فصل: تفسير الآيات (64- 68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 68):

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}
قرارا: مستقرا تستقرون عليها. بناء: مبنية بنظام لا يختل. فتبارك: فتقدّس وتنزه. طِفلاً: يعني اطفالا، لأنه يطلق على المفرد والجمع.
في هذه الآيات يؤكد الله تعالى حقيقة الوحدانية، كما يؤكد على حقيقة ألوهيته وربوبيته. فالله وحده هو الذي جعل لنا هذه الأرض لنستقر عليها، وجعل السماء بناءً محفوظا زيّنه بهذه النجوم والكواكب التي نراها. ولقد خلقَ الإنسان فأبدع تصويره، وجعله في احسن تقويم {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات} المباحةِ ما يلذّ لكم، {فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}، الذي يخلق ويقدّر ويدبّر. وهو الذي لا تنبغي الألوهية إلاّ له، ولا تصلح الربوبية لغيره، بما انه المنفرد بالحياة: {هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فادعوه باخلاص الدين له، واحمدوه في الدعاء والثناء لأنه مالكُ هذا الكون بما فيه.
وبعد أن اثبت سبحانه لنفسه صفاتِ الجلال والكمال، أمر رسولَه الكريم أنه منهيٌّ عن عبادة غيره مما يَدْعون.. قل لهم ايها الرسول: إني نُهيت عن عبادة الآلهة التي تعبدونها من دون الله {لَمَّا جَآءَنِيَ البينات مِن رَّبِّي} وأُمرت ان أنقاد في كل اموري لله رب هذا الكون كله.
ثم يستعرض آية من آيات الله في انفسهم بعدما استعرض آياته في هذا الكون العجيب، وهذه الآية هي الحياة الانسانية واطوارها العجيبة فيقول: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ...}
رتّب الله سبحانه تطور حياة الإنسان في ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشُدّ في الشباب والكهولة، والشيخوخة. ومن الناس من يُتوفى قبل سن الشباب، أو الشيخوخة. والله يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة، ولتعقِلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
ثم بعد هذه الأدلة على وجود الاله القادر، يعقب عليها بعرض حقيقة الإحياء والإماتة، وحقيقة الخلق والإنشاء جميعا: {هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ}
وتكثر الاشارة في القرآن الكريم إلى آيتي الحياة والموت، لأنهما تلمسان قلب الإنسان بشدّة وعمق، فالحياة ألوان، والموت ألوان، منها رؤية الأرض الميتة ثم رؤيتها مخضرة بألوان النبات والزهور، وكذلك رؤية الاشجار وهي جافة ثم رؤيتها والحياة تنبثق منها في كل موضع، وتخضر وتورق وتزهر، وغيرها وغيرها. وعكس هذه الرحلة من الحياة إلى الموت، كالرحلة من الموت إلى الحياة، إلى حقيقة الانشاء وأداة الابداع، وهو في ذلك كله كما يقول: {فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ} بلا معاناة، ولا توقف {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].

.تفسير الآيات (69- 78):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}
بالكتاب: بالقرآن. يُسحبون: يجرون. في الحميم: في الماء الحار. يُسْجَرون: يحرقون. ضلوا عنا: غابوا عنا. تفرحون: تبطرون وتسرّون. تمرحون: تختالون من شدة الفرح. المثوى: مكان الاقامة.
الم تنظر أيها الرسول إلى هؤلاء الجاحدين كيف يجادلون في آيات الله الواضحة، ويحاولون أن يبطلوها، وكيف يُصرفون عن النظر فيها، ويصرّون على ضلالهم. لقد كذّبوا بالقرآن، وبما ارسلنا به رسُلَنا دميعا، فسوف يرون جزاء تكذيبهم حين تكون الأغلال في رقابهم يُجرون بها في الماء الحار، ثم يُحرقون في نار جهنم، ثم يقال لهم: اين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون: لقد غابوا عنا {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} بل تبيَّن لنا أننا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يُعتد به. وكما أضل الله تعالى هؤلاء، كذلك يضلُّ الكافرين.
وهذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب انما هو جزاء بسبب ما كنتم تفرحون وتبطرون وتتكبرون في الأرض بغير الحق، وما كنتم تتمتعون به وتمرحون. ادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فبئس منزل المتكبرين.
ثم امر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم، وأكَّدَ ان وعد الله له بهلاك الكافرين حق، وسيأتيهم هذا العذاب إما في حياتك يا محمد أو حين يرجعون الينا، أو نتوفينك قبل ان تراه، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} جميعا فنجازيهم بما كانوا يعملون.
ثم يسلي الرسولَ الكريم ومن معه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}
وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء: 164.
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله}
يبين الله تعالى ان الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والانذار وتعليم الناس، أما لمعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته. ولا يمكن لرسول ان يأتي بمعجزة الا بأمر الله ومشيئته. فاذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قضى بين الناس بالعدل.
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون}
ولم يعد هنا كمجال للتوبة ولا للرجعة إلى الدنيا.

