فصل: تفسير الآيات (100- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (100- 102):

{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)}
رضي الله عنهم: قبلِ طاعتهم. ورضوا عنه: بما افاض عليهم من نعمة. مَردوا على النفاق: بتوا عليه، واتقنوا اساليبه.
بعد تصنيف الأعراب إلى مؤمنين ومنافقين، صنف الله تعالى المجتمع كله حاضِرَه وبادِيَة إلى اربع طبقات:
الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان.
الثانية: المنافقون الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة والأعراب.
الثالثة: الذين خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئا.
والرابعة: الذين ارجئ الحكم في أمرهم يقضي الله فيهم بقضائه.
{والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ}.
هؤلاء هم الطبقة الأولى: السابقون من المهاجرين الذين لاقوا من الشدائد والعذاب والاضطهاد ما اضطرهم إلى الهجرة، والسابقون من الأنصار، الذي آووا الرسول ونصروه، والذين ابتعوهم بإحسان. هذه الطبقة بمجموعاتها الثلاث هم القاعدة الاساسية للمجتمع المسلم. هؤلاء جميعا رضي الله عنهم في ايمانهم وإسلامهم، فقبِلَ طاعتهم وسجيزيهم أحسنَ الجزاء، ورضوا عنه بالاطمئنان اليه، والثقة بقدَره.
ولذلك {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلك الفوز العظيم}.
وها الوعدُ الكريم من رب العالمين هو الذي يستبشر به أولئك المسلمون.. إنه جنات تجري الأنهار تحت اشجارها، فينعمون فيها نعيماً أبديا، وأيّ فوز بعد هذا!!
ثم إنه يذكر حال الطبقة الثانية، وهم منافقو أهلِ المدينة ومن حولَها: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ}.
لقد سبق الحديثُ عن المنافقين عامة، لكن الحديث هنا عن صنف خاص منهم، حَذَقَ النفاقَ ومَرَنَ عليه، حتى لَيخفى امره على رسول الله مع كل فراسته وتجربته. والله تعالى يقرر ان هذ الفئة من الناس موجودةٌ في أهل المدينة وفي الأعراب المحيطين بالمدينة، ويُطمئن الرسولَ الكريم والمؤمنين معه، من كيدِ هذه الفئة الماكرة، وانه سيتولى أمرهم ولن يدعَهُم، بل سيعذّبهم عذاباً مضاعفا: مرتين في الدنيا، مرةً بنصر بالمسلمين على اعدائهم مما يغيظ أولئك المنافقين، ومرة بفضيحتهم وكشف نفاقهم. أما في الآخرة فسيَصْلَون عذاب جهنم وهولها الشديد.
وجملة القول ان المنافقين فريقان: فريق عُرفوا بأقوال قالوها، وأعمال عملوها... وهؤلاء مكشوفون معرفون، وفريق حذَقوا النفاق حذَقوا النفاق حتى لا يشعر احد بشيء يستنكره منهم.
وهذان الفريقان يوجَدان في كل عصر، والأمة مبتلاةٌ بهم في كل قطر، وهم يزعمون انهم يخدمون الأمة باسم الوطنية أو اسم الدين، ويستغلّون مناصِبهم، ويجمعون الاموال لأنفسِهم. نسأل الله السلامة منهم.
{وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
هذه هي الطبقة الثالثة: هؤلاء من المؤمنين ليسوا منافقين، ولا من السابقين الأولين ولكنهم من الذين خَلطوا الصالحَ من العمل السيء منه، كالّذين تخلّفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك من غير عذر صحيح، ولم يستأذنوا كاستئذان المرتابين، ولم يعتذِروا بالكذب كالمنافقين.
ومنهم ثلاثةٌ معرُوفون، هم أبو لُبابة بن عبد المنذر، وثعلبة بن وديعة، وأَوس ابن حذام، من الأنصار، تخلّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك. فلما رجع من غزوته، ندموا على ما فعلوا وأوثقوا أنفسَهم في سواري المسجد. فلما مر بهم سأل عنهم فقالوا له تخلّفوا عنك يا نبي الله، فصنعوا بأنفسم ما ترى، وعاهدوا الله ان لا يُطلقوا انفسهم حتى تطلقهم انت فقال: وأنا لا أُطلقهم حتى أوَمَرَ بإطلاقهم. فأنزل الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ...} الآية.
وهذا الصنف الناس كثير، فالإنسان ضعيف والمغريات كثيرة، والنفس أمّارة بالسوء. ونحمد الله تعالى على أن باب التوبة مفتوح دائماً، ولذلك قال تعالى: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
فالاعتراف بالذنب والشعورُ بوطأته دليلٌ على حياة القلب، ومن ثَمّ فإن التوبة مرجُوَّة القبول، والمغفرة مرتقبة من الغفور الرحيم.
وقد قبل الله توبتهم ورحِمَهم.. وهذا ينطبق على كل مسلم يخطئ ثم يرجع إلى الله. بل ان هذه الفئة من الناس هي الغالبية العظمة من البشر.. يخطئون ويتوبون، لكن الله رؤوف رحيم تواب يقبل التوبة.

