فصل: تفسير الآيات (30- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (30- 35):

{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)}
حرمات الله: التكاليف الدينية وكل ما نهى الله عنه. فاجتنبوا الرجسَ من الأوثان: ابتعِدوا عن عبادتها. الزور: الكذب. حنفاء: واحدهم حنيف، وهو من استقام على دين الحق، ومال عن كل زيغ وضلال. كأنهما خرّ من السماء: كأنما سقط من السماء. فتخطَفه الطير: يعني بعد أن يسقط ويموت تأكله الطير. مكان سحيق: مكان بعيد. شعائر الله: جمع شعيرة وهي كل اعمال الحج والهدايا التي يسوقها الحاج. منسكا: مكانا للعبادة. مُخبتين: خاشعين. وَجِلتْ قلوبهم: خافت.
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور}.
ذلك الذي أمرءنا به من قضاء المناسك هو الواجبُ عليكم في حَجِّكم، ومن يلتزم أوامر الله ونواهيه في حجه تعظيماً لحدود الله يكن ذلك خيراً له عند ربه في دنياه وآخرته. لقد أحلّ الله لكم لُحوم الإبل والبقرة والغنم، إلا في حالاتٍ مما بينه القرآن، كالميتة وغيرها، فاجتنبواعبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان.. إن ذلك رجس. ابتعِدوا عن قول الزور على الله وعلى الناس.
{حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}.
تمسّكوا بهذه الأمور مخلصين العبادةَ لله وحده، دون إشراك أحدٍ به.... إن من يشركْ بالله يعرّض نفسه للهلاك المريع، وكأنه سقط من السماء فتمزَّقَ قِطعاً تتخطّفه الطور فلا تبقي له أثرا، أو كأن الريح العاتية عصفتْ به فشتّتَت أجزاءه، وهوت بكل جزء منها في مكانٍ بعيد.
{ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب}.
امتثِلوا ذلك واحفظوه، لأن من يعظّم دينَ الله وفرائضَ الحج وأعماله، ويسوق البُدْنَ والهدايا إلى الحَرَم ويختارها عظيمةَ الأجسام صحيحة سمينة- فقد اتقى الله، لأن تعظيمها أثرٌ من آثار تقوى القلوب.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق}
لكم في هذه الهدايا منافع دنيوية، فتركبونها حين الحاجة وتحمل أثقالكم، وتشربون من ألبانها، ثم لكم منافعهُها الدينية كذلك حين تذبحونها عند البيتِ الحرام تقرباً إلى الله.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ المخبتين}.
ليست هذه المناسك خاصةً بكم، فقد جعلنا لأهل كل دينٍ من الأديان من قبلكم قرابينَ يتقربون بها إلى الله، يوذكرون اسم الله عليها ويعظّمونه عند ذبْحِها شكراً له على ما أنعم عليهم، ويسَّره لهم منها. إن عبودَكم إله واحدٌ فاسلِموا له وحده، ولا تشركوا معه أحداً. ويا أيها الرسول بشّر بالجنة والثوابِ الجزيل المخلصين، الخاضعين لله من عباده. وقد بيّن الله علاماتِ أولئك المختبين فقال: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ والمقيمي الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
وهؤلاء المختبين لهم صفات:
أولاها: أنهم إذا ذُكر الله عرتهم رهبةٌ من خشيته، وخوفٌ من عقابه.
ثانيتها: الذين يصبرون عند الشدائد على ما يصيبُهم من المكارِه والمتاعب.
ثالثتها: ويقيمون الصلاةَ على أحسنِ وجهٍ في أوقاتها بخضوع ونشاط.
رابعتها: وينفقون بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق في وجوه البِرِّ وفي سبيل الله.

