فصل: سورة الشمس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

الضحَى‏:‏ ضوء الشمس، وارتفاع النهار‏.‏ تلاها‏:‏ تبعها‏.‏ جلاّها‏:‏ كشفها‏.‏ يغشاها‏:‏ يغطي ضوءها ويحجبه‏.‏ طحاها‏:‏ بسطها ومهدها‏.‏ سوّاها‏:‏ أنشأها وعدلها‏.‏ فألهمها فجورها وتقواها‏:‏ عرّفها الحسن والقبيح‏.‏ قد افلح‏:‏ قد فاز‏.‏ زكّاها‏:‏ طهرها‏.‏ وخابَ‏:‏ خسر‏.‏ دسّاها‏:‏ اخفاها، ونفسَه‏:‏ أغواها وافسدها‏.‏ الطغوى‏:‏ الطغيان، مجاوزة الحد المعتاد‏.‏ انبعث‏:‏ انطلق‏.‏ أشقاها‏:‏ أشقى القوم‏.‏ رسول الله‏:‏ صالح عليه السلام‏.‏ سقياها‏:‏ شُربها‏.‏ فعقروها‏:‏ قطعوا قوائمها ثم نحروها‏.‏ فدمدم‏:‏ غضب عليهم ربهم وأهلكهم ودمر ديارهم‏.‏ فسوّاها‏:‏ فأهلك القبيلة كلها‏.‏ عقباها‏:‏ عاقبتها‏.‏

لقد أقسَم الله تعالى في مطلع هذه السورةِ الكريمة بأشياءَ عدة من مخلوقاته المنبئة عن كمالِ قُدرته تعالى ووحدانيّته- على فوز من طهَّر نفسَه بالإيمان والطاعة، وخسرانِ من ضيَّعها بالكفرِ والعصيان‏.‏ فأقسم بالشمس وبضَوئها وإشراقها عند ارتفاع النهار، وبالقمرِ إذا تَبِعَها وخَلَفها بالإضاءة عند غروبها، وبالنهار إذا أظهر الشمسَ واضحةً غَيْرَ محجوبة، وباللّيلِ اذا يغشى الشمسَ فيغطّي ضوءَها، وبالسماءِ وخالِقها العظيم الذي رفعها وأحْكَمَ بناءها، وبالأرض، وبالخالق القادر الذي بَسَطَها من كل جانب ومهَّدها للاستقرار وجعلَها فِراشا، وبالنفسِ ومن أنشأها وعَدَلها بما أودعَ فيها من القوى‏.‏

‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏

أي عرَّفها الحسن والقبيح، ومنحها القدرةَ على فعل ما تريد منهما‏.‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏

هذا هو جوابُ هذه الأيمانِ المتقدمة‏.‏ فلقد فازَ من زكّى نفسَه بطاعة الله وطهّرها من المعاصي‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏

وقد خسِر نفسَه وأوقعها في الهلاك وأغواها وأفسَدها من جانبَ ذلك‏.‏

بعد هذه الأيمان وذِكر من يفوز بالإيمان ومن خابَ وخسِر بالإعراض عن ذكر الله واتّباع الهوى والشيطان- يَعْرِض علينا نموذجاً من نماذج الخَيْبة والخسران ممثَّلاً في ثمود، قومِ صالح، وما أصابهم من غضَب وهلاك‏.‏ فيقول‏:‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

لقد كذّبت ثمودُ نبيَّها بطغيانها وبَغْيِها، حين انبعثَ أشقاها ليعقِرَ الناقة‏.‏ فقال لهم صالحٌ رسول الله‏:‏ اتركوا ناقةَ الله تأكل في أرض الله واحذَروا مَنْعَها من الشُّرب في يومها المعلوم‏.‏ كما جاء في سورة الشعراء‏:‏

‏{‏قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏

فكذّبوا رسولَهم في وعيده، فعقروا الناقة، فدمّر عليهم ربُّهم ديارَهم جزاء ذنْبِهم إذ سوّى بلدَهم بالأرض وأهلكهم جميعاً لم يفلِتْ منهم أحد‏.‏

والله تعالى لا يخافُ تَبِعَةَ هذه العقوبة، لأنها الجزاءُ العادِل‏.‏ ‏{‏إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وتلك سُنةُ الله في أخذِ الطغاة والمكذّبين‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ أهل المدينة وابن عامر‏:‏ فلا يخاف عقباها، بالفاء‏.‏ والباقون ولا يخاف عقباها بالواو‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 21‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

يغشى‏:‏ يغطي، يعمّ ظلامه‏.‏ تجلّى‏:‏ ظهر وسطع ضوؤه‏.‏ الذكَر والانثى‏:‏ ان هذين الصنفين هما أصل حفظ النوع‏.‏ أعطى‏:‏ بذل ماله‏.‏ اتقى‏:‏ ابتعد عن الشر وعمل بما يرضي الله‏.‏ الحسنى‏:‏ كل عمل خير، والجنة‏.‏ اليسرى‏:‏ ما يؤدي الى الراحة والنعيم‏.‏ استغنى‏:‏ عن عبادة الله وبخل بماله‏.‏ للعسرى‏:‏ كل ما يؤدي الى العذاب‏.‏ تردّى‏:‏ هلك‏.‏ تلظّى‏:‏ أصلها تتلظى، تلتهب ومنه لظى، اسم من اسماء جهنم‏.‏ يصلاها‏:‏ يحترق بها‏.‏ وسيجنَّبُها الأتقى‏:‏ يبعد عنها‏.‏ يتزكى‏:‏ يتطهر‏.‏ من نعمة تُجزى‏:‏ من نعمة يكافأ بها‏.‏ ابتغاء وجه ربه‏:‏ طلب رضاه وثوابه‏.‏

‏{‏والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى‏}‏

يقسِم الله تعالى بهذه الظواهرِ المتقابلة في الكون، وفي الناس، أنَّ سَعْيَ الناسِ مختلفٌ، وطُرُقَهم مختلفة‏.‏ وهو يقسم باللّيل حين يغشَى البسيطة ويغمرها بظلامه، وبالنهارِ حين يتجلّى ويظهرُ في تجلّيه كلُّ شيء، وبالله القادرِ الذي خلقَ الزوجَين‏:‏ الذكر والانثى- أن اعمالكم أيها الناس لمختلفة، بعضها ضَلالٌ يستحقّ العذابَ، وبعضُها هدىً ونورٌ يستحق النعيم‏.‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى‏}‏

بعد أن أشار الى اختلاف أعمالِ الناس في أنواعها وصفاتها- أَخذَ يفصّل هذا الاختلافَ ويبين عاقبَةَ كلٍ منها‏:‏ فأما من أنفقَ في سبيل الله وخافَ ربَّه واتقاه، وصدَّق بإخلاصٍ بالفضيلة الحسنى، ‏(‏وهي الايمانُ بالله عن عِلم‏)‏ فسنهيّئُه الى اليُسر والراحة بتوجيهِه الى الخير‏.‏ ومن يسَّره الله لليُسرى فقد وَصَل وسَلم‏.‏

وأما من بخِل بماله، واستغنى عن ربّه وهُداه، وكذّب بدعوتِه ودينه- فإن الله تعالى يُعسِّر عليه كلَّ شيء، ويَحْرِمه التيسير، ويكونُ من أهل الشقاءِ الأبدي‏.‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى‏}‏

لن ينفعَه ماله إذا هلك وهوى في نارِ جهنم‏.‏

ثم تحدّث عن مصير كل فريق، وان ما يلاقيه كلُّ فريقٍ من عاقبة ٍومن جزاء هو عدلٌ وحق‏.‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا للهدى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى‏}‏‏.‏

إن علينا بمقتضى حِكمتنا ان نبين للخلقِ طريقَ الهدى، وإن لنا وحدَنا أمرَ التصرف في الدارَيْن‏:‏ الدنيا والآخرة، فبعدَ هذا البيانِ أحذّركم من نار جهنم التي تلتهب لا يدخُلها على صفةِ الدوام إلا الكافر الذي كذّب بالحق وأعرضَ عن آيات ربّه‏.‏

‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى‏}‏

وسيُبْعَد عن نار جهنم التقيُّ النقيُّ المخلِص في إيمانه، الّذي ينفق مالَه في وجوه الخير ليطهِّر نفسَه من رِجْسِ البخل‏.‏

‏{‏وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى‏}‏

وهذا المؤمنُ الصادق الإيمانِ لا ينفق شيئاً من ماله رِئاءَ الناس، وانما يُنفق من مالِه وليس لأحد عنده يدٌ سابقة يحبُّ ان يجازيَه بها‏.‏ فهو ينفق لوجهِ الله وابتغاءَ مرضاتِه‏.‏ ولسوف ينالُ من ربه ما يبتغيه على أكملِ الوجوه حتى يتحقَّق له الرضا‏.‏ وهو وعدٌ كريم من ربّ رحيم‏.‏‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

الضحى‏:‏ صدرُ النهار حين ترتفع الشمس‏.‏ سجى‏:‏ سكن‏.‏ ما ودّعك ربك‏:‏ ما تركك‏.‏ وما قلَى‏:‏ ما أَبغضك‏.‏ ضالا فهدى‏:‏ لم تكن تعلم شيئا عن الشرائع فهداك الى خير منهج‏.‏ عائلاً‏:‏ فقيرا‏.‏ لا تقهَر‏:‏ لا تذلَّه بل ارأف به‏.‏ فلا تنهر‏:‏ لا تزجره، بل ترفّق به‏.‏

