فصل: تفسير الآيات (91- 92):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (91- 92):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
ما قدره الله حق قدره: ما عرفوه حق معرفته والقدر والمقدرا: القوة أيضا. والقدر الغِنَى والشرف. قراطيسك واحدها قرطاس، وهو ما يُكتب فيه من ورق أو جلد أو غيرها ذرهم: اتركهم خوضهم: كلامهم بالباطل، وتصرّفهم الشائن، أم القرى: مكة المكرمة، لأنها قبله الناس، وفيها أول بيت وُضع للناس، فهي تعظَّم كالأم.
بعد أن ذكر الله ما تفضل به على إبراهيم والانبياء الذين ذكرهم، وانه اجتباهم وهداهم إلى الصراط المستقيم، وامر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهتدي بهُداهم- جاء في هذه الآيات يندّد بمنكِري الرسالات، ويصفهم بانهم لا يقدّرون الله كما يجب، ولا يعرفون حكمته ورحمته وعدله. ومن ثم يقرّر أن الرسالة الأخيرة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم تجري على سنّة الرسالات قبلها، فالقرآن الكريم مصدّق لما سبقه من المكتب، وكلُّ من عند الله.
{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ...} الآية.
ما قَدّر هؤلاء الكفار الله حق التقدير، إذ أنكروا أن تنزل رسالتُه على أحد من البشر. فقل أيها النبي للمشركين ومن يشايعهم على ذلك من اليهود: إذنْ من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، نوراً يضيء، وهدى يرشد؟ إنكم ايها اليهود تجعلون كتابه في أجزاء متفرقة... تُظهرون منها ما يتفق وأهواءكم، وتُخفون ما يٌلجئكم إلى الإيمان بالقرآن والنبي. هكذا مع أنكم علمتم منه ما لم تكونوا تعلمون، لا انتم ولا آباؤكم.
وبعد أن بيّن سبحان انكار المنكرين للوحي بعبارة تدل على جهلهم، قال لرسوله: تولَّ إذن أيها النبي الجوابَ وقل لهم: إن الله هو الذي أنزل التوارة. ثمّ دعْهم بعد هذا فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم.
ومن المؤسف ان هذا القول الذي قاله مشركو مكة في جاهليتهم إنما يقوله أَمثالهم في كل زمان بل منهم من يقولونه الآن، ممن يزعمون ان الأديان من صنع البشر، قد تطوّرت وترقت بتطور البشر في أحوالهم. وكثير من هؤلاء المثقفين على ايدي الأجانب، وكثير منهم يحتلّ مراكز كبيرة في الدول العربية والاسلامية غرّتهم الحياة الدنيا، وغرهم الغرور.
{وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ...} الآية.
وهذا القرآن كتاب عظيما لقدر أنزلناه على خاتم رسلنا كما أنزلنا من قبله التوراة على موسى. وقد باركنا فيه فجعلناه كثير الخير، دائم البركة، يبشر بالثواب والمغفرة، مصدّقاً لما تقدّمه من كتب الأنبياء، ومنذراً لأهل مكة من عذاب الله. فمن كان يؤمن بالقيامة فإنه يؤمن بهذا الكتاب. والمؤمنون به يحافظون على صلاتهم، فيؤدونها في اوقاتها كاملة مستوفاة. وقد خُصت الصلاة بالذِكر ههنا، لأنها عماد الدين.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو وابن كثير: {يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون} بالياء، والباقون {بالتاء} وقرأ أبو بكر عن عصام {لينذر} بالياء، والباقون {لتنذر} بالتاء.

.تفسير الآيات (93- 94):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
الافتراء: اختلاف الكذب. غمرات: واحدها غمرة، الشدة. اليوم: المراد به يوم القيامة عذاب الهون: الذل الهوان. فرادى: واحدهم فرد. خولناكم: اعطيناكم. وراء ظهوركم: لم تنتفعوا به تقطّع بينكم: انقطع ما بينكم من صلات ضل: غاب.
بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب من عند الله، وبذلك رد على الذين أنكروا إنزاله على محمد- قَفَّى هنا على ذلك بوعيد من كذَب على الله أو ادعى النبوة.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}.
ليس امرؤ أشدّ ظُلماً ممن كذب على الله، أو قال تلقيّت وحياً من عند الله كذبا وبهتاناً، كما فعل مسيلمة الكذّاب والأسوَد العنسي فيما بعد.
{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله}.
كذلك ليس أحد اشدّ ظلماً ممن قال: سآتي بكلام مثل هذا القرآن. وكان النضر ابن حارث بن كلدة، أحد كفار قريش، يقول: إن القرآن أساطير الاولين، وهو شعر لو نشاء لقنا مثله. كما كان يجمع الناس بمكة ويقول لهم: تعالوا: أحدّثكم بأحسن من حديث محمد. وقد أُسر النضر يوم بدرٍ وقُتل بعد أن انتهت المعركة، وجاءت أخته قتيلة، ويقال إنها بنته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة ترثي أخاها وتعاتب الرسول الكريم منها:
يا راكباً ان الأُثَيْل مظنة ** من صبح خامسة وانت موفق

