فصل: تفسير الآيات (36- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (36- 40):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
يركمُه: يجعل بعضه فوق بضه.
لما اصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بقافلته- مشى رجال أصيب آباؤهم وأبناؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلَّموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك القافلة تجارة، قاولا: يا معشر قريش، إنَّ محمداً قد رزأكم، وقتل خِياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنّا ندرك منه ثأراً بمن أُصيب منا. ففعلوا، وجمعوا ما استطاعوا من المال، وموّلوا به غزوة أحد فنزلت فيهم.
إن هؤلاء الكفار الذي جحدوا آيات الله وأشركوا به، ينفقون أموالهم لمينعوا الناس عن الإيمان بالله واتّباع رسوله.. انهم سينفقون هذه الأموال لتكون حسرة عليهم، ولن تفيدهم شيئا، وسيُغلَبون في ساحة القتال في الدنيا ثم يساقون يوم القيامة إلى جهنّم وستكون تلك هي الحسرة الكبرى لهم.
وليس ما حدَثَ قبل بدرٍ وبعدها إلا أنموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين وقد استمرَ العداء منذ فجر الدعوة ولا يزال، ومن الشرق والغرب، فلم يتركوا وسيلة الا تخذوها ليهاجموا الإسلام والمسلمين، واللهُ سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين، وسيُبقيهِ عاليا إلى أن يرِث الأرضَ ومن عليها.
{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} لقد كتب تعالى النصر لعبادة المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم من الكفار، ليميز الكفرَ من الايمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وليجعل الخبيث بعضهَ فوق بعض، ثم يجعل اصحابه في جهنم، وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: {لِيُمَيِّز} بالتشديد والباقون لِيَميزَ كما هو في المصحف.
{قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} ان باب الرجاء مفتوح في الاسم دائما، والفرصة أمامهم سانحة لينهوا عَمَّا هم فيه من الصدّ عن سبيل الله، وليتوبوا ويرجعوا إلى الله، والله واسع المغفرة يغفر ما سبق من اعمالهم، والاسلام يجُبُّ ما قبله. أما إذا عادوا بد هذا البيان إلى كفرهم، فإن سنّة الله في الأولين قد مضت، وهي ان يعذب المكذّبين، ويهب اولياءه النصر والعزّ التزموا بأوامر الشرع.
ويتجه الحديث إلى المؤمنين: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
استمِروا أيها المؤمنون في قتال المشركين حتى تزول الفتنةُ في الدين، ويمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن رجعوا عن الكفر وخلَصَ الدين لله، فإن الله تعالى عليمٌ بأعمالهم ومُجازيهم على ما فعلوا.
{وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير}.
وإن استمرّوا على إعراضهم وإيذائهم للمؤمنينَ بعدَ بيان الرسول فاثبتُوا لهم أيّها المسلمون، واعلموا أنكم في وَلاية الله، وهو ناصرُكم عليهم، وحافظُكم منهم، وهو خير الحافظين.
وما غُلب المسلمون في هذه الأيام وذهَبَت أرضُهم إلا لنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعدا المادّي والحربيّ الذي طلبه بقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] وتفرَّقوا دولاً كثيرة فذهبتْ ريحُهم وقلّتْ هيبتُهم وغُلبوا على أمرهم.
نسأل الله تعالى ان يوفقنا جميعا إلى ما يحبّه ويرضاه، ويجمع شتاتنا على الخير والهدى فنعود صفّاً واحدا، ونعيد مقدّساتنا إلى حظيرة الإسلام، إنه نعم المولى ونعم النصير.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
الغُنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الإنسان في الحرب من أموال الأعداء. يوم الفرقان: يوم بدر.
