فصل: النية وأحكامها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام




.كتاب الطهارة:

.النية وأحكامها:

عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ أبي حَفْصِ عُمَرَ بْنِ الخَطَاب رَضيَ الله عَنْهُ قَال: سَمِعت رسُولَ الله صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلَّم يَقُول: «إنَّمَا الأعْمَالُ بَالْنيَاتِ، وَإنَّمَا لِكل امرئ مَا نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتهُ إلَى اللّه وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرتُهُ لِدُنيا يُصيبُهَا، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُه إلَى مَا هَاجَرَ إليهِ».
غريب الحديث:
1- «إنما الأعمال بالنيات» كلمة: «إنما»، تفيد الحصر، فهو هنا قصر موصُوف على صفة، وهو إثبات حكم الأعمال بالنيات، فهو في قوة (ما الأعمال إلا بالنيات) وينفى الحكم عما عداه.
2- النية لغة: القصد. ووقع بالإفراد في أكثر الروايات. قال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر. اهـ.
وشرعا: العزم على فعل العبادة تقربا إلى الله تعالى.
3- «فمن كانت هجرته...» إلخ مثال يقرر ويوضح القاعدة السابقة.
4- «فمن كانت هجرته» جملة شرطية.
5- «فهجرته إلى الله ورسوله» جواب الشرط، واتحد الشرط والجواب لأنهما على تقدير: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله- نية وقصداً- فهجرته إلى الله ورسوله» ثوابا وأجراً.
المعنى الإجمالي:
هذا حديث عظيم وقاعدة جليلة من قواعد الإسلام هي القياس الصحيح لوزن الأعمال، من حيث القَبول وعدمه، ومن حيث كثرة الثواب وقلته.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن مدار الأعمال على النياتْ فإن كانت النية صالحة، والعمل خالصا لوجه الله تعالى، فالعمل مقبول. وإن كانت غير ذلك، فالعمل مردود، فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاَ يوضح هذه القاعدة الجليلة بالهجرة. فمن هاجر من بلاد الشرك، ابتغاء ثواب الله، وطلباً للقرب من النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم الشريعة، فهجرته في سبيل الله، والله يثيبه عليها. ومن كانت هجرته لغرض من أغراض الدنيا، فليس له عليها ثواب. وإن كانت إلى معصية، فعليه العقاب.
والنية تمييز العبادة عن العادة، فالغسل- مثلا- يقصد عن الجنابة، فيكون عبادة، ويراد للنظافة أو التبرد، فيكون عادة.
وللنية في الشرع حالتان:
أحدها: الإخلاص في العمل لله وحده، هو المعنى الأسمى، وهذا يتحدث عنه علماء التوحيد، والسير، والسلوك.
الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعض، وهذا يتحدث عنه الفقهاء.
وهذا من الأحاديث الجوامع التي يجب الاعتناء بها وتفهمها، فالكتابة القليلة لا تؤتيه حقه. وقد افتتح به الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- صحيحه لدخوله في كل مسألة من مسائل العلم وكل باب من أبوابه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إن مدار الأعمال على النيات، صحة، وفَساداً، وكمالا، ونقصا، وطاعة ومعصية فمن قصد بعمله الرياء أثم، ومن قصد بالجهاد مثلا إعلاء كلمة الله فقط كمل ثوابه. ومن قصد ذلك والغنيمة معه نقص من ثوابه. ومن قصد الغنيمة وحدها لم يأثم ولكنه لا يعطى أجر المجاهد. فالحديث مسوق لبيان أن كل عمل، طاعة كان في الصورة أو معصية يختلف باختلاف النيات.
2- أن النية شرط أساسي في العمل، ولكن بلا غُلُوّ في استحضارها يفسد على المتعبد عبادته. فإن مجرد قصد العمل يكون نِيًة له بدون تكلف استحضارها وتحقيقها.
3- أن النية مَحلُّها القلب، واللفظ بها بدعة.
4- وجوب الحذر من الرياء والسمعة والعمل لأجل الدنيا، ما دام أن شيئاً من ذلك يفسد العبادة.
5- وجوب الاعتناء بأعمال القلوب ومراقبتها.
6- أن الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، من أفضل العبادات إذا قصد بها وجه الله تعالى.
فائدة: ذكر ابن رجب أن العمل لغير الله على أقسام:
فتارة يكون رياء محضا لا يقصد به سوى مراءاة المخلوقين لتحصيل غرض دنيوي، هذا لا يكاد يصدر من مؤمن، ولا شك في أنه يحبط العمل وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة. وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فإن النصوص الصحيحة تدل على بطلانه وإن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، ودفعه صاحبه فإن ذلك لا يضره بغير خلاف، وقد اختلف العلماء من السلف في الاسترسال في الرياء الطارئ: هل يحبط العمل أو لا يضر فاعله ويجازى على أصل نيته؟ اهـ بتصرف.
