فصل: تفسير الآيات (54- 55):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (54- 55):

{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)}
السلام: البراءة والعافية من الآفات والعيوب، والسلام أيضا من اسماء الله تعالى.
وقد استُعمل السلام في التحية بمعى تأمين المسلَّم عليه من كل أذى من المسلِّم.
كتب: أوجَبَ الجهالة: السفَه والخفة والغفلة. تستبين: تتضح وتظهر.
بعد أن نهى الله تعالى نبيه عن طرد المستضعفين من حضرته أملاً في استمالة المشركين المتكبرن من بني قومه- أمره أن يلقى الذين يدخلون في الإسلام بين حين وآخر، يعلّمهم ويبشّرهم برحمته تعالى ومغفرته.
{وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ....} الآية.
اذا جاءك الذين تصدّقون بك وبرسالتك سائلين عما إذا كان لهم توبة عن ذنوبهم التي فرطت منهم، فقل لهم تكريماً لهم: سلام عليكم، إنني ابَشّركم برحمة اله الواسعة.. لقد أوجَبَها على ذاته تفضّلاً منه. وهي تقضي ان من تاب ورجع عن ذنبه نادماً ثم أصلح عمله- غفر الله له، وشمله بعطفه.
{وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين}.
يبين سبحانه انه فصّل الحقائق للمؤمين حتى يبتعدوا عن سلوك المجرمين.

.قراءات:

قرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بفتح الهمزة {أنه من عمل منكم سوءا} والباقون بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر ويعقوب {فأنه غفور رحيم} بفتح الهمزة، والباقون بكسرها. وقرأ نافع {لتستبين سبيلَ} بالنصب وقرأ ابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم بالرفع. والباقون بالياء، وبرفع {سبيل}.

.تفسير الآيات (56- 58):

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}
وتدعون من دون الله: تعبدون البيّنة: الحجة الواضحة، وكلما يُتبين به الحق. يقُصّ الحق: يخبر به. خير الفاصلين: القاضين في الأمور.
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله}.
قل ايها النبي لهولاء الكفار الذين يدعونك إلى الشِرك بالله، إن الله قد نهاني عن عبادة الذين تعبدونهم من دون الله، فلا أتبع أهواءكم، ولو فعلتُ ذلك واتبعتكم أكون قد انحرفتُ عن الحق، وسِرتُ على غير هدى.
ثم امره ان يقول لهم: إني على هدى من ربي فيما أّتبعه، فأنا على شريعة واضحة منزلة من ربي. أما أنتم فقد كذَّبتم القرآن الذي جاء بها، وليس في قدرتي أن أقدم ما تستعجلونه من العذاب، فذلك داخل في قدرة الله ومروهو بارادته. ثم اكد ما سبق بقوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} في هذا وفي غيره من شئون الأمم، إن شاء عجّل لكم العذاب وان شاء أخّر. وله في ذلك سنن حكيمة، وهو يقص على رسوله القصص في وعده ووعيده، إنه خير الفاصلين بيني وبينكم.
قل ايها الرسول لهؤلاء الذين يستعجلون العذاب بقولهم {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] لو ان في قدرتي انزال العذاب الذي تتعجلونه، لأنزلته عليكم غضباً لربي، لكن الأمر لله، وهو اعلم بما يستحقه الكافرون من العذاب العاجل أو الآجل.

.قراءات:

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم {يقص} بالصاد من القصص والباقون {يقضي} من القضاء.

.تفسير الآيات (59- 62):

