏(‏8‏)‏ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ‏(‏10‏)‏ كَلَّا لَا وَزَرَ ‏(‏11‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ‏(‏12‏)‏ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ‏(‏13‏)‏ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ‏(‏15‏)‏ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ ‏(‏17‏)‏ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ ‏(‏18‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

لا أُقسِم بيوم القيامة‏:‏ ان الامر لا يحتاج الى قسم لأنه في غاية الوضوح‏.‏ ولا أُقسِم بالنفس اللوامة‏:‏ لأن البعث حق لا شكل فيه‏.‏ اللوامة‏:‏ هي النفس التوافة الى المعالي التي تندم على الشر لِمَ فعلته، وعلى الخير لمَ لم تستكثر منه‏.‏ البنان‏:‏ مفردها بنانة ونهي اطراف الاصابع‏.‏ لِيَفجُر أمامه‏:‏ ليدوم على فعل المعاصي ولا يتوب الى الله‏.‏ أيان يوم القيامة‏:‏ متى يوم القيامة‏.‏ برق البصر‏:‏ تحير من الخوف والفزع‏.‏ خسف القمر‏:‏ ذهب ضوؤه‏.‏ لا وزر‏:‏ لا ملجأ‏.‏ ينبأ‏:‏ بخبر‏.‏ معاذيره‏:‏ اعذاره‏.‏ لتعجَل به‏:‏ لتأخذه على عجل مخافة ان ينفلت منك‏.‏ قرآنه‏:‏ قراءته‏.‏

اقسم الله تعالى تعظمة يوم القيامة، وبالنفس الكثيرة اللوم لصاحبها على الذنب والتقصير في الخير- لَتُبعثُنَّ أيها الناسُ ولتحاسَبنّ على ما فعلتم‏.‏ أيحسب الانسان بعد ان خلقناه من عدم ان لن نجمع ما بلي من عظامه بعد ان تفرقت في الأرض‏!‏ بلى نحن قادرون على ذلك وعلى أعظمَ منه، فنحن قادرون على ان نسوي بنانه على صغرها ولطافتها، وضم بعضها الى بعض، فكيف بكبار العظام‏!‏ ان من يقدر على جمع العظام الصغار فهو على غيرها من الكبار أقدَر‏.‏

واعلم ان عظام اليدين ثلاثون، وعظام اصابع الرجلين ثمانية وعشرون، فيكون مجموعهما ثمانية وخمسين، وهذه عظام دقيقة وضعت لمنافع لولاها ما تمت تلك المنافع كالقبض والبسط واستعمال اليدين في الجذب والدفع وغير ذلك مما لا يحصى‏.‏ فلولا دقة هذه العظام وحسن تركيبها ما انتظمت الاعمال المترتبة على اليدين‏.‏ وكذلك الفقرات، تعدّدت ولم تجعل عظمة واحدة، لانها لو جُعلت واحدة لعاقت حركة الانسان‏.‏ وقد جُعلت فقراتٍ متتالية ليمكنه الحركة والسكون، ويكون ذلك سهلا عليه اينما كان، فلولا الفقرات وتفصيلها لم يقدر الانسان على الانحناء للاعمال والحركات المختلفة، بل يكون منتصبا كالخشبة‏.‏ ومجموع العظام في جسم الانسان مئتان وثمانية واربعون قطعة، ‏{‏فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏{‏بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة‏}‏‏.‏

بل يريد الانسان ان يتمادى في عصيانه وفجوره الى آخر لحظة من عمره ولا يتوب الى الله‏.‏ ويسأل مستهزئا‏:‏ متى يومُ القيامة‏؟‏ ونحو الآية قولُه تعالى وقد تكرر كثيرا‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48، الأنبياء‏:‏ 38، النمل‏:‏ 71، سبأ‏:‏ 29، يس‏:‏ 48، الملك‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال بان لها علامات بيّن ثلاثاً منها بقوله الكريم‏:‏

‏{‏فَإِذَا بَرِقَ البصر وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر‏؟‏‏}‏‏.‏

فاذا تحير البصر وزاغ من شدة الهول ومن عظيم ما يشاهد، وذهب نور القمر، وجُمع الشمس والقمر إيذانا بخراب هذا الكون- عند ذلك تقوم القيامة، ويتحقق الانسان من صحة قيامها ويقول من دهشته وتحيره‏:‏ اين المفر من هذه الكارثة التي حلت فيه‏؟‏ فيأتي الجواب‏:‏