.تفسير الآيات (36- 37):

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)}
البدن: بضم الباء جمع بدنة، وهي الناقة أو البقرة التي تنحر بمكة أيام الحج. وتطلق اللفظة على الذكر والانثى. صوافّ: قائمات قد صُفت أيديهن وأرجلهن، مفردها: صافَّة. وجبت جنوبها: سقطت على الأرض عند نحرها. القانع: الراضي بما يعطى له نم غير سؤال. المعرّ: الذي يتعرض للسؤال ويطلب الصدقات من الناس.
بعد أن حثّ الله على التقرب بالأنعام كلّها، وبين ان ذلك من تقوى القلوب- خصَّ من بينها الإبلَ والبقر لأنها أعظمُها خَلقا وأكثرها نفعا، وأغلاها قيمة.
{والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وقد جعلنا تقديم الإبل والبقر هدايا في الحجّ من شعائِرِ الدِّين ومظاهره، ولكم فيها خيرٌ كثير، ركوبها وشُرب ألبانها ولكم في الآخرة أجرٌ وثواب بإطعام الفقراء منها. فإذا صُفَّت للذبح فاذكُروا اسمَ الله عليها. فإذا تم ذبحها وسقطت على الأرض، فكُلوا بعضاً منها، وتصدّقوا على لافقير القانع المتعفف الذي لا يسأل، والفقيرِ الذي يسأل. وكذلك سخّرناها لكم وذلّلناها لإرادتكم لتشكرونا على نِعمنا التي لا تحصى عليكم.
ثم بين الله تعالى أن عملكم هذا ينفع الفقراء والمحتاجين، والله غنيٌّ عن ذلك كله فقال: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المحسنين}.
اعملوا أن الله تعالى غنيّ عن العالمين، ولا يصله شيءٌ من هذه الأضاحي والهدايا والصدقات، وهو لا يريد منكم مجرد التظاهرِ بالذبح وإراقة الدماء، لكنّه ينال رضاه تقواكم وإخلاصُ نواياكم. وهذا سخّرها لكم لتشكروه على هدايتكم لمعالم دينه، ومناسك حجّه. وبشِّر أيها النبي المحسِنين الذين أحسنوا أعمالهم بثواب عظيم وجنةٍ عرضُها السموات والارض.

.قراءات:

قرأ يعقوب: {لن تنال الله لحومها ولكن تناله}، بالتاء، والباقون بالياء.

.تفسير الآيات (38- 41):

{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)}
اذن: رخِّص. صوامع: واحدها صومعة، وهي معابد الرهبان خارج المدن. وبيَع: واحدتها: بيعة، وهي الكنيسة. وصلوات: معابد اليهود. ومساجد: معابد المسلمين.
{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {ان الله يدفع} بدون الف.
إن الله يدفع عن عباده المؤمنين شرَّ المعتدين، ويحميهم وينصرُهم بإيمانهم. وفي الآية تمهيد لما في الآية التي بعدها من الاذن في القتال، فهو يدافع عن الذين آمنوا لأنه يدافع عن دِينه، ولا يحب الخائنين لأماناتهم، المبالغين في كفرهم بربّهم.
وكان المؤمنون وهم في مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ان يطلب من الله الاذن بالقتال، وكان المشركون يؤذونهم ويظلمونهم، فيأتون إلى النبيّ الكريم بين مضروبٍ ومشجوج في رأسه، ويتظلمون إليه. فيقول لهم: «صبراً صبرا، فإني لم أوذَن بالقتال»، حتى هاجر وانزل الله تعالى هذه الآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
وهذه، كما يقول العلماء، أولُ آيةٍ نزلت بالاذن بالقتال بعد ما نُهي عنه في نيّف وسبعين آية كما رواه الحاكم في: المستدرَك، عن ابن عباس.
لقد أُبيح للمؤمنين ان يقاتِلوا المشركين دفاعاً عن أنفسِهم وأموالهم ووطنهم، وان يردّوا اعتداءهم عليهم، بسب ما نالهم من ظلم صبروا عليه طويلا.
ثم وعدهم الله بالنصر ودفع أذى المشركين عنهم: {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
سبق ما ذكره القرآن الكريم في هذه الآية من الاذن بالقتال، جميع القوانين الوضعية، وهو ان الدفاع عن النفس والمال والوطن والعقيدة- امر مشروع مهما كانت نتائجه، وان المُدافع عن نفسه وماله ووطنه وعقيدته، لا يؤاخذ امام الله وامام العدالة ولو قتل نفساً وأزهق أرواحا. وقد قررت الآية ان المسلمين مأذون لهم في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتُدي عليهم.
والآن وقد اعتدى علينا العدو الاسرائيلي وحلفاؤه الغربيون، وسلب أرضنا، فان الله تعالى أذِن لنا بالدفاع عن مالنا وانفسنا ووطننا، فيجيب علينا ان نعدّ العدة ونتسلح بالايمان الصادق ونعمل على استرداد مقدساتنا، ولا يستطيع أحدٌ أن يلومنا إذا فعلنا ذلك، بل إننا مقصّرون في حق ديننا وظننا إذا لم نفعل ذلك ومؤاخذون عند الله والرسول.
روى احمد والترميذ والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس: قال: لما أُخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيَّهم، إنا لله وإنا اليه راجعون، ليهلكنَّ القوم. فأنزل الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ....} قال أبو بكر: فعرفتُ انه سيكون قتال.

