فصل: تفسير الآيات (73- 79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (73- 79):

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
ثمود: قبيلة من العرب مساكنهم الحِجر في شمال الحجاز جهةَ الشام، وهي (مداينُ صالح) وأُخوة صالح لقومه: أُخوتُه في النسب البينة: المعجزة الظاهرة الدلالة. اذكروا: تذكّروا بوأكم في الأرض: انزلكم فيها. الأرض: هي الحِجر: النحت: نجر الشيء الصلب والحفر فيه، وكانت بيوتهم منحوتةً في الجبل قطعةً واحدة، ولا يزال بقية منها إلى الآن. لا تعثوا في الأرض: لا تفسدوا. استكبروا: تكبروا. عقروا الناقة: نحروها، وعادةُ العرب في نحر الابل ان يقطعوا قوائكها فتقع على الأرض فينحروها عتَوا: تمردوا. الرجفة: الهزة تقع في الأرض، والزلزلة. في دارهم: في بلدهم جاثمين: قاعدين بلا حرااك.
وهذه قصة اخرى من قصص الأنبياء مع أقوامهم، هي قصة صالح عليه السلام ومفادها:
لقد أرسلنا إلى ثمود اخاهم صالحاً الذي يشاركهم في النسَب والوطن، وكانت دعوته كدعوة الرسُل قبله. قال لهم: أخلِصوا العبادة لله وحده، مالكم إله غيره، قد جاءتكم حجةٌ وبرهان على صدق ما أقول، وحقيقةِ ما أدعو اليه. هذه ناقةٌ ذات خَلق خاص، فيها الحُجة وهي ناقةُ الله، فاتركوها تأكل مما تُنبته أرض الله من العشب لا تتعرّضوا لها ولا تنالوها بسوء، فإذا فعلتم أخذكم شديد.
وفي سورة الشعراء تفسير أوضحُ قَسَم الماءَ الموجود في البلدة بين قومه وبين الناقة {هذه ناقةٌ لها شرْبٌ ولكن شرب يومٍ معلوم}.
ثم ذكّرهم بنعم الله عليهم، وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده فقال: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ}.
تذكّروا أن الله جعلكم وارثين لأرض عادٍ، وأنزلكم منازل طيبةً في أرضهم، فصرتُم تتّخذون من السهول قصوراً فخمة، وتنحتون في الجبال بيوتاً حصينة. اذكروا نعم الله تعالى إذا مكّنكم في الأرض ذلك التمكين، ولا تيعيثوا فيها مفسدين.
وعلى ذلك أجاب أهلُ الصدارة، والزعامة، مخاطبين الذين آمنوا من المستضَعفِين متهكّمين عليهم: أتعتقدون أن صالحاً مرسَلٌ من ربّه؟ فأجابهم أهل الحق: نحن مصدّقون بما أُرسِل به صالح.

.قراءات:

قرأ ابن عامر: {وقال الملأ} بالواو.
{قَالَ الذين استكبروا إِنَّابالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
فردّ عليهم المستكبرون: إنا جاحِدون ومنكِرون لِلّذي آمنتم وصدّقتم به من نبوّة صالح هذه.
ثم لجّ العناد بأولئك المستكبرين، فتحدَّوا الله ورسوله، وذبحوا الناقة وتمرّدوا وتجاوزوا الحقدّ في استكبارهم، وقالوا متحدِّين: يا صالح، ائتِنا بالعذاب الذي وعدْتَنا {إن كنتَ من المرسَلين} عندئذ {فاخذتهم الرّجْفة} أي دمّرتهم الزلازل الشديدة، ومن ثمّ {فأصبَحوا في دراهم جاثِمين} باتوا مصعوقِين جُثثاً هامدة لا حَراك بها، واصبحت ديارهم خاوِية على عروشِها إلى الآن.
روى الامام احمد والحاكم عن جابر قال: «لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر في غزوة تبوك- قال لا تسألوا الآياتِ، فقد سألها قومُ صالح، فكانت الناقةُ تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدُرُ من هذا الفَجّ، فَعَتَوا عن أمر ربهم، فعقَروها وكانت تشرب ماءهم يوماً، ويشربون لَبَنَها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحةٌ أهمدَ اللهُ مَن تحت أديمِ السماءِ منهم».
وكان قومُ صالحٍ عربا، وصالح من أوسطِهم نسبا.
وفي البخاري «أن رسول الله لمّا نزل الحِجْر في غزوة تبوك أمرهم ان لا يشربوا من آبارها ولا يسقوا منها، فقالوا: قد عَجَنّا منها واستقينا. فأمرهم النبي الكريم ان يطرحوا ذلك العجين، ويُهْرِيقوا ذلك الماء. ثم ارتحلَ بهم حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة».
{فتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين}.
قال لهم صالحٌ بعد أن جرى لهم ما جرى، فرآهم صرعى بيوتُهم خاوية، قال: يا قوم قد ابلغتُكم أوامر ربي ونواهيَه، ومحضتُ لكم النصح، لكنّكم بإصراركم على الكفر صِرتُم لا تحبّون من ينصحكم.

.تفسير الآيات (80- 84):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
لوط: هو ابن أخ ابراهيم، هاجر مع عمه من العراق إلى فلسطين ثم سكن جنوب الأردن في سدوم وعامورة نم منطقة البحر الميت الآن. الفاحشة: المقصود بها هنا إتيان الذكور. مسرفون: متجاوزون حدّ الاعتدال. من الغابرين: الذاهبين الهالكين.
جاء ذِكر قصّة لوطٍ بتمامها في عدة سُوَر باختلاف يسير. وتتلخّص في أن قوم لوطٍ كانوا أهل شرْ وأذى... كانوا يقطعون الطريق على الناس، قد ذهب الحياء من وجوههم، فلا يستقبحون قبيحا، ولا يرغبون في حسن، كما قال تعالى في سورة العنكبوت: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر}.
وكان أشنعَ عملٍ لهم هو ما اشتُهروا به من إييان الذكور، فأرسل الله عليهم العذاب ودمّر قراهم، وطمس معالمها فلم تعد تُعرف إلى الآن.
{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة}.
ولقد أرسلنا لوطاً نبيَّ الله إلى قومه، يدعوهم إلى التوحيد وينبّههم إلى وجوب التخلّي عن أقبحِ جريمة يفعلونها، وهي اتصال الرجل منهم بالرجل أو الغلام في مباشرة جنسية شاذة. وفي ذلك خروج على الفطرة وقد قال لهم: يا قوم، إنكم قد ابتدعتم تلك الفاحشة بشذوذكم، وفي هذا إسرافٌ ليس له مثيل في تجاوز حدود الاعتدال.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}.
فكان جواب قوط لوطٍ على هذا الاستنكار لأقبحِ الافعال ان قالوا: أخرجوا لوطاً هذا مع آله وأتباعه من بلدكم. إنهم يتعفّفون عن مشاركتنا في ما نفعل.
وهكذا يتجلّى الانحرافُ في جوابهم: يخرجون لوطاً وأتباعه لأنهم مستقيمون! أما الفاسقون الفاسدون، فقد بلغ من قِحَتِهِم وفُجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخَروا بها، بل أن يحتقروا من يتنزه عنها.
وتأتي الخاتمة سريعا بلا تطويل ولا تفصيل: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين}.
ولقد حقّت عليهم كلمةً العذاب، فأنجينا لوطاً وأهلَه، الا امرأته لقد رفضتْ ان تؤمن به، فكانت من الهالكين. ثم أمطرنا عليهم حجارةً مدمّرة، ومادَت الأرض بالزلازل من تحتِهم، فانظُر أيها المعتبِر كيف كانت عاقبة المجرمين.
قال الامام ابنُ القيّم في زاد المعاد: هذا لم تكن تعرفُه العرب، ولم يُرفع إليه حديث صحيح في ذلك. لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: «اقتُلوا الفاعل والمفعول به».
رواه أهل السنن الأربعة بإسناد صحيح وقال الترمذي: حسنٌ صحيح، وحكم به أبو بكر الصدّيق، وكتب به إلى خالد بن الوليد، بعد مشاورة الصحابة وكان عليُّ كرّم الله وجهه أشدَّهم في ذلك.
وقد طعن ابن حَجَر في هذه الأحاديث وقال: إنها ضعيفة. ولذلك يجب على الحاكم ان يتحرّى جيدا، فإن عقوبة القتلِ أعظمُ الحدود، فلا يؤخَذُ فيها إلا بالصحيح القاطع من كتابٍ أو سُنّة متواتِرةٍ أو إجماع.