الحديث الأول:
عَنْ أبي هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَقْبَلُ الله صَلاةَ أحَدكُمْ إذَا أحْدَثَ حَتَى يَتَوضًأ».
غريب الحديث:
1- «لا يقبل اللّه» بصيغة النفي، وهو أبلغ من النهي، لأنه يتضمن النهي، وزيادة نفى حقيقة الشيء.
2- «أحدث» أي حصل منه الحَدَث، وهو الخارج من أحد السبيلين أو غيره من نواقض الوضوء. وفي الأصل: الحدث، الإيذاء.
3- الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء، يمنع وجوده من صحة العبادة المشروط لها الطهارة.
المعنى الإجمالي:
الشارع الحكيم أرشد من أراد الصلاة، أن لا يدخل فيها إلا على حال حسنة وهيئة جميلة، لأنها الصلة الوثيقة بين الرب وعبده، وهى الطريق إِلى مناجاته، لذا أمره بالوضوء والطهارة فيها، وأخبره أنها مردودة غير مقبولة بغير ذلك.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صلاة المحدث لا تقبل حتى يتطهر من الحدثين الأكبر والأصغر.
2- أن الحدث ناقض للوضوء ومبطل للصلاة، إن كان فيها.
3- المراد بعدم القبول هنا: عدم صحة الصلاة وعدم إجزائها.
4- الحديث يدل على أن الطهارة شرط لصحة الصلاة.
الحديث الثاني:
عَنْ عَبْد الله بْن عَمْرو بْنِ الْعَاص، وَأبي هُرَيرةَ، وَعَائِشَةَ رَضِي اللّه تَعَالَى عَنْهم قالوا: قالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقابِ مِنَ النَّار».
غريب الحديث:
الويل العذاب والهلاك. والويل: مصدر لا فعل له من لفظه.
الأعقاب جمع عقب وهو مؤخر القدم، والمراد أصحابها.
و(أل) في الأعقاب للعهد، أي الأعقاب التي لا ينالها الماء، وبهذا يستقيم الوعيد.
المعنى الإجمالي:
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من التهاون بأمر الوضوء والتقصير فيه، ويحث على الاعتناء بإتمامه.
ولما كان مؤخر الرجْل- غالبا- لا يصل إليه ماء الوضوء، فيكون الخلل في الطهارة والصلاة منه، أخبر أن العذاب مُنْصبّ عليه وعلى صاحبه المتهاون في طهارته الشرعية.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الاعتناء بأعضاء الوضوء، وعدم الإخلال بشيء منها. وقد نص الحديث على القدمين وبقية الأعضاء مقيسة عليهما. مع وجود نصوص لها.
2- الوعيد الشديد للمخل في وضوئه.
3- أن الواجب في الرجلين الغسل في الوضوء، وهو ما تضافرت عليه الأدلة الصحيحة، وإجماع الأمة، خلافا لشذوذ الشيعة الذين خالفوا به جماهير الأمة، وخالفوا به الأحاديث الثابتة في فعله وتعليمه صلى الله عليه وسلم للصحابة إياه، كما خالفوا القياس المستقيم من أن الغسل للرجلين أولى وأنقى من المسح، فهو أشد مناسبة وأقرب إلى المعنى.
الحديث الثالث:
عَنْ أبى هريرة رَضيَ اللَه عَنْهُ: أن رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ قَالَ: «إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ مَاءً ثم ليَسْتَنْثِرْ وَمَن اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ. وَإذَا اسْتَيْقَظَ أحدكم مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِل يَدَيْهِ قبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلاثاً، فَإن أحَدَكُمْ لا يَدْرِي أيْنَ بَات يَدُه».
وفي لفظ لمسلم: «فَلْيَسْتَنْشقْ بِمِنْخَرَيْهِ من الماء».
وفي لفظ: «مَنْ تَوَضَّأ فَلْيَسْتَنْشِقْ».
الأحكام المتعلقة باستعمال الماء الدائم:
عَنْ أبى هريرة رَضي الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسلَّمَ قَالَ: «لا يَبولَنَّ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِى، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ».
ولمسلم: «لا يَغْتَسِلْ أحَدُكُمْ في الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُب».
غريب الحديث:
1- «لا يبولن»: (لا) ناهية، والفعل مجزوم المحل بها، وحُرِّك بالفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
2- «الذي لا يجرى»: تفسير للدائم، وهو المستقر في مكانه كالغُدْرَان في البرية،أو الموارد.
3- «ثم يغتسل فيه»: برفع الفعل على المشهور، والجملة خبر لمبتدأ، تقديره: هو يغتسل منه.
وجملة المبتدأ والخبر محلها الجزم. عطفا على: «لا يبولن».
4- «لا يغتسل»: مجزوم لفظا بـ (لا) الناهية.
5- «وهو جنب»: الجملة في موضع نصب على الحال.