‏{‏كَلاَّ لاَ وَزَرَ‏}‏‏.‏

كلا ايها الانسان، لا شيء يعصِمك من أمر الله، ولا ملجأ ولا جبل ولا شيء يقيك من العذاب‏.‏ كما قال تعالى ايضا‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 47‏]‏‏.‏

ثم بين حقيقة الحال فيقول‏:‏

‏{‏إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر‏}‏‏.‏

المرجع الى الله في ذلك اليوم الرهيب‏.‏

‏{‏يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏‏.‏

وفي ذلك اليوم تنشَر الصحف ويخبر الانسان بجميع اعماله‏:‏ أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، ‏{‏وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ثم بين الله تعالى ان اعظم شاهد على المرء هو نفسه فقال‏:‏

‏{‏بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ‏}‏‏.‏

الانسان يعلم ما فعل وما ترك وهو حجة بيِّنة على نفسه، فلا يحتاج الى ان ينبئه غيره، فسمعه وبصره وجوارحه تشهد عليه، وسيحاسَب على فعله مهما أتى بالاعذار ‏{‏يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 24‏]‏‏.‏

‏{‏لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ‏}‏‏.‏

في هذه الآيات الأربع توجيه وطمأنينة للرسول الكريم بان امر الوحي، وحفظ القرآن وجمعه وبيان مقاصده- كل أولئك موكول الى الله، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ اذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تعجل وتتابعه في القراءة مخافة ان يفوتك شيء منه، فنحن نجعله بكامله في قلبك، ان علينا جمعه في قلبك‏.‏‏.‏ واثبات قراءته في لسانك، فاذا قرأه رسولنا عليك فاتبع يا محمد قراءته منصتاً لها، ثم علينا بعد ذلك بيانه، وعصمتك من الخطأ والنسيان وبيان احكامه‏.‏ وفي سورة طه 114‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً‏}‏‏.‏ وفي هذا تعليم لنا حتى نتأدب بأدب القرآن ونتدبر آياته‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الجمهور‏:‏ برق البصر بكسر الراء، وقرأ نافع‏:‏ برق بفتح الباء والراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 40‏]‏

‏{‏كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ‏(‏20‏)‏ وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ‏(‏21‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ‏(‏22‏)‏ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ‏(‏23‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ‏(‏24‏)‏ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ‏(‏25‏)‏ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ‏(‏26‏)‏ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ‏(‏27‏)‏ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ‏(‏28‏)‏ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ‏(‏29‏)‏ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ‏(‏30‏)‏ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى ‏(‏31‏)‏ وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏32‏)‏ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ‏(‏33‏)‏ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ‏(‏35‏)‏ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ‏(‏36‏)‏ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ‏(‏37‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏38‏)‏ فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏39‏)‏ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

ناضرة‏:‏ حسنة مشرقة، متهللة بما ترى من النعيم‏.‏ ناظرة‏:‏ تنظر الى ربها‏.‏ باسرة‏:‏ عابسة كالحة‏.‏ فاقرة‏:‏ داهية عظيمة تكسر عظام الظهر‏.‏ التراقي‏:‏ جمع ترقوة، عظم في اعلى الصدر‏.‏ من راق‏:‏ من يرقيه وينجيه مما هو فيه‏.‏ الفراق‏:‏ فراق الدنيا والاحباب والاصحاب‏.‏ التفّت الساق بالساق‏:‏ التوت احدى الساقين على الأخرى عند نزع الروح‏.‏ المساق‏:‏ المرجع والمآب الى الله‏.‏ يتمطى‏:‏ يتبختر في مشيته تكبرا وخيلاء‏.‏ أَولى لك فأَولى‏:‏ هذه العبارة دعاء على العاصي المتكبر بمعنى ويل لك ثم ويل لك وهلاك لك ايها المكذب‏.‏ سدى‏:‏ مهملا لا يسأل‏.‏ نطفة‏:‏ ماء قليلا، والجمع نطاف ونطف‏.‏ يمنى‏:‏ يراق ويصب في الارحام‏.‏ علقة‏:‏ قطعة دم جامد‏.‏

