فصل: تفسير الآيات (23- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 30):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
في مرية: في شك. يهدون بأمرنا: يقومون بهداية الناس كما امرنا. اولم يهدِ لهم: أو لم يتبين لهم. الأرض الجُرُزِ: الأرض اليابسة لا نبات فيها. متى هذا الفتح: متى هذا الفصل في الحكم وهو يوم القيامة.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ}
ولقد أنزلنا التوراةَ على موسى كما أنزلنا عليك القرآن، فلا تكن في شكٍّ من لقائك الكتاب، وجعلنا الكتاب الذي أنزلناه على موسى مرشِدا لنبي اسرائيل.
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}
وجعلنا من بني اسرائيل أئمةً في الدّين من انبيائهِم يقومون بهداية الناس كما أمرناهم لأنهم صبروا على طاعتنا، وكانوا من أهْل الايمان واليقين. ولكن عهد هؤلاء الأنبياء قد ولىّ، وعاد اليهود إلى عبادة العجل من الذهب.

.قراءات:

قرأ حمزة واكسائي ورويس: {لِمَا صبروا} بكسر اللام وتخفيف الميم. والباقون: بفتح اللام وتشديد الميم {لَمَّا صبروا}.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
ان الله تعالى يقضي بين خلقه يوم القيامة فيما اختلفوا فيه.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ}
أوَلم تبيّن لهم طريقَ الحق كثرةُ ما اهلكنا من الأمم الماضية، وهم يمشون في ارضهم ويشاهدون آثارهم كعادٍ وثمود وقوم لوط، ان في ذلك لعظاتٍ تبصرّهم بالحق، أفلا يسمعون؟
وبعد أن بين قدرته على الاهلاك، يبين الله تعالى قدرته على الاحياء فيقول: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ}.
الم يشاهد هؤلاء الجاحدون أنّا ننزل الماء على الأرض اليابسة التي لا نبات فيها فنخرج به زرعاً تأكل منه انعامهم، وتتغذّى به أجسامهم؟! أفلا يبصرون دلائل قدرة الله على إحياء الأرض بعد موتها!!
ثم يذكر الله تعالى استعجالَ اولئك الجاحدين بالعذاب الذي يوعَدون وأنهم في شك منه، ويردّ عليهم مخوِّفاً ومحذّرا من تحقيق ما يستعجلون به فيقول: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ؟ قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}.
ويقول المشركون: متى ستنصَرون علينا في الدنيا، ويفصل بيننا وبينكم في الآخرة؟ قل لهم ايها الرسول: إن يومَ الفصل ان كان في الدنيا وفي الآخرة سيأتي، فلا تستعجلوه، واذا حل بكم ذلك اليوم فإنه لن ينفعكم الإيمان، ولا تُمهَلون لحظة عن العذاب الذي تستحقونه. وقد صدق الله رسولَه ففتح عليه في الدنيا ونصره. وسيلقون يوم القيامة جزاءهم.
ثم يختم السورة بامر رسوله بالاعراض عنهم، بآية قصيرة في طياتها تهديد خفي بعاقبة الامور ويدعهم لمصيرهم المحتوم فيقول: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} وسترى عاقبة صبرك عليهم.

.سورة الأحزاب:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}
اتق الله: اعمل صالحا وأطع الله. وتوكل على الله: اعمل وفوض أمورك اليه. وكيلا: حافظا.
في هذه الآيات الكريمة توجيهٌ للنبيّ الكريم ان يستمر على تقواه حتى يكونَ قُدوةً للمؤمنين، وان لا يُخدع بالكافرين والمنافقين بل يظل حذِرا منهم ومن مكايدهم، وأن يعملَ بما يوحيه الله إليه ومن ثم يتوكّل على الله ويفوّض جميع أموره اليه، {وكفى بالله وَكِيلاً} يحفظُه ويحرسه ويمنع عنه كلَّ شرّ، وقد فَعل.

.قراءات:

قرأ ابوعمرو: {بما يعملون خبيرا}، والباقون: {بما تعملون} بالتاء.

