فصل: سورة النساء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


سورة النساء

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ‏(‏1‏)‏ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

الزوج‏:‏ يطلق على الذكر والأنثى‏.‏ بث‏:‏ خلق ونشر‏.‏ تساءلون به‏:‏ يسأل بعضكم بعضا به، كأن يقول‏:‏ سألتك بالله ان تفعل كذا‏.‏ الأرحام‏:‏ جمع رحم وهي القرابة‏.‏ اليتيم‏:‏ من مات أبوه وهو صغير قاصر‏.‏ حوباً كبيراً‏:‏ اثما عظيما‏.‏

يا أيها الناس احذروا عصيان خالقكم، الذي انشأكم من العدم، واذكروا انه أوجدكم من نفس واحدة خلق منها زوجها، ثم نشر منها رجالاً ونساء كثيرين‏.‏ فاتقوا الله الذي تستعينون به في كل ما تحتاجون، ويسأل بعضكم بعضا باسمه فيما تتبادلون من أمور‏.‏ كذلك تذكَّروا حقوق الرحم والقرابةِ عليكم فلا تفّرطوا فيها ولا تقطعوا وشائجها‏.‏

وقد قرن الله الرحم باسمه الكريم لأن صلتها أمر عظيم عنده‏.‏ وقد ورد في الحديث الصحيح «ان الرحم تقول‏:‏ من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» وكذلك قال رسول الله «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصِل رحمه»‏.‏

ظهرت العناية باليتامى في القرآن الكريم منذ اول نزول الوحي، واستمر يوصي بهم الى أواخر نزول القرآن‏.‏ وقد وردت آيات كثير توصي باليتيم والمحافظة على ماله حتى جعل بعضُها من يظلم اليتيم ويقصّر في حقه كأنه يكفر بالله ويكذّب بيوم الدين‏.‏

في هذه السورة العظيمة جاءت الآيات تأمر بالمحافظة على أموال اليتامى والقيام بحقوقهم، ثم تشدّد في التحذير من اهمال ذلك‏.‏ وقد مهدت لهذه الأحكام في آيتها الاولى، فطلبت تقوى الله، والتقوى في الرحم، وأشعرت الناس أنهم جميعا من نفس واحدة، فاليتيم رحمُهم وان كان من غير أسرتهم‏.‏

وبعد هذا التمهيد الجميل أمرَهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسملوها كاملة عندما يبلغون سنّ الرشد، كما حذّرهم من الاحتيال في مبادلة الطيب المختار من مال اليتيم بالرديء الخبيث من أموال الوصي عليه، أو خلط أموالكم باموال اليتماى‏.‏ وقد عبر عن هذا بالأكل ‏{‏وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ‏}‏‏.‏ فإن لجأتم الى التحايل بالمبادلة، أو الأكل تحت شعار الخلط، فاعلموا ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً‏}‏ اي ذنْباً عظيماً، فاجتنبوه‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ «تساءلون» بفتح السين المخففة، وقرأ الباقون «تساءلون» بفتح السين المشددة، وقربأ حمزة «والارحام» بجر الميم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ‏(‏3‏)‏‏}‏

تقسطوا‏:‏ تعدلوا‏.‏ تعولوا‏:‏ تميلوا عن الحق، وقيل يكثُر عيالكم‏.‏

يسأل كثير من الناس قديماً وحديثا‏:‏ ماوجه الربط بين العدل في معاملة اليتامى، ونكاح النساء‏!‏ وقد سأل عروة بن الزبير خالته عائشة أم المؤمنين، ففسرت ذلك بأن بعض أولياء اليتامى كان يتزوج بمن عنده من اليتيمات اللاتي يحل له زواجهن، أو يزوّجها بعض أبنائه، ويتخذ ذلك ذريعة الى أكل مالها أو أكل مهرها الذي تستحقه بعقد الزواج‏.‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية مرشدة لهم بأن من كان عنده يتيمة وأراد ان يتزوج بها أو يزوّجها من بعض أبنائه، لا لغاية أكل مالها أو أكل مهرها فلا مانع من ذلك‏.‏ اما اذا اراد ان يتزوجها ليأكل مالها أو مهرها، فان الله يأمره أن يتركها تتزوج غيره، وله ان يتزوج غيرها‏.‏

ولقد أباح له الزواج بأكثر من واحدة الى اربع نساء‏.‏ ثم وضع شرطاً مهماً جداً فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ‏}‏ بين الزوجات فعليكم ان تكتفوا بواحدة فقط، لكم ان تتمتّعوا بمن تشاؤون من السراري‏.‏ واختيار الواحدة اقرب من عدم الجور والظلم، اذا ان العدل بين النساء من الأمور الصعبة جدا‏.‏ لذلك قال تعالى في آية أخرى ‏{‏وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ والمقصود بالعدل هنا هو المعاملة الطيبة، والنفقة، والمعاشرة الحسنة للزوجات على السواء‏.‏ اما العدل في مشاعر الرجل وميله القلبي فإنه غير ممكن وليس هو المقصود‏.‏ فان النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول‏:‏ «اللهم هذا قَسمي فيما امِلكَ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك»‏.‏

وموضوع تعدد الزوجات أمرٌ كثر فيه الكلام قديماً وحديثا، واتخذه أعداء الاسلام سبيلاً للطعن فيه، ولا سيما المشترقون والمبشرون‏.‏ ولو ان هؤلاء المتعصبين بحثوا الموضوع بتجرد عن الهوى لرأوا ان الاسلام لم يبتدع تعدد الزوجات بل حدّده ووضع قيوداً تقلله بقدر الامكان‏.‏ فقد كان التعدد معروفاً ومعمولاً به عند جميع الأمم، فجاء الاسلام ورخّص فيه وقيّده بقيود صارمة‏.‏ وذلك لمواجهة واقع الحياة البشرية، وضرورات الفطرة الانسانية‏.‏ إن الناس ليسوا سواء، فمنهم من لا تكفيه زوجة واحدة ومنهم المضطرُّ الى الجمع، لأمور عديدة والدين الاسلامي ليس ديناً جامداً، بل هو واقعيٌّ ايجابي، يتوافق مع افطرة الانسان وتكوينه كما ينظر الى واقعه وضروراته ولهذا أباح تعدد الزوجات بذلك التحفظ الشديد، فحيسن ان يؤخذ هذا الموضوع بيسر ووضوح، وان تُعرف الملابسات التي تحيط به، فلا ينبغي لمسلم ان يقدم على الزواج بأكثر من واحدة الا لضرورة، ومع مراعاة ما أوجبه الله من العدل‏.‏

‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ تمتعوا بما شئتم من السراري، وهذا غير موجود في عصرنا‏.‏

‏{‏ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ اي ان الاقتصار على زوجة واحدة أقرب الى عدم الوقوع في الظلم والجور، كما أنه أدعى إلى ألاّ كثر عيالكم فتعجزوا عن الانفاق عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

صدقاتهن‏:‏ مهروهن‏.‏ نحلة‏:‏ عطية عن طيب نفس‏.‏

الخطاب للأزواج، وأعطوا النساء مهورهن عطية خالصة، ليس لكم فيها شيء‏.‏ فإن طابت نفوسهن بأعطائكم شيئا منها دون اجبار ولا خديعة فكلوا هنيئا طيبا، محمود العاقبة‏.‏

وعلى هذا لا يجوز للرجل ان يأخذ لنفسه أو ينقص شيئاً من مهر زوجته الا اذا علم ان نفسها طيبة به، لأن العلاقات بين الزوجين ينبغي ان تقوم على السماحة النابعة من القلب، والود الذي لا يبقى معه حرج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

السفهاء‏:‏ ضعاف العقول الذي لا يحسنون تدبير أنفهسم‏.‏ قياما‏:‏ تقوم بها أمور معايشكم وتمنع عنكم الفقر‏.‏ وارزقوهم فيها‏:‏ اعطوهم رزقهم من أموالهم، ولا تجمّدوها بل اتَّجروا بها حتى لا تنفد‏.‏

ولا تعطوا ضعاف العقول ممن لا يحسنون التصرف في المال أموالهم التي هي أموالكم كمجتمع‏.‏ ذلك ان مال اليتيم وضعيف القعل هو مالُكم كمسلمين، فاذا ضاع أو تلف خسرتم أنتم‏.‏ لذلك عليكم ان تثمِّروه وتحافظوا عليه حتى لا يضيع‏.‏

‏{‏التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً‏}‏ الّتي بها تقوم الحياة وتثبت‏.‏ وفي هذا حيٌّ على حفظ الأموال وعدم تضييعها‏.‏ وقد كان السلف يقولون‏:‏

المال سلاح المؤمن‏.‏ ولأَن أَترك مالاً يحاسبني الله عليه خيرٌ من أن احتاج الناس‏.‏

