فصل: باب مَا نهى اللّه عنه من البيوع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.كتاب البيوع:

البيوع: جمع للبيع. والبيع مصدر، والمصادر لا تجمع. لكن جمع لملاحظة اختلاف أنواعه.
وتعريفه: لغة- أخذ شيء وإعطاء شيء، فقد أخذوه من البائع الذي يُمَدُّ، إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن.
ولفظ البيع، يطلق على الشراء أيضاً، فهو من الأضداد وكذلك (الشراء) فهو من الأضداد.
لكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن أنه باذل السلعة.
أما تعريفه شرعا: فهو: مبادلة مال بمال، لقصد التملك، بما يدل عليه من صِيَغ القول والفعل.
وجوازه ثابت بأصول الأدلة الأربعة:
1- الكتاب {وأحَلَّ الله البَيْعَ}.
2- والسنة: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ونصوص الكتاب والسنة فيه كثيرة.
3- وأجمع المسلمون على جوازه.
4- ويقتضيه القياس، لأن الحاجة داعية إليه، فلا يحصل الإنسان على ما يحتاجه إذا كان بيده غيره، إلا بطريقه.
أما الصيغة التي ينعقد بها فالصواب في ذلك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه ينعقد بكل قول أو فعل، عده الناس بيعا، سواء أكان متعاقباً أم متراخياً لأن الله تعالى لم يُرد أن يتعبدنا بألفاظ معينة، وإنما القصد الدلالة على معناه، وبأي لفظ دل عليه، حصل المقصود.
والناس يختلفون في مخاطبتهم واصطلاحاتهم، تبعا لاختلاف الزمان والمكان.
فكل زمان ومكان، له لغته واصطلاحاته، والمراد من ذلك المعنى.
وينفعنا في هذه (الأبواب منٍ المعاملات) أن نفهم قاعدة جليلة، تحد لنا المعاملات المباحة، وأن نفهم أيضا ضوابط تحيط بجميع المعاملات المحرمة، وترد إليها جميع جزئياتها، وهذه القاعدة هي:
أن الأصل في المعاملات، وأنواع التجارات والمكاسب، الحل والإباحة. فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات.
فمن حرم شيئاً من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل. وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس.
وهي قاعدة مطردة، مبناها العدل والقسط، ومراعاة مصالح الطرفين.
ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، والتغرير.
فهذه معاملات- عند تأملها- نجدها تعود إلى ظلم أحد العاقدين.
والمعاملات المحرمة ترجع إلى هذه الضوابط وما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها.
فإن الشارع الحكيم الرحيم، جاء بكل ما فيه صلاح، وحذر عن كل ما فيه فساد.
الحاصل: أن المعاملات المحرمة ترجع إلى ضوابط، أعظمها الثلاثة الآتية:-
الأول: الربا بأنواعه الثلاثة، ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا القرض.
الثاني: الجهالة والغرر، ويدخل فيها جزئيات كثيرة، وصوره متعددة.
الثالث: الخداع والتغرير، ويشمل أنواعاً متعددة.
هذا مجملها وسيأتي- إن شاء الله تعالى- تفصيلها في الأحاديث الآتية.
الحديث الأول:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عنهما عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً، أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر قال: فَإِن خَيّرَ أحَدُهُمَا الآخر فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ وَجَبَ البيع».
الحديث الثاني:
وفي معناه من حديث حَكِيم بن حزام قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
«البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا- أو قال: حَتًى يَتَفرَقَا- فَإنْ صدَقا وبَينا، بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا- وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا».
الغريب:
بالخيار: بكسر الخاء، اسم مصدر اختار من الاختيار أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.
البيعان: بتشديد الياء، يعنى البائع والمشتري أطلق عليهما من باب التغليب. وقد تقدم أن كل واحد من اللفظين يطلق على معنى الآخر.
محقت: مبنى للمجهول، معناه: ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما أو يخير أحدهما الآخر: أي يقول له: اختر إمضاء البيع.
المعنى الإجمالي:
لما كان البيع قد يقع بلا تفكر ولا ترو، فيحصل للبائع أو المشترى ندم على فوات بعض مقاصده، جعل له الشارع الحكيم أمداً يتمكن فيه، من فسخ العقد. وهذا الأمد هي مدة مجلس العقد.