.تفسير الآيات (4- 5):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)}
تظاهِرون: تقولون للمرأة: انتِ عليَّ كظهر أمي، وكانت عادةً في الجاهلية، إذا قال الرجل لزوجته هذا القول حرُمت عليه ابداً. فجاء الإسلام وأبطل هذه العادة وجعل الحرمة مؤقتة وعليها غرامة. الادعياء مفردها دعي: هو الذي يتبناه الانسان. وكان ذلك معمولا به في الجاهلية وصدرِ الإسلام ثم حَرُم بهذه الآيات. السبيل: طريق الحق. أسط: اعدل. مواليكم: أولياؤكم. المولى له عدة معان: المولى الربّ، والمالك، والولي المحب، والصاحب، والجار، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق والعبد....
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} حتى يطيعَ بأحدِهما ويعصي بالآخرة، وكان العرب في الجاهلية يقولون: للرجل الذكيّ قَلْبان، وهذه خرافة.
وما جعل زوجةَ أحدِكم حين يقول لها: أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، أمّاً له حقيقة، فأبطِلوا، وعلى من تفوّه بها كفّارة.
{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ....} حرم الإسلام ان يتخذ الإنسان ولداً أو بنتا ويقول هذا ابني، أرِثه ويرثني، وأمرنا ان ندعوهم لآبائهم، فاذا لم نعلم آباءهم فانهم إخواننا في الدّين وموالينا واحبابنا.
ويرفع الله عنا الحرج بما أخطأنا به: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} ويحذّرنا من أن نتعمد الأعمالَ الممنوعة، ومع هذا فانه غفور رحيم.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: {اللاءِ} بهمزة مكسورة بدون ياء. والباقون: {اللائي} بهمزة بعدها ياء.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: {تَظَّهَّرون}، بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء المفتوحتين. وقرأ ابن عامر: {تظّاهرون}، بفتح التاء وتشديد الظاء بعدها الف. وقرأ عاصم: {تُظاهِرون}، بضم التاء وفتح الظاء بدون تشديد كما هو في المصحف.

.تفسير الآيات (6- 8):

{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)}
اعلموا ايها المؤمنون أن النبيّ احرصُ على استقامة امركم وأحقّ بولايتكم من أنفسِكم، فعليكم ان تطيعوه وتتبعوا شرعه. وازواجُه مُنَزَّلاتٌ منازلَ أمهاتكم فعليكم ان توقّروهن ولا تتزوجوهن من بعده. وذوو القرابات أولى ببعض في امر الوراثة من المؤمنين والمهاجرين، (وكان المؤمنون يتوارثون كأنهم أسرة واحدة) لكن يجوز ان تعطوا بعضَ من والَيتم في الدين من المتّصلين بكم، أو توصوا لهم بجزء من مالكم. كان هذا ثابتا في اللوح المحفوظ والقرآن.
واذكر يا محمد حين أخذْنا على النبيّين عهدا، وأخذنا مثلَه عليك وعلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} عظيمَ الشأن. وسوف يسأل الله يوم القيامة جميع الانبياء عما قالوه لقومهم، ولما لاقَوه منهم وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.