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الدائم، الذي لا يجرى، كالخزانات والصهاريج، والغدران في الفلوات، والموارد التي يستسقى منها الناس لئلا يلوثها عليهم ويكرهها. لأن هذه الفضلات القذرة سبب في انتشار الأمراض الفتاكة.
كما نهى عن الاغتسال بغمس الجسم أو بعضه في الماء الذي لا يجرى، حتى لا يكرهه ويوسخه على غيره، بل يتناول منه تناولا، وإذا كان المغتسل جنباً فالنهى أشد.
فإن كان الماء جاريا، فلا بأس من الاغتسال فيه والتبول، مع أن الأحسن تجنيبه البول لعدم الفائدة في ذلك وخشية التلويث، وضرر الغير.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء، هل النهى للتحريم أو الكراهية؟.
فذهب المالكية: إلى أنه مكروه.
وذهب الحنابلة والظاهرية: إلى أنه للتحريم.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه محرم في القليل، مكروه في الكثير.
وظاهر النهى، التحريم في القليل والكثير، لكن يخصص من ذلك المياه المستبحرة باتفاق العلماء.
واختلفوا في الماء الذي يبل فيه: هل هو باق على طهوريته أو تنجس؟
فإن كان متغيراً بالنجاسة، فإن الإجماع منعقد على نجاسته، قليلا كان أو كثيراً.
وإن كان غير متغير بالنجاسة وهو كثير فالإجماع أيضا على طهوريته.
وإن كان قليلا غير متغير بالنجاسة. فذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن البصري، وابن المسيب والثوري، وداود، ومالك والبخاري: إلى عدم تنجسه. وقد سرد البخاري عدة أحاديث ردا على منْ قال إنه نجس.
وذهب ابن عمر، ومجاهد والحنفية والشافعية والحنابلة: إلى أنه تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة ولو لم يتغير، ما دام قليلا، مستدلين بأدلة، منها حديث الباب، وكلها يمكن ردُّها.
واستدل الأولون بأدلة كثيرة.
منها: ما رواه أبو داود، والترمذي وحسنه: «الماء طهور لا ينجسه شيء». وأجابوا عن حديث الباب بأن النهى لتكريهه على السقاة والواردين لا لتنجيسه. والحق ما ذهب إليه الأولون، فإن مدار التنجس على التغير بالنجاسة، قل الماء أو كثر.
هذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومن هذا نعلم أن الراجح أيضاً طهورية الماء المغتسل فيه من الجنابة، وإن قل، خلافا للمشهور من مذهبنا، ومذهب الشافعي، من أن الاغتسال يسلبه صفة الطهورية، ما دام قليلاً.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النًهْىُ عن البول في الماء الذي لا يجرى وتحريمه، وأولى بالتحريم التغوط سواء أكان قليلا أم كثيرا، دون المياه المستبحرة فإن ماءها لا يتنجس بمجرد الملاقاة، بل ينتفع به لحاجات كثيرة غير التطهر به من الأحداث.
2- النهى عن الاغتسال في الماء الدائم بالانغماس فيه، لاسيما الجنب ولو لم يبُلْ فيه كما في رواية مسلم، والمشروع أن يتناول منه تناولا.
3- جواز ذلك في الماء الجاري، والأحسن اجتنابه.
4- النهى عن كل شيء من شأنه الأذى والاعتداء.
5- جاء في بعض روايات الحديث: «ثم يغتسل منه» وجاء في بعضها: «ثم يغتسل فيه» ومعنياهما مختلفان، إذ أن في ظرفية فتفيد الانغماس في الماء المتبول فيه، ومن للتبعيض فتفيد معنى التناول منه. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن رواية: «فيه» تدل على معنى الانغماس بالنص وتمنع معنى التناول بالاستنباط، ورواية: «منه» بعكس ذلك.
حكم الإناء الذي شرب منه الكلب وولغ فيه:
عَنْ أبي هريرة رَضيَ اللَه عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صَلى الله عَلَيهِ وسَلُّمَ قالَ: «إذَا شَرِبَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أحَدكم فْليَغسِلْهُ سَبْعاً» ولمسلم: «أولاهُنَ بِالتَرابِ».
وله في حديث عبد الله بنِ مُغَفَل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في الإنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَا وَعَفرُوه الثًامِنَةَ بِالتراب».
غريب الحديث:
1- «إذا ولغ» ومضارعه يلَغ بالفتح فيهما- شرب بطرف لسانه. وهو أن يدخل لسانه في الماء وغيره من كل مائع، فيحركه ولو لم يشرب. فالشرب أخص من الولوغ.
2- «عفروه» التعفير، التمريغ في العفر، وهو التراب.
3- «أولاهن» تأنيث الأول، والهاء ضمير المرات.
وجاء في بعض الروايات أولهن بلفظ المذكر لأن تأنيث المرة غير حقيقي.
