فصل: الطريقة الثالثة والعشرون : العناية بالمرأة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **


الطريقة الثالثة والعشرون ‏:‏ العناية بالمرأة

عن عائشة رضي الله عنها قالت ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت ‏:‏ هل كانت إلا عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها ‏؟‏ قالت ‏:‏ فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ، ثم قال ‏:‏ لا والله ما أخلف الله لي خيرا منها ، لقد آمنت إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل أولادها إذ حرمني أولاد النساء ‏.‏ قالت ‏:‏ فقلت بيني وبين نفسي ‏:‏ لا أذكرها بسوء أبدا ‏.‏ رواه أحمد ومسلم ‏.‏

وقد استفاض عند أهل السير تسمية العام الذي ماتت فيه خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طالب عمه بعام الحزن ، لما كان لهما من يد في نصرة الإسلام ‏.‏

والشاهد من حديثنا مكانة خديجة رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ودورها الذي كان له أبلغ الأثر في تقوية جأش النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت ‏:‏ أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال ‏:‏ اقرأ ‏.‏ قال ‏:‏ ما أنا بقارئ ‏.‏ قال ‏:‏ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال ‏:‏ اقرأ ‏.‏ قلت ‏:‏ ما أنا بقارئ ‏.‏ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال ‏:‏ اقرأ ‏.‏ فقلت ‏:‏ ما أنا بقارئ ‏.‏ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال ‏:‏ ‏{‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق ‏.‏ خلق الإنسان من علق ‏.‏ اقرأ وربك الأكرم ‏}‏ ‏.‏ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها فقال ‏:‏ زملوني زملوني ‏.‏ فزملوه حتى ذهب عنه الروع ‏.‏ فقال لخديجة وأخبرها الخبر ‏:‏ لقد خشيت على نفسي ‏.‏ فقالت خديجة ‏:‏ كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ‏.‏ فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة ‏:‏ يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ‏.‏ فقال له ورقة ‏:‏ يا ابن أخي ماذا ترى ‏.‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى ‏.‏ فقال له ورقة ‏:‏ هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ أَوَ مُخْرِجِيَّ هم ‏؟‏‏!‏ قال ‏:‏ نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ‏.‏ ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏

إن المرأة عنصر مكمل للرجل في كثير من مناحي الحياة ، لا جرم جعل الله السكنية الكاملة في التقائهما ومعاشرة أحدهما للآخر ‏.‏

ومظهر البطولة في حياة خديجة أنها كانت أول من آمن به وأسلم من النساء ، والحق أنها أول من آمن من البشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ يدل عليه حديث عائشة السابق ، وكانت أول من أيد ونصر وثبّت ، ثم كانت أول من بذلت مالها وبيتها وحياتها لدين الله تبارك وتعالى ‏.‏

وإذا تقررت هذه المعاني ، فإننا نستطيع أن نفهم ‏:‏ كيف يمكن للمرأة أن تكون أداة لخدمة دين الله تبارك وتعالى ‏.‏

إن الدعوة الإسلامية للأسف لم تستطع حتى الآن أن توجد المعادلة الصائبة لتقوم المرأة بدورها في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ‏.‏

ومن خلال تجربتي الدعوة أيقنت أن المرأة في كثير من الأحوال أقدر على إصلاح الأسرة من الرجل ، ودورها في إصلاح العوج والمعونة عليه في معظم الأحوال – إذا كان في نطاق الأسرة – أعظم من دور الرجل ‏.‏

وقد علمت أسرا ينقلب حالها من الجاهلية إلى الالتزام بأحكام الدين عندما تبدأ الزوجة في النسك والتوبة ، وكم رأيت من أولاد صغار أينعت في قلوبهم شجرة الإيمان لأن الغرس قد طاب بطيب أصله ، وتلقى السقيا المباركة ممن حوله ، فاستوى على سوقه واشتد عود الخلق الإسلامي الأصيل في أعماقه ، فصار أرضا خصبة للفضائل ، تغرس ما شئت فيها من الخير والحكمة ‏.‏

إن الخطاب الدعوي يجب أن يهتم بالمرأة من باب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهاهو صلوات ربي وسلامه عليه يخص النساء بالموعظة ، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال ، فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ في طرف ثوبه ‏.‏ ويبوب لذلك الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه قائلا ‏:‏ باب عظة الإمام النساء وتعليمهن ، وبعد بابين يعقد بابا خاصا لهذه المسألة فيقول ‏:‏ باب ‏:‏ هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم ‏؟‏ ويورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ‏:‏ قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما ، لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ، فكان فيما قال لهن ‏:‏ ‏(‏ ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان حجابا من النار ‏)‏ فقالت امرأة ‏:‏ واثنين ‏؟‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ واثنين ‏)‏ ‏.‏

ثم عقد بابا آخر في كتاب الصلاة من صحيحه ، فقال ‏:‏ باب موعظة الإمام النساء يوم العيد ثم أورد فيه حديث جابر بن عبد الله قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى ، فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة ، قلت لعطاء ‏:‏ زكاة يوم الفطر ‏؟‏ قال ‏:‏ لا ، ولكن صدقة يتصدقن ، حينئذ تلقي فتخها ويلقين ، قلت ‏:‏ أترى حقا على الإمام ذلك يأتيهن ويذكرهن ‏؟‏ قال ‏:‏ إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه ‏؟‏‏!‏

قال ابن حجر رحمه الله ‏:‏ وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام ، وتذكيرهن بما يجب عليهن ، ويستحب حثهن على الصدقة ، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد ، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة ‏.‏ أهـ

وهذا كالنص في ضرورة الاهتمام بتعليم النساء وتثقيفهن في أمور الدين ، فلزم أن تهتم الدعوة بتوفير الدروس الخاصة التي تعنى بفقه النساء ، من حيض ونفاس ونكاح وتربية أولاد على منهاج الشرع ، بل إن هذا الزمان قد احتاج فيه النساء لمن يعلمهن أحكام الحجاب ، بعد أن ضيعه الكثير وتساهل فيه منهن أكثر ‏.‏

وأمام الحملة الشرسة التي يقودها الطابور الخامس في المجتمع المسلم ضد الحجاب والعفة ، لزم أن يتصدى الدعاة لها بتحصين المرأة المسلمة من محاولات التشكيك في أحكام الشرع المطهر ، وحرصه على طهارة المرأة وعفتها ، وصيانتها من الابتذال والامتهان ‏.‏

وكثير من النساء يحتج أكثر ما يحتجن إلى أحكام النكاح ، وكيفية معاملة الزوج بمقتضى الشرع ، وكيفية تربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة ، وكيفية المحافظة على أحكام الشرع طبع المنزل بطابع الإسلام والإيمان ‏.‏

وليس خافيا أن هناك الكثير من الأسر الملتزمة بدين الله تعالى في الظاهر ، ولكنها تفتقد المعرفة الكافية بأحكام الشرع ، ومع انتشار الصحوة على مستوى كل الشرائح الاجتماعية صرنا نرى ركاما هائلا من المظاهر الإسلامية الطيبة كالحجاب والنقاب واللحية والمصلين ، ولكن هذه المظاهر تفتقد الجوهر الإسلامي النقي ، والتطبيق المتكامل – ولا أقول ‏:‏ الكامل – لشرع الله تبارك وتعالى ‏.‏

وقد شاهدت بنفسي بعض المحجبات حجابا شرعيا كاملا يسرن في الطرقات مع بعض الشباب الفاجر بمشية خليعة لا تتناسب مع وقار الحجاب ، فعلمت أن مثل هذه النماذج تنشأ من انتشار الدعوة كما لا كيفا ، حيث يطغى المظهر على حساب الجوهر ‏.‏

وكل هذه الملاحظات تملي علينا أن نعيد الحسابات في الدور التربوي الذي يجب أن نحمّله للمرأة كأمانة تقوم بها في ملكوتها ، وهو بيتها وبيت زوجها ‏.‏

وقد أتت إلي امرأة تعمل موجهة في وزارة التربية والتعليم ‏(‏‏!‏‏)‏ ، تشكو إلي فساد ابنها وإدمانه المخدرات وأنها فعلت المستطاع في سبيل درء الفساد عنه ‏.‏

ولسوء حظ هذه المرأة أن ابنها قد سبقها يشكو سوء معاملة أبيه وأمه ، وتفريقهما في المعاملة بينه وبين اخوته ، وأن أباه يسبه كثيرا بأقذع السباب ، وأمه ليس لها دور مؤثر في البيت ، مع أنه يحبها ويقدرها ، وشكا إلي أنه عندما كان يحرص على الصلاة في المسجد وجد أسرته في موقف المستنكر عليه لأن أخاه على وشك الحصول على ترقية في مركز حساس ، وأن من شأن صلاته في المسجد أن تؤثر على هذه الترقية ‏.‏

فأخبرت تلك الأم بجلية الأمر ، وأن الجاني في الحقيقة ليس الابن ، بل الأسرة ، بل الأم في المقام الأول ، وأن الأولاد هم ضحية جهل الأسرة بأحكام الشرع ، وضحية بلادة الأم في رعاية أبنائها وفق شرع الله تبارك وتعالى ‏.‏

وأنا أتصور حجم الخسائر التي تقع في مجتمعنا الإسلامي كل يوم بسبب هذا الإهمال ، كما أتصور ما يمكن أن نجنيه من نجاح تربوي هائل ، وفتح دعوي كاسح إذا كان للمرأة مساحة مناسبة من الخطاب الدعوي ، بل الأم بالدرجة الأهم ، ونحن نظن أن دعوة النساء مقصورة على أمرهن بالحجاب وطاعة الزوج ، ولعمري ليس هذا كل الدين في حق المرأة ، فإنها تحمل من أمانة التربية في بيتها ما لا يحمله الرجل ، لا جرم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئولية البيت للمرأة ، أي القيام بأمر الأبناء ورعاية شئونهم وتلقينهم مبادئ الدين والأخلاق ‏.‏

وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ كلكم راع ومسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته ‏)‏ ‏.‏ رواه البخاري ومسلم ‏.‏

وتأمل كيف جعل مسئولية الرجل رعاية أهله ، إذ القوامة في يده ، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ الرجال قوامون على النساء ‏}‏ ‏.‏ وجعل مسئولية المرأة رعاية البيت ، وبيت المرأة يشمل نشأها الذين أنجبتهم وأمرت بالقيام بأمرهم وتأديبهم ورعايتهم ‏.‏

والجانب الذي يلاحظ في نساء عصرنا أنهن يملن للدعة والخمول أكثر من نساء الأزمنة الغابرة ، فبينما كنا نسمع ونقرأ عن الأديبات والفقيهات والمقرئات والمحدثات ، وبينما كانت سلسلة الإسناد لأي محدث لا تخلو من ‏(‏ شيخة ‏)‏ ، فإننا نرى نساء عصرنا – حتى اللواتي تنسكن – ينتشر بينهم الخوض أعراض الناس ، والغيبة والنميمة ، والشكوى من الأزواج والأولاد ، وإفشاء أسرار الأسرة إلى الغرباء ، وتضييع الأوقات في الزيارات غير المفيدة ، وإثقال كاهل الزوج بالطلبات الكثيرة المضنية ‏.‏ ويندر أن تسمع عن امرأة حفظت القرآن ، أو اشتهرت بفقه أو حديث أو غير ذلك من العلوم ، ومن تخصصت في علم من العلوم فإنك ستجدها لا محالة في المرتبة الدنيا من متخصصي ذلك العلم ‏.‏

ونحن لا نلقي الملام كله على المرأة ، بل نحمل الدعاة جزءا عظيما من المسئولية ، فعلى عاتقهم تقع مسئولية تعليم أولئك النساء وتربيتهن التربية الصحيحة المستمرة ‏.‏

والمقصود هنا بيان خطورة الاهتمام بهذه الشريحة ، والعناية بتوفير المناهج الملائمة لها ، حتى تتبوأ المرأة مكانتها في تنشئة الأبطال ، وتربية القادة والخالدين ‏.‏

كما أن المقصود تفهيم المرأة لدورها ، ودعوتها للاضطلاع به ، وتحريك فعاليتها في الإطار الذي رسمه لها الشرع ، مع أيجاد التنسيق المناسب لتكامل دور المرأة مع بقية الأدوار الدعوية التي تتم في محيط المجتمع المسلم ‏.‏

فأول ما يجب أن تنصرف إليه جهود الدعاة بالنسبة لشريحة النساء أن يوجدوا الآلية التي تسهل طلب العلم للنساء ، وتجعل الثقافة الإسلامية – بالدرجة الأولى – أمرا ميسرا عليهن جُمَعَا ‏.‏

وقد أقام بعض الدعاة مدرسة لتعليم النساء العلوم الشرعية بالمراسلة ، حيث وفر لهن الأشرطة التي تشرح المناهج ، ووضع في المسجد صندوقا لتلقي الأسئلة ، ثم يعقد الامتحان بعد فترة محددة متفق عليها ، وقد آتت هذه المدرسة بعض ثمارها ولكنها لم تستمر لافتقادها لآليات الإدارة الأكاديمية التي توفر جهود المدرسين وتضفي رونقا نظاميا محترما ‏.‏

ولا شك أن الدعوة – بإمكانياتها القليلة – ستضطر أن تخوض الكثير من التجارب حتى توفر لشريحة النساء جوا علميا مناسبا ، بل إنها ستحتاج إلى مجهودات المفكرين من الدعاة في تصور الحل المناسب لمشكلات طلب العلم بالنسبة للمرأة الحامل والمرضع ونحوهما ‏.‏

ثم إن حركة التأليف يجب أن تتوافق مع هذا الاتجاه في توفير المؤلفات التي يحتاج إليها النساء ، وخاصة ما يتعلق الأحكام الشرعية للمرأة ، فإنها متفرقة في بطون كتب الفقه ، وقد تصدى لهذا المشروع جملة من العلماء الغيورين جزاهم الله خيرا ، ولكن يبقى الباب مفتوحا لتيسير تناول هذه المؤلفات وجعلها مناهج علمية لتدرس لا لتكون مجرد ديكور منزلي تزين به المرأة بيتها ‏.‏

ومع هذا الدور الدعوي للدعاة مع المرأة ، فإن المرأة يجب أن يكون لها دور ذاتي مستقل في تكوين الأسرة ، وحمايتها من لوثات العصرنة الكاذبة ، والتطور الزائف ، وتحاول المرأة المسلمة – من باب التعاون من الدعاة – في صبغ بيتها بالصبغة الدينية ، وذلك بمقاومتها لكل عناصر الفساد والانحلال التي ينجرف لها المجتمع ‏.‏

والمرأة في كل مكان في العالم لها قدرة على التأثير في مجريات أمور البيت أكثر من الرجل ، حتى التي تكون شخصيتها ضعيفة ، فإنها تستطيع أن تكون الموئل والمرجع لكل مشكلات البيت ، وهي التي تستطيع أن تستوعب كل ما يحيق بالأسرة من نكبات وغِيَر ‏.‏

فالمرأة كأم لها دور واسع في رسم الخطوط العريضة للتربية التي يجب أن يتلقاها أولادها ، فهي التي تعودهم على الصلاة وقراءة القرآن واحترام الكبير وبر الوالدين ، بل هي التي ترضعهم مخافة الله تبارك وتعالى ، وهي أول من يعلم الأبناء كلمتي الحلال والحرام ‏.‏

والمرأة كزوجة لها دور متعاظم في إصلاح اعوجاج سلوك زوجها ، وهي التي تستطيع أن تأطره على الحق أطرا ، إذا توفرت لها العزيمة الصادقة ‏.‏

كما أن للمرأة دور مع صويحباتها وجاراتها وقريباتها ، في نصحهن ووعظهن ومهاداتهن بالكتيبات والأشرطة ، ولا يخفى أن كل ما ذكرناه من طرق يجري على النساء كما الرجال فهن شقائقهم ، ولا يخرجن عن القاعدة إلا بما دل دليل من الشرع على استثنائهن ‏.‏

الطريقة الرابعة والعشرون‏:‏ العناية بالأطفال

اعتبرت دراسات صادرة عن الأمم المتحدة أن الدول التي تنفق من ميزانياتها قدرا مخصصا للأمومة والطفل هي دول متقدمة أو ساعية في التقدم ، أما الدول التي يعاني فيها الأطفال والأمهات مشكلات في الصحة والتغذية والعلاج فهي دول متخلفة أو آخذة في التخلف ‏.‏

واهتمام الدعاة المسلمون بالأطفال لن يتجه بالطبع إلى تقديم الحليب والألعاب والحلوى ، ولكن المقصود من إيراد تلك الدراسة التنبيه على أن الأطفال هم رجال المستقبل وعدة الأمة في التحضر ، وبقدر الاهتمام بتربيتهم وتنشئتهم وتعليمهم نستطيع التنبؤ بالمستقبل الذي ينتظر أمتنا ‏.‏

وليس خافيا أن الاهتمام بالطفل عندنا معاشر الدعاة يحتل مرتبة متأخرة من أولوياتنا ، بل الواقع المشاهد يعطينا الحق في الجزم بأن كثيرا من الدعاة لا يعير هذا الجانب أي اهتمام أصلا ‏.‏

ونحن لن نتحدث عن قوافل التنصير التي تتصيد الصبية بالحلوى أو عصابات المافيا التي تخطف الأطفال لسرقة أعضائهم وبيعها أو استخدامهم في شبكات الدعارة العالمية مما هو معلوم لكل متابع لأخبار العالم اليوم ‏.‏

ولكننا سنتحدث عن الدور الإجرامي الذي تقوم به وسائل الإعلام تجاه عقول الأطفال ، والتقاليد والعادات المنحرفة التي ينشئون عليها ، وحملة التغريب التي تمارس من قبل من يتولون تربيتهم ، بالإضافة إلى الحملات الضارية من علمانية موتورة أو قومية مفلسة ‏.‏

فماذا ننتظر أن نرى من نشئنا بعد كل هذا ‏؟‏‏!‏‏!‏

إننا لا نتعجب الآن حينما نرى أطفال المدارس يتبارون في استعراض تبعيتهم للغرب عبر التقليد الأعمى في الملبس والعادات وحتى في المأكل والمشرب ‏.‏ولم نعد نستغرب تنافس الأطفال الصغار في ملاحقة الموضات العالمية أو في تقليد مغنني الغرب أو ممثليهم وراقصيهم ‏.‏

ومنذ خمسة عشر عاما تقريبا أحضر إلي بعض الأصدقاء طفلا لم يتجاوز عمره السابعة ، وقال لي ذلك الصديق إن هذا الطفل من بيت مغرم بمايكل جاكسون وقد شاهد هذا الطفل كل رقصاته وسمع كل أغانيه ، ثم فاجأني ذلك الصديق بطلب غريب فقال ‏:‏ لو سألت هذا الطفل – وهو مسلم للمعلومية - تحب الله أكثر أم مايكل جاكسون ‏؟‏ لأجابك بالعجب ‏.‏ فلما سألته هذا السؤال ، ويبدوا أنه يُسْأَلُ عنه كثيرا أجاب بما يذهب اللب ويجن له العقل ‏.‏

