فصل: باب الرِّبا والصَّرْف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير العلام شرح عمدة الأحكام



.باب الرِّبا والصَّرْف:

الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنَا عَلْيَها المَاءَ اهتزت وَرَبَتْ} يعنى زادت.
وفى الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فمثل قوله تعالى {وَحرّمَ الربا} والسنة، في مثل الحديث، الذي لعن به صلى الله عليه وسلم (آكل الربا وموكله، وشاهده، وكاتبه) وهو متفق عليه. وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة لما استندت عليه من النصوص.
وتحريمه:- مقتضى العدل والقياس، لأن التعامل به ظلم أو ذريعة إليه. والكون لا يقوم إلا بالعدل، الذي أوجبه المولى على نفسه، وألزم به خلقه ومضار الرِّبا ومفاسده لا تحصى.
منها:- تضخم المال بطريق غير مشروعة، لأنه تضخم على حساب سلب مال الفقير وضمه إلى كنوز الَغنى، وحسبك بهذا داء فتاكا في المجتمعات، وسبباً في الخصومات والعداوات، وهو أداة هدامة للنشاط والعمل الشريف، واستثمار الأرض، وإخراج طيباتها. وحدث لدينا معاملات في البنوك، وصناديق البريد، تجاسروا فيها على تعاطى الربا، وسموه بغير اسمه.
وهذا مصداق للحديث النبوي الشريف: «يأتي على الناس زمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها».
وبسط هذه البحوث والرد عليها، له كتب غير هذا.
أما الصرف: فمادته تدور على التقلب والتغير في الأشياء.
قال في اللسان: الصرف بيع الذهب بالفضة وبالعكس، أنه يتصرف به عن جوهر إلى جوهر فهو بيع الأثمان بعضها ببعض.
الحديث الأول:
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:
«الذًهَبُ بالذًهَبِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالفِضةُ بِالفِضةِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُر بِالبُر رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشعِيرُ بِالشعِير رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ.»
الغريب:
إلا هاء وهاء: فيهما لغات، أشهرها المد وفتح الهمزة فيهما، ومعناه التقابض.
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، كيفية البيع الصحيح بين هذه الأنواع، التي يجرى فيها الربا، وهو أنه من باع ذهبا بفضة أو بالعكس، فلابد من الحلول والتقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح العقد، لأن هذه مصارفة، يشترط لدوام صحتها التقابض.
كما أن من باع- برا بِبُر، أو شعيرا بشعير، فلابد من التقابض بينهما، في مجلس العقد لما بين هذه الأنواع من علة الربا المفسدة للعقد، إذا حصل التفرق قبل القبض.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الذهب بالفضة أو العكس، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد، وهذه هي المصارفة.
2- تحريم بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير. وفساده، إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد.
3- صحة العقد إذا حصل القبض في المصارفة. أو بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير، في مجلس العقد.
4- يراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء أكانا جالسين، أم ماضيين، أم راكبين. ويراد بالتفرق ما يُعَد تفرقا عرفا، بين الناس.
الحديث الثاني:
عَنْ أبي سَعيد الخُدرِىّ رَضيَ الله عَنهُ: أنَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«لا تَبِيعُوا الذهَبَ بالذهَبِ، إلا مِثْلا بمثل، وَلا تُشِفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض. وَلا تَبِيعُوا الورِقِ بِالوَرِقِ إلا مِثْلا بِمِثْلٍ وَلا تُشفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض وَلَا تَبِيعُوا مِنْها غَائباً بنَاجِز».
وفى لفظ: «إلا يَداً بيدٍ». وفي لفظ: «إلا وَزْناً بِوَزْنٍ مِثلا بِمثْلى سَواءً بِسَواء».
الغريب:
1- الورق: هو الفضة مضروبة أو غير مضروبة.
2- ولا تُشفُّوا بعضها على بعض: بضم أوله، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء. أي لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو رباعي من أشف والشف بالكسر، الزيادة، ويطلق على النقص أيضاً، فهو من الأضداد.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث الشريف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا بنوعيه: الفضل، والنسيئة.
فهو ينهى عن بيع الذهب بالذهب، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين، إلا إذا تماثلا وزناً بوزنْ، وأن يحصل التقابض فيهما، في مجلس العقد، إذ لا يجوز بيع أحدهما حاضراً، والآخر غائبا.
