فصل: تفسير الآيات (35- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (35- 37):

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قد عُلم مما تقدم ان حقيقة كل أمور التكوين والخلق ونشأة الإنسان أمرٌ يفوضه السلَفُ إلى الله تعالى، ويكتفون بظاهر اللفظ فيه.
اما الخلف فيلجأون إلى التأويل، وأمثلُ طرقه في هذا المقام التمثيل.
وقد مضت سنّة الله في كتابه ان يُبرز لنا الأشياء المعنوية في قوالب العبارة اللفظية ويبين لنا المعارف المعقولة بالصور المحسوسة، تقريباً للأفهام. ومن ذلك انه عرّفنا قيمة أنفسنا، وما أُدعته فطرتُنا مما تمتاز به على سائر المخلوقات. فعلينا والحال هذه ان تجتهد في تكميل أنفسنا بالعلوم التي خلقنا الله مستعدّين لها من دون الملائكة وسائر الخلق.. بذلك تظهر حكمته فينا، ونشرف، على معنى إعلام الله الملائكةَ بفضلِنا عليهم ومعنى سجودهم لأصلنا.
فمجمل الآيات السابقة ان هذا العالَم لما استعدّ لوجود هذا النوع الانساني واقتضت الحكمة الإلَهية استخلافه في الأرض أعلم الله تعالى الملائكةَ بذلك. وقدّر الملائكة انه يفسد النظام ويسفك الدماء، حتى اعلمهم الله ان علمهم لم يحط بمواقع حكمته. ثم أوجد آدم وفضّله بتعليمه الأسماء كلها، فيما كلُّ صنف من الملائكة لا يعلم الا طائفة محدودة منها. لذلك أمرهم الله بالخضوع لآدم فأطاعوه الا روحاً واحداً هو مبعث الشر، أبى الخضوع واستكبر عن السجود. فكان بذلك من الكافرين.
ومجمل الآيات هنا: إن الله تعالى لما خلق آدم وزوجته أسكنهما الجنة وقال لهما: اسكنا فيها، وكُلا منها ما تشاءان، من أي مكان وأي ثمر، ولا تقربا شجرة معينة، لتأكلا منها، وإلا كنتما من الظالمين العاصين. لكن ابليس الحاسد لآدم، الحاقد عليه، أخذ يغريهما بالأكل من تلك الشجرة حتى زلاَ فأكلا منها. عند ذلك أخرجهما الله مما كان فيه من النعم وأمرهما أن يعيشا في هذه الأرض، وذرّيتهما من بعدهما، ويكون بعضهم لبعض عدوّا. وأبلغهم أن لهم في الأرض استقراراً، وتيسيراً للمعيشة إلى أجل معين، لأن هذه الدنيا فانية والدار الآخرة هي الباقية.
{فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} يعني ان الله تعالى ألهمه بعض الدعاء وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} فتاب عليه، أي رجع عليه بالرحمة والقبول {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} الذي يقبل التوبة عن البعد إذا اقترف ذنباً ثم ندم على ما فرط منه. انه هو الذي يحفّ عباده بالرحمة إذا هم أساؤوا ورجعوا اليه تائبين.
وقد جاءت هذه الآيات ليعتبر الخلقُ ببيان الفطرة الآليهة التي فَطَر الله عليها الخلق، الملائكة والبشر، وليدركوا ان المعصية من شأن البشر، فكأنه تعالى يقول: لا تأسَ يا محمد على القوم الكافرين، ولا تبخع نفسك على أن لم يؤمنوا برسالتك، إن الضعف موجود في طبائعهم.
انظر ما وقع لآدم وما كان منه، وسنّة الله لا تتبدل.
وقد استقر أمر البشر على أن سعادتهم في اتّباع الهداية الإلَهية، وشقاءهم في الانحراف عن سبلها.
والجننة المرادة هنا أمرٌ اختلف فيها المفسرون. فقال بعضهم انها جنة الخُلد، أي دار الثواب التي اعدها الله للمؤمنين يوم القيامة. قال ابن تيمية وهذا قول أهل السنّة والجماعة، ومن قال غير ذلك فهو من الملحِدة، ولا أدري كيف يجرؤ غفر الله له على هذا القول ويجعل من قال به ملحِدا، وعلى رأس القائلين بذلك إمامان جليلات هما أبو حنيفة والماتريدي وكثيرون غيرهم.