.تفسير الآيات (79- 85):

{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)}
الأنعام: الابل والبقر والغنم. الفُلك: السفن. بالبينات: الآيات الواضحة. وحاق بهم: احاط بهم. بأسنا: شدة عذابنا. سنّة الله: طريقته.
يبين الله تعالى في هذه الآيات بعضَ هذه المعجزات التي يطلبها الجاحدون، ولكنهم لا يحسّون بها لأنهم ألِفوها، ثم يذكّرهم بما في هذه الآيات من نعم كبار.
ان الله تعالى خلق هذه الأنعام من الإبل والغنم والبقر، وذلّلها للإنسان، منها ما يركبه ويستعمله في قضاء حاجاته، ومنها ما يأكله. فقد كانت وسائط السفر من هذه الانعام ولا يزال هناك حاجة لها في التنقّل بين الاماكن الوعرة في الجبال رغم وجود الوسائط الحديثة. ومنها ما يأكلونه ويشربون لبنه، كما يستعملون جلودها.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ}
وقد تقدم في سورة النحل في الآيات 5 و6 و7 و8 بأوسع من ذلك.
ثم بين انه يريكم آياته الباهرة التي لا مجال لانكارها بقوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ!}.
والله تعالى يريكم دلائلَ قدرته، لا تقدِرون على إنكار شيء منها لأنها واضحة لا يُنكرها من له ادنى عقل.
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ....}
تقدم هذا المعنى في اكثر من آية في سورة يوسف والحج والروم. فلو انهم اعتبروا بما رأوا من آثار الأمم السابقة واتّعظوا بها لأغناهم ذلك عن جحودهم وكفرهم.
وتلك المم السابقة حين جاءتهم رسُلهم بالشرائع والمعجزات الواضحة، فرحوا بما عندهم من علوم الدنيا، واستهزأوا بالمرسَلين، فنزل بهم العذابُ وأحاط بهم. فلما رأوا العذاب آمنوا بالله وحده وكفروا بآلهتهم التي عبدوها، ولكن ذلك لم يُفِدْهم شيئاً. لقد فات الأوان، فلا يفيد الندم. {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} وتلك سنَّةُ الله قد سبقت في عباده ان لا يقبل الايمان حين نزول العذاب، {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} وسنة الله ثابتة لا تختلف ولا تحيد عن الطريق.
اللهم اقبل توبتنا، وأحسن ختامنا، واسترنا واغفر لنا يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين.

.سورة فصلت:

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}
فصلت: بينت. لا يسمعون: لا يطيعون. أكنّة: أغطية، جمع كنان. وقْر: صمم. غير ممنون: غير مقطوع، فهو دائم بلا مَنّ.
حاميم: حرفان من حروف المعجم افتتحت بهما السورة، لإثارة الانتباه والتدليل على إعجاز القرآن.
ان هذا القرآن منزل من عند الله الرحمن الرحيم. وتتكرر هاتان الصفتان من الرحمة دائما لأن الله تعالى رحيم بعباده سبقت رحمته غضبَه، وحتى يعلم الناس ان الله تعالى رحمن رحيم بخلقه، بابه مفتوح لهم دائما حتى لا يقنطوا من رحمته، فالقرآن رحمة من الله تعالى، والرسول الكريم رحمة من الله {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وهذا القرآن كتاب بُيّنت آياته وفصّل فيه الحرام والحلال والنصائح والمواعظ والاخلاق، بلغةٍ عربية فصيحة، ميسّراً فهمه لقوم يعلمون معانيه ومقاصده، ومراميه الانسانية الخالدة.
ولقد أُنزل هذا الكتاب العظيم بشيراً لمن أطاع ونذيرا لمن عصى.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} فلم يطيعوه ولم يقبلوه كأنهم لا يسمعون.
ثم صرحوا بإعراضهم عنه فقالوا: إن قلوبنا مغلقة دونه عليها الأغطية، فلا تقبله، وفي آذاننا صمم فلا نسمع ما تدعونا اليه، وبيننا وبينك يا محمد حجاب ساتر يمنعنا من قبول ما جئت به.
{فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ}
فاعمل ما شئت، فاننا لا نَحيد عن موقفنا منك ومن دعوتك.
قل لهم ايها الرسول: ما أنا إلا بشر مثلكم يوحَى إليّ من الله بأن الهكم الذي يجب ان تبعدوه هو الله الواحد الأحد.
{فاستقيموا إِلَيْهِ واستغفروه...}
فاستقيموا في افعالكم متوجهين اليه، واطلبوا اليه المغفرة فانه رحيم يحب التوابين، والويلُ والهلاك لمن أشرك به، وبخل بمالِه فلم يعط الفقراء والمحتاجين قليلا منه.
{وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ}
وينكرون البعثَ والجزاء. ونرى ان منع الزكاة مقرونٌ بالكفر لأن أحبَّ شيء إلى الإنسان هو المال، وهو شقيق الروح، ولذلك شدّد الله تعالى في هذا الموضوع وأمَرَ بالبذل والعطاء.
والزكاة كانت معروفة قبل الهجرة، وهذه الآية مكية، ولم تكن محدَّدة، وانما فُرضت وحُددت في المدينة في السنة الثانية من الهجرة.
ثم بين الله ما للمؤمنين عنده تعالى حتى يظهر الفرقُ بين المحسن والمسيء فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
جزاؤهم دائم غير مقطوعٍ بلا منٍّ ولا أذى عند رب غفور رحيم.