إن هذا الطفل الذي لم يبلغ الحلم ليس له من ذنب أن يقول إنني أحب مايكل جاكسون أكثر من الله ، ولكن الذنب على المجتمع الذي أوجد صبغة وهوية لهذا الطفل تستسيغ أن تحب المخنثين ‏(‏ وسأغض الطرف عن الكفرة والفجار ‏)‏ ‏.‏

إن هذا الهوس الذي يبرز في مجتمعاتنا كمظهر من مظاهر الانحراف الأخلاقي يتمادى في تأثيره ليصل إلى براءة النشء الصغير وفطرته الطاهرة فيغتالها بدعاوى العصرنة والتطور والموضة ‏.‏

من لهؤلاء الأطفال ‏؟‏ من الذي سيحميهم من هذه الموجات الجارفة ‏؟‏ من الذي سيتقلب أرقاً

لملايين الأطفال الذين تستعبدهم تقاليد مجتمع منهزم مخذول ‏؟‏

إننا بصدد خيانة جماعية يمارسه الآباء والأمهات لهؤلاء الأطفال ، فلم يعد أحد من المسلمين

يأبه لهم أو يلتفت للأخطار المحدقة بهم ، ومما زاد الطين بلة ذلك الميراث الأخرق الذي أجتناه الناس

من المدنية الحديثة ألا وهو مذهب الأنامالية ، فصار كل امرئ يقول ‏:‏ نفسي نفسي ، وإذا ما رأى أطفال المسلمين يتهاوون من حوله لا يتحرك له ساكن ، ولن يتحرك حتى يصاب في ولده نفسه ‏.‏

وهكذا صرنا نرى الأسر يقع أبناؤها صرعى الإدمان وعصابات المجون وعبدة الشيطان والشُّذّاذ ، فلا يتحرك لإصلاحهم غيور ، حتى إذا ما وقعت الفأس وبانت الرأس عضوا الأنامل من الندم ‏.‏

إن أطفال المسلمين مسئولية كل المسلمين ، ومستقبلهم هو مستقبل الإسلام نفسه ، ومن يغامر في إهمال مستقبله فهو سفيه يجب أن يحجر عليه ، ويعامل معاملة السفهاء ‏.‏لم يعد الأمر يقبل تطييب الخواطر ، ولو ملكت من الأمر شيء لأسقطت ولاية كثير من الآباء لأبنائهم ، فما هم بآبـاء ، بل والله ما هم من البشر الأسوياء ‏.‏

إن أية فرصة تسنح لداعية في تربية طفل ، سواء كان قريبا أو جارا أو ابن صديق أو تلميذ

عند الداعية المدرس فلا بد أن يهتبلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ‏.‏

وفي إطار الأنشطة التي عرضنا لها في كتابنا كدور المسجد ‏(‏ الطريقة …… ‏)‏ ودور التأليف ‏(‏ الطريقة …‏.‏‏)‏ ودور الجهد الإعلامي ‏(‏ الطريقة …‏.‏‏)‏ يجب إن تحتل تربية الطفل المسلم مساحة تتناسب مع خطورة الأمر ‏.‏

وعلى هذا المنظور فإن الدعاة يجب أن يكونوا أبويين أكثر من الآباء ، ويجب أن تتضافر جهودهم لجعل هذا النشاط المهم سائغا لدى المجتمع ، فالذي لا شك فيه أن كثير من المجتمعات تنظر إلى الدعاة نظرة ريبة ، بل الواقع أن الإعلام قد مارس دورا قذرا في تشويه صورة الدعاة عند الناس ، بحيث صارت الأسر تحذر أطفالها والناشئة فيها من الملتزمين بالدين ومن دخول المسجد كما تحذرهم من الحيات والعقارب وبيوت السحالي السامة ‏.‏

إن اكتساب ثقة الأسر من أهم الخطوات التي يجب أن يتخذها الدعاة للقيام بدور تربوي فعال تجاه الأطفال ، وقد أثبت التجارب أن سد الحاجات الأساسية للأسر له دور مهم في كسب الثقة وكسر الحواجز ‏.‏

فالداعية المدرس الذي يعطي درسا خصوصيا مخفضا أو بدون أجر يستطيع أن يدخل أي بيت أراد ، والداعية الطبيب الذي يعالج الأطفال مجانا أو يوزع الأدوية على المرضى مجانا يلقي بنصائحه وهو على ثقة أنها ستلقى أرضا خصبة مستعدة للإثمار ‏.‏

وعلى ذلك فإن الدور التربوي الذي سيقوم به الداعية تجاه الأطفال ليس بالضرورة أن يكون دورا تربويا مباشرا ، فقد يكون الداعية نموذجا لأطفال المنطقة إذا كان حديث بيوتاتهم ومضرب المثل في المروءة عند أسرهم ‏.‏

ويكتسب الدور التربوي مع الأطفال فعالية عالية في التأثير على شخصية الطفل بعد ذلك ، كون الطفل مستعدا للتلقي أكثر من تأهله للمناقشة والمجادلة والتمرد الذي هو من شيمة المراهقين والفتيان ‏.‏

ثم إن غرس الفضائل في الأطفال أحرى لثباتها وتجذرها في الطبع من أن يتعلمها بعد أن يشب عن الطوق ، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية أن العقائد الاجتماعية والعادات والتقاليد تتأصل في مرحلة الطفولة أكثر من أية مرحلة أخرى ‏.‏

ولنا عبرة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ‏:‏ ‏(‏ مروا أولادكم وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ‏)‏ ، فالحديث يوضح بجلاء أن سن الطفولة سن أمر ، لأنه غير مجبول إلا على التلقي والاستيعاب والتطبيق دون مناقشة أو مجادلة ‏.‏

وهناك الكثير من الوسائل التي نخطو بها دربا إلى قلوب الأطفال إن لم نستطع أن نستولي عليها استيلاء ، وهي وسائل يسيرة وعفوية ، لكنها تحتاج إلى انتهاز الفرص ومواتاة الظروف ‏.‏

من تلك الوسائل كثرة مهاداتهم ، ومشاركتهم في ألعابهم والتودد إليهم بجميل الألفاظ والمعاملة الحسنة ، وكثرة التبسم في وجوههم ، وإظهار الحنان والعطف عليهم ، ومناداتهم بأحب الأسماء إليهم ، واللعب معهم ومضاحكتهم ، والتجاوب مع أسئلتهم وعدم النفور من إلحاحاتهم وحب استطلاعهم ‏.‏

وقد أكدت لي التجربة المتكررة أن الأطفال أكثر ما يكونون استعدادا لقبول النصيحة والتوجيه ممن يحترم عقلياتهم ويتعامل معهم بود وتفاهم ، ويكسب احترامهم بأن يغمرهم من فيض حبه وعطفه عليهم ‏.‏

والأطفال في حقيقة الأمر كتلة من المشاعر الفياضة التي لا تستخدم العقل في الغالب ، وإذا استخدمه الطفل فإنه لن يتعمق في فلسفة الأمور والبحث عن عللها الأولى كما يفعل من عركتهم الحياة وطحنتهم رحاها ‏.‏

ومن خصائص الأطفال أن لديهم طاقة متعاظمة لتلقي الجديد من العلم والأخلاق والمثل والمكارم والمعالي ، وأن ما يتلقونه في أيام طفولتهم من تلك المكارم يصبح من المسلمات إلى أن يأتي من يغيرها ويبدلها لهم ‏.‏

إن عقد مقارئ القرآن في المساجد في الإجازات الأسبوعية والصيفية نشاط يجب ألا تخلو منه أي منطقة يتحرك فيها الدعاة ، بل هي من لب الأنشطة الاستراتيجية ، وإذا ضاقت السبل في عقد هذه المقارئ في المساجد فلن يعدم الدعاة مكانا في بيوتاتهم يجمعون فيه أولادهم وأولاد الجيران والحي ليحفظوهم من كتاب الله تعالى آية كل يوم ‏.‏

إن فطرة هؤلاء الأطفال ستكون فطرة قرآنية كاملة ، تتجه بمحض ما تنشأت عليه إلى معالي الأمور ومكارمها وتنبذ السفساف الحقير لأنها تحصنت ضد الشر وينابيعه ‏.‏

كما أن استغلال الأعياد كالفطر والأضحى في إدخال السرور على الأطفال عبر مهاداتهم وتوزيع الحلوى والألعاب من أيسر السبل لتنمية الشعور الديني تلقائيا ، إذ تقرر أن صغار السن تتكون تصوراتهم عن الشأن المهم في حياتهم بما يلحظون أنه يجلب لهم مصلحة ما ، فالصغير ما أسهل أن تعلمه أهمية حفظ القرآن بمجازاته بالهدايا – ولو كانت رمزية – عند كل سورة يتم حفظها ‏.‏

ومما يتعلق بهذا الصدد قضية على جانب كبير من الخطورة ، وهي غرس محبة المسجد في قلوب الصغار ، والعمل على تنمية الحنين إلى المسجد داخل نفسية الطفل على مر الأيام ‏.‏

وسبيل ذلك أن نوفر للصغار جوا من العطف والمرح والسرور عبر أنشطة المسجد المختلفة ، وأن يصبر الناس على أخطائهم التي يرتكبونها في المسجد ، واستخدام جانب اللين في عقوبة المخطئ منهم ، وقد

الطريقة الخامسة والعشرون ‏:‏ الفقراء والمساكين

إن الإحصائيات المتداولة تثبت أن نسبة الفقراء في العالم الإسلامي تزيد عن النصف من تعداد السكان ، مما ينبئ بالخلل العظيم في تبادل الحقوق والواجبات ‏.‏

ومن المعلوم أن ثروات العالم الإسلامي تكفي لإطعام العالم كله ، كيف لا ، وقد كانت مصر وحدها تطعم إمبراطورية روما من محصول قمحها ‏.‏