فما دام العاقدان في مجلس العقد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد أوفسخه فإذا افترقا بأبدانهما، افتراقا يتعارف الناس عليه، أو عقد البيع على أن لا خيار بينهما، فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما الفسخ، إلا بطريق الإقالة.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أسباب البركة والنماء، وشيئاً من أسباب الخسارة والهلاك.
فأسباب البركة والربح والنماء، هي الصدق في المعاملة، وتبين ما في المعقود عليه من عيب أو نقص أو غير ذلك.
وأما أسباب المحق والخسارة، فهي كَتم العيوب، والكذب في المعاملة، والتدليس.
وهى أسباب حقيقية لبركة الدنيا بالزيادة والشهرة بحسن المعاملة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، وحقيقة لمحق كسب الحياة، من سيئ المعاملة والابتعاد عنه، حتى يفقد ثقة الناس وإقبالهم، وخسارة في الآخرة، لغشه الناس. ومن غشنا، فليس منا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشترى، من إمضاء البيع أو فسخه.
2- أن مدته من حين العقد إلى أن يتفرقا من مجلس العقد.
3- أن البيع يلزم بالتفرق بأبدانهما من مجلس العقد.
4- أن البائع والمشترى لو اتفقا على إسقاطه بعد العقد وقبل التفرق، أو تبايعا على أن لا خيار لهما، لزم العقد، لأن الحق لهما، وكيفما اتفقا جاز.
5- الفرق بين حق الله تعالى ومحض حق الآدمي.
فما كان لله، لا يكفى لجوازه رضا الآدمي، كعقود الربا.
وما كان للآدمي، جاز برضاه المعتبر، لأن الحق لا يعدوه.
6- لم يحد الشارع للتفرق حداً، فمرجعه إلى العرف. فما عده الناس مفرقا، لزم البيع به.
فالخروج من البيت الصغير، أو الصعود إلى أعلاه، والتنحي في الصحراء ونحو ذلك، يعد تفرقاً منها لمدة الخيار، وملزماً للعقد.
7- حرم العلماء التفرق، خشية الفسخ، لما روى أهل السنن من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يحل له أن يفارقه صاحبه، خشية أن يستقيله»، ولأنه تحايل لإسقاط حق الغير.
8- أن الصدق في المعاملة وبيان ما في السلعة سبب للبركة في الدنيا والآخرة. كما أن الغش والكذب والكتمان، سبب محق البركة وزوالها.
وهذا شيء محسوس في الدنيا، فإن الذين تنجح تَجارتهم،وتروج سلعهم هم أهل الصدق والمعاملة الحسنة.
ما خسرت تجارة وفلست، إلا بسبب الخيانة. وما عند الله لأولئك وهؤلاء أعظم.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس:
فذهب جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ثبوته. ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة، وطاوس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصري،و الشعبي، والزهري، والأوزاعي، والليث، وسفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، والبخاري، وسائر المحققين المجتهدين.
ودليلهم هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، كحديثي الباب وغيرهما. قال ابن عبد البر وحديث عبد الله بن عمر أثبت ما نقل الآحاد.
وذهب أبو حنيفة، ومالك وأكثر أصحابهما إلى عدم ثبوت خيار المجلس.
واعتذروا عن العمل بهذه الأحاديث بأعذار ضعيفة، أجاب عنها الجمهور بما أوهاها.
ومن تلك الاعتذارات.
أولاً: أن الحديث على خلاف عمل أهل المدينة، وعملهم حجة.
وردّ بأن كثيراً من أهل المدينة، يرون الخيار، ومنهم الصحابة المتقدم ذكرهم، وسعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر ولا تصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب- وهما من أجل فقهاء المدينة- روى عنهما منصوصاً العمل به، وقد كان ابن أبى ذئب- وهو من فقهاء المدينة... معاصر لمالك- ينكر عليه ترك العمل به، فكيف يصح لأحد أن يدعى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا لا يصح القول به. أهـ. وعلى فرض أنهم مجمعون، فليس إجماعهم بحجة، لأن الحجة إجماع الأمة، التي ثبتت لها العصمة. قال ابن دقيق العيد: فالحق الذي لا شك فيه أن عمل أهل المدينة وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه. اهـ.