.قراءات:

قرأ نافع وحفص: {اذن للذين قاتلون} بضم الهمزة من أُذن وفتح التاء من {يقاتلون}.
وقرأ ابن كثيرة وحمزة والكسائي: اذن بفتح الهمزة، {للذين قاتلون} بكسر التاء.
ثم وصف الله هؤلاء المؤمنين بقوله: {الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله}.
الذين ظَلمهم المشركون وأرغموهم على ترك مكة والهجرة منها بغير حق، لأنهم آمنوا بالله وحده.
{وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
ولولا ان سخّر الله للحق أعواناً يردعون الطغاة بالقوة لسادات الفوضى وعمَّ الفساد في الأرض، وأخمدوا صوت الحق، وهدموا صوامع الرهبان وكنائس النصارى، ومعابد اليهود، ومساجد المسلمين التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا.
وقد تعهّد الله بأن ينصر كلَّ من نَصَرَ دينه، ووعدُ الله لا يتخلف، ان الله قوي على تنفيذ ما يريد، عزيز لا يغلبه غالب.
ثم وصف الله الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور}
هؤلاء المؤمنون الذي أُخرجوا من ديارهم هم الذين ان قوَّينا سلطانهم في الأرض، حافظوا على صلواتهم، وعلى صِلتهم بالله، وأدوا الزكاة وأمروا بالمعروف، وحثّوا على كل خير، ونهوا عن كل ما فيه شر، ولله وحدضه مصيرُ الأمور، وإليه المرجع.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ان الله يدفع}، {ولولا دفع الله} بدون الف، وقرأ نافع {ان الله يدافع} و{لولا دفاع الله}، وقرأ نافع وابن كثير: {لهدمت صوامع} بدون تشديد الدال.

.تفسير الآيات (42- 51):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
فأمليت: فامهلت. ثم أخذتهم: أهلكتهم. النكير: العقوبة الرادعة. خاوية: خالية وساقطة. عروضها: سقوفها. بئر معطلة: مهملة لا يُستقى منها. قصر مَشيد: عظيم فخم. معاجِزين مسرعين من الحق إلى الباطل.
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ موسى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}
هؤلاء المشركون بالله، فلا تحزن أيها الرسول.... لقد كَذَبت أمم كثيرة رسُلهم قبلك، ولستَ أولَ رسولٍ كذّبه قومه وآذوه، فقد كذّب قومُ نوحٍ نوحا، وكذبت عاد وثمود رسُلهم، وكذب قوم ابراهيم رسولَهم ابراهيم، وكذلك فعلَ قوم لوط، وكذب أهل مَدْيَنَ رسولهم شُعيبا، وكذبت فرعونُ وقومه موسى.... وقد أمهلتُ أولئك المكذبين مدة لعلّهم يتوبون إلى رشدهم ويستجيبون لدعوة الحق، فلم يرتدعوا بل تمادَوا في غيّهم، فعاقبتُهم بأشد انواع العقاب، فانظر يا محمد في آثارهم كيف كان عقابي لهم.
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}
وكثير من القرى أهلكناها بسبب ظُلْم أهلها وكفرهم، وأصبحت خاليةً من سكانها، سقوفها ساقطة على جدرانها، كأن لم تكن بيوتها موجودة من قبل. وكم بئرٍ معطلة لا يرِدُ عليها أحد، وقصرٍ عظيم خلا من سكانه!