.تفسير الآيات (103- 106):

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
الصدقة: ما ينفقه المؤمن قربة لله. تطهرهم: تمحو ذنوبهم. وتزكّيهم: تصلحهم وترفعهم إلى منازل الابرار. ان صلاتك سكن لهم: إن دعائك لهم يدخل الاطمئنان والراحة إلى نفوسهم وآخرون مرجون: مؤخرون لأمر الله.
والطبقة الرابعة ستأتي في الآية (106)
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
خذْ أيها الرسول من أموال هؤلاء التائبين صدقات تطرهّهم بها من الذنوب والشحُّ، وترفع درجاتهم عند الله، وادعُ لهم بالخير والهداية... فإن دعاءك تطمئنّ به قلوبُهم، والله سميح للداء عليمٌ بالمخلصين في توبتهم.
روى ابنُ جرير عن ابن عباس قال: «لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة وصاحبَيْه انطلق أبو لبابة وصاحباه بأمواله إلى الرسول الكريم، وقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّقْ بها عنا وصلِّ علينا (يعني استغفر لنا وطهرنا) فقال رسول الله: لا آخذُ منها شيئاً حتى يأتيَنا أمرُ الله» أنزل الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً...} الآية فأخذ.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وحفص: {ان صلاتك} وقرأ الباقون: {ان صلواتك} بالجمع.
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}.
أَلا فلْيعلم هؤلاء التائبون أن الله هو الذي يقبل التوبةَ الخالصة من عباده، وهو الذي يأخذُ الصدقة، وأنه سبحانه هو الواسعُ الفضلِ في قبول التوبة، ذو الرحمة الشاملة لعباده.
وبابُ التوبة مفتوح دائما، روى الترمذي: ما أصَرَّ من استغفرَ، وإن عادّ في اليوم سبعين مرة.
وفي موضع الصدقات، روى الشيخان عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدّق أحدُكم بصدقةٍ من كسبٍ حلال طيب، ولا يقبل الله الا الطّيب، إلا أخَذَها الرحمن بيَمينه وإن كانت تَمْرة، فَتَربُو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربي أحدُكم فِلْوَه أو فَصِيله» فالصدقة مقبولة مهما كان حجمها. وفي الحديث أيضا «تصدَّقوا ولو بِشِقّ تمرة» والغِلْو، المُهر يُفصَل عن الفَرَس.
ثم يتوجّه الكلام بالخطاب إلى جميع المكلَّفين أن يعملوا، لأن الإسلامَ منحَهُم حياةً واقعية، لا تكفي فيها المشاعر والنوايا، ما لم تتحوّل إلى حركةٍ وعمل دائم.
{وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
قل لهم ايها الرسول: اعملوا لِدُنياكم وآخرِتكم ولا تقصّروا في عمل الخير وأداء الواجب. إن ربّكم يعلم كل أعمالكم، وسيراها هو والرسول والمؤمنون، فيزِنونها بميزان الإيمان ويشهدون بقتضاها. ثم ترجعون بعد الموتٍ إلى الله الذي يعمل سِركم وجهركم، فيجازيكم بأعمالكم. والمنهج الإسلامي في حقيقته منهج عقيدةٍ وعمل.
ثم جاء ذكر الطبقة الرابعة التي لم يبتَّ في أمرهان بل وكَلَ امرها إلى الله.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
هؤلاء هم القسم الأخير من المتخلفين عن غزوة تبوك، غير النافقين والمعتذرين والمخطئين التائبين. وقد تأخر البتُّ في أمرهم، وكان أمرُهم موكولاً إلى الله، لم يعلموه، ولم يعلمْه الناس. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: هم الثلاثة الذين خُلّفوا وهم: مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك وهلال بن أميّة، قعدوا عن غزوة تبوك كسلاً وميلاً إلى الدّعة والتمتع بطيب الثمار، لا شكاَّ ولا نفاقا. وسيأتي ذكرهم في الآية (118).
فهؤلاء مرجَأون لأمرِ الله: إما أن يعذّبَهم، واما ان يتوبَ علهيم ويغفرَ لهم.

.قراءات:

قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص {مُرْجَون} كما في المصحف، وقرأ الباقون {مرجأون} وهذا في اللغة جائز يقال أرجأت الأمر وأرجيته.