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)}
المفاتح: جمع مفتح بفتح الميم، ومفتاح. يتوفاكم بالليل: جعل النوم مثل الموت. توفّاه أخذه وافياً كاملا. جرحتم: عملتم. يبعثكم فيه: يرسلكم ويوقظكم من النوم في النهار. الأجل المسمى: مدة البقاء في الدنيا. الحفظة: الملائكة الكرام الكاتبون.
بعد أن أمر الله تعالى الرسول ان يبين للمشركون انه على بينة من ربه فيما بلّغهم من الوحي، وان ما يستعجلونه من العذاب ليس عنده، وان الله تعالى يقضي الحق ويقصه على رسوله- عَمَد إلى وصف حقيقة الالوهية في مجال عميق من مجالاتها الفذة، هو مجال الغيب المكنون. فيقول:
وعند الله علمُ جميع المغّيبات، لا يحيط بها علماً الا هو وحده، ومن أظهره هو على بعض العلم كما جاء في سورة الجن {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ}.
والمغّيبات قسمان:
مغيبات مطلقة لا يمكن أن يصل إليها العقل الانساني، ومنها ما يقع للإنسان في المستقبل من حوادث تتعلق به.
ومغيبات نسبية، وهي ما يتعلق بأسرار الكون وما فيه، وتسخيره لخدمةالإنسان، فإن العلم بها قد يغب اجيالا ثم يظهر من بعد. ومفاتح هذه المغيبات أيضا بيد الله، ويوفّق إليها من يشاء من عباده الذين يتعمقون في دراسة الكون. ومن ذلك الاختراعاتُ التي نرى بعض الناس يصلون إليها بعد جهد جهيد بتوفيق الله.
روى البخاري عن سالم بن عبد الله عن ابيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الغيْبِ خَمْس: إن الله عندَهُ عِلمُ الساعةِ، ويُنَزّلُ الغيْثَ، ويعلَمُ ما في الأرحامِ، ما تَدري نفسٌ ماذا تَكسِبُ غَداً، وما تَدرِي نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت، إن الله عَلِيمٌ خَبير».
ويحيط علم الله كذلك بجميع الموجودات في البر والبحر، ولا تسقط ورقة عن شجرةً إلا بعلمه، ولا حبة ما في باطن الأرض، ولا شيء رطب ولا يابس، الا هو في اللوح المحفوظ عند الله.
والخلاصة، إن عند الله عِلمَ ما لا تعلمونه، وعنده علم ما يعلمه جميعهم، فهو يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.
وهو الذي يتوفى أنفسَكم في اثناء النوم، أي يُزيل إحساسها، ويوقظكم في النهار، ويعلم ما كسسبتم فيه... حتى ينتهي أجَل كل منكم، ثم ترجعون اليه يوم القيامة فيخبركم باعمالكم ويجازيكم عليها.
{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً}.
بعد أن بين الله امر الموت والرجوع اليه للحساب، والجزاء، ذكره فهره لعباده وارسال الحفظة لاحصاء اعمال البشر فقال: إن الله هو الغالب بقدرته، المستعلي بسلطانه على عباده، يرسل عليكم ملائكة يحصون اعمالكم إلى ان تجيء نهاية كل منكم، فتقبض روحه ملائكتنا الذين نرسلهم لذلك وهم لا يقصّرون فيما يوكل اليهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكةُ بِالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلّون، وأتيناهم وهم يصلّون».

.قراءات:

قرأ حمزة {توفاه رسلنا} بالألف الممالة، والباقون {توفته رسلنا}.

.تفسير الآيات (63- 64):

{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)}
ظلمات البر والبحر: حسيّة، كظلمة الليل وظلمة السحاب، ومعنوية، كظلمة الجهل بالمسالك، وظلمة الشدائد والاخطار. والعرب تقول لليوم الذي فيه شدة: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. وفي المثَل، رأي نجوم الظهر. التضرع: المبالغة في الدعاء. والخفية: بضم الخاء وكسرها الخفاء والاستتار. الكرب: الغم الشديد.
بعد أن أبان تعالى لعباده إحاطة علمه، وشمول قدرته، وانه القاهرة فوق عباده- ذكّرهم هنا بالدلائل الدالة على كمال قدرته الإلهية. فأمر رسوله ان يَسأل المشركين الغافلين عن انفسهم: من يننجيكم من ظلمات البر إذا ضللتم فيه فتحيّرتم أين تذهبون، ومن ظلمات البحر اذار ركبتموه فأظلم عليكم فلم تهتدوا؟ من يفعل ذلك غير الله الذي تلجأون إليه في خضوع، معلنين الدعاء تارة ومخفين إياه أخرى، مقْسِمين: لئن أنجيتَنا من هذه المخاطر لنكونن من الشاكرين لفضلك بالعبادة لك.
{قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ}.
ان الله وحده هو الذي ينقذكم من هذه الاهوال، ومن كل شدة اخرى، وعلى ذلك فسرعان ما تَحنِثون بأقسامكم وتشركون مع في العبادة غيره.