ثانياْ: أن المراد بـ المتبايعان في الحديث، المتساومان.
والمراد، بالخيار، قبول المشترى أو رده.
وردَ بأن تسمية السائم بائعا مجاز، والأصل الحقيقة.
وأيضاً لا يمكن تطبيق الحديث الذي ذكر فيه التفرق، على حال السائمين. قال ابن عبد البر: إذا حمل على المتساومين لا يكون حينئذ في الكلام فائدة إذ من المعلوم أن كل واحد من المتساومين بالخيار على صاحبه ما لم يقع إيجاب بالبيع والعقد والتراضي، فكيف يرد الخبر بما لا يفيد فائدة! وهذا ما لا يظنه ذو لب على رسول اللَه صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن المراد بالتفرق، تفرق الأقوال بين البائع والمشترى عند الإيجاب والقبول.
ورد بأنه خلاف الظاهر من الحديث، بل خلاف نص بعض الأحاديث وهو: «أيمَا رَجل ابتاعَ مِنْ رَجل بيعة، فإنَ كل وَاحدٍ مِنْهُمَا بَالخِيَار، حتى يَتَفَرقا مِنْ مَكانِهِما».
وأيضاً الإيجاب والقبول، لم يحصل بهما افتراق، وإنما حصل بهما إجماع والتئام.
وهذه نماذج من محاولتهم رد الحديث، سقت منها هذه الثلاثة ليعلم القاري أنهم لم يستندوا على شيء. وهم المالكيون والحنفيون.
كما قال ابن عبد البر.
وقد بالغ العلماء بالرد عليهم. حتى نقل عن بعضهم الخشونة على مالك، لرده الحديث الصحيح، وهو من رواته. وقد روى هذا الحديث من وجوه كثيرة عن جماعة من الصحابة، وإن خالف الحكم في هذين الحديثين بعض ظواهر النصوص من تمام البيع بالعقد بدون ذكر التفرق فإن الشرع قد يخرج بعض الجزئيات عن الكليات تعبدا أو لمصلحة تخصها.

.باب مَا نهى اللّه عنه من البيوع:

الحديث الأول:
عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضَي اللّه عَنْهُ أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عَن الْمُنَابَذَةِ وَهِي طَرْحُ الرجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قبْلَ أنْ يُقَلبَهُ أو يَنْظُرَ إلَيهِ وَنَهى عَنِ الْمُلامَسَةِ وَالْمُلامَسَةِ: لمس الرَّجُلِ الثَّوْبَ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ.
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغَرَر، لما يحصل فيه من مضرة لأحد المتعاقدين، بأن يغبن في بيعه أو شرائه.
وذلك كأن يكون المبيع مجهولا للبائع، أو للمشترى، أو لهما جميعاً.
ومنه بيع المنابذة، بحيث يطرح البائع الثوب مثلاً، على المشترى، يعقدان البيع قبل النظر إليه أو تقليبه.
ومثله بيع الملامسة، كأن يجعلا العقد على لمس الثوب، مثلا، قبل النظر إليه أو تقليبه.
وهذان العقدان يفضيان إلى الجهل والغرر في المعقود عليه.
فأحد العاقدين تحت الخطر إما غانما أو غارماً، فيدخلان في (باب الميسر) المنهي عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الملامسة: فسرت بتفاسير، الصحيح منها، ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه من التفاسير التي تعود إلى جهالة المبيع والغرر فيه.
ومن ذلك تفسير الشافعي أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المستام فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لَمسُكَ مقام نظرك.
2- النهي عن بيع المنابذة وفسرت أيضاً بتفاسير، الصحيح منها ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه، مما يعود إلى الجهالة في المبيع.
ومنه بيع الحصاة كأن يقول:أي ثوب وقعت عليه الحصاة، فعليك بكذا.
3- أما جعل اللمس أو النبذ بيعاً، أو يجعل البيع معلقاً باللمس أو النبذ مع معرفة المبيع في هذه الصور، فالصحيح أن البيع صحيح، لأنه لا يترتب عليه محذور شرعي، كالبيع بالمعاطاة.
4- اًن هذين البيعين غير صحيحين، لأن النهى يقتضي الفساد.
5- المراد بالنهى، المبيعات المختلفة: بصفاتها أو قيمتها.