كما نهى عن بيع الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة أم غير مضروبة، إلا أن تكون متماثلة وزناً بوزن، وأن يتقابضا بمجلس العقد.
فلا يجوز زيادة أحدهما عن الآخر، ولا التفرُّق قبل التقابض.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة، أم غير مضروبة، أم مختلفة، ما لم تكن مماثلة بمعيارها الشرعي وهو الوزن، وما لم يحصل التقابض من الطرفين في مجلس العقد.
2- النهى عن ذلك يقتضي تحريمه وفساد العقد.
3- التماثل والتقابض بمجلس العقد، مشروط بين جميع الأموال الربوية، ويأتي بيان ما يجمعها إن شاء الله.
4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير: هذا هو عين الربا الذي أنزل فيه القرآن، وذكر أنه لا يستحق إلا ما أعطاهم أو نظيره أما الزيادة فلا يستحق شيئا منها. أما ما قبضه بتأول فيعفى عنه: وأما ما بقى في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى: {وذروا ما بقى من الربا}.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم التفاضل والنساء في جنس واحد من الأجناس، التي نص عليها حديث عبادة بن الصامت قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى». رواه مسلم.
فهو نص في منع التفاضل في الجنس الواحد من هذه الأعيان المذكورة.
وأما منع النسيئة، فيستفاد من مثل حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً، إلا هاء وهاء».
ويجوز بيع الجنس الواحد من هذه الستة بالجنس الآخر نَساء لبقية حديث عبادة: «فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» وكل هذا مجمع عليه عند العلماء، إلا في الشعير مع البر، فقد رأى بعضهم أنَهما جنس واحد، والصحيح أنهما جنسان.
وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الربا لا يتعدى هذه الأجناس الستة لنفيهمُ القياس.
وأما جمهور العلماء فقد عَدّوا الحكم إلى غيرها من الأشياء. واختلفوا في الأشياء الملحقة، تبعاً لاختلافهم في فهم العلة المانعة من التفاضل والنِّساء،
وقد اتفق العلماء على أن العلة في الذهب والفضة، غير العلة في الأربعة الباقية وأن لكل منهما علة واحدة. ثم اختلفوا في العلة.
فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد، في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس وفى الأربعة الباقية، كونها مكيلة جنس، فيلحق بهما ما شابهما في العلة.
وبهذا القول قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق والحنفية. فعلى هذا يجرى الربَا في كل موزون، أو مكيل بيع بجنسه، سواء أكان مطعوماً، كالحبوب، والسكر، والأدهان. أم غير مطعوم، كالحديد، والصفر والنحاس، والأشنان ونحو ذلك. وغير المكيل أو الموزون لا يجرى فيه، وأن كان مطعوما، كالفواكه المعدودة.
ويستدلون على ثبوت هذا التعليل عندهم، بما رواه أحمد عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين».
وما رواه الدارقطنى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وُزِنَ مثلا بمثل، نوعاً واحدا. وما كيل، فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به». فاعتبر، هنا، الكيل، أو الوزن في الجنس الواحد، لتحقق العلة.
وذهب الشافعي إلى أن العلة، الطعم والجنس، والعلة في الذهب والفضة، كونهما ثمنين للأشياء، فيختص الحكم بهما. والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، عن معمر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل».
فقد علَّق الحكم باسم الطعام، فدل على العلة واشتقاقها. ووافق الإمام مالك الشافعي في النقدين، أم غيرهما، فالعلة عنده فيه ترجع إلى الجنس والادخار، والاقتيات. وكذلك ما يصلح الطعام من التوابل. ويرون أن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث جاءت للتنبيه على ما في معناها، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار.
فالبر، والشعير، لأنواعْ الحبوب. والتمر لأنواع الحلويات، كالسكر والعسل، والملح، لأنواع التوابل.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد هي مذهب الإمام الشافعي في القديم، وقال بها سعيد بن المسيب. وهى أن العلة في الأربعة المذكورة في الحديث: الطعم، والكيل أو الوزن فلا يجرى الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالرمان والحض، والبطيخ.