نزلت هذه السورة الكريمةُ حاملةً أجملَ بشرى للرسول الكريم، ملقيةً في نفسه الطمأنينة، معدِّدة ما أنعمَ الله به عليه‏.‏ وقد اقسم سبحانه بآيتين عظيمتين من آياتِه في هذا الكون العجيب‏:‏ ضحى النهارِ وصدرِه، والليلِ وسكونِه- انه ما ترككَ أيها الرسول، وما أبغضَك‏.‏

‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى‏}‏

ولَلدارُ الآخرة وما فيها من نعيم خيرٌ لك من هذه الحياة الدنيا، ولَعاقبةُ أمرك ونهايتُه خيرٌ من بدايته‏.‏ وقد حقّق الله له نصره‏.‏

‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى‏}‏

وهذه بشرى أخرى بأن الله تعالى سيُعطيه من خَيْرَيِ الدنيا والآخرة‏.‏ وقد أعطاه حتى رَضِيَ، إن وعدَه الحق‏.‏

ثم بعدَ أن وعدَه بهذا الوعدِ الجميل ذَكَّره بنِعمه عليه فقال تعالى‏:‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى‏}‏

ألم تكن يتيماً يا محمد فآواك، إذ كَفَلَكَ جدُّك عبدُ المطلب‏.‏ ثم عمُّك أبو طالب الّذي ظلَّ يرعاك ويدافِع عنك طوال حياته‏.‏ ووجدك حائراً لا تُقْنِعُك هذه المعتقداتُ التي حولك فهداكَ الى خيرِ دينٍ وأحسنِ منهاج‏.‏ وكنت فقيراً لا مالَ لك فأغناك الله بما ربحتَ من التجارة، وما وهبتْه لك خديجةُ من مالها، حتى سَكنَتْ نفسُك ورضيت‏.‏

وبعد أن عدّد هذه النعمَ عليه، وصّاه بوصايا كلُّها خيرٌ ورحمة فقال تعالى‏:‏

‏{‏فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏

وهذه الوصايا توجيهٌ كريم من الله تعالى لرسولِه وللمسلمين من بعدِه إلى رعاية اليتيم وكفالتِه، والى كِفاية كلِّ سائل، وإلى التحدُّثِ بنعمة الله الكبرى عليه‏.‏‏.‏ ومن أعظَمِها الهدايةُ لهذا الدين القويم‏.‏ وهذا توجيهٌ من الله بأن نتحلّى بالأخلاق العالية، وان نكون لطفاءَ لَيِّنين مع الناس، ونبتعدَ عن الغِلظَة والفظاظة التي يتّصف بها كثيرٌ مِمَّن يَدَّعون التديُّن‏.‏

اللهم اهدِنا سواء السبيل، واجعلنا ممن يقتفون آثارَ الرسول الكريم ويتبعون سُننه وأخلاقَه‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

العسر‏:‏ الفقر، والضعف، والشدة‏.‏ فانصَب‏:‏ فاتعب‏.‏

لقد شرحنا لك صَدرك يا محمد بما أودَعْنا فيه من الهُدى والحكمة والإيمان، وخفّفنا عنك ما أثقلَ ظَهرك من أعباءِ الدعوة، حتى تبلّغَها ونفسُك مطمئنّة راضية، ونوّهنا باسمِك وأعلينا مقامك، وجعلنا اسمَك مقروناً باسمي أنا الله، لا أُذْكَر إلا ذُكِرْتَ معي على لسانِ كل مؤمن «لا اله إلا الله، محمدٌ رسول الله»‏.‏ وليس بعد هذا رفع، وليس وراء هذه منزلة، فالرسول يُذكر في الشهادة والأذان والإقامة والتشهُّد والخُطَب وغيرِ ذلك‏.‏‏.‏

وبعد أن عدّد الله بعض نِعمه على رسوله الكريم، تلطّف به وآنسَه وطمأنَه بأن اليُسْرَ لا يفارقُه أبدا‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً‏}‏

تلك بعضُ نِعمنا عليك، فكن على ثقةٍ من لُطفه تعالى، بأن الفَرَجَ سيأتي بعد الضيق، فلا تحزنْ ولا تَضْجَر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين» أخرجه الحاكم والبيهقي‏.‏

‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب‏}‏

فاذا فَرَغْتَ من أمرِ الدعوة، وانتهيتَ من أمورِ الدنيا- فاجتهدْ في العبادة وأتعِب نفسَك فيها، وإلى ربك وحدَه فاتّجه‏.‏‏.‏ فإنّك ستجدُ يُسراً مع كلِّ عسر‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

التين‏:‏ ثمر معروف‏.‏ الزيتون‏:‏ ثمر معروف‏.‏ طور سينين‏:‏ جبل الطور الذي كلّم الله عليه موسى، وهو معروف في سيناء‏.‏ البلد الأمين‏:‏ مكة المكرمة‏.‏ في أحسن تقويم‏:‏ في أجمل صورة وأعدل قامة‏.‏ أسفلَ سافلين‏:‏ جهنم‏.‏ غير ممنون‏:‏ غير مقطوع‏.‏

أَقسَمَ الله بالتّينِ والزيتون لبَرَكَتِهما وعظيم منفعتهما ‏(‏فان التينَ من الثمار المباركة، وهو غذاء كامل‏.‏ وكذلك الزيتون، فإنه غذاء ودواء‏.‏ وكان في الزمن الماضي يُستعمل للإنارة ايضاً فهو مثل البترول في هذه الايام، ولا يزال محتفظاً بمكانته‏.‏‏)‏

وقال بعض المفسرين‏:‏ إن التِّين هو عصرُ الإنسان الأول، والزيتون‏:‏ عصرُ نوحٍ‏.‏‏.‏‏.‏ وهو كلامٌ ليس عليه دليل‏.‏

وأقسَمَ بطورِ سينين، الجبلِ الذي كلَّم الله عليه موسى، وبهذا البلدِ الأمين، مكة المكرمة، الّتي يَأمنُ فيها من دَخَلها على نفسِه وماله- أننا خلقْنا الإنسانَ في أحسن صورة، وجعلناه مديدَ القامة، وزيّناه بالعقلِ والحِكمة والمعرفة‏.‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏

حين ينحرفُ بهذه الفطرة عن الدِين الذي بَيَّنّاه له‏.‏ وقد تركناه يختار أحدَ النَّجدين، فالذين ينحرفون مصيرُهم جهنّمُ، حيث يكونون في أسفل سافلين‏.‏

‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏

وهؤلاء هم الذين يبقون على سَواءِ الفِطرة، ويكمّلونها بالإيمان والعملِ الصالح‏.‏‏.‏ وبذلك يرتقون بها الى الكمال المقدَّر لها، فيكون لهم عندنا أجرٌ دائمٌ غيرُ مقطوع‏.‏

وفي ظل هذه الحقائق ينادي جلَّ وعلا الانسانَ بقوله‏:‏

‏{‏فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين‏؟‏‏}‏

فأيّ شيء يحملك أيها الإنسانُ على التكذيب بالبعث والجزاء بعدَ هذا البيان، وبعد وضوح البراهين‏؟‏

‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين‏؟‏‏}‏‏.‏

أليس اللهُ بأعدَلِ العادلين حينَ يحكُم في أمرِ الخَلق بهذا الصنع العظيم والتدبير الحكيم‏؟‏ وكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما اذا قرأآ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين‏}‏ قالا‏:‏ بلى، وإنّا على ذلك من الشاهدين‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 19‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

العلق‏:‏ الدم الجامد‏.‏ الرُّجعى‏:‏ الرجوع، المرجع، المصير‏.‏ أرأيتَ‏:‏ أخبِرني‏.‏ لَنسفعاً بالناصية‏:‏ لنأخذنّ بشعر جبهته، والناصية مقدّم الرأس، وشعرُ مقدم الرأس‏.‏ النادي‏:‏ المكان الذي يجتمع فيه القوم‏.‏ الزبانية‏:‏ أصل الكلمة الشُّرط، وسُمي بها بعضُ الملائكة لدفعِهم أهلَ النار اليها مفردها زبنىّ‏.‏ والزّبْنُ‏:‏ الدفع والضرب‏.‏

‏{‏اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

الخطابُ موجَّه الى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة الى القراءة والكتابة والعلم‏.‏‏.‏ وهذا هو شِعارُ الاسلام‏.‏ اقرأ يا محمد ما يوحَى إليك مستعيناً باسمِ ربك الذي خلَق هذا الكونَ العجيب وما فيه‏.‏‏.‏ خلق الانسانَ الكامل الجسم والعلمِ على أحسنِ مثالٍ، ومن عَلَقَةٍ ليست اكثر من دمٍ جامد، ثم كرّمه بأن رفع قدر هذا العلق فجعل منه الانسانَ الذي يعلَم فيتعلم‏.‏

ثم كرر الأمر بالقراءة لخُطورتها وأنها لا تُعلم الا بالتكرار فقال‏:‏

‏{‏اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏

وربُّك اكرمُ لكلِّ من يَرتجي منه العونَ والعطاء‏.‏ فهو الذي علَّم الخط والكتابة بالقلم، وعلَّم البشَرَ ما لم يكونوا يعرفونه من العِلم والمعرفة، وبذلك نَقَلَهم من ظلمة الجهل الى نور العلم والإيمان‏.‏