أما ما كان متفقاً، متساوى القيم، فيصح، لأنه لا تحصل بشرائه على هذه الطرق، الجهالة المحذورة.
6- استدل بذلك على عدم صحة شراء المجهول وعدم صحة شراء الأعمى فيما طريق العلم به النظر، لأن ذلك يفض إلى الغرر.
7- وأما البيع الغائب فإنه يصح بيعه إذا كان الوصف يحيط به وإذا وصف وصفاً تنتفي معه جهالته كوصف بيع السلم، فإذا لم يجده المشتري على الصفة المشروطة، فإن كان موصوفاً معينا بطل العقد. وإن كان موصوفا في الذمة فالعقد صحيح ويلزم البائع إحضار ما تتم به الصفات المشروطة في العقد.
8- قال النووي: اعلم أن الملامسة والمنابذة ونحوهما، مما نص عليه، هي داخلة في النهى عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة.
قال: والنهى عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة. وقال ابن عبد البر: الأصل في هذا الباب كله النهي عن القمار والمخاطرة، وذلك للميسر المنهي عنه.
9- بهذا تبين أن ما نهى عنه في هذا الحديث، مرجعه إلى الضابط الثاني المتقدم.
الحديث الثاني:
عَن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه: أنً رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَلَقًوُا الركْبَان، وَلا يَبع بَغضُكُم عَلى بَيْعِ بَعْض، وَلا تَنَاجَشُوا، ولا يبع حَاضرٌ لِبَاد، وَلا تُصَروا الغَنَمَ، وَمَن ابتاعَهَا فهو بخْيَرِ النّظَرَيْن بَعْدَ أن يَحْلُبَهَا: إنْ رَضِيَهَا، أمسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا، رَدَّهَا وصاعا مِنْ تمر» وفي لفظ: «هُو بِالخِيَارِ ثَلاثاً».
الحديث الثالث:
عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عَبَّاس رَضي الله عَنْهُمَا قال: نَهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأنْ يَبِيَع حَاضِر لِبَاد.
قال: فقلت، لابن عباس ما قوله: «حَاضِر لِبَادٍ»؟ قال: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً.
الغريب:
لا تلقوا الركبان: جمع راكب ويراد تلقى القادمين إلى البلاد لبيع سلعهم، فيشتريها منهم قبل وصولهم إلى السوق.
وأطلق على الركبان، تغليبا. وإلا فهو شامل للمشاة.
ولا تناجشوا: النجش، بفتح النون وإسكان الجيم، وهو الزيادة في السلعة ممن لا يريد شراءها، بل لنفع البائع بزيادة الثمن، أو مضرة المشترى بإغلائها عليه.
مأخوذ من نجش الصيد وهو استثارته لأن الزائد يثير الرغبة في السلعة، ويرفع ثمنها. قال ابن قتيبة: النجش: الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد: ناجش، لأنه يختل الصيد.
ولا يبع حاضر لباد والحاضر: هو البلدي المقيم والبادي نسبة إلى البادية.
والمراد به القادم لبيع سلعته بسعر وقتها. سواء أكان بدويا أم حضرياً، فيقصده الحاضر ليبيع له سلعته بأغلى من سعرها لو كانت مع صاحبها. والسمسار هو البائع أو المشترى لغيره.
ولا تُصَروا الغنم: بضم التاء وفتح الصاد، بعدها راء مثقلة مضمومة، ثم واو الجماعة، والفعل مجزوم بلا الناهية، والغنم منصوب على المفعولية، من التصرية، وهى الجمع. قال ابن دقيق العيد: تقول: صرّيت الماء في الحوض وصريته- بالتخفيف- إذا جمعته.
وتصرية البهائم، حبس اللبن في ضروعها حتى يجتمع. والمنهى عنه، إذا قصد به تغرير المشترى بكثرة لبنها.
المعنى الإجمالي:
في هذين الحديثين الجليلين، ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة أنواع من البيع المحرم، لما فيها من الأضرار العائدة على البائع أو المشتري أو غيرهما.
1- فنهى عن تلقى القادمين لبيع سلعهم من طعام وحيوان، فيقصدهم قبل أن يصلوا إلى السوق، فيشترى منهم جَلَبَهمْ.