وقال كثيرون ان تلك الجنةى بستان في الأرض وليست هي جنة الخلد. وعلى هَذا جرى أبو حنيفة وتبعه أبو منصور الماتريدي في تفسيره حيث قال: نحن نعتقد ان هذه الجنة بستان من البساتين، كان آدم وزوجته منعمين فيها وليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها.
وقال الأولي في تفسيره: روح المعاني، ومما يؤيد هذا الرأي:
01 أن الله خلق آدم في الأرض ليكن خليفة فيها هو وذريته.
02 أنه تعالى لم يذكر أنه بعد خلْق آدم في الأرض عرج به إلى السماء، ولو حصل لذُكر، لأنه أمر عظيم.
03 أن الجنة الموعود بها لا يدخلها إلاَّ المتقون المؤمنون، فكيف دخلها الشيطان الكافر للوسوسة!
04 أنها دار للنعيم والراحة، لا دار تكليف وقد كُلف آدم وزوجه ألا يأكلا من الشجرة.
05 أنه لا يُمنع من في الجنة من التمتع بما يريد منها.
06 أنه لا يقع فيها العصيان والمخالفة لأنها دار طهر، ولا دار رجس.
وعلى الجملة، فالأوصاف التي وصفت بها الجنة الموعود بها لا تنطبق على هذه الجنة التي سكنها آدم وطرد منها.
أما الشجرة التي نُهي آدم وزجته ان يأكلا منها فلم يبيّن الله في كتابه نوعها، ولم يَرد في السنّة الصحيحة تعيينها، فلا نستطيع ان نعيّنها من تلقاء أنفسنا بلا دليل قاطع.
وقال الاستاذ العقاد في كتابه: المرأة في القرآن ان قصة الشجرة الممنوعة التي أكل منها آدم وحواء هي الصورة الانسانية لوسائل الذكَر والأنثى في الصلة الجنيسة بين عامة الأحياء، الرجل يريد ويطلب، والمرأة تتصدى وتغري. وتتمثل في القصة بداهة النوع في موضعها، أي حيث ينبغي ان تتمثل أول علاقة بين اثنين من نوع الانسان. وقد وردت القصة في القرآن في ثلاثة مواضع، ووردت في الاصحاح الثالث من سِفر التكوين. وفي الاصحاح الحادي عشر من العهد الجديد في كتاب كورنثوس الثاني، والاصحاح الثاني في تيموثاوس.
وهي تعبّر برموزها السهلة عن بداهة النوع المتأصلة في ادراكه للمقابلة بين الجنسين، وعن دور اكل منهما في موقفه من الجنس الآخر، على الوجه الوحيد الذي تتم به ارادة النوع، والمحفاظة على بقائه.
وخلاصة القول: إن ثمرات هذه الشجرة هي ثمرات التكليف بجميع لوازمه ونتائجه، وما كان الفارق بين آدم قبل الأكل منها وبعد الأكل الا الفارق بين الحياة في دعة وبراءة، والحياة المكلّفة التي لا تخلو من المشقة والشقاق والامتحان بالفتنة ومعالجة النقائص والعيوب. وكلّما تكررت القصة في الآيات القرآنية كان في تكرارها تثبيت لهذا المعنى على وجه من وجوهه المتعددة. يبدو ذلك جلياً من المقابلة بين ما تقدم، وما جاء عن هذه القصة في سورة الأعراف، وذلك حيث يُذكر التصوير بعد الخلق، أو اعطاء الصورة بعد اعطاء الوجود...
وفيها يتبين ان من تمام التوكيد لحدود التكليف في هذه القصة ان خطاب آدم به لا يغني عن خطاب بنيه وأعقابه، فهو مكلَّف وهم مكلَّفون، وخطيئته لا تُلزمخم وتبوته لا تغنيهم. اما مولدهم منه فإنما يُخرجهم على سنَة الأحياء المولودين حيث يحيون وحيث يكّرمون ويموتون.
واما قضية عصيان آدم ومخالفته فقد تكلم فيها المفسرون، والمستشرقون الغربيون، وتخبطوا في ذلك. والحق ان قليلاً من النقاد الغربيين من يفطن للخاصة الاسلامية التي تتمثل في قصة آدم هذهز اذ الغالب في أوساطهم ان يتكلموا عن زلة آدم فيسمّوها سقوطا ثم يرتبوا عليها ما يترتب على السقوط الملازم لطبيعة التكوين. هذا مع انه ليس في القرآن أثر قط للسقوط بهذا المعنى في حق كائن من الكائنات العلوية أو الأرضية، وانما هو انتقال الإنسان من حال إلى حال أو من عهد البراءة والدعة إلى عهد التكليف والمشقة.
