فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 50):

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}
الساعة: يوم القيامة. اكمامها: جمع كِمّ بكسر الكاف، برعوم الثمرة ووعاؤها، وكذلك الكُم بضم الكاف: وعاء الثمر والزهر. آذنّاك: أعلمناك. ما منا من شهيد: ليس منا من يشهد لك شركاء. وظنوا ما لهم من محيص: وايقنوا ما لهم من مهرب. لا يسأم: لا يملّ. من دعاء الخير: من طلب المال، ويطلق الخير على المال والصحة والجاه والسلطة وغيرها. الشر: الفقر والمرض وكل سوء. والقنوط: بضم القاف، ظهور اثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار. الرحمة: الصحة وسعة العيش وكل ما يسرّ الانسان. والضرّاء: ضد الرحمة مثل المرض وضيق العيش ونحوهما. هذا لي: هذا ما أَستحقه لما لي من الفضل والعمل. الحسنى: الكرامة. عذاب غليظ: كثير وكبير.
بعد تلك الجولة مع المشركين، وما ينتظرهم يوم القيامة حسب أعمالهم وسوء عقائدهم- يبيّن الله تعالى هنا أن لا سبيل إلى معرفة يوم القيامة وتحديد موعده، فذاك لا يعلمه الا هو، وأن علم الحوادث المقبلة في أوقاتها عند الله، فلا يعلم احد متى تخرجُ الثمر من اكمامها، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر سبحانه انه يوم القيامة ينادي المشركين تقريعاً لهم فيقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِي} الذين كنتم تعبدونهم من دوني؟ فيكون جوابهم: {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} إننا نُعلمك يا الله انه ليس منا الآن من يشهد ان لك شركاء. وغاب الشركاء السابقون عنهم فلا يرجون منهم نفعا، وايقنوا انه لا مهرب لهم من العذاب.
ثم بين الله تعالى ان الإنسان متبدّل الأحوال، لا يملّ من طل بالمال والمنفعة، فان أحسّ بخيرٍ وقدرة واقبلت عليه الدنيا- تكبّر وصعَّر خدّه، وان اصابته محنة وبلاء تطامنَ ويئس من الفرج. واذا انعم الله عليه بالخير والرحمة بعد الضّراء واليأس يقول: {هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى}.
كل هذا من الغرور والضلال. ولكن الله تعالى يبين لهم ان تمرُّدهم هذا وبطرهم لا ينفعهم اذ يقول: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وهو عذاب جهنم خالدين فيها ابدا.

.قراءات:

قرأ نافع وحفص وابن عامر {من ثمرات} بالجمع. والباقون: {من ثمرة} بالإفراد.

.تفسير الآيات (51- 54):

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
نأى بجانبه: تكبّر واختال. عريض: كثير. أرايتم: أخبروني. في شقاق بعيد: في خلاف كبير. الآفاق: جمع أفق بضم الفاء واسكانها. والأفق: الناحية ومنتهَى ما تراه العين من الأرض.
واذا أنعمنا على الإنسان ورزقناه سعة العيش والصحة- أعرضَ عما دعوناه إليه وتكبّر واخال، واذا مسّه الشّر وأصابته شدة من فقر أو مرض اطال الدعاء والتضرع إلى الله لعلّه يكشف عنه تلك الغُمة. وتقدم مثله في سورة يونس 12، وسورة هود 9 و10 وسورة الاسراء 83.
قل لهم يا محمد: أخبِروني ان كان هذا القرآن الذي تكذّبون به من عند الله ثم كفرتم به، افلا تكونون بعيدين عن الحق والصواب؟.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق}
ينري هؤلاء المشركين دلائلنا على صِدقك، وأنّه وعدُ الله لعباده جميعا، وذلك بأن نطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون ومن خفايا أنفسهم على السواء. فقد كشف العلم عن امور كثيرة عن الأرض وما عليها، وعن النظام الشمسي وما فيه، وان هذه الأرض وما حولها ما هي الا ذرة صغيرة تابعة للشمس، التي هي وما حولها ذرة صغيرة تسبح في هذا الكون الفسيح، وعرف الناس عن الجسم البشري وتركيبه وخصائصه وأسراره الشيء الكثير، وان كل هذه المعلومات والاكتشافات ما هي الا ذرة من علم الله. {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الاسراء: 85].
وكذلك سنري هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد والفتوحات التي تمت على يدي الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وعلى يدي خلفائه وأصحابه الكرام {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} وان كل ما جاء به الرسول الكريم هو الحق.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
كفى بالله شهيدا على افعال عباده واقوالهم، وعلى صدق محمد فيما أخبر به عنه.. ألم تكفِهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحَها سبحانه في هذه السورة وفي كل القرآن، وفيها البيان الكافي لاثبات وحدانيته، وتنزيهه عن كل نقص!!
ثم بين الله سببَ عنادهم واستكبارهم بعد كل ما تقدم من حججٍ وبيّنات فقال في الختام: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ}.
انهم في شك عظيم من البعث والجزاء ولقاء ربهم، ولذلك كفروا، والله تعالى محيطٌ بكل صغير وكبير، لا يفوته شيء في هذا الكون الكبير، واليه مردّ الجميع.