فلجهلهم بالسعر، ربما غبنهم في بيعهم، وحرمهم من باقي رزقهم الذي تعبوا فيه وَطَووْا لأجله المفازات، وتجشموا المخاطر، فصار طعمة باردة لمن لم يكد فيه.
2- كما نهى أن يبيع أحد على بيع أحد، ومثله في الشراء على شرائه.
وذلك بأن يقول في خيار المجلس أو الشرط: أعطيك أحسن من هذه السلعة أو بأرخص من هذا الثمن، إن كان مشتريا، أو أشتريها منك بأكثر من ثمنها، إن كان بائعا، ليفسخ البيع، ويعقد معه.
وكذا بعد الخيارين، نهى عن ذلك، لما يسببه هذا التحريش من التشاحن والعداوة والبغضاء؛ ولما فيه من قطع رزق صاحبه.
3- ثم نهى عن النجش، الذي هو الزيادة في السلعة لغير قصد الشراء، وإنما لنفع البائع بزيادة الثمن، أو ضرر المشترى بإغلاء السلعة عليه ونهى عنه، لما يترتب عليه من الكذب والتغرير بالمشترين، ورفع ثمن السلع عن طريق المكر والخداع.
4- وكذلك نهى أن يبيع الحاضر للبادي سلعته لأنه يكون محيطاً بسعرها؛ فلا يبقى منه شيئاً ينتفع به المشترون. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض». وإذا باعها صاحبا، حصل فيها شيء من السعة على المشترين. فالنهى عن بيع الحاضر للبادي، فيه التضييق على المقيمين.
5- ثم نهى عن بيع التغرير والتدليس، وهو ترك اللبن في ضروع بهيمة الأنعام، ليجتمع عند بيعها فيظن المشترى أن هذا عادة لها فيشتريها زائداً في ثمنها مالا تستحقه، فيكون قد نهَى المشترى وظلمه.
فجعل الشارع له مدة يتدارك بها ظلامته، وهي الخيار ثلاثة أيام له أن يمسكها، وله أن يردها على البائع بعد أن يعلم أنها مصراة.
فإن كان قد حلب اللبن ردها ورد معها صاع تمر بدلا منه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن تلقى القادمين، لبيع سلعتهم، والشراء منهم، قبل أن يصلوا إلى السوق.
فالنهى يفيد التحريم.
وسيأتي قريباً أن البيع صحيح أو باطل.
2- الحكمة في النهي لئلا يخدعوا، فيشترى منهم سلعهم بأقل من قيمتها بكثير.
3- تحريم البيع على بيع المسلم وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: عندى مثلها بتسعة.
ومثله الشراء على شرائه، كأن يقول لمن باع سلعته بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ العقد مع الأول، ويعقد معه.
ومحل التحريم في زمن خيار المجلس أو خيار الشرط، وكذلك بعد الخيارين لأن فيه ضررا أيضاً من تأسيف العاقد، مما يحمله على محاولة الفسخ، بانتحال بعض الأعذار، أو اضطغانه على البائع أو المشترى منه، وغير ذلك من المفاسد.
ومثل المسلم في ذلك، الذمي وإنما خرج مخرج الغالب.
وقد قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذمي في سومه، إلا الأوزاعى وحده.
4- مثل البيع في التحريم، خطبة النكاح على الخاطب قبله.
وكذلك الوظائف والأعمال، كالمقاولات والإجارات، وغير ذلك من العقود لأن المعنى الموجود في البيع- وهو إثارة العداوة والبغضاء- موجود في الكل.
5- النهي عن بيع الحاضر للبادي وصفته أن يقدم من يريد بيع سلعته من غير أهل البلد، فيتولى بيعها له أحد المقيمين في البلد فتحريمه مخصص لحديث: «الدين النصيحة».
6- والحكمة في النهى، إغلاء السلعة على المقيمين إذا باعها عليهم أحد منهم بخلاف ما إذا كانت مع القادم، فلجهله بالسعر، لا يستقصي جميع قيمتها، فيحصل بذلك سعة على المشترين.
7- قيد بعض العلماء التحريم بشروط، أهمها أن يقدم البادي لبيع سلعته، وأن يكون جاهلا بسعر البلد، وأن يكون بالناس حاجة إليها.
8- النهى عن تصرية اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند البيع.