وجوهر المسألة في القصة ان القرآن الكريم لم يذكر قط شيئاً عن سقوط الخليقة من رتبة إلى رتبة دونها، ولا سقوط الخطيئة الدائمة بمعنى تلك التي يدان فيها الإنسان بغير عمله. انه لا يعرف ارادةً معاندة ف يالكمون لإرادة الله يكون من أثرها ان تنازعه الأرواحَ وتشاركه في المشيئة وتضع في الكون أصلاً من أصول الشر.
لقد جاء الإسلام بهذه الخطوة العظمى في أطوار الأديان فقرر في مسألة الخير والشر والحساب والثواب أصحَّ العقائد التي يدين بها ضمير الانسان، وقوام ذلك عقيدتان:
أولاهما: وحدة الارادة الالَهية في الكون.
والثانية: ملازمة التبعة لعمل العامل دون واسطة أخرى بين العامل وبين ضميره وربّه.

.تفسير الآيات (38- 39):

{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
{قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعاً..} أي آدم وحوّاء وابليس، فقد انتهى طور النعيم الخالص الذي كنتم فيه، وادخلوا في طور لكم فيه طريقان: هدًى وايمان، وضلال وخسران؛ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} عن طريق رسولٍ مرشد وكتاب مبين فإن لكم الخيار. فمن تبع هداي الذي أشرعه وسلَكَ صراطي المستقيم الذي أوضحه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من وسوسة الشيطان وما يعقبها من الشقاء والعذاب بعد يوم الحساب والعرض على الملك الديّان، {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على فوت مطلوب أو فقد محبوب، لأنهم يعلمون بهذه الهداية ان الصبر والتسليم مما يرضى الله ويوجب مثوبته، فيكون لهم من ذلك خير عوض عما فاتهم، وأفضل تعزية عما فقدوه.
والهبوط في {اهبطوا} أصله الانحدار على سبيل القهر، ويجوز أن يُقصد به هنا مجرد الانتقال كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصراً} أي ارتحِلوا اليها.
وقد أمر الله تعالى آدم وحواء وإبليس بالهبوط مرّتين:
الاولى، للاشارة إلى أنهم يهبطون من الجنة إلى دار بلاء وشقاء، ودار استقرار في الأرض للتمتع بخيراتها إلى حين.
والثانية، لبيان حالهم من حيث الطاعة والمعصية، وانهم ينقسمون فريقين: فريق يهتدي بهدى الله الذي أنزله وبلّغه للناس على لسان رسُله، وفريق سار في الضلال وكذّب بالآيات، فحق جزاؤهم في جهنم خالدين فيها أبدا. وهم المشار اليهم بقوله تعالى: {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
والآيات جمع آية: وهي العلامة الظاهرة، وكل ما يدل الإنسانَ ويرشده.

.تفسير الآيات (40- 43):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
إسرائيل: لقب يقعوب بن اسحاق بن ابراهيم، ومعنى اسرائيل. الأمير المجاهد، أو صفّي الله. وهناك من يرى أنه تعني (عبد ايل)، أي عبدالله، من فعل أسِر العبري، ورديفِه في العربية. اما إسحاق، فمن أصل (يستحك) العبري ومعناه: يضحك. وقد اعترض الكثير من علماء اللاهوت الاوروبيين على الستمية بصيغة (الفعل) حتى شكّوا في الأصل. وبنوه: ذريته، وهم الأسباط الاثنا عشر، ويسمَّون العبرانيين أيضا لعبورهم نهر الأردن. وهم منتشرون في العالم كله، حيث اختصوا بالنشاطات السهلة الكبيرة المردود، وكانوا يقدَّرون قبل الحرب العالمية الثانية بنحو 16 مليوناً، هلك منهم في الحرب نحو خمسة ملايين كما يزعمون. ويتكلم أكثرهم اللغة الإيديّة، وهي لغة أقلِّيَةٍ اساسُها الألمانية ممتزجة بكلمات عبرية، والعبرية لغتهم الاولى وهي احدى اللغات الساميّة.
ويبدأ تاريخهم المعروف باقامة فريق منهم في (غوش) في الشمال الشرقي من مصر، منذ عدة قرون قبل المسيح، أيام رمسيس الثاني، وكانوا زرّعا. وقد لاقوا في مصر بعض العنَت إلى ان خرج بهم موسى. وفي طور سيناء أبلغهم الوصايا العشر فلم يحفظوها. ثم تاهوا في الصحراء سنين عديدة قبل ان يستولوا على قسمٍ من ارض كنعان استقروا فيه.