.تفسير الآيات (9- 12):

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}
أندادا: امثالا. الرواسي: الجبال الثابتة الرواسخ. أقواتها: أقواتَ اهلها. سواء: كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة. استوى إلى السماء: قصد نحوها. دخان: مادة غازية أشبه بالدخان. فقضاهن: خالقهن. امرها: شأنها. بمصابيح: بكواكب ونجوم كما نراها. وحفظا: حفظناها حفظا من الآفات.
قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وانتم مع هذا تجعلون له شركاء أمثالاً له! {ذَلِكَ رَبُّ العالمين}. وجعل في الأرض جبالاً ثابتة من فوقها لئلا تَميدَ بكم، وجعلَها مباركة كثيرة الخيرات، وقدر فيها أرزاقَ أهلِها حسبما تقتضيه حكمته، كل ذلك في اربعة ايام متكاملة.
وقد جاء في القرآن الكريم ذكر اليوم والايام، ففي سورة الحج {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]. وفي سورة السجدة الآية 5 {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وفي سورة المعارج الآية 4 {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ.} ان هذا اليوم الذي نعيش فيه ونعرفه مرتبطٌ بالأرض ودورانها حول نفسها، فاذا خرجنا من منطقة الأرض إلى الفضاء الواسع الفسيح اختلفت المقاييس، ولم يعدْ للزمن حدود، وان سَنَتَنا 365 يوما، بينما سنة عطارد وهو اقرب الكواكب إلى الشمس 88 يوما فقط حسب دورته حول الشمس، وان ابعد الكواكب وهو بلوتو تقدّر سنته بنحو 250 سنة، لأنه يتم دورة واحدة بهذا الزمن، وهكذا فان الزمن نسبي. ان ايام الله هو يعلم مداها، ولا شك بانها أطول بكثير من ايام الأرض المعروفة.
{ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}
ثم توجهتْ إرادته تعالى إلى السماء وهي غاز هو معروف بالسديم الآن، وخلقَ السموات والأرض على وفق ارادته، فقال للسماء والأرض، ائتيا طائعين أو مكرهتين بما وضعتُ فيكما من التأثير، وأبرِزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات، وائتيا في الوجود على ما أردتُه لكما، قالتا: أتينا طائعين لك أيها الخالق العظيم.
والمراد هنا من هذا التعبير تصويرُ قدرته تعالى فيهما وامتثالهما بالطاعة لأمره. فخلقَهن سبع سموات في يومين من أيامه، واوحى في كل سماءٍ أمرها وما أُعدّت له واقتضته حكمته، وزين السماء الدنيا التي نراها بالنجوم المنيرة كالمصابيح في أقرب المجرّات الينا التي نعيش على اطرافها، وهي المعروفة بدرْب التبّانة، والتي يقدَّر قطرها بنحو مئة الف مليون سنة ضوئية. وجعل لهذه الأرض غلافاً جوياً يحفظها من كل سوء.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} الذي يمسك هذا الكون، ويدبر الوجود كله بقدرته وحكمته.

.قراءات:

قرأ يعقوب: {سواءٍ} بالجر. والباقون {سواءً} بالنصب.