9- تحريم ذلك لما فيه من التدليس والتغرير بالمشترى، فهو من الكذب، وأكل أموال الناس بالباطل. وإن كان قد صراها لحاجته أو لغير قصد البيع فذلك جائز على ألا يضر بالحيوان، وإلا فحرام.
10- أن البيع صحيح لقوله: «إن رضيها أمسكها» ولكن له الخيار بين الإمساك والرد، إذا علم بالتصرية، سواء أعلمه قبل الحلب، أم بالحلب.
11- أن خياره يمتد ثلاثة أيام، منذ علم التصرية.
12- يفيد هذا الحديث، أن كل بيع يقع فيه التدليس فهو محرم، وأن المدلس عليه بالخيار.
13- إذا علم التصرية، وردها بعد حلبها، رد معها صاعاً من تمر بدلاً من اللبن. سواء كانت المصراة من الغنم، أو الإبل، أو البقر، قل اللبن أو كثر. وتقديره من الشارع بمقدار من التمر لا يزيد ولا ينقص روعي فيه قطع الخصام والنزاع لو ترك تقدير ذلك إليهما، بادعاء زيادة اللبن أو نقصه أو اختلاطه باللبن الحادث في الضرع. وتقدير ذلك بالتمر أفضل لأن كلا من التمر والحليب قوت ذلك الزمان، ولأن كليهما مكيل.
وهذا التمر مقابل اللبن الذي اشتريت وهو في ضرعها.
أما الحادث بعد، فلا يرد عنه شيئاً، لأن الخراج بالضمان.
14- النهى عن النجش، وهو زيادة من لا يريد شراء السلعة في ثمنا، وذلك لنفع البائع أو الإضرار بالمشترى، وربما قصد الإضرار بكليهما، وهو محرم، لأن النهي يقتض التحريم. وإذا كان قد تواطأ مع البائع على النجش فهما شريكان في الإثم وهو مثبت للخيار في البيع.
اختلاف العلماء:
مذهب جمهور العلماء صحة شراء مُتلَفي الركبان، بل حكى عن جميع العلماء.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم وغيره: «لا تَلَقوا الجلب، فمن تَلَقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار».
كما أن النهي في الحديث لا يعود إلى نفس العقد، ولا إلى ركن أو شرط منه، وإنما هو، لأجل الإضرار بالركبان، ولا يقدح في نفس البيع، بل يمكن تداركه.
واختلفوا في ثبوت الخيار، فذهب الشافعي، وأحمد: إلى ثبوته، إذا غبن البائع غَبْناً خارجاً عن العادة والعرف عند التجار.
ودليلهم، الحديث المتقدم، ولأن هذا ضرر نزل بالبائع، ولا يمكن تداركه بغير الخيار.
وذهب الحنفية إلى عدم الخيار، والقول الأول هو الصحيح.
واختلفوا في صحة بيع من باع على بيع أخيه.
فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، والظاهرية: إلى أن البيع غير صحيح، فلا ينعقد، للنهي عنه، والنهي يقتض الفساد.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى صحة البيع لأن النهى لا يعود إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارج عنه.
وما يقال في البيع على البيع، يقال مثله في الشراء على الشراء لأن المعنى واحد فيهما، ولأن الشراء يسمى بيعا أيْضاً.
واختلفوا في صحة بيع الحاضر للبادي.
فالمشهور في مذهب الإمام أحمد، البطلان بشروط أربعة:
1- أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة.
2- وأن يقدم البائع، لبيع سلعته بسعر يومها.
3- وأن يكون جاهلا بسعرها.
4- وأن يقصده الحاضر لبيعها له.
فإن اختل شرط منها صح البيع. ودليلهم أن النهى يقتضي الفساد.
وذهب الجمهور إلى صحة البيع مع التحريم، لمخالفته النهي.
وذهب جمهور العلماء- ومنم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد: إلى رد صاع من تمر، عن لبن المصراة عند ردها إلى البائع، كما هو نص الحديث الصحيح.
وذهب الحنفية: إلى أنه لا يرد شيئا، وللمشترى اللبن بدل علفها. وحاولوا رد نص الحديث بدعوى النسخ بقوله تعالى: {وَإن عَاقَبتمْ فَعَاقِبُوا بمثْل ما عُوقِبْتم به}
وإن فرضنا تأخر الآية عن الحديث، فما فيها حجة، لأنها في باب العقوبات، وليس موضوعنا منها.