وكانوا منقسمين إلى قبائل، على رأس كل احدة شيخ قبلي وكاهن يسمّونه القاضي. هذا هو نظام القضاة. ولقد حاربوا الفلسطينيين القادمين من كريت، بقيادة شاؤول. فهزمهم هؤلاء. ثم جاء داود ووحّدهم وانتصر بهم على اعدائه، وحقّق لشعبه السلام والرفاهية.
وعقبه سليمان الذي بنى أول هيكل. ثم انقسم بعده اليهود إلى اسباط الشمال بقياة يربعام، وكونّوا مملكة السامرة، وأسباط الجنوب تحت قيادة ابن سليمان وكونوا مملكة يهوذا.
ودارت الحرب بين المملكتين مدة طويلة، ثم استولى الآشوريون على المملكتين، ونفوا كثيرا من اليهود. ثم استولى عليهما المصريون، ومن بعدهم البابليون الذين هدموا الهيكل 586 ق. م. وأخذوا اليهود اسرى إلى بابل. وقد بقوا هناك حتى سمح لهم قورش الفارسي بالعودة، واعادوا بناء هيكلهم مرة أخرى سنة 516 ق. م. وفي العصر الهليني كانوا جماعة دينية لا كيان لهم، واستعادوا استقلالهم السياسي تحت المكابيين. ثم أدى النضال بين الفريسيين والصدوقيين، وهما من أهم الفرق اليهودية، إلى ان تدخّل الرومان الذين استولوا على البلاد من البطالسة وهدموا اورشليم سنة 70 م. وفي القرون الوسطى وقع على اليهود من قبل الاوروبيين اضطهاد شديد استمر حتى القرن الثامن عشر. لقد حُرّم عليم امتلاك الأرض، وممارسة كثير من المهن الحرة، ولم يُترك لهم الا التجارة الصغيرة وتسليف النقود. لذا تجمعت شراذمهم في أحياء خاصة بهم. وقد طرد كثير منهم من فرنسا وانجلترا واسبانيا والبرتغال، ولجأوا إلى هولندا وبلاد الإسلام حيث عاشوا آمنين.
ثم أخذت الرأسمالية بيدهم في القرن الثامن عشر للميلاد وأصبحوا وراء الأعمال الاقتصادية الكبرى.
وقد أدى تحررهم التدريجي إلى ظهور تيارين متعارضين في أوساطهم، أولهما يدعو إلى رسالة ثقافية، وعلى رأسه موسى مندلسون، والثاني يدعو إلى رسالة سياسية هي الصهيونية، وعلى رأسه ثيودور هرتزل 1896. وقد نشط التيار الثاني وسعى معتنقوه إلى المطالبة بدولة يهودية في فلسطين حتى نجحوالا في ذلك بمساعدة الدول الغربية المسيحية، وما مساعدتها هذه الا حركة امتداد للحروب الصليبية الغابرة.
هكذا وُجدت الحركة الصهيونية الرامية إلى أقامة دولة يهودية على غرار الدولة القديمة التي قضت عليها روما. وقد سعى زعيمها هرتزل سعياً حثيثاً لجمع المال والرجال وعقّد أول مؤتمر لجماعته في مدينة بال بسويسرا وفي ذلك المؤتمر قال هرتزل: (الآن خُلقت دولة اسرائيل)، فقد قرر المؤتمرون تكوين منظمات صيهونية في البلاد التي يقطنها عدد كاف من اليهود. وقام بأمر الصهيونية من بعده زعماء آخرون أمثال ماكسي نوردو، وحاييم وايزمان. وتعاقبت مؤتمارتها، وتحمس لها يهود شرق اوروبا، وأمداها يهود امريكا بالمال.
وتطلعت الصهيونية إلى فلسطين. ثم جاء وعد بلفور، الوزير الانجليزي، سنة 1917 الذي سمح لليهود ان يكون لهم وطن قومي في فلسطين فعزز آمال الصهاينة. ومن ثم بدأت هجرة اليهود إلى فلسطين سنة 1923 وزادت في عهد الانتداب الانجليزي بالتواطؤ، وقد شجّعت على ذلك حركات الاضطهاد في أوروبا كالحركة النازية.
وفي سنة 1945 أوقف الانجليز الهجرة، ولكن بعد أن أصبح عدد اليهود في فلسطين خطرا على العرب. ثم كانت المشلكة الفلسطينية الكبرى التي عُرضت على هيئة الأمم، فقررت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود في 14 يونيه 1948.