المعنى الإجمالي:
لما كان الكلب من الحيوانات المستكرهة التي تحمل كثيراِ من الأقذار والأمراض، أمر الشارع الحكيم بغسل الإناء الذي ولغ فيه سبع مرات، الأولى منهن مصحوبة بالتراب ليأتي الماء بعدها، فتحصل النظافة التامة من نجاسته وضرره.
اختلاف العلماء:
هناك خلافات للعلماء في أشياء.
منها: هل يجب التسبيع والتتريب؟
ولما كان القول الحق، هو ما يستفاد من هذا الحديث الصحيح الواضح، ضربنا عن الإطالة بذكرها صفَحاً، لأنها لا تعتمد على أدلة صحيحة واضحة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- التغليظ في نجاسة الكلب، لشدة قذارته. ولذا فإنه ينجس: إن لم تظهر فيه آثار النجاسة وتفسيره يأتي قريبا إن شاء الله.
2- إن ولوغ الكلب في إناء، ومثله الأكل، ينجس الإناء. وينجس ما فضل منه.
3- وجوب غسل ما ولغ فيه سبع مرات.
4- وجوب استعمال التراب مرة، والأَولى أن يكون مع الأُولى ليأتي الماء بعدها. وتكون هي الثامنة المشار إليها في الرواية الأخرى. ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء أو أن يؤخذ التراب المختلط بالماء، فيغسل به أما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزئ.
5- إن ما قام مقام التراب من المنقيات يعطى حكمه في ذلك لأنه ليس القصد للتراب وإنما القصد النظافة. وهو مذهب أحمد وقول للشافعي والمشهور في مذهبه تعيين التراب. وقواه ابن دقيق العيد بأن التراب جاء به النص، وهو أحد المطهرين، ولأن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بالإبطال فهو مردود. قال النووي: لا يقوم الأشنان ولا الصابون أو غيرهما مقام التراب على الأصح. قلت: وقد ظهر في البحوث العلمية الحديثة أنه يحصل من التراب إنقاء لهذه النجاسة مالا يحصل من غيره وإن صح هذا فإنه يظهر إحدى معجزات الشرع الشريف ولفظ- عفر- يُؤَيّد اختصاص التراب لأن العفر لغة هو: وجه الأرض والتراب.
6- عظمة هذه الشريعة المطهرة، وأنها تزيل من حكيم خبير، وأن مؤُديها صلوات الله عليه لم ينطق عن الهوى، وذلك أن بعض العلماء حار في حكمة هذا التغليظ في هذه النجاسة، مع أنه يوجد ما هو مثلها غلظة، ولم يشدد في التطهير منها، حتى قال فريق من العلماء: إن التطهير على هذه الكيفية من ولوغ الكلب تعبدي لا تعقل حكمته، حتى جاء الطب الحديث باكتشافاته ومكبراته. فأثبت أن في لعاب الكلب مكروبات وأمراضاً فتاكة، لا يزيلها الماء وحده..
فسبحان العليم الخبير، وهنيئا للموقنين. وويلا للجاحدين.
7- ظاهر الحديث أنه عام في جميع الكلاب، أما الكلاب التي أذنت الشارع باتخاذها، مثل كلاب الصيد والحراسة والماشية فقد قيل: إن إيجاب الغسل على ما يحصل منها فيه حرج، فالرخصة باتخاذها قرينة تقود إلى تخصيص التسبيع بغيرها.
كيفية الوضوء وفضيلته كما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه:
عن حُمْرانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَانَ، أنه رَأى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضوء فَأفرَغ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ فَغَسَلهُمَا ثَلاثَ مَرات، ثُمَّ أدْخَلَ يَميِنَهُ في الوَضُوءِ، ثم تمضْمَضَ وَاستَنْشَق واسثتَنْثَرَ، ثُم غَسَلَ وَجهَهُ ثَلاثَاً، وَيَدَيْهِ إلَىِ الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً، ثُّمَ مَسَحَ برأسه ثُم غَسَل كِلْتَا رجْلَيْهِ ثَلاثاً، ثُمَ قَالَ: رَأيتُ النبي صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توَضًأ نحْوَ وضوئي هذَا وَقَالَ: «من تَوَضًأ نَحْوَ وُضُوئي هذَا ثُمَّ صَلَى رَكْعَتَين لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ الله لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
غريب الحديث:
1- وَضوء: بفتح الواو. الماء الذي يتوضأ به. قال النووي: يقال: الوضوء والطهور (بضم أولهما) إذا أريد الفعل الذي هو المصدر وبفتح أولهما، إذا أريد الماء الذي يتطهر به. وأصل الوضوء من الوضاءة، وهى الحسن والنظافة فسمي وضوء الصلاة وضوءاً لأنه ينظف صاحبه.
2- فأفرغ: قلب من ماء الإناء كل يديه.