أمحدٌ يا خير ضِنْءِ كريمة ** في قومها والفحلُ فحل مُعْرِق

ما كان ضرَّك لو مننتَ وربما ** منّ الفتى وهو المَغيظُ المحنّق

الأثيل: بالتصغير موضع قرب المدينة. ضنء: نسل.
قال ابن هشام في السيرة: إن النبي عليه السلام عند سماعها قال: «لو بلغَني هذا الشعر قبل قوله لمننتُ عليه».
{وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملاائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ}.
الخطاب للرسول الكريم، ثم لكم من سمعه أو قرأ ومعناه: لو تُبصر إذ يكون الظالمون في شدائد الموت، تحيط بهم كا تحيط غمرات الماء بالغرقى- رأيتَ ما لا قدرة للبيان على وصفه. اذنْ لرأيتَ الملائكة ينزعون ارواحهم من اجسادهم في قسوة وعنف.
ثم حكمى سبحانه أمر الملائكة لهم على سبيل التكَم ولاتوبيخ حين بسطوا أيديهم لقبض أرواحهم {اَخرِجُوا أنفُسَكُم}.
{اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.
يؤمئذ يقال لهم: الآن تبدأ مجازاتكم بالعذاب المذلّ المهين، جزاء ما كنتم تقولون على الله غير الحق (كقول بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء، وقول بعض آخر: إنه أوحي اليه، وما أشبهَ ذلك من الكفر والعناد)، وجزاء استكباركم عن النظر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية.
ثم ذكر الله تعالى ما يقوله لهم الله يوم القيامة بعد ذلك ما تقول لهم ملائكته فقال: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ...}.
لقد تأكدتم الآن أنكم بُعثتم أحياء من قبوركم، كما خلقناكم اول مرة، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد، تاركين وراءكم في الدنيا كل شيء كنتم تغترّون به. اننا لا نرى معكم اليوم أولئك الشفعاء الذين زعمتم انهم ينصرونكم عند الله، لأنهم شركاء له في العبادة... لقد تقطّعتْ بينكم وبينهم كل الروابط، وخابت آمالكم في كل ما زعمتم، فلا فداء ولا شفاعة، ولا يغني عنكم من عذاب الله من شيء.

.تفسير الآيات (95- 99):