فوجب التضافر حينئذ لتدارك هذا الخلل بين الأغنياء والفقراء ‏.‏ والدعوة الإسلامية بدعاتها ورجالها مأمورون أن يكون لهم قصب السبق في تحمل مسئولية الفقراء والمساكين في كل مجتمع ، من باب الديانة والتقرب إلى الله أولا ، ثم من باب الدعوة إلى الدين ونشر الحق بين كل شرائح المجتمع ‏.‏

وما من شك أن الدور الذي يضطلع به الدعاة الآن في توزيع الصدقات وأعمال البر يحتاج إلى الترشيد والتدريب لتحقيق أعلى قدر من الاستفادة ‏.‏

فإذا تحملنا إطعام الفقراء لسد خلتهم وإشباع جوعتهم فأولى بنا أن نرتفق لأرواحهم من زاد الإيمان ما ينجون به يوم القيامة ، وهذا لعمر الله أولى بالاهتمام ‏.‏

وطريق الدعاة إلى قلوب الناس مع الإحسان أيسر وأمضى ، فالقلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، فلزم أن نعرف كيف يمكن أن نجعل المساعدات التي تقدم للفقراء والمساكين وسيلة لجذب قلوبهم لدين الله تبارك وتعالى ‏.‏

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم العطاء والصدقات سبيلا لتأليف القلوب ، فألف قلوب الكثير من مشركي العرب بما كان يعطيهم من الأنعام والهدايا ، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم يتمعر إذا رأى من المسلمين من ظهرت عليه بوادر الجوع والمخمصة ‏.‏

ونصوص الشرع المطهر تجعل الإطعام والدعوة إليه من آكد الواجبات الاجتماعية المحققة لمقصود الإيمان ، والمستجلبة لمرضاة الله ، والمؤدية للنجاة يوم القيامة ‏.‏

يقول الله تبارك وتعالى ‏:‏ ‏{‏ كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ‏.‏ في جنات يتساءلون ‏.‏ عن المجرمين ‏.‏ ما سلككم في سقر ‏.‏ قالوا لم نك من المصلين ‏.‏ ولم نك نطعـم المسـكين ‏.‏‏.‏‏}

وقال عز وجل ‏:‏ ‏{‏ فلا اقتحم العقبة ‏.وما أدراك ما العقبة .‏ فك رقبة ‏.‏ أو إطعام في يوم ذي مسغبة ‏}‏ ، ومدح المؤمنين المخلصين فقال ‏:‏ ‏{‏ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ‏.‏ إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ‏}‏ ، وذم من خصال المشركين بخلهم فقال ‏:‏ ‏{‏ أرأيت الذي يكذب بالدين ‏.‏ فذلك الذي يدع اليتيم ‏.‏ ولا يحض على طعام المسكين ‏}‏ ، وذم المتعلقين بالدنيا فقال ‏:‏ ‏{‏ كلا بل لا تكرمون اليتيم ‏.‏ ولا تحاضون على طعام المسكين ‏.‏ وتأكلون التراث أكلا لما ‏.‏ وتحبون المال حبا جما ‏}‏‏.‏

وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال ‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام ‏)‏ رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ‏.‏

فإطعام الطعام من شعار الدين التي يجب أن يحييها الدعاة ، ويعملوا على حض الناس عليها ، ويتعاونوا فيما بينهم على القيام بها كفرض كفائي لرفع المأثم عن الأمة ‏.‏

ومن أول ما يجب أن يعتني به الدعاة للاستفادة من مساعدات الفقراء والمساكين في الدعوة إلى الله أن يكون القائمين على البحث الاجتماعي وتوزيع النفقات والمساعدات والصدقات مدربون على المعاملة الحسنة والصبر على إلحاح بعض الفقراء ، وعلى امتثال آداب الصدقة من السماحة والتبسم في الوجه وعدم نهر السائل واستعمال طيب الكلام عند انعدام النفقة ‏.‏

ومن شأن تصرفات بعض القائمين على الصدقات أن يصد الناس عن دين الله تبارك وتعالى ، كأن يتعامل مع الفقراء من منطلق أنهم لصوص أو مستغلون ، وإغلاظ الكلام لهم ونهرهم ، والتطاول عليهم بالسباب ، والتكبر والتعالي عليهم ، وإتباع الصدقات بالمن والأذى ، وكل ذلك من شأنه أن يشوه صورة الدعاة عند الناس ، وخاصة لو كانت الصدقات توزع عبر المساجد وعن طريق الدعاة ‏.‏

وقد ضرب لنا السلف أروع الأمثلة في آداب التصدق ، وقد يطول المقام بذكر تلك الأمثلة ، ولكننا نشير إلى أن المنصرين استخدموا الآداب الإسلامية في الإحسان إلى الناس ، وجعلوا الإحسان وسيلة لتنصير الفقراء والسذج من الخلق ، وهاهي ذي أصقاع العالم تشهد مستشفيات ومراكز رعاية الفقراء واليتامى والمرضى والعجزة والمشردين ، ورأينا كيف هرعت منظمات التنصير إلى الصومال وإلى البوسنة لرفع المعاناة والآلام عن المسلمين بزعم أن يسوع المسيح جاء لينقذهم ‏.‏

ثم إن الأصل في الدعاة أن ينفقوا بسخاء مما في أيديهم ، وألا يخشوا الفقر والإملاق ، ولا يليق أن تدخر أموال الزكاة والصدقة بزعم الإنفاق منها عند قلة المتصدقين والممولين لمشروعات الإحسان والبر ‏.‏ وإقتار بعض الدعاة في الإحسان إلى الفقراء من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة عكسية ‏.‏

ولا نريد أن يأتي اليوم الذي يستقر في قلوب الناس أن الدعاة إلى الله من أبخل الناس ، فليس على الإنسان من بأس أن يعطي بسخاء مما في يده ، فإذا انعدمت النفقة اعتذر للناس ، وهذا أرجى مما لو رأى الناس ما في يديه ثم لاحظوا بخله وإقتاره ‏.‏

وقد رجع أعرابي إلى باديته بعد أن أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين فقال لقومه ‏:‏ يا قوم أسلموا ‏!‏ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر ‏.‏

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال ‏:‏ ‏(‏ أنفق بلال ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا ‏)‏ رواه البزار والطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ‏.‏

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيئا لغد ‏.‏ رواه ابن حبان وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ‏.‏

كما يجب على القائمين على الصدقات أن يبحثوا عما يسد خلة الفقير ويعملوا على تحصيلها عبر المتصدقين ، وليس بالضرورة أن يكون طعاما ، فقد يحتاج الفقير إلى الملبس ، وقد يحتاج إلى مصروفات تعليم أبنائه في المدارس وتجهيز ما يحتاجون إليه ، وقد يحتاج مصروفات علاج باهظة ‏.‏

وهناك الكثير من الأساليب والطرق في رعاية الفقراء واليتامى والمساكين ، ولكن المقصود هنا أن نوفر لهم فرصة لتعلم أحكام الدين ، وأن نأمرهم بالمعروف ونعينهم على أدائه ، وننهاهم عن المنكر ونعينهم على تركه ، بل إن الدعاة يستطيعون أن يقوموا بدور في دعوة الطلبة الفقراء عن طريق تنظيم مجموعات تقوية ، ودروس دينية خاصة ، مع الاهتمام بالأطفال ، وتنشئتهم نشأة إسلامية صحيحة ‏.‏

ولن يغيب عنا أن ننبه أن كل ما يقوم به الدعاة في سبيل هؤلاء الفقراء إن هو إلا حق مكتسب ، وواجب يجب ألا يشعروا فيه بمنة على أحد لئلا تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ‏.‏

وقد قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ‏}‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم في وصيته لمعاذ بن جبل لما أوفده إلى اليمن ‏:‏ ‏(‏ ثم أعلمهم أن الله قد أفترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ‏)‏ ، وكأن الصدقة سترد إلى أصحابها الحقيقين بها والجديرين بنوالها ‏.‏

وعلى الصعيد الفردي ، فكل متصدق يستطيع أن يبذل مع الصدقة نصيحة ، فيأمر الفقير بتقوى الله والمحافظة على الصلاة ، ويحذره من أن يستخدم المال فيما يغضب الله كشرب الدخان ونحو ذلك ، وليس علينا أن قبل منا الناس أو أبوا ، ولكن المقصود أن تتكامل أعمالنا الدعوية ، فلا ندع بابا إلا ولجناه ، ولا جادة إلا سلكناها ، وتلكم هي الدعوة الصادقة التي تجعل حياة الداعية كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى ‏.‏

وقد يعجز بعض الفقراء عن تحصيل العلم الشرعي ، وسماع الموعظة ، فمن حقه على الدعاة أن يوفروا له الكتب ومصروفات المواصلات وأشرطة الدروس والمواعظ ، ولربما كان النفع والرجاء فيه أعظم من غيره ، وقد قال تبارك وتعالى ‏:‏ ‏{‏ أما من استغنى فأنت له تصدى ‏.‏ وما عليك ألا يزكى ‏.‏ وأما من جاءك يسعى ‏.‏ وهو يخشى ‏.‏ فأنت عنه تلهى ‏.‏ كلا ، إنها تذكره ‏}‏ ‏.‏

وليعلم الدعاة والناس أجمعون أن السعي على الفقراء والمساكين من أرجى القربات عند الله تعالى ، فقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم عِدْل قيام الليل وصيام النهار ، ثم إن لهم يوم القيامة دولة ووجاهة عند الله ، ويسبقون الخلائق إلى الجنة بخمسمائة عام ‏.‏

فأجدر به من سبيل خير ، وأخلق بالدعاة أن يكونوا أول السالكين فيه ، وليكن شعارهـم ‏:‏ ‏{‏ إنما نطعمكم لوجه الله ، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ‏.‏ إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ‏}‏ ‏.‏