.تفسير الآيات (107- 110):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
ضرارا: لمحاولة الضرر. ارصادا: ارتقابا. على شفا: على حرف. جرف: جانب الوادي هار: متداع آيل للسقوط.
سبب نزول هذه الآيات انه كان في المدينة رجل اسمه أبو عامر الراهب، قد تنصّر في الجاهلية وقرأ التوراة. وكان فيه عبادةٌ في الجاهلية وله شرقٌ كبير بين قومه من الأوس والخزرج، فلما قدِم الرسول إلى المدينة دعاه إلى الله وقرأ عليه القرآن، فأبى أبو عامرٍ أن يُسلم وتمرَّد، فدعا عليه الرسول أن يموت طريداً... فنالته الدعوة ماتَ في بلاد الروم.
وقد تجمَّع حوله جماعةٌ من المنافقين، ورأوا ان افضلَ وسيلةٍ يكيدون فيها للإسلام ونبيّه الكريم أن يبنوا مسجداً تحت شعار الدين، ثم يعملون للكفرِ بالله ورسوله، ولهدْمِ الإسلام، والإضرار بالمسليمن وتفريقِ كلمتهم.
وقد بنوا المسجد وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاؤوا فسألوه ان يصلّيَ في مسجدهم ليكون ذلك ذريعةً إلى غَرِضهم، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية. فقال لهم الرسول الكريم: إنا على سَفرٍ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله.
وقبل ان يصل المدينةَ في رجوعه من تبوك نزلت عليه هذه الايات، فبعثَ بعضَ أصحابه وأمرهم أن يهِدموا ذلك المسجدَ، ففعلوا.
أما أبو عامر الفاسق كما سمّاه الرسول فإنه لما رأى الإسلام في ظهورٍ وارتفاع- هربَ إلى هِرَقْلَ ملكِ الروم يستنصره. فوعده هذا وأقام أبو عامر عنده، وكتب إلى جماعة من أهل النفاق في قومه يعدُهم بانه سيقدم بجيشٍ يقاتل به رسول الله، وامرهم ان يتخذوا معقِلا يَقْدَم عليهم فيه، ويكون له مرصدا بعد ذلك فشرعوا في بناء مسجدٍ مجاورٍ لمسجِد قُباء كما تقدّمت قصته، وهلك أبو عامر ولم يعد.
وابو عامر هذا من الأوس، لكنه ورد في تفسير ابن كثير انه من الخزرج.. وقديماً كانوا يسمُّون الأوسَ والخزرج باسمِ (الخزرج).
هذا هو مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله مكيدةً للاسلام والمسلمين.
{والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
من المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه الله، وأنما لإلحاق الضرر والتفريق بين جماعة المؤمنين. وسحلفون على انهم ما ارادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن، لكن الله يشهدُ عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم.
{لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ}.
لا تصلِّ أيها الرسول في هذا المسجد ابدا. إن المسجد الذي أقيم على التقوى ابتغاءً لوجه الله، وطلباً لمرضاته، من اول يوم- هو أحقُّ من غيره ان تصلّي فيه وتؤدي شعائر الله وهو مسجد قباء.
{فيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين}.
ان في مسجد قباء رجالاً يعمُرونه بإقامة الصلاة، يحبّون ان يطهِّروا اجسادَهم وقلوبَهم بأداء العبادة الصحيحة فيه، {والله يحب المطهّرين} الذين يبالغون في طهارة الروح والجسد، لأن فيهما الكمالَ الانساني.
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين}.
لا يستوي في عقيدته ولا في عمله مَنْ أقام بنيانه على الإخلاص في تقوى الله وابتغاءِ مَرْضاتِه مع ذاك الذي أقامَ بنيانَه على النفاق والكفر!! فإنّ عمل المؤمن الصالح مستقيمٌ ثابت على أصل متين، فيما علم المنافق كالبناء على حافَةِ هاويةٍ بدون أساس، فهو واهٍ ساقط، يقع بصاحبه في نار جنهم، واللهُ لايهدي الظالمين إلى طريق الرشاد.
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
سيظل الذي بناه المنافون ريبةً مَصْدَرَ اضطرابٍ وخوف في قلوبهم، لا ينتهي حتى تتقطع قلوبُهم بالندم والتوبة أو بالموت، والله عليم بكل شيء، حكيم في افعاله.

.قراءات:

قرأ نافع وابن عامر: {الذين اتخذوا مسجدا ضرارا} بدون واو والباقون: {والذين....} وقرأ نافع وابن عامر: {أُسّسِ بنيانه} بضم الألف ورفع بنيانه في الموضعين. وقرأ الباقون: {أَسسَّ بنيانَه} وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر: {جرف} باسكان الراء. وقرأ الباقون: {جرف} بضم الجيم والراء. وقرأ يعقوب: {الى ان تقطع قلوبهم} وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: {تقطع} بفتح التاء والطاء المشددة. وقرأ الباقون: {تقطع} بضم التاء وتشديد الطاء المفتوحة.