3- «لا يحدِّث فيهما نفسه»: حديث النفس، هو الوساوس والخطرات. والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا.
يعنى، فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذر السلامة منها.
4- إلى المرفقين: (إلى) بمعنى (مع) يعنى مع المرفقين.
5- ثم: لم يقصد بها هنا التراخي كما هو الأصل في معناها، وإنما قصد بها مجرد الترتيب. وقد أشار ابن هشام في المغنى والرضي في شرح الكافية إلى أنها قد تأتي لمجرد الترتيب.
6- «نحو وضوئي»: جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث: «مثل وضوئي هذا» ومعنى: «نحو» و«مثل» متفاوت: فإن لفظة: «مثل» تقتضي ظاهر المساواة من كل وجه، أما: «نحو» فما تعطى معنى المثلية إلا مجازا. والمجاز هنا متعين، لارتباط الثواب بالمماثلة.
المعنى الإجمالي:
اشتمل هذا الحديث العظيم على الصفة الكاملة لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن عثمان رضي الله عنه من حسن تعليمه وتفهيمه علمهم صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بطريق عملية، ليكون أبلغ تفهُّماً، وأتَمَّ تصوُّراً في أذهانهم. فإنه دعا بإناء فيه ماء، ولئلا يلوثه، لم يغمس يده فيه. وإنما صب على يديه ثلاث مرات حتى نظفتا، بعد ذلك أدخل يده اليمنى في الإناء، وأخذ بها ماء تمضمض منه واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يديه مع المرفقين ثلاثا، ثم مسح جميع رأسه مرة واحدة، ثم غسل رجليه مع الكعبين ثلاثا.
فلما فرع رضي الله عنه من هذا التطبيق، أخبرهم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مثل هذا الوضوء.
ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من هذا الوضوء الكامل، أخبرهم أنه من توضأ مثل وضوئه، وصلى ركعتين، مُحْضراً قلبه بين يدي ربه عز وجل فيهما، فإنه- بفضله تعالى يجازيه على هذا الوضوء الكامل، وهذه الصلاة الخالصة بغفران ما تقدم من ذنبه.
اختلاف العلماء:
ذهب الأئمة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وسفيان، وغيرهم، إلى أن الاستنشاق مستحب في الوضوء لا واجب.
والمشهور عند الإمام أحمد الوجوب، فلا يصح الوضوء بدونه وهو مذهب أبى ليلى، وإسحاق، وغيرهما.
استدل الأولونْ على قولهم بحديث: «عشر من سنن المرسلين» ومنها الاستنشاق، والسنة غير واجب واستدل الموجبون بقوله تعالى: {فاغْسِلُوا وجُوهَكُم} والأنف من الوجه، وبالأحاديث الكثيرة الصحيحة من صفة فعله صلى الله عليه وسلم وأمره بذلك.
وأجابوا عن دليل غير الموجبين بأن المراد بالسنة في الحديث الطريقة، لأن تسمية السنة غير الواجب اصطلاَح من الفقهاء المتأخرين.
ولهذا ورد في كثير من الأحاديث ومنها: «عشر من الفطرة».
ولاشك في صحة المذهب الأخير لقوة أدلته، وعدم ما يعارضها- في علمي- والله أعلم.
وقد اتفق العلماء على وجوب مسح الرأس، واتفقوا أيضا على استحباب مسح جميعه، ولكن اختلفوا، هل يجزئ مسح بعضه أو لابد من مسحه كله؟.
فذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، إلى جواز الاقتصار على بعضه، على اختلافهم- في القدر المجزئ منه.
وذهب مالك، وأحمد: إلى وجوب استيعابه كله.
استدل الأولون بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكم} على أن الباء للتبعيض، وبما رواه مسلم عن المغيرة بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم تَوَضَأ فَمَسَحَ بِنَاصيَتهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ.
واستدل الموجبون لمسحه كله بأحاديث كثيرة، كلها تصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث الباب، ومنها ما رواه الجماعة: مَسِحَ رأسه بيدَيْهِ فَاْقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبِرَ، بَدَأ بُمَقدَّم رَأسِهِ، ثُمً ذَهَبَ بِهِمَا إِلى قَفاه، ثُم ردهما إِلَى المَكَانِ الذي بَدَأ مِنْهُ.
وأجابوا عن أدلة المجيزين لمسح بعضه، بأن الباء لم ترد في اللغة للتبعيض وإنما معناها في الآية، الإلصاق. أي: ألصقوا المسح برؤوسكم والإلصاق هو المعنى الحقيقي للباء وقد سئل نفطويه وابن دريد عن معنى التبعيض في الباء فلم يعرفاه. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء عن أهل العربية بما لا يعرفونه.
قال ابن القيم: لم يصح في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأس البتة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية غسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما في ماء الوضوء عند التوضؤ.
2- التيامن في تناول ماء الوضوء لغسل الأعضاء.