واعتذارهم الثاني عن الأخذ بالحديث، أنه مخالف لقياس الأصول، وهو أن اللبن مثلى، فيقتضى الضمان بمثله، والضمان يكون بقدر المثل، وهذا ضمن بصاع مطلقاً، قلّ أو كَثُرَ.
وما أشبه ذلك من اعتراضات، أجاب عنها العلماء. ويكفى للجواب عنها أن نقول: إن خبر الشارع الثابت مقدم على قياس الأصول، لأنه أصل بنفسه، واجب الاعتبار بل إن الأصول لا تستند ولا تؤصل، إلا من نصوص الشارع. فلا يمكن أن ندع حديثا صحيحاً واضحا بلا معارض راجح، يقدم عليه. قال الخطابي في (معالم السنن): والأصل أن الحديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب القول به، وصار أصلا في نفسه.
والأصول إنما صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد، فالقول به واجب، وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له- ا.هـ كلامه.
فائدتان:
الأولى: إذا تأملت ما تقدم من الاستنباطات وخلاف العلماء وجدت أن بعضهم مستمسك بظاهر الحديث، وآخذ بما دل عليه لفظه وبعضهم الآخر قد قيده ببعض القيود، تخصيصاً أو تعميماً.
وهذا- كما قال تقي الدين ابن دقيق العيد: دائر بين اتباع المعنى، واتباع اللفظ. والأحسن أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورا كثراً، فلا بأس باتباعه.
وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياس، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهوراً قوياً، فاتباع اللفظ أولى:
على أني لم أذكر إلا قليلا مما لم يدل عليه ظاهر الحديث، وذلك حين يقوى الأخذ بالمعنى جدا، كتقييد إطلاق بيع البائع للبادي بتلك الشروط الثلاثة، فإنها- عند تأمل معنى الحديث، ومقصود النهى منه- معتبرة، وكذلك تعمل الحكم في تصرية بهيمة الأنعام مع أن الوارد في هذا الحديث الغنم، لأن المعنى مفهوم وظاهر عمومه في جميعها.
وكذلك تقييد خيار الجالب بالغبن عادة، رجوعاً إلى المعنى الواضح في ذلك، وهو إزالة الضرر عنه. وأعرضت عن شيئين هما:
1- إما تمسك حرفي متقيد باللفظ، كمن جمد على قصر حكم التصرية في الغنم خاصة، لأنها المنصوص عليها، وغفل عن المعنى الواضح المقصود.
2- وإما ابتعاد عن ظاهر الحديث إلى معنى بعيد، كمن شرط في بطلان بيع الحاضر للبادي، أن يقصده الحاضر، فإن لم يقصده بل قصده البادي، فلا تحريم، والبيع صحيح، على أني ذكرته عن مذهب الحنابلة لبيان المذهب فقط.
وبهذا أرى أني توسطت بين الوجهتين، وسلكت طريقاْ متوسطة مرضية.
الثانية: في تحريم تَلَقِّي الركبان، وبيع الحاضر للبادي يعلم كيف أن الإسلام يراعى المصالح العامة على المصالح الخاصة، كما هو مقتضى العقل الصحيح.
فإن انتفاع أهل البلد بشرائهم السلع رخيصة، قُدمَ على انتفاع الواحد ببيعه سلعته غالية.
كذلك منعت مصلحة فرد، يتلقى الركبان، لأجل مصلحة أهل البلد الذين لهم الحق في أن ينتفعوا جميعاً بالشراء من الجالب مباشرة، مع ما فيه من دفع الضرر عن الجالب أيضاً.
الحديث الرابع:
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهى عن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلةِ. وَكَان بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أهْلُ الْجَاهِلِيةِ. كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَايَعُ الْجزُورَ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تنتج التي في بَطْنِهَا.
قيل: إنه كان يبيع الشارِفَ- وهي الكبيرة الْمُسِنَّةُ بنتاج الجنينِ، الذي في بطنِ نَاقَتِهِ.
الغريب:
حَبَل الحَبَلة: بفتح الحاء والباء فيهما. والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة، وكاتب وكَتبة، واكثر استعمال الحبَل للنساء خاصة، والحمل لهن ولغيرهن، من إناث الحيوان.