كما لا يجرى في مكيل أو موزون لا يطعم. فلابد من اعتبار الأمرين، لأن الكيل وحده، أو الوزن وحده، لا يقتضي وجوب المماثلة، كما أن الطعم وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق المماثلة في المعيار الشرعي الذي هو الكيل والوزن.
وبهذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها بالآخر.
وقد اختار هذا القول (صاحب المغنى) والشارح عبد الرحمن بن أبي عمر، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى.
تلخيص:
قال في المغنى: فالحاصل إن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا. رواية واحدة كالأرز، والدخن والقطنيات، والدهن.
وهذا قول أكثر أهل العلم وعلماء الأمصار في القديم والحديث. وما يعدم فيه الكيل، والوزن والطعم، واختلف جنسه، فلا ربا فيه رواية واحدة. وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتين والنوى. وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل والوزن من جنس واحد، فيه روايتان.
واختلف أهل العلم فيه، والأولى- إن شاء الله- حِله، إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوى التمسك به، وهى- مع ضعفها- يعارض بعضها بعضا. فوجب إخراجها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحل، الذي يقتضيه الكتاب، والسنة، والاعتبار.
الحديث الثالث:
عَن أبي سَعِيدٍ الخُدري رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ بلال إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بِتَمْر بَرْنى، فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم: «مِنْ أين هذَا؟».
قَالَ بلال: كانَ عِنْدَنَا تَمْر رَدِيء، فَبِعتُ مِنْهُ صَاعَيْن بصَاع، لِيَطْعَمَ النًّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ.
فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلمَ عِنْدَ ذِلكَ: «أوّهِ أوَّه، عَينُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ، وَلكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فبعِ التَّمْرَ بِبَيْع آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ».
الغريب:
بَرْني: من تمر المدينة الجيد، وهو معروف بها إلى الآن، بسره أصفر، فيه طول.
أوه أوه: كلمة يؤتى بها للتوجع، أو التفجع.
المعنى الإجمالي:
جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جودته وقال: من أين هذا؟
قال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الردي بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه.
فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتأوه، لأن المعصية عنده هي أعظم المصائب.
وقال: عملك هذا، هو عين الربا المحرم، فلا تفعل، ولكن إذا أردت استبدال رديء، فبع الرديء بدراهم، ثم اِشتر بالدراهم تمرا جيدا. فهذه طريق مباحة تعملها، لاجتناب الوقوع في المحرم.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم ربا الفضل بالتمر، بأن يباع بعضه ببعض، وأحدهما أكثر من الأخر.
2- استدل بالحديث على جواز (مسألة العينة) وهى أن يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها من المشترى بنقد أقل من ثمنها الأول، ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه إنْ شاء اللّه تعالى.
3- استدل بالحديث على جواز (مسألة التورق)، وهى أن يشترى ما يساوى مائة ريال، بمائة وعشرين مؤجلة لا لينتفع به بل ليبيعه وينتفع بثمنه، ويأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.
4- عظم المعصية، كيف بلغت من نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
5- لم يذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع. والسكوت عن الرد، لا يدل على عدمه.
وقد ورد في بعض الطرق أنه قال: «هذا الربا فرِده» وقد قال تعالى: {فإنْ تُبتم فَلَكُم رُؤوس أمْوَاِلكُم لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون}.
6- جواز الترفه في المأكل والمشرب، ما لم يصل إلى حد التبذير، والسرف المنهي عنه، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرمَ زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَيباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا}.
7- فيه بيان شيء من أدب المفتى.
وهو أنه إذا سئل عن مسألة محرمة، ونهى عنها المستفتى، أن يفتح أمامه أبواب الطرق المباحة، التي تغنيه عنها.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم المسألة العينة، التي تقدم شرحها.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد وأتباعهم: إلى تحريمها. وهو مروى عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سنين، والشعبي، والنخعى، وهو مذهب الثوري، والاوزاعى.
لما روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأخَذتُمْ أذنابَ البَقَرِ، ورَضيتُمْ بِالزَرعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلطَ الله عَلَيْكُم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حَتى تَرْجِعُوا إلَى دِينكُم».
وما رواه أحمد أيضاً أن أم ولد زيد بن أرقم، أخبرت عائشة: أنها باعت غلاما من زيد، بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.