3- مشروعية التمضمض، والاستنشاق، والاستنثار على هذا الترتيب. ولا خلاف في مشروعيتهما، وإنما الخلاف في وجوبهما، وتقدم أنه هو الصحيح.
4- غسل الوجه ثلاثا، وحده: من منابت شعر الرأس إلى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وكذلك يثلث في المضمضة والاستنشاق، لأن الأنف والفم من مسمى الوجه. فالوجه عند العرب. ما حصلت به المواجهة.
5- غسل اليدين مع المرفقين ثلاثاً.
6- مسح جميع الرأسْ مرة واحدة. يقبل بيديه عليه، ثم يدبر بهما.
7- غسل الرجلين مع الكعبين ثلاثا.
8- وجوب الترتيب في ذلك، لإدخال الشارع الممسوح، وهو الرأس، بين المغسولات، ملاحظة للترتيب بين هذه الأعضاء.
9- إن هذه الصفة هي صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم الكاملة.
10- مشروعية الصلاة بعد الوضوء.
11- إن سبب تمام الصلاة وكمالها، حضور القلب بين يدي الله تعالى وفيه الترغيب بالإخلاص، والتحذير من عدم قبول الصلاة ممن لهى فيها بأمور الدنيا،ومن طرأت عليه الخواطر الدنيوية وهو في الصلاة فطردها يرجى له حصول هذا الثواب.
12- فضيلة الوضوء الكاملة، إنه سبب لغفران الذنوب.
13- الثواب الموعود به يترتب على مجموع الأمرين، وهما الوضوء على النحو المذكور، وصلاة ركعتين بعده على الصفة المذكورة ولا يترتب على أحدهما فقط، إلا بدليل خارجي. وقد خص العلماء الغفران الذي هنا بصغائر الذنوب، أما الكبائر فلابد لغفرانها من التوبة منها. قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}.
كيفية أخرى للوضوء مروي عن عمر بن يحيى المازني:
عن عَمْرِو بن يَحْيىَ اْلمازِني عَنْ أبِيهِ قَال: «شَهِدْتُ عمرْو بن أبي اْلحَسَنِ سَألَ عَبْدَ اللّه بْنَ زيد عَن وُضُوءِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاَ بِتَوْر مِنْ مَاءٍ فتَوَضأ لَهُم وُضُوءَ النبي صلى الله عليه وسلم. فَأكفأ عَلَى يَدَيْهِ مَنِ التَوْرِ فَغسَل يَدَيْه ثَلاثا، ثُمَّ أدْخَل يَدَهُ في التَّور فَمضْمضَ وَاستَنْشَقَ واستَنْثَرَ ثَلاثاً بثَلاث غرْفَاتِ، ثُمَّ أدْخل يدهِ فِي التَّوْر فغَسَل وجْهَهِ ثلاثا ثمَّ أدْخَلَ يَدَه فَغَسَلهُمَا مرتين إلى المرْفقيْن، ثُمَّ أدْخَلَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بهما رَأسَهُ فَأقَبَلَ بهمَا، وأدْبَرَ مَرّة وَاحِدَة، ثم غَسَلَ رجْلَيْهِ».
وفي رواية: «بَدَأ بِمُقَدَّم رَأسِهِ حَتًى ذَهبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثمَ ردهما حَتَى رجع إِلَى المَكَانِ الذِي بَدَأ مِنْهُ».
وفي رواية: «أتَانَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأخرَجنا لَه مَاءً في تور مِن صُفْر». متفق عليه. التور شِبْهُ الطَّست.
غريب الحديث:
1- «بتور من ماء»: بالمثناة الطست، وهو الإناء الصغير. قال الزمخشري: وهو مذكر عند أهل اللغة.
2- «فأكفأ على يديه»: أمال وصب على يديه وفى بعض الروايات: «على يده» قال ابن حجر: تحمل رواية الإفراد على إرادة الجنس.
3- «من صُفر»: بضم الصاد وسكون الفاء، نوع من النحاس.
4- «إلى المرفقين مرتين»: قال الصنعاني: كذا في نسخة العمدة لفظ: «مرتين» ولفظ البخاري في هذا الحديث: «مرتين مرتين» وكذا في مسلم مكررا ولم ينبه الزركشي إلى هذا.
المعنى الإجمالي:
هذا الحديث يعرف معناه مما تقدم في شرح حديث عثمان، لأن كلا الحديثين يصف الوضوء الكامل للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يوجد في هذا الحديث زيادة فوائد على الحديث السابق نجملها بما يلي:
1- صرح هنا بأن المضمضة والاستنشاق كانتا ثلاثا ثلاثا من ثلاث غرفات.
2- في الحديث السابق ذكر أن غسل اليدين كان ثلاثا، وفى هذا الحديث ذكره مرتين فقط.