.تفسير الآيات (85- 87):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}
لا تخبسوا الناس: لا تنقصوهم حقوقهم. ولا تفسدوا: الافساد شامل لجميع الجرائم، والاصلاح: ضده بكل صراط: بكل طريق توعِدون: تخوفون وتهددون. تصدون: تمنعون.
شُعيب نبيُّ من أنبياء العرب، واسمه في التوراة رعوئيل، ومعناه: صديقُ الله وقد ذُكر شعيب في القرآن الكريم عشر مرات: في سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الشعراء، وسورة العنكبوت. أما قومُه فهم شعب مَدْيَن بنِ إبراهيم عليه السلام، وكانت منازلهم في شمال الحجاز على الساحل.
وكان أهل مَدْيَن في عيشٍ رغيد لأنهم أهلُ تجارة. وكانوا يعبدون غير الله تعالى، ويفعلون الشرور، من ذلك أنهم كانوا يطفّفون المكيالَ والميزان، ويماكسون الناس في سِلعهم ليشتروها بأبخس الأسعار وكان شعيب ينهاهم عن كل ذلك ويحذّرهم بأسَ الله تعالى، فأنكروا عليه ما جاء به ولم يستمعوا اليه.
ويسمّيه المفسرون خطيبَ الأنبياء، لحُسن مراجعته لِقومه، وبراعته في اقامة الحجة عليهم. ومع ذلك فقد مضَوا في غَيّهم، وتمادَوا في صدّ الناس عنه.
{وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ}.
ولقد أَرسلْنا إلى مَدْيَنَ أخاهم شعيباً قال: يا قوم، اعبُدوا الله وحده، قد جاءكم الحججُ المبينةُ لحقِّ من ركمن ممثْبِتَةً رسالتي إليكم. (ولم تذكر الآية ما هي معجزته ولم يأتِ لها ذِكر في بقية السُوَر التي ذُكرت فيها قصةُ شعيب) غير أنه كانت هناك بينّة جاءهم بها، ودعاهم إلى توحيد الله كما أمَرَهم بالإصلاح بينهم بالمعاملة العادلة.
{فَأَوْفُواْ الكيل والميزان وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ}.
لقد أمرهم بإيفاء الكيلِ والميزان إذا باعوا، ونهاهم عن ان يُنقِصوا حقوق الناس إذا اشتروا منهم. وطلب إليهم ألا يفسِدوا في الأرض الصالحة، كإفساد الزع وقطْع الأرحام والمودّة.
{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}.
لا تعرضوا كل طريقٍ من طرق الحق والهداية، تهدّون سالكه، وتمنعون طالبي الخير من الوصول.
{وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} تريدون سلوك الطريق المعوَجّ. تذكَّروا اذ كنتم قليلا فكثّركم الله بما بارك في نَسِلكم، واشكُروا له ذلك بعبادته وحدَه، واعتبِروا بعاقبة المفسِدين قبلكم، وإلا أصابكم مثلُ ما أصابهم.
{وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ}.
واذا كانت طائفة منكم قد آمنت بالحق الذي ارسلتُ به فيما لم تؤمن طائفة ثانية فانتظروا حتى يحكُم الله بين الفريقين. إنه خير من يفصل، وأَعدلُ من يقضي وهو خير الحاكمين.
انتهى الجزء الثامن، نسأل الله تعالى ان يوفقنا إلى ما فيه رضاه، وإلى أن يُتِمّ هذا التفسير على أحسن حال، الهَّم اجعلنا ممن يستمعونَ القولَ فيتبعون أحسنَه.