‏(‏وأعطوهم رزقهم‏)‏ اي أعطوهم من ثمراتها النصيب الذي يحتاجون اليه للطعام، واكسوهم وعاملوهم بالحسنى‏.‏

‏{‏وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً‏}‏ يرضيهم ولا يؤذيهم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر «التي جعل الله لكم قيما» والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

آنستم منهم رشدا‏:‏ أبصرتم منهم حسن التصرف في الأموال‏.‏ اسرافا وبدارا ان يكبروا‏:‏ لا تأكلوا اموالهم مسرفين ومسرعين في تبذيرها قبل ان يكبروا‏.‏ والبدار والمبادرة‏:‏ المسارعة‏.‏

بعد أن أمرنا الله في الآيات السابقة بإتياء الايتام أموالهم وبأعطاء النساء مهورهن بيّن في هذا الآية الكريمة شرطام مهما، وهو‏:‏ لا يعطى اليتيم أو القاصر ماله الا اذا كان بالغاً راشدا‏.‏ فاختبروا عقول اليتامى وتبينوا حسن تصرفهم بالمال، حتى اذا أصبحوا صالحين للزواج وعرفتم فيهم الرشد والسداد فادفعوا اليهم أموالهم‏.‏ وإياكم ان تأكلوها، لا مسرفين فيها بالانفاق منها ‏(‏ولو على اليتيم نفسه‏)‏، ولا مستعجلين في الانفاق قبل ان يكبر اليتيم‏.‏ ومن كان من الأوصياء غنياً فليتعفف عن أموال اليتامى، ومن كان فقيرا فليكتفِ بقدر مايكفيه بحسب الصرف الجاري في بلده ووقته‏.‏ فاذا سلّمتموهم أموالهم فأشهدوا عليهم انهم قبضوها، ‏(‏والاشهاد واجب عند الشافعية والمالكية ومندوب عند الحنفية‏)‏، والله من ورائكم هو المحاسب والمراقب‏.‏

وقد ورد في الحديث‏:‏ «ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لي مال وإني وليُّ يتمي، فقال‏:‏» كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالاً، ومن غير أن تَقِيَ مالَك بماله «»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

في هذه الآية الكريمة بدء لذكر الميراث، فقد كان العرب في الجاهلية لا يوّرثون النساء والأولاد الصغار، ويقولون‏:‏ لا يرث الا من طاعَن بالرماح وحاز الغنيمة‏.‏

وقد روي في سبب نزول هذه الآية ان أوس بن الصامت الأنصاري توفي وترك زوجة تدعى أم كحة، فحاز انبا عمه، سويد وعرفطة، ميراثه ولم يعطيا الزوجه والبنات شيئا‏.‏ فجاءت أم كحة الى الرسول فشكت اليه أمرها‏.‏ فدعاهما رسول الله، فقالا‏:‏ ان الميراث لمن يقاتل العدو ويكسب‏.‏ فنزلت هذه الآية، ثم نزل تفصيل الميراث في الآيات التي بعدها‏.‏

والمعنى انه‏:‏ اذا ترك الولدان أو الأقربون مالاً فانه ينقسم، للرجال نصيب منه، وللنساء نصيب، سواء أكان الوارث صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو انثى، ومهما كان المال الموروث قليلا أو كثيرا‏.‏ وهذا الآية عامة فصّلتها الآيتان 11 و12 بعد قليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

واذا حضر قسمة التركة بعضُ الاقارب الذين لا يرثون كالأخ لأبٍ مع وجود الأخ الشقيق، أو حضرها اليتامى والمساكين فأكرموهم‏.‏ وذلك تطييباً لنفوسهم، ونزعاً للحسد من قلوبهم وجمِّلوا عطاءكم لهم بقول حسن‏.‏

ورى عبد الرزاق في مصنفه ان عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبدالرحمن وعائشةُ حية، فمل يدعْ مسكيناً ولا ذا قرابة الا أعطاه من ميراث أبيه‏.‏ وتلا هذه الآية‏:‏

‏{‏وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

القول السديد‏:‏ الحق الصواب‏.‏ السعير‏:‏ النار الحامية الملتهبة‏.‏

تذكّروا أيها الأوصياء ذريتكم الضعاف من بعدكم، وكيف يكون حالهم بعد موتكم فعامِلوا اليتامى تحت وصياتكم بمثل ما تريدون ان يعامَل أبناؤكم‏.‏ واتقوا الله في اليتامى وكلِّموهم برفق ولين كما تكلِّمون أولادكم‏.‏

كذلك ليخشَ الذين يوصون من أموالهم للفقراء ان يتركوا شيئاً لأولادهم، وعلى من يحضرون عند مريض يريد ان يوصي بشيء من أمواله ان ينصحوه بأن يوصي بقسم قليل ويترك لورثته الباقي خشية حاجتهم من بعده‏.‏

ورى البخاري ان سعد بن أبي وقاص أراد ان يوصي بنصف مالهمن بعده للفقراء، فنصحه النبي أن يوصي بالثلث وقال له‏:‏ «ان الثلث ايضا كثير‏.‏ وانك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالةً يتكففون الناس»‏.‏ الحديث‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ هنا عاد سبحانه وتعالى الى التحذير بشدة من أكل أموال اليتامى فقال‏:‏ ان الذين يظلمون اليتامى بأخذ أموالهم في غير حق، انما يأكلون في بطونهم النار التي سوف يتعذبون بها يوم القيامة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «وسيصلون» بضم الياء، والباقون بفتحها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

بعد ان ذكر حكم الميراث مجملا، بين هذه الآية والتي بعدها والأخرى التي في آخر السورة ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أحكام الميراث الكبرى، وبقي هناك بعض الفرائض تكفّلت بها السنَّة واجتهاد الأئمة‏.‏

كانت أسباب الميراث في الجاهلية ثلاثة‏:‏

‏(‏1‏)‏ النسب‏:‏ وهو الا يكون الا للرجال الذين يركبون الخيل ويقاتلون العدو، وليس للمرأة والأطفال ميراث‏.‏

‏(‏2‏)‏ التبني‏:‏ كان الرجل يتبنى ولدا من الأولاد فيكون له الميراث كاملا‏.‏

‏(‏3‏)‏ الحلف والعهد‏:‏ فقد كان الرجل يحالف رجلاً آخر ويقول له‏:‏ دمي دمُك، وهدمي هدمك، وترثني، وأرثك، وتُطلب بي وأُطلب بك‏.‏ فاذا فعلا ذلك يرث الحي منهم الميت‏.‏ ومعنى هدْمي هدْمك ‏(‏يجوز فتح الدال‏)‏‏:‏ إن طُلب دمك فقد طلب دمي‏.‏

فلما جاء الاسلام أقرّ الاول والثالث فقط، وجعل الميراث للصغير والكبير على حد سواء، وورّث المرأة‏.‏ وقد أقر الثالث بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون‏}‏، كما أبطل التبني بحكم ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ‏}‏‏.‏

فنظام الميراث الذي بينه القرآن نظام عادل مقعول، اعترف بذلك عظماء علماء القانون في أوروبا‏.‏ وقد ابتع فيه الإسلام النظم الآتية‏:‏

‏(‏1‏)‏ جعل التوريث بتنظيم الشارع لا بإرادة المالك‏.‏ وجعل للمالك حرية الوصية من ثلث مالهن، وفي ذلك عدالة عظمى، وتوزيع مستقيم‏.‏

‏(‏2‏)‏ عل للشارع توزيع بقية الثلثين للأقرب فالأقرب، من غير تفرقةٍ بين صغير وكبير، فكان الأولاد أكثر حظاً من غيرهم في الميراث، لأنهم امتداد لشخص المالك‏.‏ ويشاركهم في ذلك الأبوان والجدة والجد، لكن نصيبهم أقل من الأولاد‏.‏ وذلك لأن الأولاد محتاجون أكثر من الأبوني والجدّين‏.‏‏.‏ فهم مقبلون على الحياة، فيما الآباء والأجداد مدْبرون عنها‏.‏ وتلك حكمة بالغة‏.‏

‏(‏3‏)‏ جعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل، ليحفظ التوازن بين أعباء الرجل وأعباء الأنثى في التكوين العائلي‏.‏ فالرجل يتزوج امرأة ويكلَّف بإعالتها هي وأبنائها منه، كما أنه مكلف ايضا باخوانه ووالدته وغيرهما من الأرحام‏.‏ أما المرأة فانها تقوم بنفسها فقط‏.‏ والقاعدة تقول‏:‏ «الغُنم بالغرم»، ومن ثم يبدو التناسق في التكوين العائلي والتوزيع الحكيم في النظام الاسلامي‏.‏