3- قوله: «ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا» إفراد اليد رواية مسلم وأكثر روايات البخاري. قال النووي بعد ذكره أحاديث الروايتين. هي دالة على أن ذلك سنة، ولكن المشهور الذي قطع به الجمهور أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعا لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ.
4- قال في الحديث السابق: «ثم مسح برأسه» وهذا التعبير يمكن تأويله ببعض الرأس كما أولت الآية {وامْسَحُوا برؤوسِكُم}.
وفى هذا الحديث صرح بمسحه كله، وفَصل كيفية المسح، والشرع يبين بعضه بعضاً، فدل على وجوب مسحه كله كما تقدم.
5- في الحديثين يذكر عند المضمضة والاستنشاق أنه يدخل يداً واحدة.
وفى هذا الحديث، ذكر أنه أدخل يديه عند غسلهما ومسح الرأس بيديه، أقبل بهما وأدبر مرة واحدة. قال أبو داود: أحاديث الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة.
6- الحديث صرح بغسل الرجلين وهنا لم يذكره، وغسلهما من الفروض المتفق عليها، فلا يكون في ترك ذكرهما هنا، ما يدل على عدم وجوب غسلهما.
7- يؤخذ من هذا، جواز مخالفة أعضاء الوضوء بتفضيل بعضها على بعض،وأن التثليث هو الصفة الكاملة وما دونها يجزئ كما صحت بذلك الأحاديث.
8- اختلف العلماء في البداءة بالمسح فهي من المقدم إلى المؤخر عند ابن دقيق العيد والصنعاني. وفهم بعضهم من قوله: «فأقبل بهما وأدبر» أن المسح من مؤخر الرأس إلى مقدمه. ثم يعاد باليدين إلى قفا الرأس.
استحباب التيمن في الأمور الشريفة المستطابة:
عَنْ عَائِشَةَ رضي اللّه عَنْهَا قَالَتْ: «كَاَن رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يُعْجبُهُ التَيمُّن في تَنَعّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأنِهِ كُلهِ».
غريب الحديث:
1- «يعجبه التيمن»: يفضل تقديم الأيمن على الأيسر. قال الصنعاني: كل فعل يحبه الله أو رسوله، فهو يدل على مشروعيته للشركة بين الإيجاب والندب.
2- «في تنعله»: لبس نعله.
3- «وترجله»: تسريح شعر رأسه ولحيته بالمشط.
4- «وطهوره»: بضم الطاء، التطهر. ويشمل الوضوء والغسل وإزالة النجاسة.
5- «وفى شأنه كله»: من الأشياء المستطابة كهذه الأمثلة المذكورة. قال الشيخ تقي الدين: «وفي شأنه كله»: عام مخصوص بمثل دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما مما يبدأ فيه باليسار.
المعنى الإجمالي:
من فضل أمهات المؤمنين رضي الله عهن، لاسيما الحافظة العالمة الصديقة بنت الصديق، أنهن روين للأمة من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما الأفعال المنزلية، التي لا يطلع عليها غير أهل بيته، رَوَينَ علماً كثيراً.
فهنا عائشة تخبرنا عن عادة النبي صلى الله عليه وسلم المحببة إليه، وهى تقديم الأيمن في ليس نعله، ومشط شعره، وتسريحه، وتطهره من الأحداث، وفى جميع أموره، التي من نوع ما ذكر، كلبس القميص والسراويل، والنوم، والأكل والشرب ونحو ذلك.
كل هذا من باب التفاؤل الحسن وتشريف اليمين على اليسار.
وأما الأشياء المستقذرة فالأحسن أن تقدم فيها اليسار.
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء باليمين، ونهى عن مس الذكر باليمين، لأنها للطيبات، واليسار لما سوى ذلك.
ما يؤخذ من الحديث:
1- إن تقديم اليمين للأشياء الطيبة هو الأفضل شرعاً وعقلا وطِبُّا. قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين، في كل ما كان من باب التكريم والتزين وما كان بضدها استحب فيه التياسر.
2- إن جعل اليسار للأشياء المستقذرة، هو الأليق شرعا وعقلا.
3- إن الشرع الشريف جاء لإصلاح الناس وتهذيبهم ووقايتهم من الأضرار.
4- أن الأفضل في تقديم الوضوء ميامن الأعضاء على مياسرها. قال النووي: أجمع العلماء على أن تقديم اليمنى في الوضوء سنة، من خالفهما فاته الفضل وتم وضوءه. قال في المغنى: لا يعلم في عدم الوجوب خلاف.