الطريقة السادسة والعشرون‏:‏ إيجاد الداعية الميداني

إنه الداعية المتحرك في كل صوب ، المتقن لدعوته في كل ثوب ، إن كان في بيته فنعم العائل والمربي ، فإن نزل الشارع وخالط الناس وَسِعَهُم بدعوته ، فإن ركب وسيلة مواصلات تناثرت بركات دعوته على من حوله من الركب ، إذا دخل مصلحة لم يخرج منها إلا بغنيمة دعوية ، نصيحة يسار بها موظفا ، أو موعظة يسمعها لسافرة ، أو كلمة معروف يذكر بها من يقف معه في الطابور ، إنه المبارك في حله وترحاله ، كالغيث أينما وَقَعَ نَفَعَ ‏:‏

فلا مُزْنةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ولا أرضُ أَبْقَلَتِ ابْقَالَها

قلبٌ عامرٌ وعقلٌ يثابرُ ، وعزمُ مُغامرٍ وإيمانٌ يجاهرُ ، تقيّ حفيّ ، نقيّ أبيّ ، جبهته شَمَّاء ، كبرياءُ دينه بلغَ عَنَانَ السماء ، ونفعُه مُتَعَدّ ، وخيرُه عامٌّ ، يَتَجَذَّرُ هُدَاهُ في كل أرض أقام فيها ، ويَيْنَعُ غَرْسُه حتى في الأرض القاحلة ، تَنْدَاحُ جَحَافِلُ وعظِه كالسَّيْلِ العَرِمِ تذهب بكل سد منيع جَاثِمٍ على قلوب الغافين ، إذا قال أَسْمَع وإذا وعظ أَخْضَع ، دؤوبُ الخَطْوِ بَدَهِيُّ التصرف ، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شَزْرَاً وقال ‏:‏ أَقْبِلِي يا صِعَابُ أو لاتَكُوني ، محمّدي الخُلُق ، صِدِّيقِيُّ الإيمان ، عُمَرِيُّ الشَّكِيمَة ، عُثْمَانيُّ الحياء ، عَلَوِيُّ الصلابة ، فُضَيْلِيُّ العَبْرَة ، حَنْبَلِي الإمامة ، تَيْمَوِيُّ الثبات ‏.‏

إنه الداعية الذي لا تعوقه عوائق الكون عن القيام بواجب الدعوة أينما كان ، إذا حيل بينه وبين الدعوة فكأنما أخرجت سمكا من ماء ، أو أسكنت بشرا في الصحراء ، حركي كالنمـل والنحل لا يعرف القرار ‏.‏

إنه الداعية الفصيح ، جنانه حاضر ، وبديهته كالبرق الخاطف ، ولسانه لا يفتر عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير ، وما عدا ذلك فذاكر شاكر ، أو صامت صابر ‏.‏

إن مظهره متناسق مع وظيفته السرمدية ، هندام نظيف ومتواضع ، وهيئة تقية ، وإخبات غير متكلف ، إذا رآه الخلق ذكروا الله تعالى ‏.‏

وهو داعية متعال على السفاسف ، لا يستنكف عن فعل الخير وإن استهجنه الناس ، إنه لا يساوم الباعة ويلح في خفض الأسعار ، ولا يأنف من إماطة الأذى عن الطريق ، يسلم على من عرف ومن لم يعرف ، يبتسم في وجوه الناس أجمعين ، ويحفظ حشمته من نزق الطائشين وسمود العـابثين ‏.‏

مستعد للدعوة في كل ميدان ، إذا فتشت حقيبته وجدتها مليئة بالحلوى والكتيبات والهدايا الصغيرة غير المكلفة ‏.‏ يصطحب معه في سيره أشرطة الدعاة والخطباء والوعاظ بل وأشرطة القرآن الكريم لمشاهير القراء ‏.‏ يحمل معه العطر والطيب دوما ‏.‏ إنها أسلحة الداعية الميداني ‏.‏

يستخدم الحلوى في التعارف ، والكتيبات في التأليف والوعظ والإرشاد ، والهدايا مع دعوة لحضور محاضرة أو خطبة ، والأشرطة لتكون البديل عن شريط غناء أقنع صاحبه بهجره ، والطيب لإزالة حزازات النفوس ، وتوجس الخائفين من مظهر الدعاة ‏.‏

حتى إذا ما ألقى السلام فكأنك تسمع ترنيمة كونية تطرب لها أذناك ، ذاك صوت الداعية الشجي ، فإذا ما رأيته أقبل بوجهه الضحوك وسلامه المرونق ‏(‏ ألفيت كل تميمة لا تنفع ‏)‏ ‏.‏

لقد وقع القلب في شَرَك هذا الداعية ، واشتبكت القلوب المؤمنة وائتلفت ، والتقت العيون والمقل ، فإذا أَدْمُعُ الخوف من الله تتعرف على نفسها ، حتى إذا ما سكب ذلك الداعية الميداني كلمات الود والمحبة في الله والتقت إرادةَ الله بالهداية أبصرتَ الهوى صريعا في ساحته ، والقلب تتهاوى شهواته وغرائزه أمام هذا السيل الدافق من فيض الإيمان والتُّقَى ، وكأنك بالشيطان رابض ثمةَّ ينادي بالويل والثبور ‏:‏ ويلي ويلي قد اختطفه فلان الصالح مني ‏!‏

إن الداعية الميداني متحرك لدينه ، سواء كان مدرسا أو طالبا ، مهندسا أو طبيبا ، عالما أو متعلما ، سائقا أو راكبا ، حالا أو مرتحلا ، أميرا أو مأمورا ، رئيسا أو مرؤوسا ، زوجا كان أو عزبا ، فقيرا كان أو غنيا ، صحيحا كان أو سقيما ، مبصرا كان أو أعمى ، سليم الأعضاء أو معوقا ، في الشارع أو في البيت أو في الجامعة أو في المدرسة ، أو في الدكان أو في الحافلة أو في الشارع أو في أي مصلحة حكومية ، بلسانه ويده ، بنفسه وماله ، بكله يتحرك للدين وينافح عنه ، لسان حاله ‏:‏ ‏{‏ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ‏}‏ ، وشعاره ‏:‏ ‏{‏ هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين ‏}‏ ‏.‏

ولْنحاول صياغة بعض وظائف هذا الداعية الميداني واستعداداته وصفاته في نقاط مركزة فيما يلي ‏:‏

‏(‏1‏)‏ داعية مخلص يمحص النية قبل العمل ، ولا يعتذر عن أي جهد يستطيع القيام به بزعم العجز أو خوف الرياء ، بل يتعلم ويعالج الهوى ويخوض غمار التكليف مملوء الثقة بمعونة الله وكلاءتـه ‏.‏

‏(‏2‏)‏ لا يبخل على الدعوة بأي مجهود أو طاقة ، فأينما دعاه داعي البذل شمر ، لا يدخر وقتا خاصا للدعوة ، بل أصل عمره موقوف للدعوة إلى الله تبارك وتعالى ‏.‏

‏(‏3‏)‏ يهتم بالمظهر الذي له دور في التأثير على الناس ، هندامه محترم ، منظم الخطوات ، رشيق العبارة ‏(‏ ينتقي الألفاظ ولا يلقيها خبط عشواء ‏)‏ ، يخلب اللب إذا تحدث أو وعظ أو حاضر أو نصح ، طيب الرائحة ، حلو المعشر ، طلق الوجه متبسمه ‏.‏

‏(‏4‏)‏ مستعد لكل موقف ، فلدية الحلوى والكتيبات والأوراق الإرشادية ، ولديه الأساليب الجاهزة لغزو القلوب ، والطرق المنمقة لاستمالتها ، والأسلحة الفتاكة في محاربة هوى النفوس ، والمغريات الشرعية في جذب الشاردين ‏.‏

‏(‏5‏)‏ إنه لا يجعل مقصوده الأساسي في الدعوة أن يتنسك كل الناس وينخرطوا في سلك الدعوة إلى الله وإن كان يتمنى حصول ذلك ، بل يتفانى في تقديم كل معونة للرقي بحال المدعوين إلى أي مستوى ينقذهم من نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم الغوية أو أعداء مِلَّتِهِم المتربصين بهم ‏.‏

‏(‏6‏)‏ إن الداعية الميداني يترقب الفرص ويسعى إليها ولا ينتظر مجيئها إليه ، يباغت المواقف ولا يكون هو رد فعل لها ، لا يترك فرصة لما يسميه الناس الصدف أو الفجأة ، بل تراه بدهيا مستعدا لكل موقف بما يناسبه ‏.‏

‏(‏7‏)‏ إن الداعية الميداني يتجاوب مع المشكلات التي تهدد المجتمع المسلم ، ولا يشغل نفسه بتوافه الأمور وسفسافها ، يقيم لأولويات الدين قسطاسا مستقيما يضبط اهتماماتـه ، ويوجه تحركاته ‏.‏ يتعامى عن أذية المغرضين وسفه المستهزئين ، يمضي إلى هدفه غير ملتفت ، قد أرقه حال الإسلام والمسلمين ، وأفزعه طرق العدو لأبواب الحصون ، فكأنه في رباط ينافح عن ثغر مثلوم يرد العدو من قبله ‏.‏

‏(‏8‏)‏ يعتمد الداعية الميداني على كل الإمكانيات المتاحة ، ويستغل الظروف لصالحة ، لا يلعن الظلام ولكنه يشارك في إيقاد شمعة ، إذا قصرت به وسيلة نزل إلى التي دونها ، حتى لو لم يجد إلا لسانة أو الإشارة باليدين لاستعملهما متوكلا على الله الهادي إلى صراط مستقيم ‏.‏