‏(‏4‏)‏ يتجه الشرع الاسلامي في توزيعه للتركة الى التزوزيع ون التجيمع، فهو لم يجعلها للولد البكر كما في النظام الانجليزي، ولا من نصيب الأولاد دون البنات، ولم يحرم أحداً من الأقارب، فالميراث في الاسلام يمتد الى ما يقارب القبيلة‏.‏ وقاعدته‏:‏ الأقربُ فالأقرب‏.‏ وقد كرّم المرأة فورّثها وفحظ حقوقها‏.‏ ثم انه لم يمنع قرابة المرأة من الميراث، بل ورّث القرابة التي يكون من جانبها، كما ورث التي تكون من جانب الأب، فالأخوة والأخوةات لأمٍ يأخذون عندما يأخذ الاشقاء‏.‏ وفي بعض الحالات يأخذ أولاد الأخ ويأخذ الإخوة والأخوات‏.‏

وهذا تكريم للأمومة لا شك فيه واعتراف بقرابتها‏.‏

التفسير‏:‏

‏{‏يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية يأمركم الله تعالى في شأن توريث أولادكم ان يكون‏:‏ للذَّكر مثلُ حظ الانثَيين‏.‏ واذا كان المولود انثى واحدة فنصيبها النصف، والباقي لأقارب المتوفى، واذا انعدم الأقابر رُدَّت التركة الى بيت المسلمين‏.‏

واذا كانت الوارثات بنتَين فأكثر فمن حقهن ان يأخذن ثلثي التركة، ويكون الباقي للأقارب أو بيت المال‏.‏ ولا يرث الكافر، ولا القاتل عمدا، ولا العبد الرقيق‏.‏

وعند الشيعة الامامية‏:‏ تأخذ البنت أو البنتان فأكثر جميع التركة، ونصيب كل من الأبوين السدس اذا كان الميت له ولد‏.‏ واذا كان لم يخلّف الميت أولادا وورثه أبواه أخذت الأم الثلث وكان الباقي للأب‏.‏

واذا مات الميت وترك أباً وأماً وعددا من الاخوة فلأُمه السدس والباقي للأب، اذ ان الاخوة يحجبون الأم وينقصون ميراثها ولا يرثون‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يأخذون السدس، ولكن هذا مخالف للجمهور‏.‏

وكل هذه القسمة من بعد تنفيذ الوصية اذا أوصى الفقيد، ومن بعد سداد الدَّين اذا وُجد، والدَّين مقدَّم على الوصية بإجماع العلماء‏.‏

هذه فريضة من الله يجب اتباعها، اما أنتم فلا تدرون اي الفريقين أقرب لكم نفعاً‏:‏ آباؤكم أو أبناؤكم، فلا تجرموا أحدا ممن له نصيب من التركة‏.‏ فالله هو العليم بمصالحكم الحكيم فيما فرض عليكم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والسكائي «فلإمه» بكسر الهمزة‏.‏ وهي الآن لغة بعض البلاد الشامية‏.‏

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر «يوصى» بفتح الصاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ونصيب الزوج من زوجته نصف الميراث ان لم يكن لها ولد منه أو من غيره، فان كان لها ولد فللزوج الربع‏.‏

ونصيب الزوجة أو الزوجات، من زوجهنّ الرُّبع اذا لم يكن له ولد، فان كان له منهم او من غيرهن ولد فللزوجة أو الزوجات الثمن‏.‏ وولد الولد كالولد فيما تقدم‏.‏ وكل هذه القسمة من بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدَّين‏.‏

وبعد ان بيّن سبحانه وتعالى حكم ميراث الأولاد والوالدين والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرة شرع يبين من يصتل به بالواسطة، وهو الكلالة، فقال‏:‏

‏{‏وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وان كان الميت رجلا أو أمراة يورَث كلالة، اي ليس له ولد ولا والد ولا أم، وترك أخاً لأم أو اختا لأم فنصيب كل واحد منهما السدس‏.‏ فان كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث للذَّكر مثل الانثى، من بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدَّين ان وُجد‏.‏

وفي كل ما تقدم يجب ان تكون الوصية من ثلث الميراث فقطن لا تزيد عليه، حتى لاتضر الورثة‏.‏ وقلنا هنا إن الأخ والأخوات لأم، لأن الإخوة الاشقاء سيأتي حكمهم في آخر السورة‏.‏

والوصية مستحسنة، وقد قال علي بن أبي طالب‏:‏

لأن أُوصي بالخمس أحبّ الي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ الي من أن أوصي بالثلث‏.‏

فالزموا ايها المؤمنون ما وصاكم الله به، فانه عليم بما ينفعكم، حليم لا يعاجل الجائر بالعقوبة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وابن عامر وابن عباس عن عاصم «يوصى» بفتح الصاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

تلك الأحكام المذكورة في بيان المواريث وما سبقها، وهي شرائع الله تعالى التي حددها لعباده ليعلموا بها ولا يعتدّوها، فمن استقام وأطاع الله والرسول وابتع هذه الشرائع كان جزاؤه الجنة التي تجري فيها الأنهار خالدا فيها، منعماً راضياً مرضياً، وذلك هو الفوز العظيم‏.‏

ومن لم يتقيد بها فانه يكون عاصيا لله والرسول، فجزاؤه نار جهنم مخلداً فيها معذباً مهانا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

الفاحشة والفحش والفحشاء‏:‏ ما عظُم قبحه من الافعال والأقوال‏.‏ والمراد بها هنا الزنا‏.‏

كانت الآيات السابقة تعالج تنظيم حياة المجتمع الاسلامي، فعُنيتْ بحقوق اليتامى والسفهاء المالية، كما عنيت بحقوق النساء وشؤون الميراث، فأبطلتْ ما كان عليه أهل الجاهلية في توزيع الميراث وبينت القسمة العادلة بياناً شافيا‏.‏ أما هذه الآية فإنها تعالج حياة المجتمع المسلم، وتطهيره من الفاحشة التي كانت متفشية في أهل الجاهلية‏.‏ وكان الحم في ابتداء الاسلام ان المرأة اذا ثبت زناها بشهادة أربعة رجال حُبست في بيتها فلا تخرج منه حتى تموت‏.‏ وهو ما تحكم به هذه الآية‏.‏ لكنه لم يستمر فقد جاء تفصيل الحكم لاحقا في سورة النور وفي الاحاديث الصحيحة‏.‏

واللاتي يأتين الزنا من نسائكم، بعد ثبوته عليهن بحق، فاحبسوهن أيها المؤمنون في البيوت وامنعهن من الخروج الى ان يتوفاهن الله ‏{‏أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ اي يفتح لهن طريقاً مستقيما للحياة، بالزواج أو التوبة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هذا كان الحكم لهذه الفاحشة ثم أبدله الله في سورة النور وجعله الجَلْد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

أما اللذان يرتكبان الزنا أو اللواط وهما غير متزوجين، فلتكن عقوبتهما الإيذاء بالتوبيخ والتأنيب بعد ثبوت ذلك بشهادة أربعة من الرجال‏.‏ فإن تابا ورجعا وأصلحا عملهما فأعرِضوا عنهما ولا تذكّروهما بما ارتكبا أو تعيِّروهما به، لأن الله يقيل التوبة من عباده ويعفو عنهم برحمته الواسعة‏.‏

وقال بعض المفسرين ان المراد باللاتي في أول الآية‏:‏ من يأتين المساحقة، والمراد باللذان‏:‏ من يأتيان اللواطة ثم عدلت العقوبة بعد ذلك‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏17‏)‏ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا التوبة عَلَى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

انما التوبة مضمونة عند الله، أوجبَ قبولها على نفسه بوعدِه الذي هو أثر من كرمه وفضله اللذين يعملون السيئات عن حماقة فيهم، وبفعل الطيش وعدم التبصر، ثم يندمون على ما فرط منهم ويتوبون الى الله‏.‏ أولئك يقبل توتبهم، لأنه عليم بشئون عباده، يعلم ضعفهم ولا يؤاخذهم عليه‏.‏

‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

ان التوبة غيرُ مقبولة من الذين يعملون السيئات وهم مصّرون عليها، ثم يتوبون عند حضور الموت‏.‏ كذلك لا تقبل التوبة من الذين يموتون على الكفر، بل لقد أعدّ الله للفريقين عذاباً اليما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

العضل‏:‏ التضييق والشدة‏.‏ ولاتعضلوهن‏:‏ لا تمنعوهن من الزواج‏.‏ الفاحشة‏:‏ الفعلة الشنيعة‏.‏ مبينة‏:‏ ظاهرة، مفضوحة‏.‏ المعروف‏:‏ ما تألفه الطباع‏.‏