فضل إسباغ الوضوء وما يترتب على ذلك من امتياز هذه الأمة يوم القيامة على سائر الأمم:
عَنْ نُعَيْمِ الْمُجْمِرِ عَنْ أبيِ هريرة رَضِيَ الله عَنْهُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَهُ قَالَ: «إنَّ أمتي يُدْعَون يومَ القيَامةِ غُرُّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثارِ الْوُضُوءِ، فَمن استطَاَعَ مِنْكُمْ أن يُطِيلَ غرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وفي لفظ آخر: رَأيْتُ أبَا هُريرةَ يتوضأ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيهِ حَتى كَادَ يَبْلُغُ المَنْكِبَينِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْن، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إن أمتي يُدْعَوْنَ يَوْم القِيَامَةِ غرا مُحَجلِين من آثار الوُضُوءِ، فمَنِ اسْتَطَاَعَ مِنْكُمْ أنْ يُطِيل غرته وَتَحْجيلَهُ فَلْيَفْعَل».
وفي لفظ لمسلم: سَمِعْتُ خليلي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «تبلغ الحِلْيَةُ من الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ».
غريب الحديث:
1- «يدعون»: مبنى للمجهول، ينادَوْن نداء تشريف وتكريم.
2- «غرّاً»: بضم الغين وتشديد الراء، جمع أغر أصلها لمعة بيضاء في جبهة الفرس، فأطلقت على نور وجوههم.
3- «محجلين»: من التحجيل وهو بياض يكون في قوائم الفرس، والمراد به هنا: النور الكائن في هذه الأعضاء يوم القيامة، تشبيها بتحجيل الفرس.
4- «الوضوء»: بضم الواو هو الفعل.
5- «من آثار الوضوء»: علهّ للغرة، والتحجيل.
المعنى الإجمالي:
يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن الله سبحانه وتعالى يخصهم بعلامة فضل وشرف: يومَ القيامة، من بين الأمم، حيث ينادون فيأتون على رؤوس الخلائق تتلألأ وجوههم وأيديهم وأرجلهم بالنور، وذلك أثر من آثار هذه العبادة العظيمة، وهي الضوء الذي كرروه على هذه الأعضاء الشريفة ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لثوابه، فكان جزاؤهم هذه المحمدة العظيمة الخاصة.
ثم يقول أبو هريرة: من قدر على إطالة هذه الغرّة فليفعل، لأنه كلما طال مكان الغسل من العضو طالت الغرة والتحجيل، لأن حلية النور تبلغ ما بلغ ماء الوضوء.
الخلاف في إطالة الغرة:
اختلف العلماء في مجاوزة حد الفرض الوجه واليدين والرجلين للوضوء. فذهب الجمهور إلى استحباب ذلك، عملا بهذا الحديث، على اختلاف بينهم في قدر حَدَّ المستحب.
وذهب مالك ورواية عن أحمد، إلى عدم استحباب مجاوزة محل الفرض، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي، وأيدوا رَأيَهُم بما يأتي:
1- مجاوزة محل الفرض، على أنها عبادة، دعوى تحتاج إلى دليل.
والحديث الذي معنا لا يدل عليها، وإنما يدل على نورَ أعضاء الوضوء يوم القيامة.
وعمل أبي هريرة فَهْمْ له وحده من الحديث، ولا يصار إلى فهمه مع المعارض الراجح.
أما قوله: «فمن استطاع... الخ» فرجحوا أنها مدرجة من كلام أبي هريرة، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
2- لو سلمنا بهذا لاقتضى أن نتجاوز الوجه إلى شعر الرأس، وهو لا يسمى غرة، فيكون متناقضاً.
3- لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه فهم هذا الفهم وتجاوز بوضوئه محل الفرض، بل نقل عن أبي هريرة أنه كان يستتر خشية من استغراب الناس لفعله.
4- إن كل الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنه يغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، والرجلين إلى الكعبين، وما كان ليترك الفاضل في كل مرة من وضوئه. وقال في الفتح: لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روي هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه.
5- الآية الكريمة تحدد محل الفرض بالمرفقين والكعبين، وهى من أواخر القرآن نزولا وإليك نص كلام ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، قال: أخرجا في الصحيحين والسياق لـ مسلم عن أبي حازم قال: كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فروخ أنتم هاهنا؟ لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء. سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
وقد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته. وتطويل التحجيل، وممن استحبه بعض الحنفية والشافعية والحنابلة وقد اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على غسل الوجه والمرفقين والكعبين، ثم قال: «فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم فهذا يرد قولهم».
ولذا فإن الصحيح أنه لا يستحب وهو قول أهل المدينة، وورد فيه عن أحمد روايتان.
والحديث لا يدل على الإطالة، فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم، لا في العضد والكتف.
وأما قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» فهذه الزيادة مدرجة في الحديث من كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بَين ذلك غير واحد من الحفاظ.
وفي مسند الإمام أحمد في هذا الحديث، قال نعيم: فلا أدرى قوله: «من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو شيء قاله أبو هريرة من عنده.
شيخنا قول: هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الغرة لا تكون في اليد، ولا تكون إلا في الوجه، وإطالته غير ممكنة، إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة. انتهى كلامه رحمه الله.