والظاهر أنها لا تقول مثل هذا باجتهاد منها، لأن هذا التغليظ لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجاز الشافعي بيع العينة، أخذاً بعموم ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، وأبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب طيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكُلَ تَمْرِ خَيبرَ هكَذَا؟» فَقالَ: لا واللّه، إنّا لَنَأخذُ الصَّاعَ مَن هذَا بِالصاعَيْن، وَالصَّاعَيْن بِالثَّلَاثَةِ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَفْعَلْ، بع الجَمعَ (التمر الرديء) ثُم ابتعْ بالدراهم جنيباً».
فعموم هذا الحديث يدل على أنه لا بأس أن يكون الذي اشترى منه التمر الرديء بدراهمه، هو الذي باع عليه التمر الطيب فعادت دراهمه إليه، لأنه لم يفعل.
وعند الأصوليين أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
أما مسألة التورق التي معناها، أن يشتري السلعة نسيئة لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها بثمنها، فالمشهور عند أصحابنا جوازها.
وكان شيخنا عبد الرحمن السعدي يجيزها، ويرى عموم هذا الحديث يتناولها بالحل.
وقال في أحد كتبه: لأن المشترى لم يبعها على البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى لأنه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكل أو شرب، أو استعمال، أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيها تحيل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها، وما دعت إليها الحاجة، وليس فيه محذور شرعي، لم يحرمه الشارع على العباد.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد، التحريم، واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقال ابن القيم وكان شيخنا- ابن تيمية- رحمه الله يمنع من مسألة التورق وسئل عنها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها.
وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا، موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بالشراء والبيع والخسارة فيها.
والمانعون من العينة جعلوها من باب الذرائع المحرمة، وجعلوا الحديث من باب المطلق الذي يقيد بِصُوَر البيع الصحيح، وليس من باب العام، الذي يشمل كل صورة للبيع، حتى ولو كانت مع البائع.
وهكذا إطلاقات الشارع تدل على ما أذن فيه وأباح.
فإن قوله: بع الجمع مطلق، يقيد بالعقود الصحيحة، وليس بعام ليدخل فيه الصورة التي تعقد مع مشترى الجمع في هذا الحديث.
وبهذا تبين فساد قول الذين يحاولون الاستدلال على وجود الحيل في الشرع فإن الشارع لما نهاه عن معاملة محرمة، فتح أمامه الباب إلى معاملة غيرها مباحة، لا علاقة بينهما بوجه من الوجوه.
ومن أراد بسط هذا، فعليه ب إعلام الموقعين لابن القيم، رحمه لله تعالى.
الحديث الرابع:
عَنْ أبي المِنْهَالِ قال: سَالتُ البَرَاءَ بنَ عازِب وَزَيْدَ بنَ أرْقمَ عَنِ الصرفِ، فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هذَا خَير مِنىٍ وَكِلاهُما يَقُولُ: «نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنْ بيع الذَهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنا».
المعنى الإجمالي:
سأل أبو المنهال، البراء بن عازب، وزيد ين أرقم، عن حكم الصرف، الذي هو بيع الأثمان بعضها ببعض.
فمن ورعهما رضي الله عنهما، أخذا يتدافعان الفتوى، ويحتقر كل واحد منهما نفسه بجانب صاحبه.
ولكنهما اتفقا على حفظهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالفضة دَيناً، لاجتماعهما في علة الربا، فحينئذ لابد فيهما من التقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح الصرف، وصار ربا بالنسيئة.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، وهما أو أحدهما غائب، فلابد من التقابض في مجلس العقد.
2- صحة البيع مع التقابض في مجلس العقد، لأنه صرف.
3- المفسد للعقد إذا لم يحمل تقابض في المجلس، هو ما اجتمع فيه النقدان، من علة الربا.
4- ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من الورع، وتفضيل بعضهم بعضا.
الحديث الخامس:
عَنْ أبي بَكْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفِضةِ بِالْفِضَّةِ. وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ: إِلا سَوَاءً بِسَواءٍ.
وَأمرَنَا أنْ نَشْتَريَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كيف شِئْنَا وَنَشْتَرِيَ الذًهَبَ بِالْفِضةِ كَيْفَ شِئْنَا.