اعملوا ايها المؤمنون ان حُكم كل ما غنمتموه من الاعداء المحاربين ان يُقسم خمسة اخماس: خمس منها لله وللرسول ولقرابته، واليتامى، وهم أطفال المسملين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل، وهم المنقطع في سفره ويُنفق من هذا المخصص لله وللرسول في المصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته، ويقرّرها الإمامُ بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين آنفا. واما الاخماس الاربعة الباقية من الغنيمة، فهي للمقاتلين.
وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام هم بنو هاشم وبنو المطّلب، دون بني عبد شمس ونوفل.
روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بني نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بين عبد شمس) إلى الرسول فقلنا: يا رسول الله، أعطيتَ بني المطّلب وتركتَنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال الرسول الكريم: «إنما بنو المطّلب وبنو هاشم واحِد».
والسر في هذا ان قريشاً لما حصَرت بني هاشم في الشِعب وقاطعتهم دخَلَ معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل.
والحكمة في تقسيم الخُمس على هذا النحو، أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لابد لها من المال لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جُعل لِلّه في هذه الآية، ثم ان هناك نفقة رئيس حكومتها وهو سهمُ الرسول فيها، ثم لِذوي القربى وذوي الحاجات من ضعفاء الأمة.
ولا يزال هذا الاعتبار معمولاً به في كثير من الدول مع اختلاف شئون المجتمع والمصالح العامة، فالمالُ الذي رُصد للمصالح العامة يدخل في موازنة الوزارات المختلفة ما بين مصروفات علنية وسرّية، ولاسيما الامور الحربية. وكذلك راتبُ رأس الدولة من ملكٍ أو رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌ بشخصه، ومنه ما هو لأُسرته وعياله. ومن موازنة الدولة ما يُبذل لإعانة، الجمعيات الخيرية والعِلمية غيرها.
وعند الشيعة تفسيرٌ للغنيمة أعمُّ مما عند السنّة، كما أنهم اختلفوا عنهم في تقسيم الخمس، فقالوا: يُقسم الخُمس إلى قسمين: الاول منها ثلاثة اسهم: سهمٌ لله، وسهم لرسوله، وسهم لذوي قرباه. وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، ووليُّ القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي، فان وُجد أعطي له، وإلا وجَب إنفاقه في المصالح الدينية، وأهمُّها الدعوةُ إلى الإسلام، والعملُ على نشره وإعزازه.
أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم: سهم لأيتام آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء السبيل خاصة، لا يشاركهم فيه أحد لأن الله حرّم عليهم الصَدقات فعوّضهم عنها بالخمس.
فاعلموا ذلك أيها المسلمون، واعملوا به كنتم آمنتم بالله حقا، وآمنتم بما أَنزلْنا على عبدنا محمد يوم الفرقان من آيات التثبيت والمدد، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عظيم قدرته ان نصَركم على قلتكم وضعفكم، وخذل الكافرين مع كثرتهم.

.تفسير الآيات (42- 44):

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
العدوة: جانب الوادي ويجوز في العين الفتح والضم والكسر. القُصْوى: مؤنث الأقصى ومعناها البعيدة. البينة: الحجة الظاهرة. ذات الصدور: ما يدور في النفس من افكار.
اذكروا حين كنتم في موقعة بدر بالجانب الأقرب إلى المدينة، وكفار قريش في أبعدِ الجانبين، والقافلةُ التي خرجتم تطلبونها أقربُ إليكم مما يلي البحر، ولو تواعدتُم على التلاقي للقتال لما اتّفقتم عليه، ولكن الله دبَّر تلاقيكم على غير موعد، لينفِّذ أمراً كان ثابتاً في علمه انه واقع لا محالة، وهو القتال المؤدي إلى نصركم وهزيمتهم.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} ليهلك الهالكون من كفار قريش عن حجَّة ظاهرة، وهي هزيمة الكثرة الكافرة ويحيا المؤمنون من حجّة بينة، وهي نصر الله للقلة المؤمنة، إن الله لَسميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال الفريقين ولا نيّاتهم.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {بالعِدوَة} بكسر العين والباقون بالضم.
