فصل: تفسير الآيات (19- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (19- 22):

{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)}
حرثَ الآخرة: العمل الصالح الباقي. حرث الدنيا: متاعها من مال وبنين وغيرهما. يقال حرثَ المال: جمعه، وكسبه، واحترثه مثلُه. أم لهم شركاء: شركاء في الكفر. شرعوا لهم: زينوا لهم. ما لم يأذن به الله: كالشرك وانكار البعث والعمل للدنيا فقط. كلمة الفصل: هي الحكم والقضاء منه تعالى بتأخيرهم إلى يوم القيامة. روضات الجنات: اطيبُ بقاعها وأجملها.
يبين الله تعالى أنه لطيف بعباده، ومن لُطفه انه يرزق من يشاء كما يشاء، وانه القويّ الذي لا يُقهر ولا يغلب، ولا يُعجِزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم بين ان من كان يريد بعمله ثوابَ الآخرة- يضاعَف له اجره اضعافا كثيرة، ومن كان يريد بأعماله متاع الدنيا وجلْب لذّاتها يَعْطِه الله ما يريد، وليس لخ في الآخرة نصيب من نعيمها. ومثلُ ذلك في سورة آل عمران {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشاكرين} [آل عمران: 145].
ثم أعقب ذلك بذِكر ما وسوستْ به الشياطين لشركائهم، وزينت لهم من الشِرك بالله وانكار البعث والجزاء، وأنهم كانوا يستحقُّون العذابَ العاجل على ذلك، لكن الله تعالى أجّله لما سبق في علمه من تأخيرهم إلى يوم معلوم.
{وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
وترى يوم القيامة الظالمين خائفين أشدّ الخوف مما كسَبوا من السيئات، فالعذاب واقعٌ بهم. وفي المقابل ترى الذين آمنوا وعملوا الصالحات متمتعين في أطيبِ بقاع الجنّات، لهم ما يتمنّون من النعيم عند ربهم.
{ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير}
ذلك هو الجزاء العظيم الذي اعطاهم إياه ربهم، وهو الذي يفوق كل كرامة في الدنيا.

.تفسير الآيات (23- 26):

{ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}
في القربى: في القرابة التي بيني وبينكم، أو في قرابتي من أهل بيتي. يقترف: يفعل، يكتسب. يختم على قلبك: يغلقه عن الفهم. يمحو: يزيل. يُحقّ الحق: يثبت الحق. بِكَلِمَاتِهِ: بوحيه وأدلته وحججه. بذات الصدور: ما يختلج في الضمائر.
بعد أن ذكر الله في الآيات السالفة ما أعدَّ للمؤمنين في أطيبِ أماكنِ الجنّات- بين هنا ان ذلك الفضلَ الكبير هو الذي يبشّر به عبادَه المؤمنين. فقل لهم أيها الرسول: انا لا أطلب منكم أجراً على تبليغ الرسالة، وكل ما اطلبه منكم ان توادّوني مراعاةً للقرابة التي بيني وبينكم. ويدخل في ذلك مودّة النبي صلى الله عليه وسلم ومودّة قرابته من أهل بيته. ومن يعمل عملا صالحا يضاعف الله له جزاءه، ان الله واسع المغفرة للمذنبين.
ثم أنكر الله تعالى على من يقول بأن النبي الكريم اختلقَ القرآن: لقد قالوا ان ما يتلوه محمد علينا من القرآن ما هو الا اختلاق من عند نفسه لا بوحيٍ من عند ربه، فإن يشأ الله يربط على قلبِك لو حاولتَ الافتراء عليه، والله تعالى يمحو باطلَهم بما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بوحيه وارادته، فأنت على حقٍّ وهم على باطل.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}
فيعلم ما يختلج في ضمائرهم وتنطوي عليه السرائر.
ثم يمتنّ الله على عباده فيكرّر أنه يقبل التوبة عن عباده ويتجاوز عما فَرَطَ منهم تفضُّلاً منه ورحمة بعباده.
{وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من خير أو شر، ورحمتُه تسبق غضبه، وباب التوبة مفتوح والحمد لله.
ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا دعوه، ويزيدهم خيراً على مطلوبهم من فضله.
{والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}

.قراءات:

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: {ويعلم ما يفعلون} بالياء، والباقون: {تفعلون} بالتاء.