روى البخاري وابو داود والنسائي وغيرهم انه كان اذا مات الرجل في الجاهلية كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، ان شاء بعضهم تزوجها وان شاؤوا زوّجوها لمن يشاؤون، وان شاؤوا لم يزوجوها ابداً‏.‏ كانوا هم أحق بها من أهلها‏.‏‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ ومن بعض عادات الجاهلية الممقوتة ان كان الرجل اذا مات ابوه عن زوجة غير أُمه فرض عليها زواجها منه، من غير عقد جديد‏.‏ وكان اذا طلق امرأته وقد دخل بها فإنه يسترد كلَّ ما اعطاها من مهر سابق‏.‏ ومنهم من كان يطلقها ويعمل على منعها من الزواح بغيره ظلماً وعدوانا‏.‏‏.‏ فجاء الاسلام ورفع عنها ظُلم العضل، وهو من المرأة من الزواج بمن تريد، او ايذاؤها لحملها على طلب الطلاق لقاءَ مال تدفعه الى الزوج‏.‏

كذلك كان من الجائز عندهم ان يتزوج الرجل مطلقة أبيه، فنهى الاسلام عنه، وسماه مقتا، لأنه أمر فاحش القبح‏.‏

يا أيها المؤمنون لا يحلّ لكم ان تسيروا على سنة الجاهلية فتجعلوا النساء كالمتاع، وترثونهنّ كما ترثون الأموال والعبيد، وتتصرفون فيهن كما تشاؤون، تتخذونهن زوجات من غير مهر، كرهاً‏.‏ ولا تظلموهن بالتضييق عليهن حتى يفتدين أنفسهن منكم بالمال الذي دفعتُموه لهن من مهور، أو ما حصلن عليه من ميراث‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ‏}‏ الا ان يرتكبن إثماً بيناً بزنىً، أو بنشوز او سوء خلق، فعند ذلك لكم ان تضيّقوا عليهن أو تأخذوا بعض ما آتيتموهن عند الفراق‏.‏

‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ عليكم ا ن تحسنوا معاشرة النساء، فتدخلوا عليهن السرور بالقول والعمل‏.‏ والزواج شركة يجب ان يكون فيها كل من الزوجين مدعاة لسرور الآخر وهناءته‏.‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فالزواج مبنيّ على ا لمودة والرحمة في الاسلام‏.‏

‏{‏فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ لِعَيْبٍ في اخلاقهن أو خَلْقهن، أو لتقصير في العمل والواجب علهين كخدمة البيت وغير ذلك؛ او لميل منكم الى غيرهن فاصبروا ولاتَعْجلوا بمضارتّهنّ ولا مفارقتهن، عسى ان يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «كرها» بالضم وهما لغان كَرها وكُرها‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بفتح الياء، هنا وفي سورة الأحزاب وسورة الطلاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

زوج‏:‏ زوجة‏.‏ بهتانا‏:‏ ظلما، وأصل البهتان الكذبُ الذي يبهت المذكوب عليه‏.‏ افضى بعضكم الى بعض‏:‏ وصل بعضكم الى بعض، وامتزج به‏.‏ الميثاق‏:‏ العهد‏.‏ الغليظ‏:‏ الشديد المؤكد‏.‏

واذا رغبتم ايها الازواج في استبدال زوجة مكان أخرى وأعطيتم الأولى مالاً كثيراً، فلا يحل لكم ان تأخذوا منه شيئا‏.‏‏.‏ أتأخذونه ظالمين‏!‏ ان ذلك إثمٌ وبهتان عظيم‏.‏ وكيف يسوغ لكم ان تستردوا ما أعطيتم من المهر، بعد أن تأكدت بينكم الرابطة الزوجية المقدسة، ولا بَسَ كل منكما الآخر حتى صار بمنزلة الجزء المتمم لوجوه‏!‏

‏{‏وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً‏}‏ بهذه العبارة الهائلة يختم الله تعالى هذا الآيات فيُفرغ على عقد الزواج صبغة كريمة جعلته فوق عقود البيع والاجارة والتمليك‏.‏ فتعبير «ميثاقا غليظا» الذي يعني‏:‏ شديداً مؤكداً، له قمته في الإيحاء بموجبات الحفظ والمودة‏.‏ والزواج في عرف الشرع عهد شريف ترتبط به القلوب، وتختلط به المصالح‏:‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏‏.‏

وكلمة الميثاق لم تَرِدْ في القرآن الكريم الا تعبيرا عما بين الله وعباده من موجبات التوحيد، والتزام الاحكام، وما بين الدولة والدولة من الشئون العامة الخطيرة، ثم على عقد الزواج‏.‏ ومن هذا ندرك مقدار المكانة التي سما القرآن بعقد الزواج اليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

سلف‏:‏ مضى‏.‏ مقتا‏:‏ مبغوضا‏.‏ ساء سبيلا‏:‏ بئس العادة‏.‏

لا تتزوجوا أيها الأبناء ما تزوج آباؤكم من النساء، فإنه أمر فاحش يمقته الله والناس‏.‏ وكان هذا النكاح فاشيا في الجاهلية‏.‏ فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال‏:‏ لما مات قيس بن الأسلت قام بانه محصن فورث نكاح امرأته، ولم ينفق عليها، ولم يورّثها من المال شيئا‏.‏ فأتت النبي عليه السلام فذكرت له ذلك، فنزلت آية ‏{‏لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ وهذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وهو أسوأ سبيلٍ فتجنّبوه، لكن الله يعفو عما سلف منكم في الجاهلية‏.‏

بعد ذلك بيّن الشارع انواع المحرمات فقال‏:‏ حرمت عليكم أمهاتكم‏.‏‏.‏ الآية‏:‏ 23‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

هنا يبين أقسام المحرَّمات، بدأ بالأُمهات، وكذلك يقاس عليهن الجدّات‏.‏ وهن الأصول‏.‏ ثم البنات، وهو الفروع‏.‏ والمراد بهنّ ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سبباً في ولادتهن‏.‏ ثم الحواشي القريبة، الأخوات الشقيقات والأخوات لأب ولأم‏.‏ ثم الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم، وهن العمات والخالات‏.‏ ثم الحواشي البعيدة من جهة الاخوة، بنات الأخ وبنات الأخت‏.‏

ثم يأتي القسم الثاني، وهو ما حُرم من جهة الرضاعة‏.‏ وهذا النوع من خصائص الاسلام، فلا يوجد مثله في شريعة اخرى من الشرائع‏.‏ وهنّ الأمهات اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة‏.‏ وعند مالك وأبي حنيفة يحرم قليل الرضاعة وكثيرها، وحدد بعضُهم الرضاعة بثلاث رضعات فأكثر‏.‏ ومذهب الشافعي وأحدم خمسُ رضعات مشبعات‏.‏ وعند الإمامية خمس عشرة رضعة، وبعضهم يقول عشر رضعات، ويشترط ان يكون وقت الرضاعة في مدة الرضاعة، يعني في سن الحولَين‏.‏

وأخيرا يأتي القسم الثالث، وهو محرّمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج‏.‏ وهي اربعة أنواع‏:‏ أمهات نسائكم، وربائبكم اللات في حجوركم من نسائكم اللات دخلتم بهن، فان عقد عقده على امراة ولم يدخل بها لا تحرم عليه بناتها‏.‏ وزوجات أولادكم وأولادِهم‏.‏ وحرم عليكم الجمع بين الأُختين، وبين المرأة وعمتها وخالتها، والضابط بذلك انه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابه بحيث لو كانت احداهما ذكراً لحرم عليه بتلك القرابة نكاح الاخرى‏.‏

اما ما قد مضى في الجاهلية فان الله لا يؤاخذكم عليه ان اكلله كان غفورا رحيما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

المحصنات‏:‏ العفيفات، والمراد الحرائر المتزوجات‏.‏ ما ملكت أيمانكم‏:‏ ما سبيتموهن في الحروب‏.‏ ما وراء ذلك‏.‏ محصنين‏:‏ عفيفين‏.‏ غير مسافحين‏:‏ المسافحة هي الزنى‏.‏

وبالاضافة الى ما سبق حُرم عليكم نكاح المتزوجات عامة الا مَن سَبيتم وملكتم منهم في حرب بينكم وبين الكفار‏.‏ إن عقد زواجهن السابق ينفسح بالسبي فيصِرن حالالاً لكم بعد استبراء أرحامههن، هذا ما كتب عليكم تحريمه فرضاً مؤكداً من عند الله‏.‏