قال: فسأله رَجل فَقَالَ: يَداً بيد؟ فَقَالَ: هكَذَا سَمِعْتُ.
المعنى الإجمالي:
لما كان بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلا رباً، نهى عنه ما لم يكونا متساويين، وزناً بوزن.
أما بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، فلا بأس به، وإن كانا متفاضلين على أنه لابد في صحة ذلك من التقابض في مجلس العقد، وإلا كان ربا النسيئة المحرم، لأنه لما اختلف الجنس جاز التفاضل، وبقى شرط التقابض، لعلة الربا الجامعة بينهما.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلين، لاجتماع الثمن والمثمن، في جنس واحد من الاجناس الربوية.
2- إباحة بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، بشرطين:
الأول: التماثل منهما، فلا يزيد أحدهما على الآخر.
والثاني: التقابض في مجلس العقد بينهما.
وما يقال في الذهب والفضة، يقال في جنس واحد من الأجناس الربوية، حينما يباع بعضه ببعض، كالبر بالشعير.
3- جواز بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب متفاضلين،ْ لكون كل واحد منهما من جنس غر جنس الآخر.
وكذا يقال في كل جنس بيع بغير جنسه من الأجناس الربوية، فلا بأس من التفاضل بينهما.
4- لابد في بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، من التقابض بينهما في مجلس العقد.
فإن تفرقا قبل القبض، بطل العقد، لاجتماعهما في العلة الربوية.
وكذا كل جنسين اتفقا في العلة الربوية، وهى الكيل، أو الوزن مع الطعم، فلابد من التقابض بينهما في مجلس العقد.
اختلاف العلماء في (الأوراق البنكية):
في هذه الأزمان الأخيرة، أخذ الناس يتعاملون بدل الذهب والفضة بالأوراق البنكية (الأنواط).
فجعلوا لكل نقد (فئة) تقابلها، تحمل اسمها وقيمتها.
فاختلف الناس في حكمها وإليك الإشارة إلى أقوالهم،بطريق الإيجاز والاختصار.
فمنهم: من يرى أنها من بيع السندات والديون والصكوك، فحرم المعاملات بها إطلاقاً.
ومنهم: من يرى أنها عروض من عروض التجارة، فلا يجرى فيها الربا بنوعيه.
وهذا القول بتساهله مقابل للقول الذي قبله بشدته، الثاني يرى جواز بيع بعضها ببعض، وبيعها بأحد النقدين متفاضلة ونسيئة، وأنه لا مانع من ذلك، لأنه لا يجرى فيها الربا.
وهذان القولان في غاية الضعف.
فأما الأول: ففيه تشديد، وحرج وضيق، وطبع ديننا السماح، واليسر، خصوصاً في العادات والمعاملات.
والثاني: فيه فتح لباب شر كبير، وهو الربا بأنواعه، مع أنه لا يستند إلى شيء من تعليل صحيح.
ومنهم: من يرى أن حكمها، حكم النقدين، يجرى فيها ما يجرى فيهما من الأحكام.
وهذا له وجه من الصحة، لقوة مأخذه، ويستدلون على ذلك بأن البدل له حكم المبدل في كل شئ.
وأحسن الأقوال في ذلك وأعدلها وأقربها للصواب، هو أن نجعل حكمها حكم الفلوس.
فنجرى فيها ربا النسيئة، ولا نجرى عليها ربا الفضل.
فيجوز بيع بعضها ببعض، أو بأحد النقدين متفاضلة والمفاضلة هنا فيما تمثل من القيمة النقدية، أما المفاضلة في ذاتها فأمر لا يتضرر، ولا يجوز ذلك نسيئة.
وهذا قول وسط في الموضوع، وفيه توسعة على الناس، الذين اضطروا إلى التعامل بها، كما أن فيه أيضا سدا لباب ربا النسيئة، الذي هو أعظم أنواع الربا.
وبسط الموضوع يحتاج إلى بحث مستقل، لأنه حصل بها مجادلات طويلة.
ولشيخنا عبد الرحمنٍ بن ناصر آل سعدي رسالة في هذا البحث، نشرت في الصحف، ونشرت أيضا وحدها برسالة مستقلة، وهو يرجح القول الأخير.

