فصل: سورة الفاتحة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)




.سورة الفاتحة:

.تفسير الآيات (1- 7):

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
{الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}: الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً، ومعناهما الثناء الجميل، وهم هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء.
وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول: الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث: «من يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله».
أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث: «احثُوا في وجوه المدّاحين التراب».
والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة: السيد المطاع، والرجل المصْلح للشيء، والمالك للشيء.
فربُّنا جل ثناؤه: السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر. {العالمين}: جميع الكائنات في هذا الوجود.
فمعنى {الحمد لله رب العالمين} الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما مبينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.
{الرحمن الرحيم}: الرحن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم أنه لايوصف بها الا الله: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 12]، {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5].
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110].
أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة: {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [البقر: 143] {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43]. ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتها وتكرارهما. فنأيأ عن أن يُفهم من لفظه الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر {الرحمن} أي المفيض للنعم بسعة وتجدُّ لا منتهى لهما، و{الرحيم} الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعملوا أن هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.
هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.
وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمض فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان. ان ذلك أوفى إلى أن يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته.
{مالك يَوْمِ الدين}: قرئ: {مَلك يَوم الدِّين} و{مالكِ يوم الدين} قراءتان يدل مجموعهما على أن المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده.
{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الإنفطار: 19] لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق.
وللفظ {الدين} معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.
وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكا ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.
أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة.
أحدهما: أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عمل يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه.
وثانيهما: قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.
وليس في هذا ما ينافي بين الناس.
{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} [المائدة: 2].
فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشري لا يخرج عنها.
قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن. وسرُّها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل.
{اهدنا الصراط المستقيم}: هداه الله هُدًى وهِدَايةً إلى الإيمان أرشدهخ، وهداه إلى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به. والهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.
والصراط المستقيم هنا هو جملة ما يوصِل الناس إلى سعادة الدناي والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم، وهو سبيل الإسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل إلى الرسول الكريم تبليغه وبيانه. فالشريعة الاسلامية في جميع أمورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الإنسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط. هذا هو الصراط المستقيم.
وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها:
أولاً: الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي إلى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال عز وجل: {الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
ثانياً: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد: {وَهَدَيْنَاهُ النجدين} [البلد: 10]، وقوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17].
ثالثاً: الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الآنبياء: 73]، وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
رابعاً: الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90].
وقال ابن تيمية: كل عبد مضطرٌّ دائا إلى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين. وهذا الاهتداء لا يحصل غلا بهدى الله {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} [الكهف: 17].
وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين}.
اختلف المفسرون في بيان: الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك أن الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق:
الفرقة الأولى: أهل الطاعة {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 35]، وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم.
الفرقة الثانية: الكافرون: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 67]، وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.
الفرقة الثالثة: هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفكرهم الباطني {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] فهم {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]. وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.
وقد فصّل الله تعالى هذه افرق الثلاثة في أول سورة البقرة كما سيأتي إن شاء الله.

.القراءات:

قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس {السراط} بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون {الصراط} بالصاد، وهي لغة قريش.
هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود: تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العلمية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات.
فالعبادة لله، الاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجادين والضالين المتحدّين.
هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده معارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة.
بهذا كانت (فاتحة الكتاب) و(أمَّ القرآن) و(السبع المثاني) والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة.

.سورة البقرة:

.تفسير الآيات (1- 2):

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}
بدئت سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة، وهي تُقرأ حروفاً مفرّقة، لا لفظة واحدة، وفي القرآن عدة سور بدئت بحروف على هذ النحو، منها البقرة آل عمران مدنيّتان والباقي سور مكيّة.
وقد جاءت بدايات هذه السوَر على أنواع: منها ما هو حرف واحد مثل {ص. والقرآنِ ذي الذِكر}. {ق. والقرآن المجيد} {ن. والقلمِ وما يسطُرون}؛ ومنها ماهو حرفان، مثل {طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى}. {يس والقرآنِ الحكيم}. {حم تنزويلُ الكتاب من اللهِ العزيزِ الحكيم}؛ ومنها ما هو ثلاثة أحرف أو اكثر مثل {الم} {المص} {كهيعص} و{حم عسق} إلخ.
وهذه الحروف أربعة عشر حرفاً، جمعها بعضهم في عبارة (نصٌّ حكيم قاطع له سر). والعلماء في تفسير معنى هذه الحروف فرقان: فريق يرى أنها مما استأثر الله بعلمه. ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم المراد منها، فالله أعلم بمراده.
وفريق يقول: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما ليس مفهوماً للخلْق. وهؤلاء اختلفوا في تفسير هذه الحروف اختلافاً كثيرا. فبعضهم يقول إنها أسماء للسور التي بدئت بها؛ وبعضهم يعتبرها رموزاً لبعض أسماء الله تعالى أو صفاته، فالألف مثلاً اشارة إلى انه تعالى (أحد، أول، آخر، أبدي، أزلي)، واللام مثلا اشارة إلى انه (لطيف)، والميم إلى انه (ملك، مجيد، منان) إلخ..
اما الرأي الأشهر الذي اختاره المحققون فهو: انها حروف أنزلت للتنبيه على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وفي متناول المخاطَبين به من العرب، فهو يتحداهم أن يصوغوا من تلك الحروف مثله، وهم أمراء الكلام، واللغةُ لغتهم هم.
من هذه الحروف يصوغ البشر كلاما وشعرا، ومنها يجعل الله قرآنا معجزاً، فما أعظم الفرق بين صنع البشر وصنع الله!
{ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
ذلك: اسم اشارة للبعيد كنايةً عن الإجلال والرفعة، ولذا لم يقل سبحانه (هذا هو الكتاب). المعنى: هذا هو الكتاب الكامل، القرآن، الذي انزلناه على عبدنا، لا يرتاب في ذلك عاقل منصف، ولا في صدق ما اشتمل علهي من حقائق وأحكام. وقد جعلنا فيه الهداية الكاملة للَّذين يخافون الله ويعملون بطاعته، قد سمت نفوسهم فاهتدت إلى نور الحق والسعي في مرضاة الله. و{فيه} هنا لا تفيد الحصر، بل الشمول، لكنه ليس كتاب علم، بالمعنى الحديث، وانما هو كتاب كامل في الدين. أما {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} فانها تعني: من شيء متعلق بالدين، لا بالعلوم الطبيعية التي يستجدّ منها كل عصر نصيب.
المتقون: جمع متقٍ، وهو المؤمن المطيع لأوامر الله. وأصلُ الاتقاء هو اتخاذ الوقاية التي تحجز عن الشر، فكأن المتقي يجعل امتثال أوامر الله حاجزاً واقيا بينه وبين العقاب الإلَهي، وهؤلاء المتقون هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب...} الآيات 35.