.تفسير الآيات (27- 35):

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
بسط الله الرزق: وسّعه. لبغوا: لظلموا وتجاوزوا حدود الله. بقدر: بتقدير. الغيث: المطر. قنطوا: يئسوا. وينشر رحمته: تعم منافع الغيث وآثاره جميع المخلوقات. الحميد: المستحق للحمد. بث: نشر. الدابة: كل ما فيه حياة على هذه الأرض. على جمعهم: يوم القيامة. بمعجِزين: لا تستطيعون ان تجعلوا الله عاجزا بالهروب منه. الجواري: السفن. كالأعلام: كالجبال. رواحد: ثابتة لا تتحرك. صبّار: كثير الصبر وضبطِ الأعصاب. شكور: كثير الشكر على النعم. يُوبِقْهُنَّ: يُهْلِكْهُنَّ. ما لهم من محيص: لا مهرب لهم.
إن الله تعالى خبير بما يُصلح عبادَه من توسيع الرزق وتضييقه، فهو لا يعطيهم كلَّ ما يطلبون من الأرزاق بل يقدّر لكلٍّ منهم ما يصلحه، فإن كثرة الرزق على الناس تجعلهم يتجبرون ويتكبرون، فالله تعالى يبسط لمن يشاءُ، ويمنع عمن يشاء. ولو أغناهم جميعا لبغَوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا. ومن أسباب الرزق المطرُ وغيره، فالله وحده هو الذي يغيث الخلقَ بالمطر، وينشر بركاتِ الغيث ومنافعه في النبات والثمار والحيوان ويغذّي ينابيع المياه، وهو الذي يتولّى عباده بإحسانه {وَهُوَ الولي الحميد}.
ثم اقام الأدلة على ألوهيته بخلقه السموات والأرض وما فيهما من الحيوان، ومَن ثبتتْ قدرتُه بإبداع هذا الكون لهو قديرٌ على جمع الناس في الوقت الذي يشاء بَعْثَهم فيه للجزاء.
ثم بين الله تعالى للناس ان هذه الحياة فيها دستورٌ ثابت لا يتغير وهو انه: كل ما يحلّ بكم ايها الناس من المصايب في الدنيا يكون بسبب معاصيكم، وما اجترمتم من آثام.
ولو نظرنا الآن إلى احوالنا نحن العربَ والمسلمين وما نحن عليه من ضعف وتأخر وتفكك- لرأينا ان هذه الآية تنطبق على حالنا ومجتمعاتنا. فنحن لا ينقصنا مال ولا رجال، ولا أرض، وانما ينقصُنا صدق الايمان، واجتماع الكلمة، والعمل الصحيح لبناء مجتمع سليم، يجمع الكلمة ويوحّد الصفوف، ويوفر هذه الأموال الضائعة على شهوات بعض أفراد معدودين من متنفّذي الأمة يبذّرونها على السيارات والقصور والأثاث الفاخر وإشباع الغرائز، ويكدّسون أموال المسلمين في بنوك الأعداء.
ولو ان زكاة هذه الأموال صرفت على الدفاع عن الوطن، والاستعداد لمواجهة العدو المتربص بنا لكان فيه الكفاية. ان العمل الصالح والتنظيم والحكم الأمين يدوم ويرفع مستوى الناس حتى يعيشوا في رغد من العيش، اما الظلم والفساد والطغيان في الحكم واتباع الشهوات فانه لا يدوم، ويجعل الناس في قلق وبلبلة وشكّ وضياع كما هو واقع في مجتمعاتنا.... وهذا معنى {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. والله سبحانه وتعالى يرحم من تاب ويعفو عن كثير من الذنوب والأخطاء، ورحمته واسعة والحمد لله.
انكم ايها الناس لا تُعجِزون الله حيثما كنتم، وما لكم من دونه وليّ يدافع عنكم، ولا نصير ينصرُكم إذا هو عاقبكم.
ومن دلائل قدرة الله هذه السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها، فالله قادر ان يوقفَ الرياح فلا تجري.
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ}
أو يهلك اصحابَ السفن بذنوبهم، لكنه يعفو عن كثير فلا يعاجلُهم بالكثير من ذنوبهم.
ان الله تعالى فعلَ ذلك ليعتبر المؤمنون، ويعلم الذين يجادلون في آياتنا بالباطل أنهم في قبضته، ما لهم من مهرب من عذابه.

.قراءات:

قرأ نافع وابن عامر: {بما كسبت ايديكم}. والباقون: {فبما كسبت أيديكم}. وقرأ نافع وابن عامر: {ويعلمُ الذين يجادلون}، برفع {يعلم}. والباقون: {ويعلمَ} بالنصب.

.تفسير الآيات (36- 43):