.تفسير الآيات (9- 15):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)}
جاءتكم جنود: الاحزاب، وهم قريش وبنو اسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم ومن اليهود بنو النضير وبنو قريظة. جنود لم تروها: الملائكة. زاغت الابصار: تحيرت من الدهشة والخوف. بلغت القلوب الحناجر: فزعت فزعاً شديداً كأنها قفزت إلى الحُلُوق من الخوف. ابتلي المؤمنون: اختُبروا وامتحنوا. وزُلزلوا زلزالا شديدا: اضطربوا من الفزَع بشكل رهيب من كثرة العدو. والذين في قلوبهم مرض: ضعفاء الايمان من المسلمين قريبي العهد بالاسلام. الا غرورا: وعداً باطلا قصد به التغرير بنا. يثرب: من اسماء المدينة، ولها مائة اسم. لا مقام لكم: لا ينبغي لكم الاقامة هنا. ان بيوتنا عورة: يعني مكشوفة للعدو خالية من الرجال المدافعين عنها. من اقطارها: من جوانبها. الفتنة: الردة ومقاتلة المؤمنين. آتوها: اعطوها. وما تلبّثوا بها: ما اقاموا بالمدينة. لا يولّون الادبار: لا يفرون منهزمين.
نزلت هذه الآيات إلى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحوزاب، أو غزوة الخندق.
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة، وكانت نم أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون، في تقرير مصير الدعوة الاسلامية. وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله.
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير، ونفر من بني وائل من اليهود، فقدِموا على قريش في مكة. وهناك دعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: أنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه. فسرّ ذلك قريشاً، ونشِطوا لما دعوهم اليه. ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين. وطافوا في القبائل، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية، كانت قريش وغطفان من أهم اعضائها. فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل، وغطفان ستة آلاف. وأُسندت قيادةُ الجيش إلى أبي سفيان، وتعهد اليهود ان يدفعوا إلى غطفان كل ثمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة.
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم إلى المدينة- تهيأ المسلمون للحرب، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها. وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل.
وفي هذه الاثناء أشار سلْمان الفارسيّ، رضي الله عنه، بحفر الخندق حول المدينة، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو. وقد قسم رسول الله الخندقَ بين اصحابه لكل عشرةٍ اربعين ذراعا. وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع (نحو اربعة كيلو مترات)، وعمقه من سبعة اذرع إلى عشرة، وعرضهُ من تسعة أذرع إلى ما فوقها.
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية، حرة الوبرة.
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط. وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه.
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ، فحملهم حُييّ بن أخطَب، سيدُ بني النضير، على نقض تلك المعاهدة. فنقضوها، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب. وعظُم عند ذلك البلاءن واشتد الخوف، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجر.
وجاء أبو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة. وفوجئوا بالخندق، فوقفوا من ورائه، وقفز احد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحاصنه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة. فبرز له عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقتله. ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام، ودام الحصار نحو شهر، اشتد فيه البلاء. واستأذن بعض المنافقين في الذهاب إلى المدينة وقالوا: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً}. وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام. فقام أبو سفيان وقال: يا معشر قريش، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام، وقد أخلفتنا بنو قريظة، وبلغَنا عنهم الذي نَكره، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون، فارتحِلوا فإني مرتحِل.
فانطلَقوا، واصبح الصباح فاذا القوم قد ارتحلوا. وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}. {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً}.
ووضعت الحربُ أوزارها، فلم ترجعْ قريش بعدَها إلى حرب المسلمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا، ولكنّكم تغزونهم» والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم، وابن كثير.
واستُشهدوا من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقُتل من المشركين اربعة.
{إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا....}.
إنها صورة هائلة مرعبة، فقد جاء أبو سفيان بذلك الجيش الكبير وحاصروا المسلمين من كلّ مكان، وبنو قريظة من ورائهم، فَبَلَغ الخوف أقصاه، وبلغت القلوبُ الحناجر خفقاناً واضطرابا، وظنّ بعضهم بالله ظنونا سيئة.
وكان ذلك اختباراً كبيرا وامتحاناً شديدا للمؤمنين، وأخذ المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ من ضعاف المسلمين يقولون: ما وعدَنا الله ورسولُه من النصر وعلوّ الكلمة الا وعداً باطلا!
وقالت طائفة من المنافقين كعبد الله بن أُبيّ واصحابه: يا أهلَ الميدنة، ليس هذا المقام بمقامٍ لكم فارجعوا إلى منازلكم، {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} وهم من بني حارثة.
وما كان استئذانهم إلا جبناً وفِراراً من القتال. ثم بين الله وَهْنَ الدينِ وضعفه في قلوبهم فقال: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً}.
ولو دخل عليهم الاحزابُ من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليه الارتدادَ عن دِينهم وأن يقاتِلوا المؤمنين- لفعلوا ذلك مسرِعينَ من شدة الخوف.
ولقد كانوا عاهدوا الله لا ينهزمون امام عدوٍّ قط، {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً}.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة: {الظنون} بدون ألف. والباقون: {الظنونا} بالف بعد النون وقرأ حفص: {لا مُقام لكم} بضم الميم بمعنى الاقامة. والباقون: {لا مَقام لكم} بفتح الميم بمعنى الموضع. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: {لأتوها} من غير مد، والباقون: {لآتوها} بالمد. يقول الطبري: قرأ بعض المكيين وعامة قراء الكوفة والبصرة {لآتوها} بمد الألف. وحفص كوفي، فتكون قراءة المصحف الصحيحة {لآتوها} بالمد.