وأحلّ الله لكم ما وراء ذلك من النساء، تتزوجون بأموالكم منهم من تشاؤون، محصِنين أنفسكم، بعيدين عن الزنا والمخادعة‏.‏ وأيّ امرأة من النساء اللات أُحللن لكم فاستمتعتم بالزواج منها، فأعطوها مهرها الذي اتفقتم عليه عند القعد‏.‏ ذلك فريضة من الله فرضها عليكم لا تسامح فيها‏؟‏‏.‏ بيد أنه لا حرج عليكم فيما اذا تراضيتم على النقص في المهر بعد تقديره، أو تركه كله، أو الزيادة فيه‏.‏ إن ذلك عائد للزوجين اذا ما تفاهما وعاشا في مودة وطمأنينة‏.‏ وهذا مايبغيه الشارع الحكيم‏.‏

وقد تمسّك الشيعة الإمامية بقوله تعالى ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ وقالوا ان المراد بذلك هو المتعة، وهي الزواج المؤقت‏.‏ كما قالوا‏:‏ ان هذا دليل واضح‏.‏ ولا تزال المتعة قائمة عندهم، معمولاً بها‏.‏ يقول الطَّبَرْسي، وهو من كبار علماء الشيعة الامامية في تفسيره «مجمع البيان» عده هذه الآية‏:‏ «قيل المرادُ به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معين الى أجل معلوم، عن ابن عباس والسدّي وجماعة من التابعين، وهو مذهب اصحابنا الإمامية الخ» وكذلك يقول شيخ الطائفة العلاّمة ابو جعفر محمد بن الحسن الطُّوسي في تفسيره «التبيان»‏.‏

ويقول ابن رشد في «بداية المجتهد»‏:‏ «وأما نكاح المتعة فإنه تواترت الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريمه، الا انها اختلفت في الوقت الذي وقع فيه التحريم‏.‏‏.‏‏.‏ وأكثرُ الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، واشتهر عن ابن عباس تحليلها، وروَوا انهن كان يحتج لذلك بقوله تعالى ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية وفي قراءاة عنه ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وهذا ا لذي روي عن ابن عباس، رواه عنه ابن جريج وعمرو بن دينار‏.‏ وعن عطاء، قال‏:‏ سمعت جابر بن عبدالله يقول‏:‏ تمتعنا على عهد رسول الله وأبي بكر ونصفٍ من خلافة عمر ثم نهى عنها عمرُ الناسَ»‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ الكسائي‏:‏ «المحصنات» بكسر الصاد في جميع القرآن، بمعنى أحصنّ فزوجهن‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «وأُحِلّ لكم» بضم الهمزة وكسر الحاء كما هو في المصحف هنا، والباقون قرأوا «وأحل لكم» بفتح الهمزة والحاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الطول‏:‏ الغنى والفضل من مال او قدرة على تحصيل الرغائب‏.‏ المحصنات‏:‏ الحرائر‏.‏ الفتيات‏:‏ الإماء‏.‏ مسافحات‏:‏ مستأجَرات للبغاء، وكان ذلك فاشيا في الجاهلية‏.‏ والأخدان‏:‏ واحدُها خِدْن، وهو الصاحب تتخذه المرأة سراً كما كان في الجاهلية‏.‏ العنت‏:‏ المشقة‏.‏

ومن لم يستطع منكم نكاح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته المادية على ذلك فَلَهُ ان يتزوج أَمَة من الإماء المؤمنات‏.‏ والله أعلم بحقيقة إيمانكم فلا تستنكفوا من نكاحهن‏.‏ فأنتم وهنّ سواء في الدين بعضكم من بعض‏.‏ فإذا رغبتم في نكاحهن فتزوجوهن بإذن أصحابهن، وأدّوا لهن مهورهن التي تفرضونها لهن، حسب المعروف بينكم في توفية الحق ومهر المثل‏.‏ واختاروهن عفيفات وزوجات لكم، لا مستأجَرات للبغاء جهراً، ولا متخذاتٍ العشّاق والاصحاب سراً‏.‏ فإذا اقترفن الزنا بعد زواجهن فعقوبتهن نصف عقوبة الحرة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وما اباحة نكاح الاماء عند العجز عن الحرائر لمن خشي الضرر على نفسه إلا تسهيل من الله لكم ورفعٌ للحرج‏.‏ هذا، وصبرُكم على نكاح المملوكات مع العفة خير لكم، والله كثير المغفرة عظيم الرحمة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابو بكر وحمزة «فاذا احصنّ» بفتح الهمزة والصاد، والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

بعد ان ذكر الشارع احكام النكاح جاء هنا يبين عللها وأحكامها كما هو دأب القرآن الكريم، ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، وسكون للنفوس‏.‏ والمعنى إن الله، بما شرعه لكم من الأحكام، يريد ان يبين لكم مافيه مصالحكم ومنافعكم، وان يهديكم مناهج من تقدَّمكم من الأنبياء، كما يريد لكم إن تتوبوا عن جميع أعمالكم السابقة في الجاهلية، فيرجع بكم الى طريق طاعته‏.‏ والله مطلع على شئونكم، مدبِّر في أحكامه لما يصلح أموركم‏.‏ انه يريد ان يتوب عليكم فيطهركم ويزكّي نفوسكم، أما الذين يتبعون الشهوات من الكفار والفجرة فإنهم يريدون لكم ان تبعدوا عن طريق الحق وتُمنعوا في ذلك‏.‏ لقد خلق الله الانسان ضعيفا أمام غرائزه وميوله، ولذلك فإنه بتيسيره عليه في الأحكام إنما يود ان يخفف عنه ويرفع عنه الحرج‏.‏ هذا هو الشرع الاسلامي الشريف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

اعتنى القرآن الكريم بالمال، والمحافظة عليه، والحث على تحصيله بطرق مشروعة، في كثير من الآيات‏.‏ وفي هذه السورة جاءت العناية بالأموال من أولها عندما طلبت العناية باليتامى وحفظ أموالهم، ثم حذّرت من اعطاء السفهاء أموالهم‏.‏ وهنا جاء النص واضحاً على العناية بالأموال والمحافظة عليها، وذلك لأن الأموا عنصر لا بد منه في الحياة، وهناك كثير من الأمور تتوقف عليها الحياة وسعادتها، من علمٍ، وصحة، واتساع عمران، لا سبيل للحصول عليها الا بالمال‏.‏

ولا ريب ان الأموال هنا تشمل أموال الافراد وأموال الأمة لأنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ‏}‏ بمعنى انه يحرم على الافراد ان يأكل مال بعض بالباطل‏.‏ ومن ثم فإن أكل أموال الأمة أو ضعها في غير مصلحتها لهو أشد حرمة عند الله، وأكبر جرماً في نظر الإنسانية‏.‏ لذلك يجب ان نحافظ على أموال الأمة والدولة كما نحافظ على أموال الافراد‏.‏

يا أيها الذين آمنوا لا يأخذ بعضكم مال بعض بغير حق، وقال ‏(‏أموالكم‏)‏ فأضافها الى جميع الأمة تنبيهاً الى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح كأن مال كل فرد هو مال الأمة جميعا‏.‏ فاذا استباح أحدهم ان يأكل مال الآخر بالباطل‏:‏ كالربا والقمار، والرشوة والسرقة، والغش والتسول، وغير ذلك فقد اباح لغيره ان يأكل ماله‏.‏

لقد اباح لكم التجارة بينكم عن طريق التراضي، والعملَ الحِرفي في نواح عديدة من الكسب الحلال‏.‏ ثم لما كان المال شقيق الروح، فقد نُهينا عن اتلافه بالباطل كَنهْيِنا عن قتل النفس‏.‏ ‏{‏وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏‏.‏ وهذه اشارة بليغة جداً تُبيّن انه‏:‏ لمّا كان من شأن أكل أموال الناس بالباطل ان يغرس الحقد في القلوب، وكثيرا ما يؤدي ذلك الى القتل والشر فقد قرنهما الشارع وجاء بهذا التعبير العظيم‏.‏ ولا ريب في ان من سلب مال انساب إنما سلبه عنصراً هاماً من عناصر الحياة وصيّره في حكم المقتول‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ بنهيكم عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل أنفسكم فتهلكون‏.‏ اما من يُقدم على مفعل ما حرم الله ونها عنه، اعتداءً وتجاوزاً لحقه، فسوف يكون جزاؤه يوم القيامة ناراً حامية وعذابا أليما‏.‏ وعقابه هذا أمرٌ يسير على الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

الكبائر‏:‏ جمع كبيرة وهي الذنب العظيم كالشرك بالله وقتل النفس وغير ذلك‏.‏ السيئات‏:‏ الذنوب الصغيرة‏.‏ نكفّر‏:‏ نمحو، ونغفر، ونعفو‏.‏

إن تتركوا عمل الذنوب العظيمة وتبتعدوا عنها نمحُ عنكم ما دونها من السيئات وصغائرها الذنوب، فلا نؤاخذكم بها‏.‏