‏(‏9‏)‏ الداعية الميداني متحرك في كل الجهات ، يشارك في كل مجالات الدعوة ، بالقدر الذي يتقن به دوره ، ولكنه عنصر حيوي في كل عمل ، فالدعوة تعتمد على حركيته الواسعة وعلاقاته المتشعبة وقبوله لدى قلوب الناس وتمكنه من الانخراط في أي عمل يسند إليه ‏.‏

‏(‏10‏)‏ من أكثر سمات الداعية الميداني جدية أنه يعمل في صمت ، ويؤثر العمل الدؤوب على الثرثرة والتفيهق ، ليس بالمنان ولا بالمعجب ، شعاره بعد سماع الأمر من القادة ‏:‏ علم وسينفذ إن شاء الله ، وإذا سئل عن تكليف أنيط به قال ‏:‏ جار التنفيذ بعون الله ، فإذا أتم مهامه أبلغ المسئول في صمت ‏:‏ تم التنفيذ والحمد لله ‏.‏ إنها الجندية في أرقى صورها ‏.‏

وبهذه الصفة الأخيرة نختم ناقلين قول الراشد حفظه الله ‏:‏ قال بعض السلف ‏:‏ ما ادعى أحد قط إلا لخلوه عن الحقائق ، ولو تحقق في شيء نطقت عنه الحقيقة وأغنته الدعوى ‏.‏

فكما أن الفرد إذا امتلأ سكت ونطق عنه حاله ، ولم تكن به حاجة إلى دعاية نفسه ، فكذلك جماعة المؤمنين ، إذا اتصفت بما تدعو إليه ، وانبثت وأحكمت صفوفها ووفرت أسباب القوة ، أغنتها هذه الحقائق عن الدعوى والمقال ، وكان فعلها مغنيا لها عن الوصف أو التهديد ، ولست ترى جماعة كثيرة الكلام إلا كان كلامها دليلا على ضعف رصيدها العملي ‏.‏

إنها حقائق معبرة تتمثل في كل جزء من مفردات الأخلاق تحوزه ، وفي كل لبنة من البناء التنظيمي ، وفي كل فن من فنون التخصص والخبرة العملية ، وتعبيرها يكفي ويغني ، وإنما يطيل اللسان ويذكر الأمنيات من لا يملك الشيء وأما من يملك فإن ملكه يفصح عنه والناس تشعر بالقوة الحقيقية تلقائيا ، ويأسرها النظر وتتبع الأثر ‏.‏ أهـ ‏.‏

الطريقة السابعة والعشرون ‏:‏ العمل الجماعي

إن من سمات أية حركة اجتماعية وليدة أن تكون ضعيفة تتلمس أسباب القوة وتنفر من عوامل الضعف ، وهكذا كانت دعوات الأنبياء ، مصداقه قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ بدأ الدين غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ‏)‏ ‏.‏

ومن البداهة أن نقول ‏:‏ إن أية دعوة ربانية يجب أن تتخذ من أسباب القوة ما بها تعلو على عروش الباطل وتدكه دكا ‏.‏ فقوة الحق بدون حق القوة ضعف ، والدين بدون سيف ينصره ‏:‏ هضيمٌ عزه مهيضٌ جناحه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ بعثت بين يدي الساعة بالسيف ‏)‏ ‏.‏

وتحتاج الصحوة الإسلامية أكثر ما تحتاج إلى أن تُبَصَّر بأسباب القوة فتتخذها وبمواطن الضعف لتجتنبه ‏.‏ ويعوزنا مع هذا الاحتياج تجرّد وموضوعية في تناول القضايا وسموا في استيعاب روح الشريعة والبعد عن الحرفية والظاهرية المحضة ، والمماحكة في تحكيم ظواهر نصوص قليلة في مسألة ضخمة عظيمة بُعْدٌ عن حقيقة الاجتهاد والاستنباط ‏.‏

ومن الأسباب التي تبث القوة في أوصال الصحوة فكر الحركة وحركة الفكر ، فقعود العقول عن فهم الواقع والتكيف مع متطلباته من أعظك الشؤم الذي أصاب واقع الصحوة الإسلامية ‏.‏

فالحق الذي نبذله للناس ونناضل دونه لابد أن يكون له رجال فقهوا واقع أمتهم واستطاعوا أن يهضموا من المعارف والفنون ما يجابهون به واقعا مدنيا معقدا لم يعد ينفع معه مجرد حفظ المتون وقراءة الشروح ‏.‏

إننا نحتاج إلى كوادر تفهم واجبها وتتقنه أيضا ، تلم بواقع العصر ولا تغيب عن التراث وتتجاهله ‏.‏

وإن أخطر قضية شغلت شباب الصحوة وتوقف على حسمها سريان روح النشاط في أجسادهم قضية العمل الجماعي ومشروعيته ‏.‏ ونحتاج - ونحن بصدد الكلام عن خدمة الدين - أن نتحدث عن هذه القضية متعرضين لمفهومها الحركي وحكمها الشرعي ، متعرضين للأدلة الشرعية التي تفيد في هذا الباب ، مع مناقشة أهم الشبهات التي تطرح حول هذا الموضوع ‏.‏

ولجلالة هذا الموضوع في نظري وارتباط نشاط كثير من الدعاة بمعرفة المحك الشرعي لهذه القضية رأيت أن أوليه شيئا من الاهتمام ‏.‏ وسأحاول طرحه عن طريق عناوين ذات مقدمات متسلسلة تسوق إلى النتيجة الصحيحة آملا أن يُنـزّل الكلام منـزله وألا تحمل العبارات أكثر مما تحتمل ‏.‏

‏(‏تحرير محل النـزاع في المسألة ‏)‏

نعني بقضية العمل الجماعي ‏:‏ أي تعاون مثمر بناء مستطاع يدخل في حيز القدرة الشرعية ويؤدي إلى تنشيط واقع الدعوة الإسلامية ويسهم في إعزاز الدين ونصرته والتمكين للشرع المطهر ، ويؤدي إلى النكاية في الكافرين بالضوابط الشرعية المعتبرة عند العلماء المعتبرين وبما لا يترتب على هذا التعاون مفسدة راجحة تمنع من الإقدام عليه ‏)‏ ‏.‏

وكل قيد في هذا التعريف مقصود به إخراج ما يخالفه فليعتبر ‏.‏ ولا التفات بعد ذلك إلى أي إيرادات على غير محل النـزاع كأن يقال ‏:‏ إن العمل الجماعي يؤدي إلى مفسدة وذلك بما توجهه قوى العدوان والبغي ضد الدعاة ، فهذا لا يكون العمل الجماعي في حقهم ضروريا فليفهم وليقس الغائب على الشاهد ‏.‏

ثم إن المقصود بالضوابط الشرعية كل القواعد العامة والأصول العلمية التي اعتبرها أئمتنا في فقه السياسة الشرعية ، ومنها عدم التعاون مع الكافر والمبتدع إلا بشروط ، وعدم تولية الفساق وأهل البدعة لولاية عمل إلا بشروط أيضا ‏.‏ فكل هذا يسري فيما نحن فيه بل أجدر ‏.‏

والمقصود بالعمـل ما يشمل القول والفعل ، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد باللسان والأموال والأبدان ‏.‏

والمراد بالجماعية هنا محض التعاون المشترك بين أكثر من فرد ، فالجماعة المقصودة هنا ‏:‏ الجماعة الخاصة ، لا الجماعة المسلمة العامة التي تنضوي تحت إمرة حاكم شرعي ، فأن العمل بالنسبة لهم على حسب قانون دولتهم المسلمة وأمر حاكمهم الشرعي وبالضوابط والأصول المعتبرة أيضا ‏.‏

فكلامنا إذا في جماعة الدعوة التي تنشد عزة الدين والتمكين له في بلدان لا تتمتع بحكم إسلامي شرعي ولا بوجود حاكم يرعى حمى الدين ‏(‏ ولا نقول مسلما ‏)‏ فمجرد وجود الحاكم المسلم مع غشه وظلمه وفسقه ليس سببا للقعود عن نصرة الدين بل والقيام بما تأخر عنه ذلك الحاكم المسلم ، فليتنبه ‏.‏

‏(‏شبهات القائلين ببدعية العمل الجماعي ‏)‏

لاشك أن كثيرا من المسائل التي يتداولها الدعاة تكون الحقيقة فيها تائهة بين اختلاف العبارات وتباين المصطلحات وعم تلاقي المقاصد من الكلمات ، فكان من الأهمية بمكان أن نحرر محل النـزاع فيما نحن بصدده لنقلل مساحة الاختلاف ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ‏.‏

ولكننا سنجد من تبقى لديه بعض الشبهات التي حالت بينه وبين إدراك مقصد شرعي أو واقع دعوي ، فمن الإنصاف أن نتعرض لأشهر ما يتداوله الدعاة من شبهات في هذا الباب لنوفي المقام حقه من التمحيص والدرس ‏.‏

الشبهة الأولى ‏:‏ يقول الذاهبون إلى بدعية العمل الجماعي إن الأدلة العامة التي أمرت بالاجتماع ونهت عن الفرقة تنص على عدم شرعية التجمعات الدعوية التي تمزق كيان الأمة ‏.‏

ومنها قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ‏.‏‏.‏ ‏}‏ يقولون ‏:‏ إن العمل الجماعي يؤدي إلى التحزب والفرقة بين الجماعة وهذا منهي عنه ، فما كان كذلك لا يكون مشروعا ‏.‏

وهذا الاستدلال غير مستقيم ، لأنه يقال ‏:‏ هل مجرد وجود الجماعة وتعاون الأفراد فيما بينهم هو النـزاع والافتراق ‏؟‏ أم أن النـزاع أمر خارج وطارئ ‏؟‏ فإن قلنا بالأول ‏:‏ لزم اطّراح كل النصوص التي تأمر بالاجتماع ، وإن قلنا بالثاني ‏:‏ فيقال ‏:‏ لو كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة من قبل البعض فهل هذا يسوغ أن نقول ببدعية الطاعة وعدم مشروعيتها ‏؟‏‏!‏