ان هذه الآياتِ الباهرةَ التي ابتدأ الله تعالى بها كتابَه العظيم لهي أكبرُ دليل على احتفال الإسلام بالعِلم بجميع أنواعه‏.‏ وقد أخذ بها سلفُنا الصالح، وأمتُنا المهتدون، ونشروا العلم في أرجاء العالم‏.‏ ونحنُ الآن مدعوون للأخذ بالعلم الصحيح، وتمزيقِ تلك الحجُب التي حجبت عن ابصارنا نورَ العلم، والسيرِ على هدى كتاب الله وسنة رسوله، والجِدِّ في تحصيل العلم حتى نلحقَ بالركب ونشارك في بناء هذه الحضارة مشاركة فعالة‏.‏ فلا نبقى، كما نحنُ الآن، تابعين خاملين‏.‏

بعد أن بيّن لنا الله تعالى طريقَ الهدى والخير أخبر عن سبب بطَرِ الانسان وطغيانه فقال‏:‏

‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى‏}‏‏.‏

حقاً إن الانسان لَيتجاوز الحد في الطغيان، ويستكبر ويتجبرُ، عندما يرى نفسه غنياً ذا ثروة طائلة ومالٍ كثير‏.‏

وليست الثروة مذمومةً في كل حال، فإنْ كان الانسان مؤمناً تقيا وآتاه الله مالاً كثيرا وقام بحقّه- فإن ذلك خيْرٌ وأبقى، يعمُّ نفعُه ويرضى الله عنه ورسوله‏.‏

ثم حذّر من الطغيان‏.‏ وتوعّد أولئك الأشرارَ اصحابَ الاموال الذين يتكبرون ويتجبرون فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى‏}‏

ان المرجعَ والمصير الى الله وحده، فهو مالكُ الأمور، والمتصرف في هذا الكون‏.‏ وبعد ذلك ضَرب الله لنا مثلا من أمثلة الطغيان، وذكَره على طريقة الاستغراب والتعجيب‏.‏ ثم أعقبَ ذِكره بالوعيد والتهديد فقالك

‏{‏أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى‏}‏

أأبصرتَ يا محمد هذا الطاغي الذي ينهى الناس عن الصلاة، ويحُول دون عبادة الله‏!‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى‏}‏

أخبِرْني عن حاله ان كان ذلك الطاغي على الهُدى أو أمر بالتقوى فكان نهيُه عن الصلاة‏!‏ أفما كان ذلك خيراً له وأفضل‏؟‏‏!‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى‏}‏

اخبرني عن حال هذا الطاغي إن كذّب بما جاء به الرسول، وأعرضَ عن الايمان‏.‏

‏.‏ أفلا يخشَى ان تحلَّ به قارعة، ويصيبه عذابٌ شديد‏!‏‏؟‏ أَجَهِلَ أن الله يطّلع على أحواله فيجازيه بها‏؟‏

وفي هذا تهديدٌ كبير للعصاة والجاحدين المتكبرين‏.‏‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ‏}‏

لِيرتدعْ هذا الطاغي المتجبر عن غَيِّه وضلاله، فإني أُقسِم لئن لم يكفّ عن هذا الطغيان وعن نهي المصلين عن صلاتهم، لنأخذنَّه بناصيته ونجَّره الى النار‏.‏ ‏{‏فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزبانية‏}‏

فلْيجمعَ أمثالَه من أهلِ ناديه ليمنعَ المصلّين ويؤذيهم‏.‏ سندعو جنودنا زبانيةَ جهنم لينصُروا محمداً ومن معه من المؤمنين‏.‏

‏{‏كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب‏}‏

لِيرتدعْ هذا الفاجر، فلا تطعْه يا محمد فيما ينهاك عنه، بل داومْ على صلاتك وواظبْ على سجودك، وتقرّب بذلك الى ربك‏.‏

وهنا عند قوله تعالى ‏{‏واسجد واقترب‏}‏ موضعُ سجدةٍ عند غيرِ الإمام مالك‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

القدْر‏:‏ العظمة والشرف‏.‏ الروح‏:‏ جبريل‏.‏ سلام هي حتى مطلع الفجر‏:‏ أمنٌ من كل أذىً وشر في تلك الليلة حتى وقت طلوع الفجر‏.‏

لقد بدأنا نُنزل القرآنَ على محمد في ليلة القدْر والشرف‏.‏ ولقد تم إنزاله جميعاً في ثلاثة وعشرين عاما‏.‏

ثم اشار الى أن فضْلَ تلك الليلة لا يحيط به إلا هو فقال‏:‏

‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر‏؟‏‏}‏

وما أعْلَمَك يا محمد ما ليلةُ القدر والشرف‏!‏ هي أعظمُ ليالي الدنيا على الاطلاق، لقد فَرَقَ الله فيها كل أمرٍ حكيم، وفيها وُضِعت أعظمُ قيمٍ وتعاليم، وقُررت أقدارُ أُممٍ ودُوَل وشعوب‏.‏ بل إنها اكثر واعظم، ففيها نُزِّلَ أعظمُ منهج الى الأرض دليلاً للناس الى الحياة الكريمة الفاضلة‏.‏

ثم بيّن مقدارَ فضلها فقال‏:‏

‏{‏لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏

إنها ليلةٌ عظيمة مباركة، العبادةُ فيها خير من عبادة ألف شهر‏.‏ ومن فضلها العظيم أنّها‏:‏

‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏}‏

تنزِل الملائكة وجبريلُ الى الأرض في تلك الليلة بإذنِ ربهم مع بركات الله ورحمته‏.‏ فهي بمثابة عيدٍ للمسلمين لنزول القرآن فيها، وليلةُ شكر على الإحسانِ والإنعام بذلك‏.‏ وتُشاركهم فيها الملائكة مما يُشعِر بعظمتها وبقَدْرِ الانسان كَخليفةٍ لله على الأرض‏.‏ ومن فضلِها أيضاً قوله تعالى ‏{‏سَلاَمٌ هِيَ حتى مَطْلَعِ الفجر‏}‏ فهي سلامٌ من أول ليلها الى طلوع الفجر، وأمانٌ من الأذى والشر حتى ذلك الحين‏.‏

والحقّ، أن ليلة القدر من العظمة بحيث تفوق حقيقتُها حدودَ الإدراك البشريّ، فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن العظيم، وإفاضة هذا النور على الوجودِ كله، لِما تضمَّنَه هذا القرآنُ من عقيدةٍ وشريعة وآداب‏.‏

وفي الحديث الصحيح أن عائشةَ رضي الله عنها قالت‏:‏ يا رسولَ الله ان وافقتُ ليلةَ القدر فما أقول‏؟‏ قال‏:‏ قولي اللهم إنك عَفُوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي وخلف‏:‏ مطلع بكسر اللام‏.‏ والباقون‏:‏ مطلع بفتح اللام‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

أهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ المشركون‏:‏ عَبَدَة الأصنام من العرب وغيرهم‏.‏ منفكّين‏:‏ منتهين عما هم عليه، منصرفين عن غفلتهم‏.‏ البيّنة‏:‏ الحجة الواضحة، والمراد بها هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ صحفا مطهّرة‏:‏ القرآن الكريم‏.‏ قيّمة‏:‏ مستقيمة‏.‏ من بعد ما جاءتهم البينة‏:‏ الدليل الثابت‏.‏ حنفاء‏:‏ مفردها حنيف، وهو المائل عن الشِرك المؤمنُ الخالص الايمان‏.‏ البريّة‏:‏ الخليقة‏.‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏

كان العالَم قبل مبعث النبيّ عليه الصلاة والسلام مضطرباً وفي حالة سيئة من الفساد الذي عَمّ أرجاءَه، والظلم والاستبداد الطاغيينِ‏.‏ وكان أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى والمشركون الوثنيّون يقولون قبل مبعث الرسول الكريم‏:‏ لا ننفَكّ مما نحن عليه من دِيننا ولا نتركه حتى يُبعثَ النبيُّ الموعود الذي هو مكتوبٌ في التوراة والإنجيل‏.‏ وهو محمدٌ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا معنى هذه الآيات الكريمة‏.‏

لم يكن الذين كفروا باللهِ ورسولِه من اليهودِ والنصارى ومن المشركين منتَهِين عما هم علَيه من الكُفر والجحود حتى تأتيَهم البيّنة، والتي هي رسولٌ مبعوثٌ من عند الله يقرأُ عليهم القرآنَ الكريم في صُحُفٍ مطهَّرة منزَّهَةٍ عن الباطل، وتحتوي كتباً تشتمل على أحكامٍ مستقيمة ناطقةٍ بالحقّ والصواب‏.‏

‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة‏}‏

لم يختلف اليهودُ والنصارى في شأن محمد عليه الصلاة والسلام إلا من بعدِ ما جاءتهم الحجَّةُ الواضحة، والدالّةُ على أنه الرسولُ الموعود به في كتُبهم‏.‏ وقد خُصّ أهلُ الكتاب هنا بالذِكر لأنهم يعلمون صحّةَ نبوّته بما يجدون في كتبهم‏.‏

‏{‏وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة‏}‏

لماذا لم يُؤمنوا بهذا النبيّ الكريم الذي يَعرفونه حقَّ المعرفة، مع أنه ما أَمَرَهُم إلا بعبادة الله وحدَه مخلِصين له الدينَ حُنفاء مستقيمين على الحق، وأن يُحافِظوا على الصلاة، ويؤدوا الزكاة‏.‏‏.‏ وهذه الأوامر السامية هي دينُ الاسلام، دينُ الملّة المستقيمة‏!‏‏؟‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية‏}‏