.قراءات:

قرأ يعقوب {قل من ينجيكم} بدون تشديد، والباقون {ينجيكم} بتشديد الجيم. وقرأ أبو بكر: {وخفية} بكسرا لخاء والباقون بضمها وقرأ أهل الكوفة {انجانا} وأماله حمزة والكسائي وخلق. وقرأ الباقون {لئن أنجيتنا} وقرأ أهل الكوفة: {قل الله ينجيكم} بالتشديد، والباقون بالخفيف.

.تفسير الآيات (65- 67):

{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
الشيع: واحدها شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر. أو يلبسكم شيعا: يخلط أمركم خلط اضطراب فيجعلكم فرقاً مختلفة. بأس: شدة نصرف الآيات: نحولها من نوع إلى آخر من فنون الكلام. يفقهون: يفهمون. مستقر: وقت استقرار ووقوع.
بعد أن بيّن تعالى الدلائل على كمال القدرة الآلهية، ونهاية الرحة بعباده، ذكر هنا قدرته على عذيبهم إن عصوَه، وأبان ان عاقبة كفران النعم زوالها.
قل ايها الرسول لقومك الذين لا يشكرون نعمة الله ويشركون معه غيره في العبادة: إن الله وحده هو الذي يقدر على أن يرسل عليكم عذاباً يأتيكم من أعلاكم أو من أسفلكم، أو يجعل بعضكم لبعض عدوّاً، وتكونون طوائف مختلفة الاهواء متناكرة، يقتل بعضكم بعضا.
انطر ايها الرسول كيف دلّت الدلائل على قدرتنا واستحقاقنا وحدنا للعبادة، ومع هذا لا يؤمن قومك بذلك!! لا شك ان هذه الآية من معجزات القرآن الذي لاتفنى عجائبه، فإن فيها نبأ مَن كان قبل الإسلام، ومن كان زمن التنزيل، ومن سيأتي بعدهم.
فهذه الحروب التي تشبّ في عصرنا فيها من الأهوال ما لم يسبق له نظير، فقد ارسل الله على تلك الأمم المحاربة عذاباً من فوقها تقذفه الطائرات والصواريخ وعذاباً من تحتها تقذفه الغواصات من اعماق البحار، وتهلك به مختلف السفن، كما جعل امم اوروبا شيعاً متعادية، ذاق بعضُها بأس بعض فحلّ بها من القتل والدمار والتخريب ما يشيب له الاطفال.
واذا نظرنا في احوالنا نحن العرب والمسلمين، نجد أننا يعادي بعضنا بعضا ونحترب، فيما العدو مترّبص بنا يتظر لينقضّ علينا ويلتهم ما يستطيع من أراضينا وبلادنا. وما ذلك إلا لأننا بعُدنا عن ديننا، وغرّتْنا الحياة الدنيا، فاصبحنا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون.
روى أحمد والترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {قُلْ هو القادِر...} الخ قال: أما إنّها كائنةٌ ولَمء يأتِ تأويلُها بعد....».
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق...}.
ثم ذكر الله تعالى ان قوم الرسول الكريم قد كذبوا بالقرآن على ما فيه من الآيات الواضحة البينة، وهو الحق الثابت، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ثم امر رسوله أن يبلغهم أن لا سبل له في اجبارهم على الايمان به فقال: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل} لا أنا حفيظ ولا رقيب، وإنما أنا رسول أبلّغكم رسالات ربي، ولا أملك القدرة على اجبار الناء ان يؤمنوا.
ثم هددهم وتوعدهم على التكذيب به فقال: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} لك خبر جاءَ به القرآن وقت يتحقق فيه، وسوف تعلمون صدق هذه الاخبار عند وقوعها.