.تفسير الآيات (3- 5):

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
الذين يصدّقون بما غاب عنهم علمُه، كذات الله تعالى وملائكته، والدار الآرة وما فيها من بعث ونشور، وحساب، وجنة ونار.
ويقيمون الصلاة: يؤدون الصلاة المفروضة علهيم خاشعين لله، وقلوبهم حاضرة لمراقبة خالقهم. واقامة الصلاة توفية حقوقها وإدامتها. وقد أمر الله تعالى باقامة الصلاة، وطلب أن تكون تامة وافية الشروط، فقال: {أَقِمِ الصلاة}، و{والمقيمين الصلاة}.. هذا يعني أنهم يوفونها حقها. وعندما ذم المنافقين قال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4] وفي ذلك تنبيه على أن المصلّين كثير، والمقيمين قليل. وقد نوه القرآن كثيراً بالصلاة وحثّ على اقامتها في كثير من الآيات، لأثرها العظيم. في تهذيب النفوس والسموّ بها إلى الملكوت الأعلى. وسيأتي تفصيل ذلك في كثير من الآيات...
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} الرزق كل ما يُنتفع به من المال والثمار والحيوان وغيره. والإنفاق العطاء.. يعطون من أموالهم التي رزقهم إياها الله إلى المحتاجين من الفقراء والمساكين وذوي القربى واليتامى وأمثالهم. وكذلك ينفقون في سبيل الله للجهاد وفي الدفاع عن الوطن، ولبناء المساجد والمدارس والمستشفيات. ومساعدة كل مشروع فيه نفع للناس. فكما أن الله يرزقهم يجب عليهم أن ينفقوا، لأن الدنيا أخذ وعطاء. والواقع اليوم أن كثيراً من الناس قد بات همهم جمعَ المال وتكديسه، فأولئك ليسوا من المتقين. وآية الانفاق هنا أن يكون في وجه الخير ونفع الناس، اما على الترف والمباهاة وفي طريق السفه فإن الانفاق تبذير ممجوج بمقته الله، وعلى المسلمين أن يوقفوه ولو كان ذلك عن طريف العنف. ان أموال الله التي في يد المسلمين هي لكافّتهم بالخير، لا لقلتهم بالضلالة.
والمتقون هم الذين يؤمنون بالقرآن الذي أوحي اليك، وبما بينتَ لهم من الدين وما فيه من أحكام وحدود. والإنزال هنا هو الوحي من العليّ القدير. وكذلك يؤمنون بما أُنزل من قبلك على الرسل الكرام من التوراة والانجيل والزبور والصحف. وبها يمتاز الإسلام عن غيره ويفضُله. لأن المسلم الحق يؤمن بجميع الديانات السماوية وجميع الأوبياء والرسل.
{وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} اليقين حقيقةُ العلم. أيقن الأمرَ وبالأمر، تحققه. والذين يصدّقون حق اليقين بأن هناك حياة أخرى بعد الموت، فهم يؤمنون بها ايماناً قاطعاً لا تردد فيه. صفات المؤمن الحق. الايمان بالغيب. مع التقوى. وإقامْ الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافاً وشعوراً بالإخاء. وسعة الضمير لموكب الايمان العريق المتلاحق بالوحي، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن بنيّ صاحب راسلة، ثم اليقين باليوم الآخر بلا تأرجح في هذا اليقين.
الهدى: التوفيق والرشاد. والفلاح: الفوز والنجاة. إن الذين تقدمتم صفاتهم في التقوى والايمان بالغيب والعطاء وتصديق جميع الرسل والاديان السماوية واليقين بالآخرة هم المهتدون الظافرون برضى الله وهداه وأولئك هم أهل الفلاح والفوز والنجاة.
هذه صورة من ثلاثة صور استعرضها القرآن لثلاث فئات: الاولى التي تقدَّم وصفها هي جماعة المؤمنين، وقد وصفهم الله تعالى في آيتين. والثانية: الكافرون الجاحدون، وقد وصفهم تعالى أيضا في آيتين. والفئة الثالثة: المنافقون، وقد ذكرهم الله تعالى في ثلاث عشرة آية. بهذا يتبين لنا ان الناس أمام القرآن ثلاث طوائف تقدمت الطائفة المؤمنة.