إن كلَّ مَنْ كفر من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان مصيرُه جهنَّم خالداً فيها‏.‏ وأمثالُه هم شرُّ الخليقة على الإطلاق‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏‏.‏

وأما المؤمنون الذين آمنوا وعمِلوا صالحاً فإنهم خيرُ الخليقة، وثوابُهم في الآخرة جنّاتُ اقامة دائمة تجري من تحتها الأنهارُ ماكثين فيها أبدا‏.‏ فلقد قبلَ اللهُ أعمالَهم فرضيَ عنهم، كما شكَروا إحسانَه غليهم‏.‏ هذا هو الجزاءُ الطيّبُ لمن خاف عقاب ربه‏.‏

قراءات

قرأ نافع وابن ذكوان‏:‏ البريئة بالهمزة‏.‏ والباقون‏:‏ البريّة بدون همز‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

الزلزلة‏:‏ الحركة الشديدة‏.‏ أثقالَها‏:‏ ما في جوف الأرض من الموتى، جمعُ ثِقل، وهو الشيء الثقيل‏.‏‏.‏ كأن الأرضَ امرأةٌ حاملٌ أثقلت بما في بطنها فأخرجتْ ما فيه‏.‏ كما جاء في سورة الاعراف ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 189‏]‏‏.‏

أوحى لها‏:‏ ألهمها‏.‏ يصدُر الناس‏:‏ يخرجون من قبورهم‏.‏ أشتاتا‏:‏ متفرقين كل واحد مشغول بنفسه‏.‏ الذَرَّة‏:‏ شيء صغير جدا لا يُرى بالعين المجردة، ولا بأحدثِ الآلات‏.‏

إذا اهتزّت الأرضُ واضطربت اضطراباً عظيما حتى لم يبقَ فوقَها أثرٌ بارز، كما أخرجَتْ ما في جَوفها من أثقالٍ من الموتى والكنوز والدفائن، وخرج الناسُ مشدوهين حَيارى لا يَدْرون أين يتوجهون‏.‏‏.‏ ‏{‏وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى‏}‏ لا يَسأل أحدٌ إلا عن نفسِه‏.‏ عند ذلك يتساءل الإنسان بخوفٍ وهلَع‏:‏ ماذا حصَل للأرض، ما لها‏؟‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏

في ذلك اليوم العصيب تحكي الأرض ما جَرَى لها بأمرِ الله، فهو الذي أرادها أن تهتزّ وتضطرِب وتدمِّ ‏{‏كل شيء، وهي منقادةٌ لأمره‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ‏}‏

في ذلك اليوم الرهيب يخرج الناسُ من قبورهم سِراعاً متفرّقين لتُعْرَضَ عليهم أعمالُهم في صُحُفٍ دقيقة، وليحاسَبوا حساباً شديدا‏.‏

‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏‏.‏

وتنشَر الصحف التي لا تغادرُ صغيرةً ولا كبيرة‏.‏‏.‏ ‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وهنا يُجزى أو يجازى من يعمل مثقالَ ذرة واحدة، خيراً أو شراً‏.‏ والذرة شيء صغيرٌ جدا لا يُرى بالعين المجردة ولا بأحدث الآلات‏.‏ نسأل الله السلامة‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

العاديات‏:‏ الخيل التي تجري والفعلُ عدا يعدو عَدْواً جرى‏.‏‏.‏‏.‏ ضَبحا‏:‏ الضبح صوت انفاس الخيل‏.‏ فالمورياتِ قَدحا‏:‏ أورى النارَ اوقَدها، فالموريات هي الخيلُ حين تُسرع فتضرب الحجارةَ بحوافرها فتقدَحُ النارُ منها‏.‏ وَقدح النارَ من الزند‏:‏ أخرجها‏.‏ المُغيرات‏:‏ واحدها مغيرة، والفعل أغار على العدو إذا هجم عليه بغتة‏.‏ فأثرنَ به نقعا‏:‏ فهيّجن الغبارَ، والنقع‏:‏ الغبار‏.‏ فوسَطْن به جمعا‏:‏ توسّطت الخيل في جَمع العدو‏.‏‏.‏ اخترقْته‏.‏ لَكنود‏:‏ كفور، كَنَدَ النعمةَ كفرها‏.‏ بُعثر ما في القبور‏:‏ فُتحت القبور وقلبت حتى يخرج من فيها، يقال بعثرتُ المتاعَ‏:‏ إذا جعلتُ أسفلَه أعلاه‏.‏

‏{‏والعاديات ضَبْحاً فالموريات قَدْحاً فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً‏}‏‏.‏

أقسَم الله تعالى بالخَيْل المسرِعة التي يُسمع لأنفاسها صوتٌ شديد، والتي توري النارَ من الحجارة بحوافرِها، وتُغِيرُ صباحاً على العدوّ لِتَبْغَتَه وتفاجئَه‏.‏ وهذه عادةٌ معروفة في الغارات‏.‏ وعندما تُغير الخيل مسرعةً تُثير الغبارَ الكثيف حتى لا تكادُ ُرى‏.‏ وبعد ذلك تتوسَّط جموعَ الأعداء فتثيرُ فيهم الفَزَعَ والرعب‏.‏

لقد أقسم الله تعالى بالخيل التي عدَّد صفاتِها آنفاً أن الإنسانَ لِنَعَمِ ربِّه لَجَحود‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ‏}‏

إنه لَشاهد على جحوده وكُفره للنِعم التي لا تُحصى، كما أنه شديدُ الحُبّ للمال حريصٌ على جمعه من اي طريق‏.‏ وبعد أن عدّد هذه الخصالَ بيّن لذلك الإنسان الغافل عن واقعِه أنه سيترك كل ما جَمَعَه، وسيقفُ يومَ القيامة للحساب، حيث تُبْرَزُ جميعُ حسناته وسيئاته ولا يستطيع ان يُنكرَ منها شيئا‏.‏

‏{‏أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ‏}‏

أجَهِلَ كلَّ هذا فلا يعلَم إذا نُشر كلُّ من في القبور، وجُمعت أعمالُهم- بأن الله يعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون، لا تخفى عليه منهم خافية‏؟‏ إن المرجعَ الى الله‏.‏‏.‏ وهو خبيرٌ بالأعمالِ والأسرار‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

القارعة‏:‏ القايمة‏.‏ المبثوث‏:‏ المنتشر، المتفرق‏.‏ العهن‏:‏ الصوف‏.‏ المنفوش‏:‏ المتطاير المنتشر‏.‏ ثقلت موازينه‏:‏ رجحت حسناته وكثرت‏.‏ خفت موازينه‏:‏ قلّت حسناته وساءت اعماله‏.‏ هاوية‏:‏ من أسماء جهنم‏.‏

‏{‏القارعة مَا القارعة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة‏؟‏‏}‏

يُهوّلُ الله تعالى في هذه الآيات من وصف يومِ القيامة التي تَقرَعُ قلوبَ الناس بما فيها من أحداثٍ وشدائد، ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة‏؟‏‏}‏ وأَيُّ شيء أَعلمك يا محمدُ ما شأنُ القارعة في هَولها على النفوس‏!‏ إنها أكبرُ من أن يُحيط بها الإدراك، أو يُلمَّ بها التصوُّر‏.‏

‏{‏يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش‏}‏

في ذلك اليوم العصيبِ ينتشر الناسُ كالفَراش المتفرق في الفضاءِ، لا يَلوي أحدٌ على احد، حيارى هائمين على وُجوههم لا يدرون ما يفعلون، ولا ماذا يُراد بهم‏.‏ وتكون الجبالُ كالصُّوف الملوَّنِ المتطايرِ في الهواء‏.‏

ثم بعدَ ان ذَكَرَ بعضَ أهوال ذلك اليوم بيَّن حالَ الناس فيه وانقسامَهم الى سعيدٍ وشقيّ، فقال‏:‏

‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏

فأما الذي كَثُرت حسناتُه بسبب أعماله الصالحة فلا خوفَ عليه، لقد نجا، فهو في عِيشةٍ يرضاها وتطيبُ نفسه بها‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏

وأما من قلَّت حسناتُه وكثُرت سيئاتُه بسبب سوءِ أعماله فمصيرُه جهنّمُ يُهوي فيها الى أسفلِ الدَرَكات‏.‏

ومعنى أُمه هاوية‏:‏ إن مرجعَه الذي يأوي إليه مَهواةٌ سحيقة في جهنّم، والتعبيرُ في غاية القسوة‏.‏

ثم جاءَ بعد ذلك استفهامٌ كبير ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ‏}‏

ما أعْلَمَكَ يا محمدُ ما هي الهاوية‏!‏ يَا لهُ من استفهام‏!‏ إنها ‏{‏نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏ هي جهنّم التي لا تبلُغُ حرارتَها نارٌ مهما سُعِّرَت وأُلقي فيها من وقود‏.‏‏.‏ أعاذَنا الله منها‏.‏‏.‏‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ألهاكم‏:‏ شَغَلكم، واللهو ما يشغل الانسان ويُضيع وقته‏.‏ التكاثُر‏:‏ جمع الموال والتفاخر والتباهي بحطام الدنيا‏.‏ تكاثَرَ المالُ‏:‏ كثر، وتكاثر القومُ‏:‏ تفاخروا بكثرة العدد والمال‏.‏ زرتم المقابر‏:‏ مِتُّم ودخلتم القبور لوقتٍ محدَّد كأنه زيارة‏.‏ علمَ اليقين‏:‏ العلم الحقيقي‏.‏ عَيْنَ اليقين‏:‏ اليقين هو المؤكد الذي لا شكّ فيه‏.‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر‏}‏