إننا يجب أن نتبرأ من كل التصرفات التي تتنافى مع الاجتماع والتعاون كالعصبية والحزبية وعقد الولاء والبراء على غير الإسلام ، وإذا حدث هذا من بعض الجماعات بل من كل الجماعات فليس هذا دليلا على حرمة الاجتماع وبدعيته ، بل يُنهى عن المحرم ويُقَرُّ الصالح على صلاحه ، قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ ولا تزر وازرة وزر أخرى ‏}‏ وقال ‏:‏ ‏{‏ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى ‏}‏ ‏.‏

الشبهة الثانية ‏:‏ ‏(‏ الأدلة الخاصة ‏)‏ التي تنهى عن التحزب ، والصريح في هذا الباب حديث حذيفة بن اليمان الذي رواه البخاري وبوب له في الصحيح فقال ‏:‏ باب ‏:‏ كيف يكون الأمر إذا لم تكن جماعة ‏.‏ ثم روى حديث حذيفة قال ‏:‏ كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت يا رسول الله ‏!‏ إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ نعم ‏)‏ ‏.‏ قلت ‏:‏ وهل بعد ذلك الشر من خير ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ نعم ، وفيه دخن ‏)‏ قلت ‏:‏ وما دخنه ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر ‏)‏ قلت ‏:‏ فهل بعد ذلك الخير من شر ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها ‏)‏ قلت ‏:‏ يا رسول الله صفهم لنا ‏.‏ قال ‏:‏ ‏(‏ هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ‏)‏ قلت ‏:‏ فما تأمرني إن أدركني ذلك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ‏)‏ قلت ‏:‏ فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ‏)‏ ‏.‏ الحديث ‏.‏

قالوا ‏:‏ فهذا أمر نبوي صريح باعتزال كل تلك الفرق والجماعات المتناحرة المختلفة حال كون المسلمين فاقدين للإمام الشرعي والجماعة المسلمة الكبرى المنضوية تحت لواء شرع إسلامي وحاكم مسلم ‏.‏

والجواب عن هذه الشبهة أن قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ اعتزل تلك الفرق كلها ‏)‏ يعود إلى أقرب مذكور وهم الدعاة على أبواب جهنم ، ولو عاد إلى أبعد منه فهم القوم الذين يهدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن كليهما يجب اعتزالهما ، كما لا شك أن الجماعات الإسلامية العاملة في حقل الدعوة والمنضوية تحت لواء أهل السنة والجماعة والمستظلة بظل الصحوة الدينية المباركة ، والساعية في سبيل إعلاء كلمة الله ليست من الدعاة على أبواب جهنم ، وليسوا أيضا ممن يهتدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏ ولا يجوز أن يقال إن ‏(‏ أل ‏)‏ في كلمة ‏(‏ الفرق ‏)‏ للعهد الذهني ، لأن اسم الإشارة ‏(‏ تلك ‏)‏ المنوه بما سبق قرينة على تعيين المراد ‏.‏ هذا وجه ‏.‏

الوجه الثاني ‏:‏ أن الاعتزال لا يكون إلا بعد انعدام الجماعة والإمام ، والواقع ليس كذلك ، فإن الإمام إذا كان معدوما فلم تنعدم الجماعة المسلمة ، فإن زعم زاعم أن الجماعة المسلمة أيضا منعدمة فإننا نحيله على ‏:‏

الوجه الثالث ‏:‏ قال الحافظ في الفتح ‏:‏ ‏(‏ 13/41‏)‏ قال الطبري ‏:‏ والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره ، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة ‏.‏ أهـ

تنبيه ‏:‏ قال الطبري بعد النقل السابق ‏:‏ وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحدا من الفرق ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر ‏.‏ أهـ

اتكأ على هذا النقل القائلون ببدعية العمل الجماعي وقالوا بوجوب مفارقة الجماعات العاملة في حقل الدعوة ‏.‏ وليس لهم مستند فيه ، لأن مراد الطبري رحمه الله الأحزاب التي تتنافس على الإمارة والإمامة والحكم ، ولذلك قال عقبه ‏:‏ خشية من الوقوع في الشر ‏.‏ وهو شر التنافس على الدنيا ، لأن السعي إلى الإمامة مذموم شرعا ‏.‏ أما الأحزاب العاملة للدين ولا تتنافس على الإمارة بل تسعى لنصرة الدين والتمكين له فليست على شر ، بل هي ساعية في دفعه ، وفي جلب الخير المحض ، ولا تدخل في النهي عن الاعتزال جزما ‏.‏

ولسر بديع أعقب البخاري الباب الفائت وهو ‏:‏ كيف الأمر إذا لم تكن جماعة ‏.‏ بباب آخر قال فيه ‏:‏ باب من كره أن يكثر سواد الفتن والظلم ‏.‏ وساق فيه حديث ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله ، فأنزل الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ‏.‏‏.‏ ‏}‏ وهذا السر البديع هو أن الأمر بالاعتزال السابق في الباب قبله مشروط بألا يؤدي إلى تكثير سواد المشركين والظالمين وأهل الفتنة والظلم ، ولا شك أن تفرق الدعاة وعدم تعاونهم يؤدي إلى تقوية الظالمين ونكايتهم للمؤمنين ‏.‏

وما أشبه أولئك القائلين باعتزال الجماعات العاملة في حقل الدعوة بأولئك المسلمين الذي بقوا في ديار الكفر وكثروا سواد المشركين ‏.‏ ففي الوقت الذي نرى ملل الكفر تتلاقى على هدم الإسلام وتتناسى خلافاتها لتتفق على مناوأة المسلمين نرى المسلمين عاجزين - حتى - عن التعاون في تكتلات ذات أثر ‏.‏

الشبهة الثالثة ‏:‏ استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ لا حلف في الإسلام ‏)‏ رواه البخاري ومسلم ‏.‏ قالوا ‏:‏ لا يجوز الانتماء إلى التجمعات الدعوية ولا التعاون معها لأنها أحلاف نهى عنها الشرع ونفى اعتبارها في الإسلام ‏.‏

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه ‏:‏

أولها ‏:‏ أن الوقوف عن ظواهر النصوص والتقيد بحرفيتها وإهدار روحها لا يخدم المسألة بل ينحرف بها عن فهم المقصد الشرعي الذي هو أساس الاجتهاد في مسائل النوازل ‏.‏

ثانيها ‏:‏ أن المراد بالحلف ما كان يتحالف عليه أهل الجاهلية من إيصال الحقوق إلى أربابها ، وكان المتحالفون يجمع بينهم آصرة الحلف ويترتب عليها من الحقوق في الإرث والقرابة والزيجة والالتزامات ونحوها ما يتعارض مع الشرع ، ويدل لذلك رواية مسلم حيث قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة ‏)‏ وهو من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه ‏.‏

قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ في الفتح ‏:‏ ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه ، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة وكانوا يتوارثون به ثم نسخ من ذلك الميراث وبقي ما لم يبطله القرآن وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم كما قال ابن عباس ‏:‏ إلا النصر والنصيحة والرفادة ويوصى له ، وقد ذهب الميراث ‏.‏ ثم نقل عن الخطابي قوله ‏:‏ قال ابن عيينة ‏:‏ حالف بينهم أي آخى بينهم ‏.‏ يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأخوة في الإسلام لكنه في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده ، وحلف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم فبطل منه ما خالف الإسلام وبقي ما عدا ذلك ‏.‏ أهـ

وخلاصة القول أنه قد ورد إثبات الحلف ونفيه ، ولا شك أن فهم الصحابي أجدر بالتأسي ، وما جمع به الطبري يجري وفق طرق الترجيح ويأتي على نسق قاعدة ‏:‏ الجمع بين الدليلين أولى من إهمال أحدهما ‏.‏ ‏(‏ الإعمال أولى من الإهمال ‏)‏ ‏.‏

ثالث الوجوه ‏:‏ أن الحلف كلمة مجملة يرجى ممن استدل بها على بدعية العمل الجماعي أن يحد هو معناها ، فإن أراد العموم لزم تحريم أي حلف حتى لو كان ذلك الحلف بيعة الإمام الشرعي ، وهو معلوم البطلان ، وإذا كان التخصيص قد ثبت بالقطع علمنا جواز التخصيص بغيره ، والمزعوم ‏:‏ أن عموم النهي أو النفي في حديث ‏(‏ لا حلف في الإسلام ‏)‏ مخصص بآيات حفظ العهود والوفاء بالوعود والعقود ، كما أن ‏(‏ لا حلف في الإسلام ‏)‏ قضية مهملة سالبة ، والتحقيق أنها لا تفيد سورا معينا ، بل قد يراد بها الجزئية وقد يراد بها الكلية ، ومع هذا الأجمال في السور نلجأ إلى التخصيص بدليل آخر وهو ما فعله أنس بن مالك رحمه الله ، فقد فهم الراوي أن ‏(‏ لا حلف في الإسلام ‏)‏ بقوة ‏:‏ كل حلف في الإسلام منهي عنه ، فصحح له أنس سور القضية قائلا ‏:‏ قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري ، وكأن أنسا رضي الله عنه أراد أن يصحح مدلول الحديث كالآتي ‏:‏ بعض الحلف في الإسلام منهي عنه ‏.‏ وهو ما أكده الطبري رحمه الله في جمعه بين حديث النفي والإثبات ‏.‏

ولا مجال لادعاء أن ‏(‏لا‏)‏ نافية للجنس وهي تفيد القطع في نفي كل مفردات اللفظ ، وهي عند الأصوليين تفيد العموم ولا ريب ، بيد أن عموم النفي مسلط على الجنس المعهود ‏(‏ وهو الحلف المذموم ‏)‏ فلا يشمل الحلف المحمود ، ودليله ورود التخصيص بعد عموم النفي في رواية جبير بن مطعم ، فأفادت تلك الرواية نفي العموم لا عموم النفي ‏.‏