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}
الفلق: الشق. الحب: الحنطة، وكل انواع الحبون. النوى: واحدها نواة وهي بزرة التمرة والزبيبة. الإصابح: الصحب جعل الليل سكمنا: ليسكُن الإنسان فيه ويستقر. الحسبان: الحساب والتوقيت. المستقر: موضع القرار والاقامة. المتسودع: موضع الوديعة. خضرا: نباتا غضا اخضر. متراكبا: بعضه فوق بعض. الطلع: اول ما يظهر من زهر النخل قبل ان يشق عنه الغلاف. القنوان: واحدها قنو: العذِق وهو مثل العنقود من العنب. ذانية: قريبة التناول. ينعه: حين ينضج: تؤفكو: تضلون، تصرفون.
بعد أن أثبت الله سبحانه امر التوحيد وثبّته، ثم أردف أمر النبووة والبعث، وردّ على منكري الوحي، وأوعدهم يوم الجزاء شراً- جاء هنا ليطلع الناس على آياته العظمى في هذا الكون العجيب.
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحيإن الله فَالِقُ الحب والنوى يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي}.
ان دلائل قدرة الله على البعث، واستحقاقه وحده للعبادة، متوافرة متنوعة. فهو وحده الذي يشق الحب ويخرج منه النبات، ويشق النوى ويخرج منه الشجر. انه هو الذي يخرج الحي من الميت، كالإنسان من التراب، والميتَ من الحي، كاللبن من الحيوان.
ولقد اقترنت (فالقُ الحب والنوى) بآية (فالق الإصابح) وهي تدل على وجود الضوء والضلام، وان الضوء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمو النبات والاشجار. ذلك أن الحب والنوى بعد أن تُفلق نباتاً إنما تحتاج إلى غذاء... وهذا الغذاء يتكون من عناصر الأرض الخِصبة، ومن ضوء الشمس، فجذور النبات تتغذى من الأرض، وأغصانه واوارقه تتغذى من حرارة الشمس التي يؤذن بها الصباح.
وهذه من قدرة الله وحده، فلا يقدر إلا الله أن يجهّز الكائن الحي بالقدرة على إحالة الذرات الميتة إلى خلايا حية، أو تحويل الخلايا الحية مرة اخرى إلى ذارت ميتة.
يقول الدكتور ايرفننج وليام في ماقل عنوانه: المادية وحدها لا تكفي، في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم): إن العلوم لا تستيطع ان تفسر لنا كيف تشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها والتي تتكون منها جميع المواد. كما لا تستطيع ان تفسر لنا، بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها، كيف تتجع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكوّن الحياة. ولا شك ان النظرية التي تدّعي ان جميع صور الحياة الراقية قد وصلت إلى حالتها الراهنة من الرقي، بسبب حدوث بعض الطفرات العشوائية والتجمعات والهجائن، نظريةٌ لا يمكن الأخذ بها الا عن طريق التسلمي فهي لا تقوم على اساس من المنطق والاقناع.
ويقول الدكتور البرت ماكوب ونشستر، التخصص في علم الاحياء، في مقال: العلوم تدعم ايماني بالله، من كتاب (الله يتجلى في عصر العلم).
لقد اشتغلت بدراسة علم الآحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدارسة الحية وليس بين مخلوقات الله اروع من الاحياء التي تسكن هذا الكون.
انظر إلى نبات برسيم ضئيل، وقد نما على احد جوانب الطريق. هل تستطيع ان تجد له تظيراً في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟ انه آلة حيّة تقوم بصورة دائبة لا تنقطع آناء الليل واطراف النهار، بالآف من التفاعلات الكيماوية والطبيعية. ويتم كل ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهي المادة التي تدخل في تركيب الكائنات الحية.
فمن أين جاءت هذه الآلةُ المعقدة؟ ان الله لم يصنعها هكذا وحدها، ولكنه خلَق الحياة، وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعيننا على التمييز بني نبات وآخر. ان دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أورع دراسات علم الاحياء، واكثرها اظهارا لقدرة الله. ان الخلية التناسلية التي يتج عنها النبات الجديد، تبلغ من الصغر درجة كبرى بحيث يصعب مشاهدتها الا باستخدام المجهر. ومن العجيب ان كل صفة من صفات النبات، كل عرق، وكل شُعَيْرة، وكل فرع على ساق، وكل جذر أو ورقة- يتم تكوينها تحت اشراف مهندسين قد بلغوا من دقة الحجم مبلغا كبيرا، فاستطاعوا العيش داخل الخلية التي نشأ منها النبات!! تلك الفئة نم المهندسين هي فئة الكروموسومات (ناقلات الوراثة) ولك ذلك يتم بإذن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وبقدر الله الذي تتم به كل حركة في الوجود كله.
{ذلكم الله} ربُّكم مبدعُ المعجزة المتكررة ذات السر العجيب {فأنى تُؤْفَكُونَ}؟ فكيف تُصرفون عن هذا الحق الواضح للعقول والعيون! كيف تشركون به من لا يقدر على شيء من ذلك!؟.
ويجيء ذكر معجزة انبثاق الحياة من الموت كثيرا في القرآن الكريم كما يجيء ذكر خلق الكون ابتداءً- في معرض التوجيه إلى حقيقة الالوهية، وآثارها الدالة على وحدة الخالق وقدرته. ويهدف ذلك إلى تقويم تصور البشر بإعطائهم العقيدة الصحيحة.
{فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم}.
هو الذي يجلو غبش الصبح بضوء النهار ليسعى الاحياء إلى تحصيل أسباب حياتهم ومعاشهم، وجعل الله الليل سَكَناً يستريح المتعَب فيه من العمل بالنهار، وتسكن فيه نفسُه. وأكثر الأحياء من الإنسان والحيوان تترك العمل والسعي في الليل، وتأوي إلى مساكنها للراحة.
كما سيّر الشمس والقمر بنظام دقيق يعرف به الناس مواقيتَ عبادتهم ومعاملاتهم، وهذا النظام المحكم تدبيرُ من الله المسيطر على الكون، المحيط علمه بكل شيء، البعيد المدى في الابداع والاتقان، والذي قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.