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}
فما أُوتيتم: فما اعطيتم. كبائر الإثم: كل ما يوجب حدّا. الفواحش: كل ما عظُم قبحه من السيئات. استجابوا: اجابوا داعي الله. الشورى: المشاورة في الأمور. البغي: الظلم. ينتصرون: ينتقمون لانفسهم. ما عليهم من سبيل: ما عليهم عقاب. لمن عَزْمِ الأمور: لمن الأمور الحسنة المشكورة.
يذكّر الله تعالى الناس بأن لا يغترّوا بهذه الحياة الدنيا، فكل ما فيها من متاع ولذة ومال وبنين لهو قليلٌ جدا بالنسبة لما أعدّه الله للمؤمنين عنده من نعيم الجنة الدائم للذين يتوكلون على ربهم، ويبتعدون عن ارتكاب الكبائر.
{وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ}
والذين يتحكمون في أعصابهم عند الغضب، ويملِكون أنفسهم، ويغفرون لمن أساء اليهم.
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أيضا انهم يُجيبون ربّهم إلى ما دعاهم اليه، ويقيمون الصلاة في اوقاتها على اكمل وجوهها.
{وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ}
وهذا دستور عظيم في الاسلام، فهو يوجب ان يكون الحكْم مبنياً على التشاور. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشاور أصحابه الكرام في كثير من الأمور، وكان الصحابة الكرام يتشاورون فيما بينهم. ومثلُ ذلك قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159]. قال الحسن البصري: (ما تشاور قوم الا هُدوا لأرشدِ أمرهم). وقال ابن العربي: (الشورى ألفة للجماعة، وصِقال للعقول، وسببٌ إلى الصواب، وما تشاور قوم قط الا هدوا). ومن صفات هؤلاء المؤمنين البذلُ والعطاء بسخاء {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}. ومن صفات المؤمنين الصادقين أيضاً: {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ}
الذين إذا بغى عليهم أحد ينتصرون لأنفسهم ممن ظلمهم.
ثم بين الله تعالى ان ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}
فالزيادة ظلم، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض.
ثم بين الله ان من الافضل العفو والتسامح فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين}. ومثل هذا قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237]، ومثله أيضا {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126]، إلى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو. وهذا سبيل الاسلام.
ثم بين الله تعالى أن الإنسان إذا انتصر لنفسه ممن ظَلَمه فلا سبيلَ عليه، لكن اللوم والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناسَ ويتكبرون في الأرض ويفسِدون فيها بغير الحق {أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم كرر الحث والترغيب في الصبر والعفو فقال: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور}.
هنا أكد الترغيبَ في الصبر وضبط النفس. وأفضلُ انواع الصبر تحمّل الأذى في سبيل إحقاق الحق وإعلائه، وافضلُ انواع العفو ما كان سبباً للقضاء على الفتن والفساد.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: {والذين يجتنبون كبير الإثم}. والباقون: {كبائر الاثم}.

.تفسير الآيات (44- 50):

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}
استجيبوا لربكم: أجيبوه. لا مردّ له: لا يردّه احد بعد ما قضى الله به. ملجأ: مكان تلجأون اليه. وما لكم من نكير: ما لكم من إنكار لما فعلتموه، لا تستطيعون ان تنكروه. حفيظا: رقيبا، محاسباً لاعمالكم. رحمة: نعمة من صحة وغنى. سيئة: بلاء. عقيما: لا يولد له.
ومن ضلّ طريق الهدى، وخَذَلَه اللهُ لسوءِ استعداده فليس له ناصرٌ من الله، وترى الظالمين يوم القيامة حين يشاهدون العذاب، يسألون ربهم ان يُرجعهم إلى الدنيا ليعملوا غير ما كانوا يعملون، ولكن هيهات، لا سبيل إلى العودة.
ثم بين الله حالهم السيئة حين يُعرضون على النار أذلاءَ يسارِقون النظر إلى النار جوفاً منها.
عندئذ يقول المؤمنون: حقًا إن الخاسرين هم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر، وخسروا أزواجهم وأولادهم وأقاربهم، وفُرِّق بينهم وبين أحبابهم وحُرموا النعيم إلى الأبد، وصدق الله العظيم حين يقول: {أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ}.
وما كان لهم من ينصرهم من الذين عبدوهم من دون الله، {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ}، أي ليس له أيّ طريقٍ ينجيه من سوء المصير المحتوم، جزاء ضلاله.
ثم يحذّر الله الناس طالباً إليهم ان يسارعوا إلى إجابة ما دعاهم اليه الرسول الكريم، من قبل ان تنتهي الحياة وتنتهي فرصة العمل، ويأتي يوم الحساب الذي {لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} ويومئذ لا ملجأ ولا ملاذ لهم من العذاب، ولا يستطيعون انكار ما اجترموه من السيئات. فإن أعرضَ المشركون عن إجابتك أيها الرسول فلا تحزنْ، فلست عليهم رقيبا فيما يفعلون.
{إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ}
إن وظيفتك ان تبلّغ، فاذا انت بلّغت فقد أديتَ الأمانة. {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} [البقرة: 272].
ثم بين الله تعالى طبيعةَ الإنسان وغريزته في هذه الحياة وضعفه فقال: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ}
هذه هي طبيعة الانسان: إذا أغنيناه وأعطيناه سعةً من الرزق فرح وبطر، وان أصابته فاقةٌ أو مرض {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من معاصٍ ومخالفات- يئس وقنط، إن الإنسان يكفر النعمة ويجحدها.
ثم يبين الله انه خالقُ هذا الكون، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء الإناث من الذرية، ويمنح من يشاء الذكور دون الاناث. ويتفضل سبحانه على من يشاء بالجمع بين الذكور والاناث، {وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً} لا ولد له، {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} عليم بكل شيء، قدير على فعل كل ما يريد.