فصل: تفسير الآيات (28- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (28- 30):

{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)}
الفاحشة والفحشاء: ما عظم قبحه من الافعال القسط: الاعتدال في جميع الامور اقامة الشيء: اعطاؤه حقه وتوفيته شروطه اقيموا وجوهكم: اعطوا توجهكم إلى الله حقه.
بعد أن بيّن الله حالة الشياطين وأنهم قرناء للعاصين مسلَّطون عليهم- ذكر هنا أثر ذلك التسلط، وهو الطاعةُ لهم في أقبحِ الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح. لذا فإنهم يقولون: إنّنا نقلّد آباءَنا والله أمَرَنا بذلك.
وسببُ ذلك أن العرب ما عدا قريشاً كانوا لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها من قبلُ، ويقولون: لا نطوف في ثيابٍ عَصينا فيها. وكانت قريش فقط تطوف في ثيابها، ومن اعراه قريشيُّ ثوباً طاف فيه، ومن كان معه ثوبٌ جديد طاف فيه ثم يلقيه، ومن لم يجد ثوباً طاف عريانَ. كان هذا مذهبهم، رجالاً ونساءً، فحرَّم ذلك الإسلام فقال: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا}.
واذا فعل الذين لا يؤمنون بالله عملا قبيحا لطوافهم في البيت عرايا، وغير ذلك من الامور الباطلة، فلامهم الناس على ذلك، قالوا وجدنا آباءَنا يفعلون كما نفعل، ويسيرون على هذا المنهاج، ونحن بهم مقتدون، والله أمرنا به ورضي عنه حيث أقرّنا عليه.
وقد ردّ الله على ذلك بقوله: {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} قل ايها النبيّي منكِراً عليهم افتراءَهم: إن الله لا يأمر بهذه الأمور المنكَرة.
ثم ردّ عليهم أيضا بقوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أتنسِبون إلى اله ما لا تعلمون انه شَرَعَه لعباده، وليس عندكم دليل على صحة ما تقولون!!
وبعد أن أنكر عليهم ان يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا، بيّن ما يأمر به الله من محاسن الأعمال وكارم الاخلاق بقوله لرسوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} أي بالعدل، وما لا فُحش فيه. وأمركم ان تخصّوه بالعبادة في كل زمانٍ ومان، وان تكونوا مخلِصين له الدينَ، ولا تتوجهوا إلى غيره.
وبعد أن بيّن أصلَ الدين، وأمَرَنا بالتوجّه إليه وحدَه- ذكّرنا بالبعث والجزاء على الاعمال فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} أي إنكم أيها البشَر كما بدأ الله خلقَكم وتكوينَكم ستعودون اليه اليوم القيامة، تاركين ما حوله من النِعم وراء ظهوركم.
{فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ}.
وسيكون الناس يوم القيامة فريقين: فريقاً وفّقه الله لأنه آمن وعمل عملاً صالحا، وفريقاً حكم عليه بالضلالة لأنه اختار طريق الباطل وهؤلاء الضالُّون قد اتّخذوا الشياطينَ أولياء من دون الله فاتَّبعوهم، فضلّوا وهم يظنّون أنهم مهتدون، لاغترارهم بخداع الشياطين.

.تفسير الآيات (31- 32):

{يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
الزنية كل شيء يَزينُ الإنسانَ من لباس طيب وغيره. الاسراف: تجاوز الحد وعدم الاعتدال في المأكل والمشرب وصرفُ الاموال في غير موضعها.
في هاتين الايتين تأكيدٌ على ستر العورة، والتزُّين والتجمُّل عند كل صلاة: فاللهُ سبحانه بعد أن أمر بالعدل في كل الأمور- أكّد هنا بنداء إلى بين آدم: خُذوا زينتكم من الثياب الحسنة، مع الخشوعِ والتقوى عند كل مكان للصلاة، وفي كل وقتٍ تُؤَدون فيه العبادة. ثم إنه أمَرَنَا بالاعتدال في الأكل والشرب، وأن لا نتجاوز الحدّ المعقول: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} لأن الإسراف في المطعَم يُضِرّ بالصحة، والإسراف في المال يؤدّي إلى الفقر، وبذلك يجني المرء على أُسرته، ومن ثم على وطنِه حين يغدو عالةً على المجتمع.
والتزيُّن للعبادة عند كل مسجد وِفق عُرف الناس في تزينّهم في المجتمعات والمحافل، أمرٌ مطلوب شرعاً، لكيون المؤمن في أجمل حال عندما يقف بين يدي ربه، أو في أيّ اجتماع. وهو أصلٌ من الأصول الدينية والمدنيّة عند المسلمين. وقد كان سبباً في تعليم القبائل البدائية، والاوساط المتأخرة في إفريقية وغيرها من الامم التي تعيش عراةَ الأجسام رجالا ونساء. وكان هذا من فضل الاسلام، الذي نقل امما وشعوبا من الوحشية إلى الحضارة الراقية.
وقد روى النَّسائي وابنُ ماجه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا وشرابوا وتصدَّقوا والبَسوا في غير مَخيِلَةٍ ولا سَرَف، فإن الله يحبّ ان يرى أثَرَ نِعمه على عبده». ومعنى «مخيلة» كِبر وإعجاب بالنفقس.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ...}.
قل لهم يا محمد، منكراً عليهم افتراءَ التحليل والتحريم على الله: من الذي حرَّم زينةَ الله التي خلَقها لعباده؟ ومن الذي حرم الحلالَ الطيبَ من الرزق؟ وقل لهم: إن الطيّبات نعمةٌ من الله، ما كان ينبغي ان يتمتع بها إلا الّين آمنوا في الدينا، لأنهم يؤدون حقّها بالشُّكر ولاطاعة، لكن رحمةَ الله الواسعة شملتْ جميع عباده الطائعين والعاصين في الدينا اما في الآخرة فسوف تكون النعم خالصة للمؤمنين وحدهم.
روى أبو داود عن أبي الأحوص قال: «اتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب دون، فقال: ألَكَ مال؟ قلت: نعم، قال: من أيّ المال؟ قلت: قد آتانّي اللهُ من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا آتاك الله فَلْيَرَ أثَرَ نِعمته عليك وكرامته لك».
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
ان هذا التفصيلَ لِحُكم الزينة والطيبات من الرزق الذي ضلَّ فيه كثير من الأمم والأفراد، ما بين إفراط وتفريط، انما جاء في كتابنا هذا أيها الرسول، لِقومٍ يدركون ان الله وحدَه مالكُ الملك، بيده التحليل والتحريم.

.قراءات:

قرأ نافع {خالصةٌ} بالرفع، والباقون{خالصة} بالنصب.

.تفسير الآية رقم (33):

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
السلطان: الحجة الفواحش: واحدها فاحشة، كل ما يقبُح علمه الاثم: الذنب يشكل جميع المعاصي البغي: تجاوز الحد، الظلم.
بعد أن أنكر الله فعلَ من حرمّ زينةَ الله التي أخرجها لعباده والطّيبات من الرزق- بيّن هنا أصولا لمحرّرمات، حتى يعلمَ الناسُ انه لم يحرّم عليم إلا ما هو ضارٌّ لهم. فقلْ ايها الرسول لِلْذين افتروا على الله الكذب: إنما حرّم ربي هذه الأمورَ التسة، لما لها من ضرر شديد وخطر عظيم على الأُمم وهي:
1، 2- الفواحشُ، الظاهرة والباطنة، من الأعمال المتجاوِزة لحدود الله.
3- الإثم: وهو كل معصية لله أياً كان نوعها.
4- البغي بغير الحق، وهو الظلم الذي فيه اعتداءٌ على حقوق الأفراد والجماعات.
5- الشِرك بالله وهو أقبح الفواحش.
6- {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي تفتروا عليه سبحانَه بالكذِب في التحليل والتحريم بغيرِ علمٍ ولا يقين.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
الامة: الجماعة الأجل: مدة الشيء ووقته الساعة: الوقت القصير.
بعد أن بيّن تعالى المحرمات على بني آدم، ذكر هنا حال الأمم وأنها مهما طال امها فانها ذاهبة، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي أمدٌ ونهاية معلومة {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ...} فاذا جاء ذلك الوقت الّذي وقَّته الله لنهايتهم- ذهبوا، لا يتأخّرون عنه ولا يتقدّمون حتى وقتاً قصيرا.
والأجلُ المضروب إما أجَلُ كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يُنهي الحياة، واما أجلُ كل أمةٍ من الأمم بمعنى الأمدِ المقدَّر لقوّتها في الأرض. وسواء كان المعنّى هذا الأجَل أو ذلك فإنه مرسوم محدَّد.

.تفسير الآيات (35- 36):

{يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
بعد أن بيّن سبحانه بوضوح أن لكِ أُمةٍ أجلاً لا تعدوه، خاطب الناس يجمعا بأنه يرسِل الرسُل إلى لاناس كي يبيّنوا لهم اصول الدين.
يا بني آدم: إن يأتِكم رسُلٌ من أبناء جنسكم من البشر ليبلّغوكم آياتي التي أوحيتُها لهم، كنتم فريقين: فالّذين يؤمنون ويعملون لاصالحاتِ لا خوفٌ عليهم من عذاب الآخرة ولا هم يحزَنون في ديناهم واخراهم.
اما الّذين يكذّبون اولئك الرسُل، ويستكبرون عن اتّباع الآيات فأولئك أهلُ النار، يخلُدون فيها بادا، لأن التكذيبَ للرسل والاستكبار عن الانقياد لله يُلحِق المستكبرين بوليّهم إبليس في النار: حيث خاطبه ربّه: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18].