ولم يقبل العرب هذا التقسيم لأنه هدرٌ لحقهم في وطنهم، ورغم ذلك أُعلنت الدولة اليهودية في ذلك التاريخ. وقامت الحرب بين أهل فلسطين واليهود حتى دخلت جيوش الدول العربية. ولم يكن العرب على استعداد للحرب اما اليهود فكانوا قد أعدوا كل شيء، بفضل الدول الغربية. لذا أخذوا أكثر من القسم الذي خصصه لهم قرار التقسيم.
ولا تزال الحالة متوترة والحرب قائمة ولن تهدأ حتى يسترد الفلسطينيون حقوقهم كاملة. والله نسأل ان يلهمنا رشدنا ويوحّد صفوفنا بقوة من عنده. ولابد من نصرِنا عليهم طال الزمن أو قصر.
بعدن استعرض سبحانه وتعالى في أوائل هذه السورة الكتابَ الحكيم وانه لا ريب فيه، بيّن أصناف البشضر من مؤمن وكافر ومنافق، ثم طالب الناس بعبادته. ثم اقام الدليل على أن الكتاب مُنزل من عند الله على عبده محمد وتحدى المرتابين ان يأتوا بمثله. ثم حاجّ الكافرين. ثم ذكر خلق السماوات والأرض، وان جميع ما في الأرض من منافع هي للإنسان.
وهنا خاطب الشعوب والأمم التي ظهرت بينها النبوة، فبدأ بذِكر اليهود لسببين:
الأول أنهم أقدم الشعوب التي أُنزلت عليها الكتب السماوية، والثاني لأنهم كانوا أشد الناس حقداً على المؤمنين في المدينة المنورة. كان اليهود في المدينة وشمال الحجاز، في خَيبر وغيرها، يكيدون للاسلام، ويوغرون صدور المشركين على النبي والصحابة، فذكّرهم الله تعالى بنعمته عليهم إذا جعل النبوة فيهم زمناً طويلا، وطلب اليهم القيام بواجب شكرها وكأنه يسألهم أن أوفوا بوعدي الذي أخذتُه علكيم وأقررتموه على أنفسكم وهو الايمان والعمل الصالح والتصديق بمن يجيء بعد موسى من الأنبياء حتى أوفي بوعدي لكم، وهو حسن الثواب والنعيم المقيم.
وهذه الآية تشير إلى وجوب وفاء كلا المتعاقدين بما عليه من التزام، فاذا أخلّ احدهما بالتزامه سقط وجوب الوفاء عن الآخر.
ان عليكم يا أبناء يعقوب وذريته أن تؤمنوا بالقرآن الذي أنزلتُ مصدّقاً لما عندكم من كتب، واحذروا ان تسارعوا إلى جحود القرآن فتكونوا أول الكافرين به بدل أن تكونوا أول المؤمنين بهديه.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تُعرِضوا عن التصديق بالنبيّ وما جاء به وتستبدلوا بهدايته هذا الثمن القليل الذي يستفيده الرؤساء من مرؤوسيهم من مالٍ وجاه، ويرجوه المرؤوسون من الحظوة باتباع الرؤساء خشية سطوتهم إذا ما خالفوهم. كذلك اتقوني بالإيمان، واتّباع الحق، والإعراض عن لذات الدنيا متى شغلت عن أعمال الآخرة.
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} لا تخلطوا الحق المنزَل من عند الله بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، ولا تكتموا الحق وأنتم تعرفونه حق المعرفة.
لقد بيّنت هذه الآية مسلكهم في الغرابة والإغراء... فرغم انه قد جاء في الكتب التي بين أيديهم تحذير متكرر من أنبياء كذَبةٍ يُبعثون فيهم ويجترحون العجائب، وجاء فيها أيضاً ان الله تعالى يبعث فيه نبياً من ولد اسماعيل وزوجه الجارية هاجر فقد ظلّ الاحبار يكذبون على العامل ويقولون: إن محمداً واحدٌ من اولئك الأنبياء الذين وصفتهم التوراة بالكذب. لقد ظلوا يكتمون ما يعرفون من أوصافه التي تنطبق عليه، وبذلك يحرّفون كثيرا من الكتب التي بين أيديهم.
وهنا أمَرهم الله تعالى أن يؤمنوا حقيقة وفعلاً، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة علّها تطهّرهم، ثم أن يركعوا مع الراكعين.. حتى يكون من المسلمين حقيقة.