وقد ورد في الصحيحين عن ابي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا‏:‏ ما هي يار سول الله‏؟‏ قال‏:‏ الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله الا بالحق، والسِّحر، وأكل ما اليتيم، وأكل الربا، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنَات المؤمنات الغافلات»‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة بتعداد الكبائر، وهي في بعضها سبع، وبعضها تسع، والحقيقة انه لا حصر لها‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ كل ذنب رتّب عليه الشارع حداً أو صرّح فيه بوعيد فهو كبيرة‏.‏

وفي هذا الآية الكريمة فرَجٌ كبير على المسلمين، والعلماء يقولون‏:‏ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع‏:‏ «مدخلاً» بفتح الميم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

التمني‏:‏ تشهِّي حصول الأمر المرغوب فيه‏.‏ من فضله‏:‏ من احسانه ونعمه المتكاثرة‏.‏

في هذه الآية الكريمة ينهى الله تعالى عن التحاسد وتمنّي ما فضّل الله به بعض الناس من المال والجاه ونحوه، مما يجري فيه التنافس‏.‏ وذلك ليطهُر المجتمع الاسلامي ظاهراً وباطناً‏.‏

ان الله كلفّ كلاً من الرجال والنساء أعمالاً، وليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر، فعلى المسلم الحقيقي ان يعتمد على مواقبه وقواه في كلم مطالبة، مع رجاء فضل الله فيما لا يصل اليه كسبه‏.‏ واسألوا إحسانه وإنعامه فان خزائنه مملوءة لا تنفد، ولاتتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فُضل عليكم‏.‏

وقو روى الترمذي عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله «سلوا الله من فضله، فان الله عز وجل يحبّ ان يُسأل، وأفضلُ العبادة انتظارُ الفَرج»‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير والكسائي «وسلوا»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

موالي‏:‏ جمع مولى وهو بمعنى الوالي الذي يتولى غيره‏.‏ ومعناه‏:‏ لكل انسان جعلنا ورثة يرثونه‏.‏ الذين عقد ايمانكم‏:‏ الازواج، فان كلاً من الزوجين له حق الإرث بالعقد‏.‏

ولكل من الرجال والنساء جعلنا مستحقين لتركتهم يرثونهم، وهم الوالدان والأقربون من الأصول والفروع والحواشي والازواج، والذين عَقَدَ المتوفى لهم عقداً مقتضاه ان يرثوه اذا مات من غير قرابة، وينصروه اذا احتاج الى نصرتهم في مقابل ذلك‏.‏ وكان هؤلاء أربعة أنواع‏:‏

الأول‏:‏ عقد ولاء العتق، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق بعد عتقه بمنزلة العضو في أسرة معتقِه، اذا مات ولم يترك أحدا من عصبته‏.‏

الثاني‏:‏ عقد الموالاة، وهو ان يأتي غير العربي فيرتبط بعقد مع عربي فيصبح بمنزلة عضو في أُسرة مولاه‏.‏ وهذا يرثه اذامات بدون وارث‏.‏

الثالث‏:‏ العقد الذي عقده الرسول بين المهاجرين والانصار وكانوا بذلك العقد يتوارثون‏.‏

الرابع‏:‏ كأن يعاقد الرجلُ الرجلَ ويقول‏:‏ «ترثني وأرثك»‏.‏ ثم أبطل الاسلام معظم هذه العقود وجعل الميراث سببه القرابة‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ غير الكوفيّين‏:‏ ‏{‏عاقدت أيمانكم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏‏}‏

قواموا‏:‏ يقومون عليهن ويهتمون بأمرهن وجميع شئونهن‏.‏ قانتات‏:‏ عابدات بخضوع وسكون‏.‏ نشوزهن‏:‏ عصيانهن، وتورفّعهن على أزواجهن‏.‏ البغي‏:‏ الظلم‏.‏

في هذا الآية الكريمة تنظيم لشئون الأُسرة، وتحديد اختصاص أعضائها‏.‏ فللرجال حق الصيانة والرعاية للنساء والقيام بشئونهن، كي يمكن المرأة ان تقوم بوظيفتها الفطرية وهي الحمل وتربية الاطفال وهي آمنة مكفيّة ما يهمّها من أمور أرزاقها وحاجاتها‏.‏

ثم فصّل حال النساء في الحياة المنزلة وبين أنهن قسمان‏:‏ فالنساء الصالحات مطيعات للأوزاج حافظات لما يجري بينهن وبينهم في الشؤون الخاصة بالزوجية، وكذلك بحفظ بيوتهن وأموال أزواجهن، خضوعاً لأم الله في ذلك‏.‏ والذي يُرزق واحدة منهن يعيش في نعيم مقيم‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ الزوجات اللاتي تظهر منهن بوادر العصيان والترفع، وتخافون ألاّ يقمن بحقوق الزوجية، فانصحوهن بالقول الليّن المؤثر واعتزِلوهن في الفراش‏.‏ واذا لم ينفع ذلك كله عاقبوهن بضرب خفيف غير مبرّح، فان رجعن الى طاعكم فلا تبغوا عليهِنَّ ولا تتجاوزوةا ذلك الى غيره‏.‏

‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً‏}‏ ان سلطان الله علكيم فوق سلطانكم على نسائكم، فاذا بغيتم عليهن عاقبكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

الشقاق‏:‏ الخلاف‏.‏

كان الحديث في الآية السابقة عما اذا كان الخلاف من الزوجة فقط، لكنه هنا فيما اذا كان من احد الزوجين‏.‏ ومنطوق الآية الكريمة يحرص على التوفيق ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ‏}‏‏.‏ فان حدث خلاف بين الزوجين فقد يكون بسبب نشوز المرأة وقد يكون بسبب ظلم الرجل، فإن تأزَّم الموقف وجب على اقاربهما فمن عقلاء المسلمين‏.‏ وعلى الحكَمين ان يجتهدا في تقريب وجهة النظر بين الزوجين ويذكّراهما ان الحياة الزوجية مبنية على الرفق والمودة‏.‏ ومتى صدقت الارادة وصحّت العزيمة فان الله كفيل بالتوفيق‏.‏ ان الله شرع لكم هذه الاحكام وهو عليم بأحوال العباد واخلاقهم، خبير بما يقع بينهم، لا يخفى عليه شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

بذي القربى‏:‏ أقرباء الانسان من أخ وعم وخال ونحوهم‏.‏ الجار ذي القربى‏:‏ الذي قُرب جواره‏.‏ الجار الجنب‏:‏ الجار الذي لا قرابة له، أو البعيد‏.‏ الصاحب بالجنب‏:‏ الرفيق في السفر، او المنقطع اليك‏.‏

ابن السبيل‏:‏ المسافر او الضعيف‏.‏ ما ملكت أيمانكم‏:‏ الأرقاء العبيد‏.‏

بعد ان عالجت السورة أمر الأيتام والنساء والميراث وحفظ الأموال وتنظيم الأسرة، جاء التذكير هنا بحسن معاملة الخالق، ثم التذكير بحسن معاملة الناس‏.‏ فالسوةُ تأمر بأساس الفضائل التي تهذّب النفس وهي عبادة الله والاخلاص له، كما تأمر بالإحسان في معاملة الناس، وتخص بالذكر طوائف من الناس، الإحسانُ اليها احسان الى النفس والأسرة والى الانسانية كلها‏.‏ بذلك تضع للمسلمين اساس الضمان الجماعي، والتكافل الحقيقي بينهم‏.‏

اعبدوا الله وحده ولا تشركوا معه أحدا، وأحسِنوا الى الوالدين إحساناً لا تقصير فيه، لأنهما السبب الظاهر في وجودكم، وأحسنوا معاملة اقرب الناس اليكم بعد الواليد، والى اليتامى، والى المساكين الذين افتقروا بسبب عجزهم او بذهاب الكوارث بأموالهم، والى الجيران سواء منهم القريب او البعيد‏.‏ وقد وردت أحاديث كثيرة تحض على الاحسان الى الجار مهما كان دينه او جنسه، فقد عاد النبي بن جاره اليهودي، وذبح ابن عمر شاةً فجعل يقول لغلامه‏:‏ أهديت لجارنا اليهودي‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وإكرام الجار من شيم العرب قبل الاسلام، وزاده الإسلام توكيداً بما جاء ف يالكتاب والسنة‏.‏ من إكرامه ارسال الهدايا اليه، ودعوته الى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة ونحو ذلك‏.‏ وهناك حديث الصحيحين المشهور‏:‏ «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيروّثه»‏.‏