.تفسير الآيات (37- 39):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
في هذه الآيات يصوّر الله تعالى حال الكفار:
أولاً: عند احتضارهم يوم الموت، فيقول: إن من اشدِّ الناس ظُلماً أولئك الّذي يفترون على الله الكذب أو يكذّبون بآيات الله. كيف تأييهم رسُل الله لقبض أرواحهم!.
ثم يأتي المشهد الثاني يوم القيامة حيث يدخلون جهنم. كيف يلعن بعضهم بعضاً عندما يتقابلون، وكيف يطلبون العذاب المضاعف!

.قراءات:

قرأ الجمهور: {لا تعلمون} بالتاء، وقرأ أبو بكر عن عاصم: {لا يعلمون} بالياء.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً...}.
لا أحدّ أظلمُ من الذين يفترون الكذبَ على الله، بنسبة الشريك والولد إليه، وادّعاء التحلي والتحريم من غير حُجة، أو يكذّبون بآيات الله المُوحى بها فيكتبه أولئك ينالون في الدنيا نصيباً مما قُدّر لهم من الرزق والحياة، حتى إذا جاءهم ملائكة الموت، قال لهم الملائكةُ موبخين إياهم: أين الشركاءُ الّذين كنتم تعبُدون في الدنيا من دون الله! دعوهم يدرأون عنكم الموت؟ فيقولون: لقد بترّأوا منّا وغابوا عنّا. ونحن نشهد على أنفسنا أننا كنّا بعبادتنا لهم في ضلال ظاهر.
{قَالَ ادخلوا في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ...}.
يومئذ يقول الله لهؤلاء الكفار: ادخلوا النار منع أممِ من كفّار الجن والإنس، قد مضَت من قبلكم، كلما دخلت جماعةٌ النار ورأت ما حلّ بها من الخِزي لَعَنَتْ سابِقتَها التي اتّخذتها قُدوة لها. حتى إذا تتاعبوا فيها مجتمعين، قال التابعون يذمُّون المتبوعين: ربّنا هؤلاء أضلّونا بتقلِيدِنا لهم، وبتسلُّطهم علينا. إنهم هم الذين صرَفونا عنا لحق، فعاقبّهم عقاباً مضاعفا. وهنا يردّ صاحب العزّة والجلال: لكلٍ منكم عذابٌ مضاعَف، لا ينجو منه أحد، ولا تعلمون شدّته ولا مداه.
{وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ....}.
إذ ذاك يقول المتبوعون للتابعين: إذا كان الأمر كما ذكرتم من أنا أضلَلْناكم فما كان لكنم علينا أدنى فضلٍ تطلُبون به ان يكون عذابُكم دون عذابنا.
فيقول الله لهم جيمعاً: ذوقوا العذابَ الّذي استوجَبْتُموه بما كنتم تقترفون من كفرٍ وعصيان.
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الأليم، ليتبعه تقريرٌ وتوكيد لهذا المصير المؤلم الذي لن يتبدل بقوله تعالى: {إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا...}.

.تفسير الآيات (40- 41):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
الآيات (هنا) الآيات الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع.
الجمل: الحيوان المعروف. سم الخياط: ثقب الابرة. يلج: يدخل المجرمين: المفسدين المذنبين، وأصل الجرم القطعُ، والجرم الذنب. المهاد: الفراش الغواشي: الاغطية، وكل ما يستر ويغطي، والمعنى ان النار محيطة بهم من كل جهة.
في هاتين الآيتين تتمةُ ما سلَفَ من وعيد الكفار وجزاء المكذّبين.
ان الذين كذّبوا بآياتنا المنزَلَة في الكتُب، ولم يتّبعوا رسُلنا، بل تكبّروا عن التصديق بما جاءوا به ولم يتوبوا- ميؤوس من قبول أعمالهم، ومن المستحيل ان يدخُلوا الجنة، كاستحالة دخول الجمل في ثُقب الإبرة.
{وكذلك نَجْزِي المجرمين}.
على هذا النحو من العقاب نعاقبُ المرجمين المكذِّبين والمستكبرين من كل أُمة.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو: {لا تُفْتَحُ} بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي: {لا يُفْتَحُ} بالياء.
{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ...}.
إنّ لهم في جهنم فراشاً من نار، وأغطيةً من نار، أي أن النار محيطة بهم مطبِقة عليهم كما جاء في كثير من الآيات {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} وهذا جزاء الظالمين.