‏{‏كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة‏.‏ وَتَذَرُونَ الآخرة‏}‏‏.‏

الخطاب هنا يعود لكل من انكر البعث والجزاء وآثر الدنيا ومتاعها، ولم يعمل للآخرة ليس الأمرُ كما تقولون من أنكم لا تُبعثون بعد مماتكم، بل أنتم تحبون الدنيا وملذّاتها، وتتركون الآخرةَ ونعيمها‏.‏

ثم وصف ما يكون يوم القيامة بأن الناس ينقسِمون الى فريقين‏:‏ أبرار وجوهُهم مشرقة حسنة مضيئة تشاهد عليها نَضْرة النعيم، تنظُر الى ربها عِياناً بلا حجاب‏.‏ ووجوه يومئذ كالحة شديدة العبوس، تتوقع ان تنزل بها داهية تقصم الظهر‏.‏

وبعد ذِكر اهوال القيامة، ووصفِ سعادة السعداء وشقاوة الاشقياء- بين ان للدنيا نهاية، وأن الموتَ مصيرُ كل الناس‏.‏ وان الكافر أضاع الفرصةَ في الدنيا، فلا هو صدَّق بأوامر الدين ولا أدى فرائضه، وبين انه لا بدّ من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وهذا خلافُ العدل، ولا يَليقُ بخالِق الكون العادل الحكيم‏.‏ وانه كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الانسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً آخر‏.‏

‏{‏كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق‏}‏

ازدجِروا وتنبهوا الى مصيركم وارتدعوا عن حب الدنيا التي تفارقونها، اذا بلغت الروح عظام النحر، وقال أهل الميت والحاضرون‏:‏ هل هناك أحد يرقيه ويشفيه مما به‏؟‏ وأيقن المحتضر أنه مفارق الدنيا والأهل والمال والأصحاب وبلغت به الشدة اقصاها ‏{‏والتفت الساق بالساق‏}‏ فالتوت احداهما على الأخرى وخرجت الروح‏.‏ ‏{‏إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق‏}‏ الى خالقك المرجع والمآب، فإما الى جنة واما الى النار ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى‏}‏‏.‏

فما صدق هذا الجاحد بوحدانية الله، ولا أدى ما عليه من الصلوات، ولكن كذّب القرآن، فاعرض عن الايمان، وتولةى عن طاعة الله، ثم راح يمشي مشية تكبر وخيلاء افتخارا بما صنع‏.‏

‏{‏أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى‏}‏

ويل لك مرة بعد أخرى، وهذا تهديد ووعيد معناه أولاك الله ما تكرهه، والنار أولى بك وأجدر‏.‏

ثم اقام الله الديل على البعث بقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى‏}‏ وهذا ليس عدلا، اذ لا بد من حياة اخرى يجازى فيها كل انسان بما فعل، ولا بد من الجزاء على صالح الاعمال وسيئها، والا تساوى المطيع والعاصي، وذلك ليس عدلا، وهذا لا يليق بالحكيم العادل، الذي خلق هذا الكون المنتظم‏.‏

ثم بين انه خلق الانسان من شيء صغير لا يُرى، وجعله بهذه المنزلة وهذا التركيب وإعادته اهون عليه فقال‏:‏

‏{‏أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى‏}‏‏.‏

الم يكن الانسان نطفة في صلب ابيه، وأودعها الرحم، وخُلق من شيء لا يرى بالعين المجردة، فصار علقة، ثم سواه الله بشرا باحسن تقويم، وجعل منه ذكرا او انثى عمروا هذا الكون فاذا كان الله قادرا على خلقه من لا شيء، ألا يمكنه ان يعيده مرة اخرى‏؟‏ بلى انه على كل شيء قدير‏.‏ وليس خلق الانسان بشيء إذا قيس بخلق هذا الكون العجيب الفسيح الكبير كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر‏:‏ كلا بل يحبون العاجلة ويذَرون الآخرة، بالياء، والباقون‏:‏ بالتاء‏.‏ وقرأ حفص وابن عامر ورويس‏:‏ من مني يمنى بالياء كما هو في المصحف‏.‏ والباقون‏:‏ من مني تمنى بالتاء‏.‏ والحمد لله رب العالمين‏.‏