أيّها الناس، لقد شَغَلكم الانهماكُ في جَمْعِ الأموالِ، والتفاخرُ والتّباهي بحُطامِ الدنيا ومتاعها، وكثرةُ الأَشياع والأولاد‏.‏‏.‏ حتى نَسِيتم أنكم ستموتون وتُدفَنون في القبور، وغفلتُم عن أنكم إنما تمكثون فيها وقتاً محدَّداً ثم تُخْرَجون منها يومَ القيامة إلى الحسابِ والجزاء‏.‏

ولذلك جاء التعبيرُ بقوله ‏{‏حتى زُرْتُمُ المقابر‏}‏ يعني أن دُخولكم في القبرِ أشبهُ ما يكونُ بالزِيارة، ثم منه تُخْرَجون‏.‏

ويفهم كثيرٌ من الناس من قوله ‏{‏حتى زُرْتُمُ المقابر‏}‏ انه حضٌّ على زيارة القبور، وليس هذا هو المقصود‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ قرأ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألهاكُم التكاثُر، ثم قال‏:‏ يقولُ ابنُ آدم مالي ومالُك‏.‏ يا ابنَ آدم، ليس لك من مالِكَ إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبستَ فأبْلَيتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُه للناس‏.‏

وبعد تنبيه الناس لأن يستيقظوا ويعملوا صالحاً- جاء التوكيدُ على ان الناس سيُبْعَثون يوم القيامة، ويرون بأعينِهم جهنّم‏.‏ وسوف يُسالون عن كل ما تنعّموا به في الدنيا فيقول‏:‏

‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين‏}‏‏.‏

لقد كرّر كلمة كَلا ثلاثَ مرّات، وفي هذا زجرٌ وتهديد حتى يتنبّه الناسُ ويستيقظوا، فتنبَّهوا أيها الناسُ وسارِعوا الى الخيرات، اعملوا لربّكم ودِينكم وأُمتكم ومجتمعكم‏.‏‏.‏ فسوف تَعْلَمون العِلم الذي لا شَكّ فيه يومَ تَرَوْنَ الجحيم‏.‏

وأكد بأنهم سيرونها عِياناً ويقينا‏.‏

اما كيف تتمّ هذه الرؤية، وكيف يكون ذلك اليوم‏.‏‏.‏ فكلُّ هذا من الغيبِ الّذي يختلف عن واقِعنا وحياتنا الدنيا‏.‏

ثم أكّد تعالى أنّ الناسَ سيُسألون ويحاسَبون‏.‏

‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم‏}‏ ثَم لتُسْألُنَّ يا بني آدمَ عن كل ما أُوتيتم وما تمتّعتم به‏:‏ من أين نِلْتُموه‏؟‏ وفِيمَ أنفقْتُموه‏؟‏ وهل أدّيتم ما وجَبَ عليكم‏؟‏ واللهُ أعلمُ بكل ذلك، لكنّه يَسألهم ليحاسِبَ الناسَ، فيجزي من شَكَرَ ويُعذّب من كفَر‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر والكسائي‏:‏ لتُرَوُنَّ بضم التاء‏.‏ والباقون‏:‏ بفتح التاء‏.‏

سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

العصر‏:‏ الدهر، والزمان يُنسَب الى دولة او ملك‏.‏‏.‏ يقال العصر العباسي وعصر الملك فلان، والعصر الجيولوجي الخ، والوقت في آخر النهار الى احمرار الشمس‏.‏

الخُسر والخسران‏:‏ الضلال، والهلاك، وذهاب ما يملكه الانسان‏.‏ الحق‏:‏ خلاف الباطل، والعدل، وما يجب للفرد والجماعة، وحقوق الله‏:‏ ما يجب علينا نحوه‏.‏

الصبر‏:‏ تحمُّل المكروه دون جزع، واحتمالُ المشقّة في سبيل الله، والغير، والعملِ الطيب‏.‏

‏{‏والعصر‏}‏

لقد اقسم اللهُ تعالى بالعصْرِ لما فيه من عجائبَ وعبَرٍ تدلّ على قدرة الله وحكمته وما فيه من سرّاء وضَرّاء، وصحة وسُقْم، وراحة وتعب، وحزنٍ وفزع‏.‏‏.‏ الى غير ذلك‏.‏ وقال بعض المفسّرين‏:‏ أقسَم بآخرِ النهار، كما أقسَم بالضحى‏.‏‏.‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ‏}‏ إن الانسانَ في ضلال وهلاكٍ ما دام يفضّل العاجلةَ على الاجلة، وتَغْلِبُ عليه الأهواءُ والشهوات‏.‏

ثم بيّن الله تعالى بوضوح أن الانسانَ المعتدِلَ الذي يقوم بما عليه من الواجباتِ ليس من الخَاسِرين، فاستثناه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر‏}‏

إن الناس في ضلال وهلاكٍ إلا الذين آمنوا بالله، وعملوا الأعمالَ الصالحة في سبيل الله ومجتمعهم، وصدقوا في إيمانهم، وأوصى بعضُهم بعضاً بالتمسّك بالحق والصبرِ على المشاق‏.‏

هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الفضائل الأربع‏:‏

الايمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر- يعملون الخير ويدعون الى العمل به‏.‏ والصبرُ فضيلة ليس لها مثيل‏.‏ وقد ذُكر الصبر في القرآن الكريم أكثر من ستين مرة‏.‏ ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 43‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏، الى آياتٍ لا حصر لها‏.‏‏.‏‏.‏ اللهم اجعلنا في زمرة الصابرين العاملين الّذين تواصَوا بالحق وتواصَوا بالصبر‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

الويل‏:‏ العذاب، وحلول الشر، لفظٌ يستعمل في الذم‏.‏ الهُمَزة‏:‏ الذي يغتاب الناس ويطعن في أعراضهم‏.‏ اللُّمزة‏:‏ الذي يَعيب الناس وينال منهم بالإشارة والحرككات‏.‏ جَمَع مالاً وعدّده‏:‏ الذي همُّه جمعُ المال وكنزه‏.‏ لَيُنبذنَّ‏:‏ النبذ الطرح مع الاهانة والتحقير‏.‏ الحُطَمة‏:‏ نار جهنم لأنها تحطم كل ما يلقى فيها‏.‏ مؤصدة‏:‏ مطبَقة عليهم، مغلقة‏.‏

‏{‏ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏

الهلاك والعذابُ لمن اعتاد ان يَعيب الناس بالكلام أو بالإشارة، ويحاولَ أن يَسْخَر منهم ويحطَّ من اقدارهم‏.‏ فهذه الآية الكريمة ترسم صورةً لئيمةً حقيرة من صوَرِ النفوس البشرية حين تخلو من المروءة، وتَعْرَى من الإيمان‏.‏

ولذلك نهى الإسلامُ عن الهَمْزِ والغمز واللمز والعيب في مواضعَ شتى، لأن من قواعدِ الإسلام تهذيبَ الأخلاق ورفْعَ المستوى الخلُقي في المجتمع الاسلامي‏.‏

وقد رُوي أن عدداً من زعماء قريش كانوا يَلْمِزون النبيَّ الكريم وأصحابه، منهم الأخنسُ ابنُ شريق، والوليدُ بن المغيرة، وأميّةُ بن خلف وغيرهُم، فنزلت هذه السورة الكريمة لتؤدّبهم وتهذِّبَ الأخلاق‏.‏

‏{‏الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏

ثم بيّن الله تعالى أن هذا اللئيم الذي جمع المالَ الكثير وأحصاه وعدَّده مرّاتٍ ومرّاتٍ شغفاً به وحبّاً له، ولم ينفقْ منه في سبيل الخير- يظُنّ أن ما جَمَعَ قد حَفِظ له حياتَه التي هو فيها‏.‏‏.‏ فهو لا يفارقُها إلى حياةٍ أخرى يعاقَبُ فيها على ما كسب من الأعمال السيئة‏.‏

‏{‏كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة‏}‏

هنا يأتي التهديدُ الكبير لهؤلاء المجرمين بأن الله تعالى سوف يُلقيهم في جهنم‏.‏ وهل تعلم يا محمد ما هي الحُطَمة‏؟‏ إنها‏:‏

‏{‏نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة‏}‏

هي نار جهنم المُسْتعرة الملتهبة، الّتي تطّلع على الأفئدة التي كان ينبعثُ منها الهمز واللمز، وتكمنُ فيها السُّخريةُ والكبرياء والغرور‏.‏‏.‏ فتحرقُها وتحرقُ صاحِبَها‏.‏