.تفسير الآيات (68- 70):

{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
يخوضون في آياتنا: يسترسلون في الحديث بتشيوه تلك الآيات. ولكن هذا تذكير لهم. ان تبسل نفس: إن تحبس بما كسبت وتمنع. السبل: حبس الشيء ومنعه بالقهر، ومنه شجاع باسل أي مانع غيره. تَعْدِل: تَفْدش كل فداء. الحميم: الشديد الحرارة. ألِيم: شديد الألَم.
بعد أن ذكرا لله تعالى في الآيات السابقة تكذيب كفار قريش، وبيّن ان الرسول عليه الصلاة والسلام مبلّغ للناس عن ربّه لا خالق للايمان فيهم- جاءت هذه الآيات لبيّن كيف يعامل المؤمنُ من يتخذ دين الله هزواً ولعبا من الكفار الذين كانوا يستهزئون بالقرآن وبالرسول والمستضعَفين من اسحابه الكرام. وكذلك كيف يعامل المؤمن أهل الأهواء والبِدع في كل زمان ومكان. والمخاطَب في هذه الآيات هو الرسول عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من المؤمنين، ثم المؤمنين في كل زمان.
{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ...} الآية.
اذا حضرتَ مجلس الكفار، أو جاء المشركون ليستمعوا اليك، ووجدتهم يطعنون في آيات القرآن، أو يستهزئون بها، فانصرِف عنهم يا محمد حتى ينتقلوا إلى حديث آخر. وإن نسيتَ وجالستَهم وهم يخضون، ثم تذكَرت أمر الله بالبعد عنهم- فلا تبقَ معهم أبداً.
وسرُّ هذا النهي أن الإقبال على اولئك الخائضين والقعود معهم يغريهم في التمادي، ويدل على الرضا به والمشاركة فيه. وهذا خطر كبير لما فيه من سماع الكفر والسكوت عليه.
{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ}.
ثم بين الله تعالى ان المؤمنين إذا فعلوا ذلك فلن يشراكوا الخائضين في الإثم، لكن عليهم أن يذكّروهم، لعلّهم يكّفون عن الباطل.
{وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا}.
واترك يا محمد، انت ومن اتبعك من المؤمنين، جميعَ الذين اتخذوا دينهم لعبا، فلقد خدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة، فآثروها واشتغلوا بلذائذها الفانية.
{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}.
وبعد أن امرهم بترك المستهزئين بدينهم امر بالتذكير بالقرآن فقال: ذكّر يا محمد دائما بالقرآن، وحذرهم هول يوم القيامة، يوم تُحبس فيه لك نفس بعلمها. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} لا ناصر يومذاك ولا معين غير الله.
{وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ}.
ثم أرشد إلى أنه لا ينفع في الآخرة إلا صالح الاعمال، فلا شفيع ولا وسيط، وكلُّ فِدية للنجاة من العذاب مرفوضة ولا ينفع النفسَ أي فدية تقدمها في ذلك اليوم.
ثم يبين الله أن هذا الإبسال كان بسوء صنِيعهِم، حيث اتخذوا دينهم هزواً ولعباً فحُرموا الثواب، وحُبسوا عن دار السعادة. لقد أحاطت بهم خطاياهم، فاستحقّوا ان يكون {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}، أي شراب من ماء شديد الحرارة، وعذاب شديد الألم بنار تشتعل في أبدانهم.
وفي ذلك عبرة لمن ينفعه القرآن، ولا يَغتَرُّ بلقب الإسلام فقط، ويعلم أن المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنَّةَ رسوله طريقه، لا من اغتّر بالأماني وركن إلى شفاعة الشافعين.
وفي ذلك عبرة لمن ينفعه القرآن، ولا يَغتَرُّ بلقب الإسلام فقط، ويعلم ان المسلم من اتخذ القرآن إمامه، وسنَّةَ رسوله طريقه، من اغتّر بالأماني وركن إلى شافعة الشافعين.