.تفسير الآيات (88- 89):

{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}
افتتح بيننا: احكم بيننا الفاتحين: الحاكمين تورد هذه الآيات تتمةَ قصص شُيعب ففيها جوابُ الملأ الزعماءِ من قومِه عما أمرهم به: من عبادة الله وحده، وإيفاء الكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض.
وقد تَوَلَّى الردَّ عليه اشرافُ قومه وكبراؤهم كما هو الشأن في بحث كبريات المسائل ومهمّات الأمور.
قال أولئك الاشراف: قَسماً لَنُخرجّنك يا شعيب أنت ومن آمن معكم من بلادنا، لو ترجعُنَّ إلى ديننا الّذي هجرتموه. فردّ عليهم شعيب قلائلا: أنصيرُ في ملّتكم ونحن كارهون لها لفسادها؟.
ثم بالغَ في قطع طمعهم من العود إلى ملّتهم كما يطلبون، فقال: إننا نكون كاذبين مفترين على الله إنْ عُدنا إلى ملتكم بعد أن هدانا الله. ولا ينبغي لنا ان نفعل ذلك بمحض اخيارنا ورغبتنا، الا أن يشاء الله ويههات ذلك! لأنه ربُّنا، عليم بمصلحتنا وخيرنا، ولن يشاء رجوعنا إلى باطلكم. لقد وَسِع كل شيء عِلما، ومن عِلمه أنَّهُ يهدينا إلى ما يحفظ علينا إيماننا. لقد سلّمنا أمرنا اليه، وتوكّلنا عليه، وهو الذي سيحكم بيننا وبين قومنا وهو خير الحاكمين.

.تفسير الآيات (90- 93):

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
الرجفة: الحركة والاضطراب، والمراد بها الزلزلة غَنِي بالمكان: نزل به واقم فيه الأسى: شدة الحزن.
بعد أن يئس القوم من مطاوعة شعيب وأصحابه لهم، وعلموا انهم ثابتون على دينهم، خافوا ان يكثُر المهتدون بظهرو قوة شعيبٍ وثباته على دعوته، فاتّجه زعماؤهم إلى أبتاعهم يهددونهم قائلين: {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ}.
وقال زعماء قوم شعيب الكافرون: واللّهِ إن طاوعتُم شعيباً في قَبول دعوته وآمنتم به، لتخسَروا شرفَكم وثروتكم، كما تكونون قد تخلّيتهم عن ملّتكم التي مات عليها آباؤكم من قبل.
بعد هذا ذكرا لله تعالى عاقبةَ أمرِهم وما أصابهم من نكالٍ فقال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي دهمْتُهم الزلزلة فأهلكمتهم في ديارهم وظلّموا منكّبين على وجوههم لا حياة فيهم.
{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين}.
هذا شأن الله مع الذين كذّبوا شعيبا، وهدّدوه وأنذروه بالإخلاج من قريتهم... لقد هلكوا وهلكت قريتهم فحُرِموها كأن لم يعيشوا فيها بحال، وهكذا فان الذين كذّبوا شعيبا وزعموا ان من يتّبعه هو الخاسر قد باتوا هم الخاسرين.
فلما رأى شيعب ما نزل بهم نم الهلاك المدمِّر، أعرض عنهم، وقال مبرّئاً نفسه من التقصير معهم: لقد أبلغتُكم رسالات ربي، وأديتُ إليكم ما بعثني به ربي، كما بالغتُ في إسداءِ النصح لكم، فكيف أحزنُ على قومٍ كافرين؟