ثم بين الله تعالى ان هذه النارَ مُغْلَقَةٌ عليهم في عَمَدٍ ممدّدة، مطوَّلة مُحْكَمة على أبوابها‏.‏ وهو تصويرٌ لشدّة الإطباق وإحكامه، وتأكيدٌ لليأسِ من الخَلاص‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وخلف‏:‏ جمّع بتشديد الميم‏.‏ والباقون جمع بغير تشديد‏.‏ وقرأ حفص وابو عمرو وحمزة‏:‏ مؤصدة بالهمزة‏.‏ والباقون موصدة بغير همزة وقرأ حفص‏:‏ في عَمَد بفتح العين والميم‏.‏ والباقون في عُمُد بضم العين والميم‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أصحاب الفيل‏:‏ أبرهة الحبشيّ وجيشُه الذين جاءوا لهدم الكعبة‏.‏ الكيد‏:‏ المكر، والخدعة‏.‏ تضليل‏:‏ ضلّله تضليلا‏:‏ أبطلَ مكره، وجعل كيده ضائعا‏.‏ وضلّ يضِل ضَلالاً وضلالة‏:‏ خفيَ وغاب، وهلك‏.‏ ومنه ‏{‏وَلاَ الضآلين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏ في سورة الفاتحة‏.‏

أبابيل‏:‏ جماعات، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه‏.‏ سِجّيل‏:‏ طين متحجّر‏.‏

العصف‏:‏ حطام التبن، وورق الزرع‏.‏ مأكول‏:‏ أكلت الدواب بعضَه، وتناثر بعضُه الآخر‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل‏}‏

حادثُ الفيل معروفٌ متواتر لدى العرب‏.‏ وقد جعلوه مبدأَ تاريخٍ يؤرخون به فيقولون‏:‏ وُلدِ عامَ الفيل‏.‏ وحدث كذا عامَ الفيل‏.‏‏.‏ وكان سنةَ خمسمائة وسبعين ميلادية‏.‏ وفي ذلك العام وُلدِ النبيُّ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ألم تعلم يا محمدُ ماذا صنع اللهُ العظيمُ بأصحابِ الفيلِ، جيشِ أبرهةَ، الّذين جاءوا لهدْم الكعبة‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ‏}‏

ألم يُهلكْهم الله ويجعلْ مكرهم باطلاً وسعيَهم خاسراً، حيث دمّرهم وأفناهم‏!‏

ثم فصّل كيفية إبطال كيدهم وكيف أهلكهم فقال‏:‏

‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ‏}‏‏.‏

لقد سلّط عليهم من جنوده طيراً أتتهم جماعاتٍ متتابعة، وأحاطتْ بهم من كلّ ناحية، وجعلت تقذفهم بحجارةٍ من طينٍ متحجّر كانت تخترقهم كالرّصاص وتقتل من تصيبُه حالا‏.‏ وهكذا جعلهم كورقِ الشجرِ الذي عَصَفَتْ به الريح‏.‏

وهذه معجزةٌ عظيمة تدلّ على حُرمة البيت الحرام‏.‏ وقد فسّر بعض العلماء أن الطيرَ الأبابيلَ هو وباءُ الجدري والحصبة، وما اشبه ذلك‏.‏ وهذا غيرُ وارد‏.‏ فلقد نزلت هذه السورة في مكة، وكان كثيرٌ من رجالات قريش ممن شهدوا الحادثَ لا يزالون أحياء عند نزول هذه السورة ولم يعترضوا عليها، فهي من خوارق العادات والمعجِزات المتقدمة بين يدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

وهكذا حفظ اللهُ البيتَ الحرام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 67‏]‏‏.‏

سورة قريش

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ‏(‏1‏)‏ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ‏(‏2‏)‏ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

لإيلافِ‏:‏ إيلاف مصدرُ آلفه ايلافا‏.‏ وألِفَ الشيءَ إلفا وإلافاً لزمه واعتاد عليه‏.‏ قريش‏:‏ القبيلة التي ينتسب إليها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم‏.‏ رحلة الشتاء والصيف‏:‏ رحلة التجارة التي كانوا يقومون بها الى اليمن والشام‏.‏ أطعمهم من جوع‏:‏ وسّع عليهم الرزق‏.‏ آمنهم من خوف‏:‏ جعلهم في أمنٍ من التعدّي عليهم‏.‏

‏{‏لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف‏}‏

من أجل إيلاف قريشٍ الرحلةَ الى اليَمَنِ في الشتاء، والى الشام في الصيف، وبكلّ أمانٍ واطمئنان سَمحَ به فضلُ الله عليهم تكريماً لبَبته الحرام، وكونهم جيرانَه‏.‏‏.‏ ‏{‏فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ من أجل هذه النِعم التي أسداها الله إليهم فأطعمهم وآمنهم- عليهم ان يعبُدوه ويُخلِصوا له الدين‏.‏ والواقع أن من أكبرِ النعم على الإنسان وجودَه في بلده آمنا، رزقُه مكفولٌ ميسَّر‏.‏ وهكذا، والواقع أن من أكبرِ النعم على الإنسان وجودَه في بلده آمنا، رزقُه مكفولٌ ميسَّر‏.‏ وهكذا، فإن السورةَ الكريمة تجمع أهم ما يطلبه الإنسان وهو الأمن والشِبَع والاستقرار‏.‏

وفي الحديث الشريف‏:‏ «من أصبح منكم آمناً في سِربه، معافىً في جسَده، وعنده قوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدّنيا» رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وابن ماجه عن عبد الله بن محصن الأنصاري ابي عمرو‏.‏

ومعنى آمناً في سِربه‏:‏ أمينا على نفسِه، مطمئن البال في حَرَمه وأهله‏.‏ وقد كانت قريش أولَ أمرها متفرقة حول مكة، فوحّدها قُصَيُّ قبل ظهور الاسلام بنحو مائة سنة، وأسكنها مكة، ونظّم شؤونها، ووضع أساسَ سيادتها الدينية والسياسية، وأسَّس دارَ الندوة حيث كان يجتمع أعيانُ قريش للتشاور في امور السلم والحرب، وإنجازِ معاملاتهم‏.‏

وتنقسم قريش على‏:‏ قريش البِطاح، وهي التي تسكن مكة وتضم بطون‏:‏ هاشم، وأميّة، ونوفل، وزهرة، ومخزومِ، وأسَد، وجُمَح، وسَهْم، وتَيْم، وعَدِي‏.‏

وقريش الظواهر‏:‏ وكانوا خليطاً من العوام والأحابيش والموالي، يسكنون ضواحي مكةَ وفي شِعاب التلال المجاورة لها‏.‏

وكانت قريش البِطاح تؤلف ارستقراطيةَ مكة، وتهيمن على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في أواسط بلاد العرب وغربها‏.‏ وكانت لهم تجارةٌ واسعة كما تقدّم‏.‏ وبفضل تعظيم العرب للكعبة وحجِّهم اليها اكتسبت قريش فوائدَ اقتصادية ونفوذاً روحياً وسياسياً بين القبائل، كما اشتهر القرشيون بفصاحتهم‏.‏ ولهجةُ قريش هي الفصحى التي سادت أكثرَ أنحاءِ شبه الجزيرة العربية في الجاهلية، وبها نزل القرآن الكريم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر لئلاف قريش بدون ياءٍ‏.‏ والباقون‏:‏ لإيلاف بالياء بعد الهمزة‏.‏

سورة الماعون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ‏(‏1‏)‏ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏3‏)‏ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ‏(‏4‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ‏(‏5‏)‏ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

أرأيتَ‏:‏ هل علمتَ‏.‏ بالدِين‏:‏ الخضوع الى الله والتصديقُ بالبعث والجزاء‏.‏ يدعُّ اليتيم‏:‏ يدفعه بعنف‏.‏ يحضّ‏:‏ يحث ويرغب‏.‏ ساهون‏:‏ غافلون‏.‏ يُراءون‏:‏ يُظهرون خلاف ما يضمرون‏.‏ الماعون‏:‏ اسمٌ جامع لكل ما ينتفَع به من أدوات البيت، والإناءُ المعروف‏.‏ ‏{‏أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين‏}‏

هل عرفتَ يا محمد ذلك الذي يكذّب بالجزاءِ والحسابِ في الآخرة، ولا يؤمن بما جاءَ به الرسول‏؟‏

‏{‏فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين‏}‏

إن هذا الذي يكذّب بالدين من أوصافِه السيّئة أنه بخيلٌ شرِس الأخلاق‏.‏ لذلك فإنه يؤذي اليتيم، ويدفعُه بجَفوة وغلظة، ولا يُعطيه حقَّه‏.‏ ومن بُخله الشديد أنّه لا يحثّ على مساعَدة المساكين، ولا يُعطيهم من مالِه شيئا‏.‏ وذلك كلُّه لأنه لا يؤمن بأنه سيُبعث يومَ القيامة ويحاسَب حساباً عسيرا‏.‏ ثم ذكَر الفريقَ الآخر المرائي الّذي يعمل من أجلِ ان يَظهر أمام الناس وهو كاذبٌ مخادِع فقال‏:‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الذين هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون‏}‏‏.‏

فالهلاكُ لهؤلاء الّذين يَغْفُلون عن الصلاة، وإذا فعلوها فإنما يؤدّونها نِفاقاً ورئاءً إنهم يُظهِرون للناس أنهم أتقياء وهم كاذبون‏.‏ كذلك فإنهم‏:‏

‏{‏وَيَمْنَعُونَ الماعون‏}‏

ويمنعون عن الناس معروفَهم ومعونَتَهم‏.‏ وهؤلاء- موجودون في كل زمانٍ وكل مكان‏.‏ وتنطبق هذه الآية الكريمة على معظم العرب والمسلمين‏.‏ ولا يمكن أن ننهضَ ونصيرَ أمةً ذاتَ كرامةٍ وسيادة إلا إذا أصلحْنا أنفسَنا وأعدْنا النظر في تربية النَّشْءِ تربيةً صالحة، وسِرنا على تعاليم ديننا الحنيف مُقْتَدين بسيرةِ سيّدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه وسَلَفِنا الصالح، وأخذْنا بالعلم الصحيح‏.‏