والصاحب بالجنب هو الرفيق في السَّفَر، وابن السبيل هو المسافر المحتاج، وما مالكتم من الأرقاء كل هؤلاء تجب معاملتهم بالحسنى‏.‏‏.‏ فاللهُ لا يحب من كان متكبراً متعالياً على الناس لا تأخذه بهم رحمة‏.‏ وفي الحديث الذي رواه ابو داود والترمذي عن ابن مسعود قال رسول الله‏:‏ «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْرٍ» فقال رجل‏:‏ ان الرجل يحب ان يكون ثبوه حسنا وفعله حسنا، فقال الرسول الكريم‏:‏ «ان الله جميل يحب الجمال»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

أعتدنا‏:‏ هيّأنا‏:‏ رئاء الناس‏:‏ للمراءاة والفخر‏.‏ القرين‏:‏ الصاحب‏.‏

هذه الآيات الكريمة تبين هنا ان التقصير في الحق الاجتماعي شأنُ المختالين المتكبرين‏.‏ وهم الذين يظهر أثر كِبرهم في عملهم، وفي أقوالهم‏.‏ ومثلُ هؤلاء لا يعترفون بحق للغير على أنفسهم‏.‏ وقد جعلهم الله صنفين من طبيعة كل منهما ألا يعترف لله بشكر على نعمةٍ، ولا للخلق بحق عليه، فهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويخفون نعمة الله عليهم فلا ينفعون أنفسهم ولا الناس‏.‏ هذا ما كان يفعله جماعة من اليهود، يأتون رجالاً من الانصار فيقولون لهم‏:‏ لا تنفقوا أموالكم، فنحن نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون‏.‏

‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ وهيأنا لهؤلاء عذابا يهينُهم ويذهلهم‏.‏

والنصف الثاني‏:‏ ‏{‏والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس‏}‏ فهؤلاء يبذلون المال لا شكراً لله على نعمه، ولا اعترافاً لعباده بالحق بل الرياء أمام الناس‏.‏ وهم بذلك يقصدون ان يراهم الناس فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم ويمدحوهم، وهم غير مؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، يوم الجزاء الأكبر، لأنهم تبعوا الشيطان فأضلّهم‏.‏

وحسْب هذين الصنفين من البشر تسجيل القرآن الكريم عليهم ان قرينهم الشيطان منبع الشر والمغزي بالفساد، ‏{‏وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً‏}‏ وبئس الصاحب‏.‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ وما الذي كان يضرهم لو آمنوا ايماناً صحيحاً لا رياء فيه ولا كذب، بالله وباليوم الآخر، واعطوا من المال والرزق الّذي آتاهم الله استجابة لهذا الايمان وما يقتضيه من اخلاص النبية ورجاء الثواب، والله عالم كل العلم ببواطن الأمور وظواهرها لا ينسى عمل العاملين، ولا يظلمهم من أجرهم شيئاً‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «ويأمرون الناس بالبخل» بفتح الباء والخاء‏.‏ وهي لغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

الذرة‏:‏ أصغر ما يُدرك من الاجسام‏.‏ من لدنه‏:‏ من عنده‏.‏

ان الله تعالى لا ينقُص أحداً من أجر عمله والجزاءِ عليه شيئاً ما، حتى وإن صغُر كدرّة الهباء‏.‏ يضاعف للمحسن ثَواب حسناته، ويعطي من فضله عطاء كبيرا، اضعافا مضاعفة، بدون حساب‏.‏ ان الظلم لا يقع من الله تعالى، لأنه من النقص الذي يتنزه عنه، وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير ونافع «حسنة» بالرفع‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب «يضعفها» بالتشديد‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 42‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

يود‏:‏ يتمنى‏:‏ لو تسوَّى بهم الارض‏:‏ ان يدفنوا وتسوى عليهم الأرض‏.‏

ثم يختم سبحانه وتعالى الأوامر والنواهي المتقدمة بمشهد من مشاهد القيامة، ويحسم موقفهم فيه، ويرسم حركة النفوس والمشاعر كأنها شاخصة مترحكة فيقول‏:‏

فكيف يكون حال هؤلاء البخلاء المتكبّرين والمعرِضين عما أمر الله به، اذا جئنا يوم القيامة بكل نبيّ شهيداً على قومه، وجئنا بك يا محمد شهيدا على قومك أيضاً‏؟‏‏.‏

‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

في ذلك اليوم يتمنّى الّذين كفرو وعصَوا الرسول فلم يتّبعوا ما جاء به، لو يُدفنون في الأرض كما تدفن الأموات، وتسوّى بهم الأرض‏.‏ وكما جاء في سورة النبأ ‏{‏وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً‏}‏‏.‏

‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏

فإنهم يتمنّون ان يكون ترابا، ولا يكونوا قد كتموا الله وكذبوا أمامه على أنفسهم بإنكارهم شِركهم وضلالهم، كما وضَح ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام‏.‏‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي «تَسْتَوى» بفتح التاء والسين المخففة‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر «تسوى» بفتح التاء وتشديد السين والواو المفتوحتين‏.‏ والباقون «تسوى» كما هو هنا بضم التاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

الغائط‏:‏ الموضع المنخفِض من الأرض‏.‏ كان العرب إذا أراد أحدهم قضاء الحاجة عمَد في ذلك الى مكان منخفض‏.‏ فصاروا يكنّون عن قضاء الحاجة، بالخروج الى الغائط‏.‏ لامستم النساء‏:‏ جامعتم‏.‏ تَيمّموا‏:‏ اقصدوا‏.‏ الصعيد‏:‏ وجه الأرض‏.‏

هذه هذ الآية الثانية التي تنزل في الخمر فقد كانت الخمر متفشّية في المجتمع الجاهلي، فنزل تحريمها تدريجيا‏.‏ وهناك روايات عديدة في سبب نزول هذه الآية، فمنها ما رواه أبو داود والترميذي عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ «صنع لنا عبدُ الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذتْ منّا‏.‏ وحضرت الصلاةُ فقدَّموني فقرأتُ ‏{‏قل يا أيها الكافرون لا أعدب ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون‏}‏ فنزلت الآية ومعناها‏:‏

يا أيها الذين آمنوا لا تصلّوا وأنتم في حال السُّكر الذي لا يَدري معه المصلّي ما يقول‏.‏ فالصلاة وقوفٌ بين يدي الله، فيجب ان يكون المصلّي صاحياً ليتدبر القرآن والذِكر فيما يقول‏.‏ ثم قال‏:‏

‏{‏وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ‏}‏، أي لا تصلُّوا وأنتم جُنب، ولا تدخلوا المساجدَ وأنتم جُنُبٌ إلا عباري الطريق، حتى تطَّهَّروا‏.‏ ولما كانت الصلاة فريضةً موقوتة يجب تأديتها في وقتها، وكان الاغتسال من الجنابة يتيسَّر في بعض الحالات ويتعذر في بعضها الآخر فقد رخَّص الله ترك استعمال الماء والاستعاضةَ عن الماء بالتيمم، فقال ما معناه‏:‏

وان كنتم مرضى لا تستطيعون استعمال الماء، خشيةَ زيادة المرض او تأخير البُرء، او مسافرين يشقّ عليكم وجودُ الماء فاقصدوا الصعيدَ الطيب، وهو كلُّ ما على الأرض، فلو لمس حجراً كفاه عند بعض الأئمة‏.‏ وكذلك اذا قضى أحدُكم حاجتَه، أو باشرتم النساء ولم تجدوا ماءً، فعليكم بالتراب‏:‏ اضربوا به أيديَكم وامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ثم صلّوا ان الله يحب التيسير على عباده‏.‏

ومذهبُ الإمام محمد عبده في تفسير‏:‏» وان كنتم مرضى او على سفر «أن السفر عذرٌ يبيح التيمُّم، وُجد الماء أو غاب، وذلك لان الآية صريحة بذلك‏.‏ ومثله قال حسن صدّيق خان في تفسير هذه الآية وهذا نص كلامه‏:‏» المعنى ان حُكم المريض والمسافر اذا أراد الصلاة كحكْم المحدِث حدثاً أصغر أو ملامسِ النساء ولم يجد الماء، فعلى كل هؤلاء التيمم «‏.‏

قراءات‏:‏ قرأ حمزة والكسائي» لمستم النساء «‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 45‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

ألم تعجب يا محمد من هؤلاء الذين أُعطوا حظاً من معرفة الكتب السابقة كيف حُرموا الهداية وتبعوا الضلالة، يختارونها لأنفسهم، ويريدون لكم ان تضِلّوا طريق الحق القويم أيها المؤمنون‏.‏ إنهم دائبون على الكيد لكم، ليردوكم عن دينكم ان استطاعوا‏.‏ والله أعلم منكم بمن هم أعداؤكم الحقيقيون، وأخبرُ بما تنطوي نفوسهم، لكنه يحميكم ويكفيكم اعداءكم‏.‏ فلا تطلبوا الولاية من غيره ولا النصر من سواه، بل اتّبعوا دينكم ولا تستعينوا الا بربكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