اذكر أيها الرسول حين تفضّل الله عليك، فأراك في منامك جيشَ الأعداء في قلة. كان ذلك ليُظمئنكم أنكم ستغلبونهم، فتثبتوا أمام جمعهم حين يلتقون، ولو ترككم تروْنهم كثيراً، دون ان يثبتكم بهذه الرؤيا- لخِفتم منهم ولتردَّدتم في قتالهم. ولكن الله سلَّم أصحابك يا محمد من ذلك ونجّاهم من عواقبه، إنه عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فيُحجم اصحابها عن القتال.
اذكر ايها الرسول أيضا كيف كان الله يريكم أعداءكم قلّة عند التلاقي ليشد من عزمكم، وتقاتلوهم بجرأة وثبات، كما يُظهركم في اعينهم قلّة، زيادةً في الغرور بكثرتهم حتى قال أبو جهل: غنما أصحاب محمد أكلة جزور، يعني يكفيهم جزور واحد لقلّتهم. وذلك ليتم أمرٌ علمه الله، وكان لابد ان يتم. والى الله ترجع الامور كلها فلا ينفُذُ الا ما قضاه وهيّأ أسباب بعدْله وحكمته.

.تفسير الآيات (45- 49):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
تفشلوا: تجبنوا وتضعفوا. تذهب ريحكم: تذهب قوتكم وهيبتكم. البطر: إظهار الفخر، والطغيان في النعمة. رياء: نكَص: جرع، تولى إلى الوراء. الذين في قلوبهم مرض: ضعاف الإيمان.
هذا هو النداء السادس: يؤكد ما تضمّنته النداءات السابقة من مبادئ وأُسسٍ ضرورية للحصول على النصر، وفيه يأمر الله المؤمنين بالتزام الفضائل والاخلاق التي لابد من التحلي بها ساعةَ اللقاء في الحرب.
وأوّلها الثباتُ أمام الأعداء، ثم ذِكر الله بالقلب واللسان، واستحضارُ ثم طاعةُ الله والرسول، فكلّ مخالفةٍ تؤخر النصر، وفتتح ثغرة للعدوّ. ثم يؤكد ذلك كله بتحذير يسد به نافذةً خطِرة يهبُّ منها والفساد، هي نافذة التنازع والاختلاف فيما بينهم، مما يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة هذه قاعدة مطّردة من قواعد الاجتماع، وسنّة ثابتة من سنن الله. وهذا ما هو حاصل في مجتمعنا العربي، وهو داؤنا الّذي يفتّت قوانا ويجعل العدو يعيش ويتوسّع.
يا أيها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً من أعدائكم فاثبُتوا، وأكثِروا من ذِكر الله مستحضِرين عظمته وحسن وعده بنصركم. إن الثباتَ وذِكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز والنصر.
وأطيعوا الله ورسوله فيما أُمرتم به أو نُهيتم عنه، وتجنّبوا النتنازعَ والاختلاف فيما بينكم، فإن ذلك من اكبر اسباب الفشل والخيبة. واصبِروا على الشدائد وما تلقَون من مكارِه الحرب من بأس العدوّ واستعداده وكثرة عدده، فإن الله مع الصابرين يمدُّهم بالعَون والتأييد... ومَن كان الله معه غالب له.
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} ولا تكونوا كأعدائكم المشرِكين الذين خرجوا من ديارهم في مكة مغرورين بَطِرين، متظاهرين أمام الناس رياءً يريدون الثناء عليهم بالشجاعة.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والله عليم بما جاءوا من أجله، عالِم بأعمالهم، وسوف يجازيهم عليها في الدنيا والآخرة.
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} اذكر أيّها الرسول للمؤمنين كيف زيّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوستِه، قائلا لهم إنه لا أحدّ من الناس يغلبهُم، لأنه هو مجيرٌ لهم، فلما تقابلَ الفريقان في الحرب نكص على عقِبيه وهرب وتبرّأ منهم. لقد خاف أن يُهلكه الله، واللهُ شديد العقاب على الذنوب.
{إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} اذكر يا محمد ماذا كان يقول المنافقون من الكفّار، وضعفاء الإيمان عند رؤيتكم في إقدامكم وثباتكم: لقد غرَّ هؤلاء المسلمين دينهم.
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ومن يكِل أمهر إلى الله ويؤمن إيماناً خالصاً فان الله يكفيه ما أهمَّه، ويصره على أعدائه، فهو العزيز الغالب، والحكيم الذي يضع كل امر في موضعه.

.تفسير الآيات (50- 54):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}
أدبارهم: ظهورهم. عذاب الحريق: عذاب النار في الآخرة كدأب: كعادة.
بعد أن بيّن الله تعالى حال هؤلاء الكفار في خروجهم إلى قتال المؤمنين بَطَراً ورياءً، وتزيينَ الشيطان لهم أعمالَهم- قفّى على ذلك بذِكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي ينالونه عندئذٍ ثم ذكر ان الملائكة تأخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب حين يقبضون ارواحهم بصورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهينا، جزاء على البطر والاستكبار. ويذكر في اثناء هذا العرض ان أخْذ الكفار بتكذيبهم سنّةٌ ماضية. وانه كذلك أخَذ فرعون.
ولو ترى ايها الرسول ذلك الهول الخطير ينزل بهؤلاء الكفار حين تتوفاهم الملائكة لرأيتهم يضربون وجوههم وظهورهم، ويقولون لم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون.

.قراءات:

قرأ ابن عامر: {اذ تتوفَّى} بتائين. والباقون: {يَتَوفى} بالياء.
ان الله لا يظلم أحداً من عبيده، فلا يعذّب الا بما عمل من سوء.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ}.
ان الله تعالى لا يترك الناس سُدى، وانما هي سنّته يمضي بها قدَرُه، وليس فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قُلتوا ببدر وما أصابهم الا ما يصيب المشركين في كل زمان. لقد اصاب مثلُه آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم الخالية، وقد آتاهم الله من نعمته، وزرقهم من ففضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها، فطغَوا وبغَوا وتجبروا، وجاءتهم آيات الله فكفروا بها، فحقَّت عليهم كلمة ربك، وأخذَهم بالعذاب.
{إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} لا يغلبه غالب، شديد المجازاة لمن يستحقه عقابه.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان الله تعالى يقول: إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تَظالموا، يا عبادي انما هي اعمالكم أُحصيها لكم، فمن وجَد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ الا نفسه» والحديث طويل نفيس.
{ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
ذلك، أي الذي ذُكر من أخْذه لقريش بكفرهم بنعم الله لقد كذّبوا رسوله واخرجوه من دياره وحاربوه، ففعل الله بهم كما فعل بالأمم من قبلهم ولقد جرت سنّة الله ان لا يغيرّ نعمة أنعمها على قوم، كنعمة الامن والرخاء والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسِهم. وهذا عدل في الجزاء.
{وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لما يقولون عليم بما يفعلون.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ}.
هنا كرر قضية آل فرعون فقد كانت المرة الأولى لبيان كفرهم فأخذَهم بالعذاب، اما الثانية فهي أن حال هؤلاء كحال آل فرعون والذين من قبلهم في تغيير النعم.
وكما أن دأْب هؤلاء الكفار في الإنكار لآيات الله ونعمه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم- فان دأبهم أيضا الاستمرار على لاتكذيب برسله، مثل آل فرعون والذين من قبلهم- من ثم كان الشبه بينهم في الكفر بالآيات وجحود رسالة الرسل، وفي الاستمرار على ذلك. لهذا أخذ الله الجميع بذنوبهم: أولئك بالصواعق والرياح ونحوها، وآل فرعون بالغرق، وكلهم كانوا ظالمين، فاستحقوا ما نزل بهم من العقاب.