.سورة الشورى:

.تفسير الآيات (1- 8):

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)}
يتفطّرن: يتشقّقْن من خشية الله وعظمته. من فوقهن: من جهتهن الفوقانية. حفيظ عليهم: رقيب عليهم. لتنذر: لتخوّف. وما أنت عليهم بوكيل: لست موكلاً بهم. أُم القرى: مكة. يوم الجمع: يوم القيامة، سمي بذلك لاجتماع الخلائق. الفريقك الجماعة. السعير: النار الموقدة المتأججة.
حم عسق: تقرأ هكذا: حاميم عَين سِين قاف، وقد تقدم الكلام على مثلها اكثر من مرة.
يبين الله تعالى أن ما جاء في هذه السورة موافقٌ لما في الكتُبِ المنزلة على سائر الرسل، من الدعوة إلى توحيدِ الله، والإيمان باليوم الآخر، وأمرِ النبوة، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، والتزهيدِ في جمع حُطام الدنيا، والعملِ على سعادة الإنسان والمجتمع. وهذا كله إنما يُوحى اليك ايها الرسول الكريم من الله العزيز الحكيم.
ثم بين الله تعالى ان ما في السموات والأرض تحتَ قبضته وفي ملكه، له التصرف فيه وحده ايجاداً وعدماً، وان السمواتِ والأرض على عِظَمِها تكاد تتشقّق فَرَقاً من هيبته وجلاله، وان الملائكة يسبّحون بحمد ربهم وينزهونه عما لا يليق به، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين. وبين بوضوح {إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} ثم أتبع ذلك بتسلية الرسول الكريم بأنه ليس رقيباً ولا وكيلاً على المشركين حتى يستطيع ردَّهم إلى سواء السبيل، وما هو الا نذيرٌ يبلّغهم، وحسابُهم على الله.
ثم بيّن بوضوح انه تعالى أنزل على رسوله قرآناً عربياً بلغة قومه ليفهموه، لينذر أهلَ مكة ومن حولهم من العرب ابتداءً ثم ينشرونه في العالم. وهذه سُنة الله كما قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
وكذلك لتنذرَهم يا محمد أن يوم القيامة آتٍ لا شك فيه، وان الناس في ذلك اليوم فريقان: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} الأول يدخل الجنة بايمانه وما قدّم من صالح الاعمال، والثاني يدخل النار بكفره وما قدّم من سيء الاعمال.
ثم ذكر الله تعالى ان حكمته اقتضت ان يكون الإيمان اختياراً، ولم يشأ أن يكون قسراً وجبرا {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فمن آمن وأناب إلى الله وعمل صالحاً افلح وفاز بالسعادة الأبدية {والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وحده: {كذلك يوحى اليك} بفتح الحاء. والباقون: {يوحي} بكسر الحاء.

.تفسير الآيات (9- 14):