.قراءات:

قرأ أهل الكوفة {جعل الليل سكنا} وقرأ الباقون {جاعل الليل}.
جعل: خلق النجوم: جمع نجم وهي الاجرام السماوية التي نرى كثيرا منها بالعين المجردة. والمراد بالظلمات ظلمة الليل، في اسفارنا برا وبحرا.
ان الله هو الذي خلق لكم النجوم ايها الناس تستدلّون بها على الطريق فتسلكونها وتنجون من الأخطار في البر والبحر. فالله سبحانه وتعالى يذكّرها ببعض فضله علينا في تسخير هذه النيرات التي نراها صغيرة، لبعدها عنا، بعد أن سبق وذكَرنا ببعض فضله في الشمس والقمر اللّذين يبدوان كبيرين في أعين الناس لقربهما.
وأقرب كوكب منا هو القمر، يبعد عن الأرض بنحو مائتين وأربعين الف ميل، وهو يدور حول الأرض ويكمل دورته في ستعة وعشرين يوما ونصف يوم. وتبعد أرضنا عن الشمس ثلاثة وتسعين مليون ميل، وهي تدور حول محورها بسرعة الف ميل في الساعة، وتدور حول الشمس في دائرة مساحتها مائة وتسعون مليون ميل، وتستكمل دورتها في هذه الدائرة مرة واحد في سنة كاملة. وتوجد تسعة كواكب مع الأرض هي: عطارد والزهرة والمّريخ وزحَل والمشتري واورانونس ونبتون وبلوتو، وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة، بعضها يكلم دورة كاملة في ثمانية يوماً وهو عطار، اقرب الكواكب إلى الشمس؛ وبعضها يكمل دورة كاملة في مدة مائتين وثمان واربعين سنة وهو بلوتو، أبعد الكواكب من الشمس. وهو يدرو في دائره مساحتُها سبعةُ بلايين وخمسمائة مليون ميل. وحول هذه الكواكب يدور واحد وثلاثون قمراً أخرى. وتوجد غير هذه الكواكب حلقة من ثلاثين ألفا من (النجيمات) وآلاف المذنبات، وشهب لا حصر لها ولكها تدور حول ذلك السيّار العملاق الذي نسميه الشمس، التي يبلغ قطرها: ثمانمائة وخمسة وستين الف ميل. وهي اكبر من الأرض بمليون وربع ميلون مرة.
ولا تشكّل هذه الشمس وما حولها من الكواكب المذكورة، والاقمار، والنجيمات، والشهب التي تشغل هذا المجال الواسع- ذرةً صغيرة في هذا المكان الواسع الذي لا يدركه عقل ولا بصر. ثم إن هذه الشمس ليست بثابتة أو واقفة في مكان ما، وانما هي بدورها، ومع كل هذه الاجرام التي ذكرناها- تدور في النظام الرائع البديع بسرعة 600.000 الف ميل في الساعة وفي هذا الكون الفسيح العجيب آلاف الانظمة غير نظامنا الشمسي يتكون منها ذلكم النظام الذي نسمّيه (المجرّات) أو مجاميع النجوم، وكأنها جميعها طبق عظيم تدرو عليه النجوم والكواكب منفردة ومجتمعة، كما يدور الخذروف (البلبل) حين يعلب الاطفال.
ومجرّات النجوم هذه تتحرك بدورها ايضا، فالجرّة التي يقع فيها نظامنا الشمسي تدور حول محورها بحيث تكمل دورةً واحدة كل مائتي بليون سنة صوئية 200.000.000.000. وهذا شيء مذهل ومحيِّر لا تتصوره العقول.
ويقدّر علماء الفلك أن هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من المجرات، في كل منها (مائة مليون) من النجوم، أو اكثر أو اقل.
ويقدّرون ان أقرب مجموعة من النجوم، وهي التي نراها في الليل كخيوط بيضاء دقيقة والتي نسميها درب التبّانة، تضم حَيّزاً مداه ألف سنة ضوئية. وسرعة الضو 300.000 الف كيلو متر في الثانية. وبمعرفة هذه الحقيقة يتبين لنا اتساع السنة الضوئية ومقدار زمنها، وكم تكون مسافة الف سنة ضوئية. انها شيء مذهل حقا، فوق تفكير البشر وطاقته.