وقد زعم الطحاوي رحمه الله في شرح مشكل الآثار أن حديث أنس في إثبات الحلف منسوخ بحديث النفي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله في فتح مكة ‏.‏ وإذا سلمنا بصحة النسخ فإن البحث سيظل دائرا حول مورد النفي ، وقد ثبت بالدليل الصحيح وتفسير الصحابي المعتبر كابن عباس وأنس رضي الله عنهما ثبوت الحلف بمعنى النصرة والمؤاخاة بشروطها المعتبرة ، فيكون النسخ واردا على ما منعته النصوص الأخرى كالتوراث والعصبية والنصرة حتى بالباطل ويبقى ما أقرته النصوص ولم تمنعه ‏.‏

الشبهة الرابعة ‏:‏ يحتج المبدعون للعمل الجماعي بأن جماعية العمل تورث البغضاء والشحناء والتحزب والولاء والبراء على الاسم ، على حساب المسمى ‏.‏

والجواب على جزأين ‏:‏ الأول ‏:‏ في شرعية التسمي بأسماء لقبية غير اسم الإسلام وأن ذلك لا حرج فيه ، بل قد يكون واجبا إذا احتيج إليه شرعا ‏.‏والثاني ‏:‏ أن كل الآفات المترتبة على العمل الجماعي نتبرأ منها ونحذر منها وننهى عنها ، كما لا نعترف أنها ناشئة عن مشروعية العمل الجماعي منهجا ، بل هي في الغالب بسبب أخطاء شخصية وانحرافات تطبيقية أو مساوئ خلقية وتربوية ناتجة عن عدم فهم منهج العمل الجماعي والتحلي بآدابه ‏.‏ وسبب ذلك أمور ‏:‏

‏(‏1‏)‏ أن الأمة عاشت دهورا لم تستظل فيها بظل الدولة المسلمة ، ولم تستنشق عبير الحكم الإسلامي الذي من أركانه السمع والطاعة لأولي الأمر ومراعاة مصالح الأمة ‏.‏ بل نشأت في الأمة جماعات على نسق النظريات الغربية التي تعتمد الحرية المطلقة طريقة حياة ‏(‏ ليبرالية ‏)‏ والفردية منهجا للتعامل مع الآخرين ، والنسبية نظرية للحكم على الأشياء ، فلم يأنس الناس حب الاجتماع على أساس ديني ، ولا البذل للدين والتضحية له من منطلق جهادي ‏.‏

‏(‏2‏)‏ جهل الكثير بأدب الخلاف وفقهه ، حتى أضحت المسائل التي تتبناها أي حركة – وإن كانت فروعية – لا تقبل النقض أو المناقشة من أحد ‏.‏

‏(‏3‏)‏ شيوع الروح الاتهامية وتلاشي مبدأ المناصحة والتواصي بالحق الذي أمر به القرآن ‏.‏

‏(‏4‏)‏ غلبة الهوى عند البعض ‏(‏ دون تعيين ‏)‏ ، والهوى هو منشأ الظلم ، والظلم هو منشأ الاختلاف والتناحر بين الناس ‏.‏

وتلافي ذلك يكون بأضداده لا بنقض مبدأ الاجتماع من أصله وأساسه ، فالعمل الجماعي نسق فطري لأية حركة اجتماعية تنشد التغيير الصحيح ‏.‏

هذا وليس من الإنصاف أن نؤاخذ التجمعات الدعوية بجريرة بعض الأفراد ، وننسى أو نتناسى حسناتها وأثرها في واقع الأمة ، وأنها التي حفظت على الناس عقيدة الإسلام وآدابه وأحكامه ‏.‏ وكم رأينا من دعاة كانوا يتحركون فرادى بيد أن أثرهم لا يتجاوز مساجدهم وإقليمهم ، وآخرون اجتمعوا ونسقوا فكانت شجرتهم الباسقة تظل أرجاء الدنيا ‏.‏

الشبهة الخامسة ‏:‏ يقولون ‏:‏ إن كل ما ذكر عن ضرورة الاجتماع والعمل النظامي والسمع والطاعة للمسئولين عن العمل الدعوي ، كل ذلك لا يكون إلا في ظل دولة إسلامية وتحت إمرة خليفة شرعي ، والنصوص الشرعية التي استدللتم بها إنما هي في حق الإمامة العظمى وفي ظل الخلافة المسلمة ‏.‏

والجواب ‏:‏ بعدم التسليم أن النصوص الشرعية الآمرة بالاجتماع والسمع والطاعة في حق الإمامة العظمى فقط ، بل هي عامة ، كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏}‏ وقوله ‏:‏ ‏{‏ ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ‏.‏‏.‏‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ‏)‏ ‏.‏ رواه البخاري ‏.‏

فلا بد للمسلمين من جماعة ولا بد لهم من إمام ، فإن لم يستطيعوا تكوين الجماعة العامة التي تنتظم الأمة تحتها والإمام الذي يحكم الجميع عدلوا إلى القدر الذي يستطيعونه ، ريثما يتيسر لهم إقامة الخلافة العظمى ، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ إذا أمرتك بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‏)‏ وعندما تولى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة لم يتولها إلا على مكة والمدينة والبحرين ، أما بقية الجزيرة فقد ارتدت عن بكرة أبيها ، ولا ولاء لها للمدينة ولا لأحد من الصحابة ، فلم يثنهم ذلك عن السعي للإمامة والاجتماع حتى تنتظم حياتهم ‏.‏

ثم إننا نتساءل عن الفرق بين التجمعات الدعوية في ظل الحكم الإسلامي وفي غيره ‏!‏ أوليس مفروضا في الدولة الإسلامية أن تكون لها هيئات ترعى شئون المسلمين في كل المجالات ‏؟‏ فما الفرق بين تلك الهيئات التي تعمل في ظل الأنظمة الوضعية ساعية لإقامة الحكم الإسلامي واسترجاع الحياة الإسلامية وبين تلك التي تعمل بالفعل تحت نظام حكم إسلامي ‏؟‏‏!‏‏!‏ اللهم إنه لا فرق إلا أن يقال إن تلك تعمل تحت إمرة حاكم شرعي ، والأخرى ليست كذلك ، وهذا ليس بوصف مؤثر في الحكم ، للإجماع على أن جل التكاليف الشرعية لا يشترط فيها وجود الإمام ، ومن ثم اتفق العلماء في العصور المتأخرة على عدم اشتراط وجود الإمام في الجمعة مع أن بعض المذاهب اشترطت ذلك ، ولم يقل أحد الآن بلزوم وجود الإمام حتى نؤدي الجمع ‏.‏

وثمة أمر ينبغي أن يتنبه له الجميع ‏:‏ وهي أن التجمعات الدعوية التي نقصد ضروريتها لا يمكن تصور الدعاة الآن بدونها ، حتى أولئك الذين يبدعون العمل الجماعي ، فهم يقومون بمقتضاه ، شاءوا أم أبوا ‏.‏

فتنظيم محاضرة عمل جماعي ، وتنظيم دورة علمية عمل جماعي ، وطبع كتاب إسلامي وتوزيعه في أي خانة ندرجه ‏؟‏‏!‏ ولا يقال إن هذا الأخير لا يندرج تحت العبادات ‏!‏ إذا خاب سعي كل من يطبع كتابا إسلاميا حتى لو قصد مع ذلك التربح ، لا أيها الإخوان ‏.‏‏.‏ إن الأمر أيسر من أن نتناوله بهذه الطريقة ، وأخطر من أن نعالجه بهذا النحو ، فدين الله ينادي علينا بالبذل ، وخطاب القرآن يخترق الآذان قائلا ‏:‏ ‏{‏ انفروا خفافا وثقالا ‏.‏‏.‏‏}‏ ويقول ‏:‏ ‏{‏ خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ‏}‏ ‏.‏

فكيف نتشاغل عن هذا النفير بقضايا من قبيل ‏:‏ نعمل فرادى أو جماعات ، نتعاون أو نعتـزل ‏؟‏‏!‏‏!‏

ونختم بهذه الومضات ‏:‏

‏(‏1‏)‏ إن قضية العمل للدين يجب أن يتناسب فيها الجانب التطبيقي مع الاستدلال الشرعي ، فلزوم الدعة والخمول وترك الجهاد بالمال والنفس بحجة الوقوف عند النصوص موقف سيسأل عنه أمام الله عز وجل يوم القيامة ‏.‏

‏(‏2‏)‏ الملاحظ أن المبدعين للعمل الجماعي لم يطرحوا البدائل لموجهة طغيان الظالمين والمحاربين لدين الله رب العالمين ، وأن مجهوداته قاصرة على إلقاء الدروس العلمية ، مع أن نظرة بسيطة إلى شرائح المجتمع تخبرك بهول المهمة ‏.‏

‏(‏3‏)‏ الاجتماع على عمل معين والتسمي باسم معين لا يعني احتكار العمل واحتكار الاسم ، فمنهج الحق مشاع بين أهله ‏{‏ ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ‏}‏ ‏.‏

‏(‏4‏)‏ لقد استطاع الرافضة أن يقيموا دولة تناطح أمريكا وترهب إسرائيل ، وما زال أهل السنة ‏(‏ وهم نقاوة المسلمين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ‏)‏ يتجادلون في شرعية العمل الجماعي ‏!‏‏!‏‏!‏

أيها الدعاة ‏:‏ إن الإسلام تنقض عراه عروة عروة والمسلمون يتخطفون من حولكم فقوموا لله قومة صدق ‏{‏ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ‏}‏ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ‏.‏