الجزور: هو البعير ذكراً كان أو أنثى، وجمعه، جزر، وجزائر.
تنتج: بضم التاء الأولى وإسكان النون وفتح التاء الثانية، وبعدها جيم معناه، تلد. وهو آت على صيغة المبنى للمجهول دائما. وقد أسند إلى الناقة.
الجاهلية: يطلق هذا الاسم، على الزمن الذي قبل الإسلام وأهله، مشتق من الجهل، لغلبته عليهم تنتج التي في بطنها: يريد بيع نتاج النتاج، أي بيع أولاد أولادها. وذلك بأن ينتظر أن تلد الناقة، فإذا ولدت أنثى ينتظر حتى تشب، ثم يرسل عليها الفحل، فتلقح فله ما في بطنا.
المعنى الإجمالي:
أشهر تفاسير هذا البيع تفسيران:
1- فإما أن يكون معناه التعليق، وذلك بأن يبيعه الشيء بثمن مؤجل بمدة تنتهي بولادة الناقة، ثم ولادة الذي في بطنها، ونُهيَ عنه لما فيه من جهالة أجل الثمن، والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره.
2- وإما أن يكون معناه بيع المعدوم المجهول، وذلك بأن يبيعه نتاج الحمل الذي في بطن الناقة المسنة، ونُهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر، فلا يعلم: هل يكون أنثى، وهل هو واحد أو اثنان، وهل هو حي أو ميت؟ ومجهولة مدة حصوله وهذه من البيعات المجهولة، التي يكثر ضررها وعذرها، فتفضي إلى المنازعات.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن هذا البيع على كلا التفسيرين، لأنه إن كان على الأول، فَلِمَا فيه من جهالة الأجل وإن كان على الثاني، فَلِمَا فيه، من فقدان المبيع، وجهالته.
2- النص على هذا النوع من البيع، لأنه من بيعات الجاهلية، وإلا فهو عام في كل بيع يحصل فيه جهالة وغرر.
3- حكمة النهى، أنه من بيع الغرر المفضي إلى الميسر والقمار، وأكل المال بالباطل، مع ما يحصل في ذلك من الشجار والخصام، والعداوة والبغضاء.
قاعدة في المعاملات المحرمة ملخصة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
الأصل في ذلك أن اللّه حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق.
وأكل أموال الناس بالباطل في المعاوضات نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر. فقد تحرم الربا الذي هو ضد الصدقة في سورة البقرة وآل عمران والروم والمدثر والنساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة.
ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصل ما أجمله الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر، وهو المجهول العاقبة، لاًن بيعه من الميسر، وذلك مثل بيع العبد إذا أبق، أو الفرس والبعير إذا شرد.
أما الربا فتحريمه في القرآن أشد، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، لأنه لا يضطر إليه إلا المحتاج، فيأخذ ألفا معجلة ليدفع ألفا ومائتينِ مؤجلات، والموسر لا يفعل ذلك، فيكون في هذه الزيادة ظلم للمحتاج.
وقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء يخفي فيها الفساد، لأنها مفضية إلى الفساد المحقق، مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى. ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه. كبيع العقار ولم تعلم الأساسات، وبيع الدابة الحامل والمرضع. وإن لم يعلم الحمل واللبن، وبيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تتحقق بعد، فظهرا أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز في غيره.
أما الربا فإنه لما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص، ولم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب، أي خمسة أوسق ومادون. وأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، والإمام أحمد موافق لمالك في الغالب منها، فإنهما يحرمان الربا، ويشددان فيه حق التشديد، حتى يسدا الذرائع المفضية إليه وإن لم تكن حيلة.
وفي الجملة فإن أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعاً محكما مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر فعله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.
وأما الغرر فمن أشد ما قيل فيه قولا أبي حنيفة والشافعي، فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء. مثل الحب والثمر في قشره، كالباقلاء والجوز واللوز في قشره، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز.
وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز عنده بيع هذه الأشياء وبيع جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره، حتى إنه يجوز عنده بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل.
وأحمد قريب منه، فقد خرج ابن عقيل عنه وجهين فيها، الثاني منهما أنه يجوز كمذهب مالك، وهذا القول هو قياس أصول أحمد.