ونبعد نحن سكان الأرض عن مركز هذه المجموعة بمقدار ثلاثين الف سنة ضوئية، وهذه المجموعة جزء من مجموعة كبيرة تتألف من سبع عشرة مجرة. وقطرة هذه المجموعة الكبيرة (ذات السبع عشرة) مليونان من السنين الضوئية.
والحديث في هذا الموضوع طويل جدا، ومحيّر ومذهل. وحين ينظر العقل إلى هذا النظام العجيب، والتنظيم الدقيق الغريب المدهش لا يلبث ان يحكم باستحالة ان يكون هذا كله قائما بنفسه، بل ان هنالك طاقة غير عادية هي التي تقيم هذا النظام العظيم، وتهين عليه.
ولما في عالم السماوات وهذا الكون الذي بينا لمحة موجزة عنه- من بديع الصنع والنظام- ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
أي أنّا بينّا دلائل رحمتنا وقدرتَنا لقوم ينفعون بالعلم. فهو يوجّهنا إلى هذا الكون، وما فيه من حقائق مذهلة، تدفعنا إلى التدبر والتذكّر. الله اجعلنا ممن ينتفعون بالعلم والمعرفة، وثّبت قلوبنا بالإيمان الصادق.
وبعد أن بيّن لنا تعالى بعض آياته في هذا الكون العجيب ليذكّرنا بذلك، وبنبّه الناس من غفلتهم، عطف الحديث ليذكّرنا بآياته العجيبة في انفسنا. ذلك لأن الإنسان هو أعظم شيء في الوجود.
{وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
الانشاء: ايجاد الشيء وتربيته. النفس: تطلق على الروح وعلى الشخص المركّب من روح وبدن.
والنفس البشرية الأولى هي آدم، والله تعالى هو الذي أوجدَكم من أصل واحد هو أب البشر آدم. وتبدأ الحياة من حيوان صغير لا يُرى بالعين المجردة، فالنفس هي مستودع لهذه الخلية في صلب الرجل، وهي مستقر لها في رحم الأنثى. ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار في هذه الأرض التي هي مكان استقراركم في حياتكم، ومستودعٌ لكم، بعد موتكم. هكذا فصّلنا الآياتِ لقوم يفقهون، وبيّنا دلائل قدرتنا لقوم يفقهون ما يُتلى عليهم، ويدركون الأشياء على وجهها فالفقه هنا، وهو اعمق الفهم، ضروريٌ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة التي يخرُج منها أشكال وألوان، فيهب الله لمن يشاء اناثا، ويهب لمن يشاء الذكور.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {فمستقِر} بكسر القاف والباقون بفتح القاف.
{وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً}.
خضراً: أخضر قنوان: جمع قنو وهو الفرع الصغير في النخلة، ويسمى العذق والعِرجون وهو الذي يحمل الثمر.
دانية: قريبة متدلية ينعهِ: نضجه.
ثم ينقلنا إلى مشاهد الحياة المتفتحة في جنبات الأرض، فيذكر آية اخرى من آيات التكوين ويبين لنا دور الماء الظاهر في إنبات كل شيء.
وهو الذي أنزل من السحاب ماءً فأخرج به نبات كل صنف، جاء بعضه غضّاً طريا، يخرج منه حبٌّ كثير بعضه فوق بعض. ون غبار طلع النخل تخرج عراجين محمّلة بالثمار قريبة سهلة التناول. كذلك أخرجنا بفضل الماء جناتٍ من الأعناب والزيتون والرمان، منها ما هو متشابه الثمر حين يثمر، والى نضجه كيف تم بعد اطوار مختلفة. ثم وازنوا بين صفاته في كل من الحالين، يتبين لكمن لطف الله وقدرته. أليس في ذلك دلائل عظيمة على وجود القادر الحكيم لقوم ينشدون الحق؟!

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: {ثمره} بضم الثاء والميم، جمع ثمرة والباقون: {ثمره} بفتح الثاء والميم.
بعد هذا العرض الواضح لدلائل وجود الله ووحدانيته وقدرته يبين لنا الله تعالى شِرك المشركين وأوهامهم وسخفهم، فيعقّب على ذلك كلّه بالاستنكار فيقول: {وجعلوا لله شركاء...}.