سورة الكوثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ‏(‏1‏)‏ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

الكوثر‏:‏ الخير الكثير، ونهرٌ في الجنة‏.‏ شانئك‏:‏ مُبغِضَك‏.‏ يقال‏:‏ شَنَأ يَشْنأ‏.‏ شَنْئاً، وشَنَآنا‏:‏ أبغَضَ‏.‏ واسمُ الفاعل شانئ‏.‏ والمؤنث شانئة‏.‏ الأبتر‏:‏ المنقطع عن كل خير‏.‏

‏{‏إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر‏}‏

الخطابُ للرسول الكريم جاءَ تسليةً عمّا يلاقيه من أذى وأنّ العاقبة له‏.‏ لقد أعطيناك يا محمدُ الخيرَ الكثيرَ من النبوّة والدينِ والحقّ والعدْلِ وكلّ ما فيه سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر‏}‏

أقدِم على الصّلاةِ لربّك شُكراً له على ما أعطاك، وانحَرِ الإبلَ ليأكلَ منها الفقيرُ والمسكين‏.‏

ثم بعد ان بشّره بهذا الخير الكثير، وطالَبَه بالشّكر عليه- زاد في البُشْرى بأنّ كلّ من يُبغِضُه ويَكيدُ له مُنْقَطِعون مَبْتُورون‏.‏ وقد كانَ ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر‏}‏

إن مُبْغِضَك يا محمد هو المنقطعُ عن كل خير‏.‏ وقد حقق اللهُ له ذلكَ فانقطعَ ذِكر كلّ المشرِكين من العَرب وغيرِهم، فيما بقيَ ذِكره خالداً في العالمين‏.‏

سورة الكافرون

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ‏(‏1‏)‏ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ‏(‏2‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏3‏)‏ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ‏(‏4‏)‏ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ‏(‏5‏)‏ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

الخطابُ للنبيّ الكريم عليه الصلاةُ والسلام‏.‏ وكان المشركون من زعماءِ قومِه عَرَضوا عليه أن يعبُدوا اللهَ سَنَةً على ان يَعبُدَ النبيُّ الكريم آلهتهم سنةً مثلَها‏.‏ فنزلت هذه السورةُ جواباً لهم‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لهؤلاءِ المشركين الّذين سألوك أن تعبدَ آلهتهم على أن يعبدوا إلهك ‏{‏ياأيها الكافرون‏}‏ بالله ‏{‏لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ من غير الله من الأوثانِ والأصنام‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ‏}‏ وهو اللهُ وحدَه‏.‏ ولا أناعابدٌ مثلَ عِبادتكم، لأنكم مشركون‏.‏

أكّد هذا كلَّه بالتَكرار حتى يَقْطَعَ أطماعَهم، ويبيّن أنه يعبُدُ إلهاً واحدا، وأنّ دينَه هو دينُ الحق‏.‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏}‏ فلكُم دينُكم الّذي اعتقدتُموه، ولي ديني الذي ارتضَاه لي ربّي‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم‏:‏ ليَ دين بفتح الياء‏.‏ والباقون‏:‏ لِي دين بكسر اللام وسكون الياء‏.‏

سورة النصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ‏(‏1‏)‏ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ‏(‏2‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

النصر‏:‏ الإعانة والتأييد، نصره‏:‏ أعانه وأيّده‏.‏ الفتح‏:‏ غَلَبة الأعداء وفتح البلاد، والمراد به هنا فتح مكة‏.‏ أفواجا‏:‏ جماعاتٍ جماعات، واحده فوج‏.‏ واستغفِرهُ‏:‏ اسأل المغفرة لك ولأُمتك‏.‏ توّابا‏:‏ كثير القبول لتوبة عباده‏.‏

‏{‏إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح‏}‏‏.‏

إذا نصرك الله يا محمد على أعدائك، وتحقَّقَ وعدُ الله بالنصر للمؤمنين وهزيمة المشركين، وفَتَحَ الله لكم ديارَكم ودخلْتُم مكّة‏.‏

‏{‏وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً‏}‏

جماعاتٍ جماعات‏.‏ وقد تحقَّق ذلك بعدَ فتحِ مكة، فدخَل الناسُ في الإسلام أفواجا، وعمّ الإسلامُ جزيرةَ العرب‏.‏

‏{‏فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا‏}‏

فاشكر ربك، وسبّح بحمده، ونزّهْه عن كل شريك- لما حقّق لك وللمؤمنين من النصر العظيم- واطلُب المغفرةَ لك ولأمتك من الله تعالى، فإنه يَقْبَلُ التوبةَ، وبابُه مفتوحٌ دائما للتوابين‏.‏

روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قال‏:‏ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثر في آخر أمره من قوله‏:‏

سبحانَ الله وبحمدِه، أستغفرُ الله وأتوبُ غليه‏.‏ قال‏:‏ إن ربي أخبرني أني سأرى علامةً في أُمتي، وأمرني إذا رأيتُها أن أسبّح وأستغفرَه إنّه كان توابا‏.‏ فقد رأيتها‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ رواه مسلم أيضا‏.‏

وهكذا تم النصرُ والفتح، وأشْرَقت الأرضُ بنورِ ربّها، وعمّ الإسلامُ جوانبَ الأرض‏.‏

نسأل الله تعالى أن يُلهم زعماءَنا وكبراءنا التوفيقَ وسَدادَ الرأي، فتجتمعَ كلمتُهم على نصرِ دين الله وتتوحّدَ صفوفهم، ويجتمعَ شملُهم ليعملوا على انقاذ هذه الأُمة وردِّ كرامتها واستردادِ الأرض المقدّسة بإذن الله‏.‏

سورة المسد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ‏(‏1‏)‏ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ‏(‏2‏)‏ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ‏(‏3‏)‏ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ‏(‏4‏)‏ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

تَبَّ‏:‏ خسر وهلك‏.‏ تبَّ يتَبّ تَباً وتَبابا‏.‏ يقال في الدعاء على الانسان‏:‏ تبتّ يدُه‏.‏ وتَبّاً له‏:‏ هلاكاً له‏.‏ يصلَى نارا‏:‏ يدخلها ويجدُ حرها‏.‏ أبو لهب‏:‏ عبد العزّى بنُ عبد المطلب، عم النبيّ الكريم‏.‏ امرأته‏:‏ أروى بنت حرب، أُم جميل أخت أبي سفيان‏.‏ حمالة الحطَب‏:‏ التي تسعى بالنميمة والفتنة بين الناس‏.‏ الجيد‏:‏ العنُق‏.‏ المَسَد‏:‏ كل حَبْل مفتول‏.‏

‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏

تَبَّ‏:‏ الأولى دعاءٌ عليه بالهلاك، وتبّت الثانية إخبارٌ بأنه قد هلك‏.‏ لقد خسر أبو لهب وهلك، وضلّ عملُه لعدائه للرسول الكريم، وكثرةِ ما سبّب من الأذى له وللمسلمين‏.‏ فقد كان من أشدّ الناس عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

والتعبيرُ باليد لأنها أداةُ العمل ومظَرُ القوة‏.‏ ‏{‏ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وهذا تعبيرٌ مألوفُ عندَ العرب، تقول‏:‏ أصابتْهُ يدُ الدهر، ويدُ الرزايا والمنايا‏.‏

‏{‏مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏

إن كل ما جمع من مالٍ، وما عنده من أولادٍ لن ينفعَه بشيء، ولن يغنيَ عنه يومَ القيامة، ولا يدفع عنه العذاب‏.‏

وكان لأبي لهبٍ ثلاثةُ أولاد‏:‏ عُتبة، ومعتِب، وعُتيبه‏.‏ وقد أسلم عُتيبة ومعتبُ يوم الفتح، وشهِدوا حُنَيْناً والطائف‏.‏

واما عتبة فلم يُسلم‏.‏ وكانت أم كلثوم بنتُ رسول الله زوجةً له، وأختُها رقيةُ عند عتيبة‏.‏ فلما نزلت هذه السورة قال أبو لهب‏:‏ رأسي ورأساكما حَرامٌ إن لم تطلِّقا ابنتَي محمّد‏.‏ فطلقاهما‏.‏

وأراد عُتبة ان يذهبَ إلى الشام مع أبيه فقال‏:‏ لآتِيَنَّ محمّداً وأُوذينَّه‏.‏ فقال‏:‏ يا محمد، إني ك افر بالنّجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلّى‏.‏ ثم تفل امام الرسول الكريم وطلّق ابنته أُم كلثوم‏.‏ فقال الرسول الكريم «اللهُمّ سَلِّطْ عليه كلباً من كلابك» فافترسَه الأسدُ بالزرقاءِ في الأردن‏.‏ ومات أبو لهب بعد وقعةِ بدرٍ بسبعة أيام‏.‏

‏{‏سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏

سيُعذَّب بنارِ جهنّم الحاميةِ ذاتِ الشرر واللّهب، الّتي أعدّها الله لمِثْله من الأشرارِ المعاندين‏.‏