{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}
أولياء: ناصرين. أنيب: ارجع اليه. فاطر السموات والأرض: خالقهما ومبدعهما. من أنفسكم ازواجا: من جنسكم، وعبّر بانفسكم لأن اقرب شيء إلى الإنسان زوجته. ومن الانعام ازواجا: ذكراً وانثى. يذرؤكم فيه: يكثركم بهذا التدبير المحكم، ذرأ الله الخلق: بثّهم وكثّرهم. مقاليد، واحدها مقلاد ومقليد: مفاتيح. يبسط الرزق: يوسعه. ويقدر: يضيّقه. أقيموا الدين: حافظوا عليه وثبتوا دعائمه. ولا تتفرقوا فيه: لا تختلفوا فيه. كبُرَ على المشركين: عظُم وشقّ عليهم. يجتبي: يصطفي. بغياً بينهم: ظلماً وتجاوزا لحدود الله.
ان هؤلاء المشركين اتخذوا أولياء من دونا الله، وذلك لجهلهم وعنادهم، وقد ضلّوا ضلالاً بعيدا، فاللهُ وحده هو الوليّ بحق، وهو يحيي الموتى للحساب والجزاء، {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم بيّن الله تعالى ان مردّ الحكم والفصل اليه، وكل شيء اختلفتم فيه فحُكْمه إلى الله، وقد بينه لكم. ولذلك أمَرَ الرسولَ الكريم ان يقول لهم: {ذَلِكُمُ الله رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
وهذا خطابٌ لجميع الناس ليعلموا أن كل شيء يختلف الناس في انه حقٌّ أو باطل فالمرجع فيه إلى القرآن، فقولُه الفصلُ وحكمه العدل. كما قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [النساء: 59].
{فَاطِرُ السماوات والأرض}
الله ربي وربكم خالقُ السموات والارض على احسن مثال.
{جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
خلق لكم من جنسكم زوجاتٍ لتسكنوا اليها.... وعبّر بقوله {من انفسكم} لأن أقربَ إنسان للمرء هي زوجته، فكأنها منه ومن نفسه. وخلق لكم من الانعام أزواجا ذكورا وإناثا.
{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}
لتتناسلوا وتكثروا بهذا التدبير المحكم.
ثم بين بعد ذلك انه مخالفٌ لكل الحوادث لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَهُوَ السميع البصير}، السميع لما يجري وينطِق به الخلقُ، والبصيرُ بأعمالهم، وبيده مفاتيحُ خزائن السموات والأرض.
{يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ}
يوسع الرزقَ لمن يشاء ويضيّقه على من يشاء.
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
لا يخفى عليه شيء، فيفعل كلَّ ذلك على مقتضى حكمته الكاملة، وقدرته الواسعة، وعلمه المحيط.
ثم بين الله تعالى بعد ذلك انه شَرَعَ لكم ما شرع للأنبياء قبلكم، ديناً واحداً في الأصول هو التوحيد، والتقرب بصالح الاعمال، والكف عن المحارم وإيذاء الخلق.. لكنّ المشركين كَبُرَ عليهم دعوتُهم إلى التوحيد وتركِ الأنداد والأوثان، ولذلك أوصى الله المؤمنين أن يقيموا الدين بإعطائه حقه، وان لا يختلفوا ولا يتفرقوا فيه، وقد هداهم إلى ذلك لأنه اصطفاهم من بين خلقه، فالله سبحانه يصطفي من يشاء، ويوفّق للايمان وإقامة الدين من يرجع اليه.
والمشركون ما خالفوا الحقّ الا من بعد ما بلَغَهم، وقامت الحجةُ عليهم، وما فعلوا ذلك إلا بغياً منهم وعدواناً وحسدا.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ}
لولا الكلمة السابقة من الله حول إمهال المشركين إلى يوم القيامة لعجَّل الله لهم العقوبة في الدنيا.
وان أهل الكتاب ليسوا على يقينٍ من أمرهم وإيمانهم، وانما هم مقلِّدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان ولذلك إنهم {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} فهم في حَيرة من امرهم، وشكٍ جعلهم في ريب واضطراب وقلق.

.تفسير الآيات (15- 18):

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}
استقمْ: اثبتْ وثابر على دعوتك. لا حجة بيننا: لا خصومة ولا جدال. يحاجّون في الله: يخاصمون في دينه. من بعد ما استُجيب له: من بعد ما آمن الناسُ واستجابوا له. داحضة: باطلة، زائفة. الميزان: العدل. الساعة: القيامة. مشفقون: خائفون. يعلمون أنها الحق: يعلمون أن قيامة الساعة حق. يمارون: يجادلون.
بع ان امر الله تعالى بالوحدة في الدين وعدم التفرق، أمر رسوله الكريم هنا بالدعوة إلى الاتّفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها.. فلأجل وحدة الدين وعدم التفرق فيه ادعُهم يا محمد إلى الاتفاق والائتلاف، وثابرْ على تلك الدعوة كما أمرك الله، ولا تتّبع أهواء المشركين. وقل: آمنتُ بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، وقد أمرني الله بإقامة العدل بين الناس، فهو ربّ هذا الكون، وكلّ امرئ مسئولٌ عن عمله، لا جدال بيننا وبينكم، فقد وضَحَ الحقّ، والله يجمع بيننا للفصل والعدل، واليه المرجع والمآل.
ثم بين ان الذين يخاصِمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له، حُجّتُهم باطلة، لا ينبغي النظر اليها، وعليهم غضبٌ من ربهم بسبب كفرهم، ولهم عذابٌ شديد يوم القيامة. إن الله هو الذي أنزل القرآن على نبيه محمد، كما انزل ما قبله من الكتب مشتملةً على الحق والعدل.. وما يدريك أيها النبي لعل وقت قيام الساعة قريب.
الذين لا يصدّقون بمجيء الساعة يستعجلونها، وما استعجالهم هذا الا من قبيل الاستهزاء، اما الذين آمنوا بالله ورسوله وقيام الساعة فإنهم خائفون من قيامها فلا يستعجلون، ويعلمون أن ذلك حقٌّ ثابت لا ريب فيه.
وما الذين يجادلون في قيام الساعة من المشركين إلا في ضلالٍ بعيد عن الحق.