.قراءات:

قرأ أهل البصرة: {اهلكتها} بالتاء. والباقون: {اهلكناها} بالنون.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور}
أوَلَم يتعظ هؤلاء المكذبون بمصارع الأولين، وينظروا كيف أصبحتْ ديارهم خاليةً ودورهم معطلة! أين عقولهم وسمعُهم وأبصارهم، هل تعطلت؟
ان العمى الحقيقي ليس في العيون، ولكنه في القلوب والبصائر، فإنهم في هذه الحالة يرون ولا يدركون، ويسمعون ولا يعتبرون.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}.
ها إنَّ قومُك يا محمد بدلاً من التأمل في مصارع الماضين، وديارِهم الخاوية، والاتعاظ بها والايمان بالله- راحوا يستعجلون في العذاب الذي أخَّره اللهُ عنهم إلى أجلٍ معلوم!! وهذاغرور كبير منه، واللهُ تعالى لن يُخلف وعدَه، فهو واقع بهم، ولكن في موعدٍ قدَّره الله في الدنيا أو في الآخرة. ان أيام الله لا تقدير لها، فان يوماً واحداً من أيامه كألف سنةٍ من أيامكم.
ولم يكن هذا مفهوماً في الزمن الماضي، ولكنه اليومَ أصبح بديهيا، بعد أن صعد الإنسان إلى المر وعرف أَن الزمن نسبيٌّ، وان الإنسان إذا خرج من جوّ الأرض الذي نعيش فيه اصبح الزمن بلا حدود.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: {مما يعدّون} بالياء والباقون: {مما تعدون} بالتاء.
ثم أكد الله تعالى ما ذكره من عدم إخلاف الوعد وان طالب الأمد فقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير}.
كم من قرية أخرتُ إهلاكها مع استمرارها على ظُلمها، فاغترَّتْ بذلك، ثم أنزلتُ بها أشد العذاب، ثم مرجعُهم جميعاً اليَّ يوم القيامة فأجازيهم بما يستحقون.... فلا تغترو ايها الجاحدون بتأخير العذاب عنكم.
{قُلْ يا أيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (*) والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أولئك أَصْحَابُ الجحيم}
بعد أن بيّن مصارع الغابرين، وسُنَة الله في المكذّبين، يخاطب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لينذر الناس ويبين لهم ما ينتظرهم.
قل ايها النبي لهؤلاء المكذّبين الذين يطلبون منك استعجالَ العذاب: ليس ذلك إليّ، وإنما ارسلني ربي نذيراً لكم محذِّراً تحذيراً واضحا، واللهُ هو الذي يتولى حسابكم ومجازاتكم. فالذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الأعمال الصالحة لهم مغفرةٌ من الله كما ان لهم رزقاً كريماً في الجنة. واما الذين سَعوا في محاربة القرآن وتعطيل آياته، ظناً منهم أنهم يُعْجِزوننا وأنهم لا يُبعثون- فأولئك هم أهلُ النار المقيمون خالدين فيها ابدا.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {معجّزين} بتشديد الجيم المكسورة بمعنى مثبطين وبمطئين. والباقون: {معاجِزين} بالالف.