‏{‏وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ‏}‏

وستعذَّب امرأتُه، أم جميل العَوراء، بهذه النار أيضا، لشدة عِدائها للرسول الكريم، ولِما كانت تسعى بالنَّميمة والفتنة لإطفاء دعوةِ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابنُ عباس ومجاهد وقتادة والسُدّي‏:‏ كانت تمشي بالنميمة بين الناس‏.‏ والعربُ تقول‏:‏ فلان يَحْطِب على فلانٍ إذا حَرَّضَ عليه‏.‏

وفي الحديث الصحيح «لا يدخُل الجنّةَ نمّام» وقال‏:‏ «ذو الوجهينِ لا يكونُ عند الله وَجِيها» والنميمةُ من الكبائر‏.‏

وقيل ايضا إن أُمَّ جميل هذه كانت تحمِل حُزَمَ الشوكِ والحَطَب وتنثُرها باللّيل في طريق رسولِ الله لإيذائه‏.‏ لذلك فإنّ في عنقِها يوم القيامة حَبلاً تُشَدّ به إلى النار، وبئس القرار‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ ابي لهب باسكان الهاء‏.‏ والباقون بفتح الهاء وقرأ عاصم‏:‏ حمّالة بنصب التاء‏.‏ على الذم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ حمالة بالرفع صفة لامرأته‏.‏

سورة الإخلاص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الصَّمَدُ ‏(‏2‏)‏ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ‏(‏3‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

أحد‏:‏ واحد‏.‏ الصمد‏:‏ المقصود في الحاجات‏.‏ الكفء‏:‏ النظير‏.‏

قل يا محمدُ لِمَن سألوك عن صِفة ربك‏:‏ اللهُ هو الواحدُ، لا شريكَ له ولا شبيه‏.‏

‏{‏الله الصمد‏}‏

الله هو المقصود، يتوجّه اليه العِبادُ في جميع مطالبهم وحوائجهم، لا واسطةَ بينه وبين عبادِه‏.‏

‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏

لم يتَّخِذ ولداً ولا زوجة، ولم يولَد من أبٍ ولا أُم‏.‏‏.‏ فهو قَديمٌ ليس بحادِثٍ، ولو كان مولُودا لكان حادِثا‏.‏ إنه ليس له بدايةٌ ولا نهاية‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏

وليس له نِدٌّ ولا مماثِل، ولا شَبيه‏.‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فهذه السورةُ الكريمة إثباتٌ وتقريرٌ لعقيدة التوحيد الإسلامية، كما أن سورةَ «الكافرون» نفيٌ لأيّ تشابُهٍ او التقاء بين عقيدةِ التوحيد وعقيدةِ الشِرك‏.‏

وقد سُئل أعرابي ماذا يحفظ من القرآن فقال‏:‏ أحفَظ هِجاءَ أبي لَهَبٍ ‏{‏تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏ وصِفَةَ الربّ ‏{‏قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ‏}‏‏.‏

تعالى الله عما يقولُ الظالمون علوّا كبيرا‏.‏

سورة الفلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ‏(‏1‏)‏ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ‏(‏2‏)‏ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ‏(‏3‏)‏ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ‏(‏4‏)‏ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

أعوذ‏:‏ أَلجأ، وأعتصم‏.‏ الفلَق‏:‏ ضوء الصبح والخَلْق‏.‏ الغاسق‏:‏ الليل اذا اشتدّت ظُلمتُه‏.‏ النفّاثات‏:‏ الساحرات، واحدها نفّاثَة، وهي التي تنفُثُ بِرِيقِها على عُقَدِ الخِيطان لتسحَر‏.‏ الحاسد‏:‏ الذي يتمنى زوالَ النعمة عن الغير‏.‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق‏}‏

قل يا محمد‏:‏ إني أَعتصِمُ بربّ الصُّبح الذي ينجَلي عنه الظلام‏.‏

‏{‏مِن شَرِّ مَا خَلَقَ‏}‏

من شرِّ كل مؤذٍ من جميع المخلوقات، فلا يدفعُ شرَّها الا مالكُ أمرِها‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ‏}‏

ومن شرِّ الليلِ إذا أظلمَ واشتدّ ظلامه‏.‏ وقد أمرَنا الله ان نتعوّذ من شرِّ الليل لأنّه فيه تحدُث معظم الجرائم، ففي ظلامه سَتر لكلّ مجرِم، وفيه تخرج السِّباع من آجامها، والهوامُ من أَمكنتها‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد‏}‏

ومن شر كلّ من يسعَى بين الناس بالإفساد، ومنهم تلك السواحِرُ اللاتي يَنْفُثْن في العُقَد لضررِ عبادِ الله، وليفرّقنَ بين المرءِ وزوجه‏.‏

وهناك رواياتٌ في سبب نزول هذه السورة والّتي تَليها تذكُر ان النبيّ صلى الله عليه وسلم سَحَرَه يهوديٌّ اسمه لَبيد بن الأعصم‏.‏ فنزلت المعوِّذتان وزال السِّحر عندما قرأهما الرسول الكريم‏.‏ ومع أن بعض هذه الروايات في الصحيح ولكنها مخالِفَة للعقيدة، وتناقض العِصمةَ التي أُعطيت للرسول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ والواقع أنّ هاتين السورتين مكيّتان، وفي ذلك ما يُوهِنُ صحة الروايات‏.‏

‏{‏وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ‏}‏

ونعوذُ بالله تعالى من شرِّ الحاسدِ الذي يتمنَّى زوالَ النعمة عن غيره، والحسدُ خلُق مذموم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الحسدُ يأكل الحسناتِ كما تأكل النارُ الحطب‏.‏

والحسد أول معصية عُصِيَ اللهُ بها في السماء وفي الأرض، فَحَسَدَ ابليسُ آدمَ، وحسد قابيلُ أخاه هابيل فقتَله‏.‏

والحاسد يضرّ نفسَه ثلاث مضرّات‏:‏

أحداها اكتسابُ الذنوب، لأن الحسدَ حرام‏.‏

الثانية‏:‏ سوءُ الأدبِ مع الله تعالى، فإن حقيقةَ الحسد كراهيةُ إِنعام الله على عبده، واعتراضٌ على الله‏.‏

الثالثة‏:‏ تألُّم قلبِ الحاسِد من كثرةِ همِّه وغمِّه‏.‏

كلُّ العداوة قد تُرجَى إزالتها *** إلا عداوةُ من عاداكَ من حسَد

وخلاصة معنى السورة الكريمة‏:‏ إن الله تعالى طلبَ من الرسول الكريم أن يلجأَ الى ربّه، ويعتصمَ به من شرِّ كل مؤذٍ من مخلوقاته، ومن شرِّ الليل إذا أظلمَ لما يصيب النفوسَ فيه من الوحشة، ولما يتعذَّر من دَفع ضرره‏.‏ ومن شرِّ المفسِدات الساعيات في حَلِّ ما بينَ الناسِ من روابطَ وصِلات، ومن شرِّ الحاسدين الذين يتمنّون زوالَ ما أسبغَ الله على عباده من النعم‏.‏

اللهم اجعلْنا من المحسُودين لا من الحاسِدين‏.‏

سورة الناس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ‏(‏1‏)‏ مَلِكِ النَّاسِ ‏(‏2‏)‏ إِلَهِ النَّاسِ ‏(‏3‏)‏ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ‏(‏4‏)‏ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ‏(‏5‏)‏ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ربّ الناس‏:‏ الله عز وجلّ، مربي الناس، وراعي شئونهم‏.‏ الوسواس‏:‏ الموسوِس الذي يلقى حديثَ السوء في الأنفس‏.‏ الخنّاس‏:‏ الذي يتوارى ويختفي عندما يكون الانسانُ يقظاً مسلَّحاً بالإيمان، ويذكر الله‏.‏ من الجِنّة‏:‏ من الجنّ‏.‏

‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الناس‏}‏

قل يا محمد، إنني أعتصِم بالله، الخالقِ، مربي الناس وألتجئ إليه‏.‏

‏{‏مَلِكِ الناس‏}‏

مالك الناس ومدبّر أمورهم، حاكمين ومحكومين، هو يحكمهم جميعاً، ويربّيهم بإفاضة ما يُصْلِحُهم وما يدفع الضررَ عنهم‏.‏

‏{‏إله الناس‏}‏

هو معبودُهم الذي لا ربَّ لهم سواه، القادرُ على التصرّف الكامل بهم‏.‏

وهذه ثلاث صفاتٍ من صفات الرب عز وجلّ‏:‏ «الربوبية» و«الملك» و«الألوهية»‏.‏

فهو ربّ كل شيء، ومليكُه والهه‏.‏‏.‏ لذلك فقد أَمرنا أن نعوذَ به هو، المتصف بهذه الصفات السامية‏.‏ ثم بين صفاتِ الوسواس بقوله‏:‏ ‏{‏الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس‏}‏

الوسواس الخنّاس الذي يُلقي في صدور الناس صنوفَ الوساوس والأوهام ليصرِفَهم عن سبيلِ الهدى والرشاد‏.‏

وهذا الوسواسُ الخنّاس قد يكون من الجِنّ، وقد يكون من البشَر‏.‏ كما جاء ذلك صريحا في قوله تعالى ‏{‏شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

وشياطينُ الإنسِ أشدُّ فتكاً وخطَرا من شياطين الجن‏.‏ فكثيراً ما يأتيك إنسانٌ لئيم يُسدي إليك نصائحَ وهو كاذبٌ يقصِد من ورائها لَكَ الشرَّ فيدسُّ السّمَّ في الدَسَم‏.‏

اللهم جَنّبنا كلّ شر، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجنّ‏.‏