الذين هادوا‏:‏ اليهود‏.‏ اسمع غير مسمع‏:‏ اسمع غير مجاب الى ما تدعوا اليه‏.‏ راعنا‏:‏ انظُرنا، وهي توافق كلمة سبٍّ في لغتهم‏.‏ أقوم‏:‏ أعدل‏.‏

من اليهود فريق يحرّفون الكلام عن معناه بالتأويل او الحذف أو التبديل، وهو أمر أجمعَ عليه أهل النظر من الغربيين‏.‏ يقول مارتن لوثر في كتابه‏:‏ اليهود وأكاذيبهم «هؤلاء الكذّابون الحقيقيون مصاصو الدماء، الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدّس من الدفة الى الدفة، بل ما فتئوا يفسّرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم»‏.‏

فتحريف التوراة حاصل باعتراف النصارى أنفسهم، ولذلك عندما يقول القرآن شيئاً فإنه يكون حقاً لا شُبهة فيه‏.‏

ويقول اليهود في أنفسهم للنبيّ الكريم‏:‏ سمعنا بالقول وعصَينا الأمر‏.‏ اسمعْ كلامنا لا سمعتَ دعاء يدعون بذلك على النبي‏.‏ ويقولون ‏(‏اسمع غير مسمَع‏)‏ فيسوقون اللفظ ومرادُهم الدعاءُ عليه، ويوهمون أن مرادهم الدعاء له ويقولون، راعِنا، يلوون بهنا ألسنتَهم يوهمون أنهم يريدون «انظُرنا» فيُظهرون أنهم يطلبون رعايته ويُبْطنون وصفه بالرعونة لمجرد السبّ والشتم‏.‏

ولو أنهم استقاموا وقالوا ‏(‏سمعنا وأطعنا‏)‏ بدل قولهم ‏(‏سمعنا وعصينا‏)‏، وقالوا ‏(‏اسمَع‏)‏ دون ان يقولوا ‏(‏غير مسمَع‏)‏، وقالوا ‏(‏انظُرنا‏)‏ بدل ‏(‏راعِنا‏)‏ لكان ذلك خيراً لهم وأصوبَ، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة، ولكن الله طردهم من رحمته بأعراضهم عنه، فللا تجدُ منهم من يستجيبون لداعي الإيمان إلا عدداً قليلا‏.‏

وصدق الله‏.‏ فلم يدخل في الاسلام على مر القرون الا قليل من اليهود، ممن قَسَم الله لم الخير، وأراد الهدى‏.‏ أما أغلبهم فقد ظلّوا حرباً على الاسلام والمسلمين، منذ كانوا في المدينة الى يوما الحاضر‏.‏ هذا مع أنهم لم يجدوا أمةً تحفظهم وتصون حقوقهم كالمسلمين‏.‏ ولم يعيشوا في أمانٍ إلا في ظِل الاسلام ولا يزالون كذلك حتى الآن في كثير من البلاد الاسلامية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

الكتاب‏:‏ التوراة‏.‏ الطمس‏:‏ إزالة الأثر بمحوهِ او إخفائه‏.‏ ومنه الطمس على الأموال في قوله تعالى ‏{‏رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ‏}‏ أي أهلكها وأزِلها، والطمس على الأعينِ محوُ نورها‏.‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 66‏]‏‏.‏

يا أيها الذين أوتوا الكتاب، والمقصودُ اليهودُ الذين كانوا حوالي المدينة، والخِطابُ عام لجميع أهل الكتاب، آمِنوا بما أنزلنا من القرآن على محمد‏.‏ فقد جاء مصدّقاً ومحققاً لما معكم، فآمِنوا به قبل أن يحلّ بكم العقاب الذي تُمْحَى به معالم وجوهكم، ونسلُبها وجاهتها، كما نعمّي عليكم السبل كما نبصّر المؤمنين بشؤونكم ونغريهم بكم‏.‏ بذلك يكون سعيكم الى غير الخير، او نطردكم من رحمتنا كما لعنّا الذي خالفوا أمرنا بمزاولتهم الصيدَ يوم السبت، وكان قضاء الله نافذاً لا مردَ له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

افترى الكذب‏:‏ اخلتقه، وأصله من الفَرْي وهو القطع‏.‏

في هذه الآية الكريمة تهديد كبير، وأمل عظيم ورجاء مفتوح‏.‏‏.‏ تهديدٌ لمن يقترف جريمة الشِرك، فالله لا يغفر ذلك أبداً، لأن الشرك انقطاعُ ما بين الله العباد، فلا يبقى لهم معه أمل في المغفرة‏.‏‏.‏ وفيها أمل عظيم يفتح أبواب رحمته تعالى كلّها لما دونَ الشِرك من الذنوب، فكل ذلك يغفره الله، ما دام العبد يرجوا مغفرفته، ويؤمن انه قادر على ان يغفر له‏.‏ وهذا منتهى الأمر في تصوير الرحمة لا التي لا تنفَد ولا تحدّ‏.‏

‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً‏}‏

ومن يجعل لغير الله شِركة مع الله فقد اخترع ذنباً الضرر، تُستصغَر في جنب عظَمته جميع الذنوب والآثام، ومن ثم لا يستحق صاحبه الغفران‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

تزكية النفس‏:‏ مدحها‏.‏ الفتيل‏:‏ ما يكون على نواة التمر مثل الخيط‏.‏

ألا تعجب يا محمد من هؤلاء الذين يُثنون على أنفسهم ويقولون‏:‏ نحن أبناء الله وأحبّاؤه ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً‏!‏ هذا ويضيف اليهود‏:‏ إن ذنوبنا التي نعملها بالنهار تكفَّر عنَّا بالليل، وما أَشبه ذلك من الافتراء على الله‏.‏ والحق ان الله وحده هو الذي يعلم الخبيث من الطيّب، فيزكْي من يشاء من عباده، لا اليهود ولا النصارى‏.‏

ثم يؤكد سبحانه التعجيب من حالهم وأقوالهم فيقول ‏{‏انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ‏}‏ انظر الى زعمهم أن الله تعالى يعاملهم معالمةً خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده‏.‏‏.‏ ان الكذب على الله إنما يكشف عن خُبث طويتهم لا أكثر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

الجبت‏:‏ السِحر، والساحر، والشر، وكل ما عُبد من دون الله‏.‏ الطاغوت‏:‏ كل باطل من معبود وغيره، والشيطان، والكاهن‏.‏ النقير‏:‏ النكتة التي في ظهر النواة‏.‏

روي في سبب نزول هذه الآيات عدة روايات تدور كلها على كعب بن الأشرف وحيُيّ بن أخطب، وهما من زعماء وأحبار اليهود المناوئين للنبيّ والاسلام‏.‏ وخلاصة روايات الطبري ان كعباً وحييَّ بن اخطب ذهبا في جماعة من الأحبار الى مكة ليحالفوا قريشاً على حرب النبي، فأجابتهم قريش‏:‏ انتم أهل الكتاب وأنتم أقربُ الى محمد‏.‏ ونحن لا نأمن مكركم حتى تسجدوا لآلهتنا‏.‏ ففعلوا، ثم سألتهم‏:‏ أدينُ محمد خير أم ديننا‏؟‏ فقال اليهود‏:‏ بل دينكم، وأنتم أهدى منه وممن تبعه‏.‏ فأنزل الله تعالى هذه الآيات‏.‏ ومعناها‏:‏

ألم تر يا محمد الى اليهود الذين أوتوا حظاً من عِلم الكتاب يعظّمون غير الله بالعبادة فيسجدون للجبت والطاغوت، ثم يقولون للكفار إنهم أرشدُ طريقةً في الدين منت الذين اتبعوا محمداً‏.‏ كل ذلك يُرضوا المشركين ويحالفوهم ليحاربوا الاسلام‏.‏ ‏{‏أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ وطردهم من رحمته، ومن يخذله الله فلن ينصره أحدٌ ولا يحيمه أحد من غضَبه‏.‏

ثم ينتقل سبحانه من توبيخهم على فِعلتهم المنكرة تلك الى توبيخهم على حسَدهم وبُخلهم وأثَرتهم، فيقول‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ فيما عجباً، إنهم لا يطيقون ان ينعم الله على عبد من عباده بشيء من عنده اذا لم يكن يهودياً‏!‏ فهل هم شركاؤه سبحانه، حتى يكون لهم نصيب في ملكه‏!‏ لو كان لهم ذلك لضنّوا وبخلوا ان يعطوا الناس نقيرا، وهو أتفهُ الأشياء وأقلها‏.‏