.باب الرَّهن:

الرهن: بفتح الراء وسكون الهاء، وهو، لغة:- الثبوت والدوام.
فأخذ معناه الشرعي من هذا، لبقائه واستقراره عند المرتهن.
تعريفه شرعا: جَعْلُ مال، توثقةً، بدين يستوفى منه، أو من ثمنه، إن تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم.
وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنْ كنْتُمْ عَلَى سَفَر ولَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فِرِهَان مَقْبوضَةٌ}.
أما السنة، فكثيرة، ومنها ما في البخاري عن أنس قال: ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير وفيها حديث الباب، وغيرهما كثير.
وأجمع المسلمون على جوازه، وإن اختلفوا في بعض مسائله.
كما أن الحاجة داعية إليه في كثير من المعاملات، إذ به يحصل التوثقة والاستيفاء..
أما فائدته، فكبيرة. لأنه من الوثائق التي يحصل منها الاستيفاء عند تعذر ذلك من الذٌمم، ويؤمن به من غدر المدين، ويحصل به الاطمئنان للدائن من مدينه.
وأكمل التوثق إذا قبض الرهن عند المرتهن، أو العدل الذي يرضي الراهن والمرتهن بقاءه بيده.
فإن لم يحصل قبضه، فالرهن صحيح لازم، ولكنه ناقص الفائدة، قليل الثمرة.
وقد أرشد الله إلى أكمل الحالات وأوثقها فقال: {فَرِهَان مقبوضة}.
الحديث الأول:
عَنْ عَاِئشةَ رَضي الله عَنْها: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُوِدي طَعَاماً، وَرَهَنَهُ دِرْعا مِنْ حَدِيدٍ.
المعنى الإجمالي:
زهادة النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، وتقللهُ منها، وكرمه الذي يبارى الرياح، لم يُبْقِ ما يدخره لقوت نفسه، وقوت أهله، الأيام اليسيرة.
ولهذا فقد آل به الأمر أن اشترى من يهودي طعاماً من شعير، ورهنه ما هو محتاج إليه للجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وهو درعه الذي يلبسه في الحروب، وقاية- بعد الله تعالى- من سلاح العدو، وكيدهم.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز الرهن مع ثبوته في الكتاب العزيز أيضاً.
2- جواز معاملة الكفار، وأنها ليست من الركون إليهم المنهي عنه. قال الصنعاني: وهو معلوم من الدين ضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقاموا بمكة ثلاث عشرة سنة يعاملون المشركين، وأقام في المدينة عشراً يعامل هو وأصحابه أهل الكتاب وينزلون أسواقهم.
3- وفيه جواز معاملة مَنْ أكثر ماله حرام، ما لم يعلم أن عين المتعامل به حرام. قال الصنعاني: وفيه دليل إلى عدم النظر إلى كيفية معاملتهم في أنفسهم، فإنه من المعلوم أنهم يبيعون الخمور ويأكلون السحت ويقبضونه، ولكن ليس لنا البحث عن معاملتهم وعن كيفية دخول المال إلى أيديهم، بل نعاملهم معاملة من في يده ملكه الحلال حتى يتبين لنا خلافه. ومثله الظلمة.
4- وليس في الحديث دليل على جواز بيع السلاح على الكفار، لأن الدرع ليس من السلاح ولأن الرهن ليس بيعا أيضاً، ولأن الذي رهن عنده النبي صلى الله عليه وسلم درعه، في حساب المستأمنين الذين تحت الحماية والحراسة، فلا يُخْشَى منهم سطوة أو خيانة. فإن إعانة الكفار والأعداء بالأسلحة، محرمة وخيانة كبرى.
5- فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الإقلال والزهد، رغبة فيما عند الله وكرما، فَلا يَدَع مالاً يقر عنده.
6- فيه تسمية الشعير بالطعام، خلافاً لمن قصر التسمية على الحنطة فقد ثبت من بعض الطرق، أنه عشرون أو ثلاثون صاعاً من شعير.
7- وفيه جواز الرهن في الحضر، فتكون الآية مخرجة مخرج الغالب حينما يعوز الكاتب والشاهد في السفر، وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافا لما نقل عن مجاهد، والضحاك، ومذهب الظاهرية: من أن الرهن خاصة في السفر دون الحضر، لمفهوم الآية.