فصل: الطريقة الثامنة والعشرون : الترجمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: ثلاثون طريقة لخدمة الدين **


الطريقة الثامنة والعشرون ‏:‏ الترجمة

ما زالت الدعوة الإسلامية تخطو خطوات وئيدة في نشر الدين على مستوى الشعوب ، فلو ارتضينا المقارنة بين ترجمات معاني القرآن وترجمات الإنجيل لوجدنا أن الفاتيكان قد قام بترجمة الإنجيل المعتمد لديه إلى كل اللغات الحية تقريبا ، وكان ذلك قبل أن تبدأ حركة ترجمة معاني القرآن لدى المسلمين بصورة منظمة ذات أثر ‏.‏

أما إذا أتينا لنقارن بين صراع نشر ثقافة الحضارات لوجدنا أن المسلمين لا يعدون أن تكون حضارتهم مثل حضارة الهند والصين اللتان ينتقي منهما الغرب ما شاء ليترجمه دون أن تكون تلكما الحضارتان ذاتي ثقافة غازية ‏.‏

والواقع أن الحضارة الإسلامية عريقة العلوم والمعارف أصيلة المثل والقيم ، بهرت العالم كله بمنظومتها المعرفية ، وأقامت للبشرية صرحا من المعارف والعلوم مازال شاخصا شامخا في ضمير العقل الإنساني ‏.‏

ومثل هذه الحضارة الشماء لا يليق بها أن تتوارى عن أعين الخلق وتتشرنق مستترة عن احتياجات الإنسانية بزعم اعتزازها باللغة العربية الأصيلة ، أو بزعم أنها غنية بنفسها ، أو بزعم عدم قدرتها على منافسة الزحف الحضاري الغربي ‏.‏

فلقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم ترجمانا هو زيد بن ثابت أمره أن يتعلم السريانية فتعلمها في بضع عشرة يوما ‏.‏ واستطاع القرآن أن يكون كتاب البشرية الأول في خلال عشر سنين عندما استقر في وجدان الشعوب التي فتح بلادها المسلمـون الأول ‏.‏

وكان ترجمة التراث العربي هو السلاح الثاني في الفتوح الإسلامي حتى غدت اللغة العربية هي لغة الثقافة والمعرفة ، لأنها صارت اللغة الوسيطة بين كل الشعوب لنوال العلوم الراقية ‏.‏

وبدأ الضعف يدب في أوصال الثقافة الإسلامية يوم انتدب بعض ضعاف النفوس أنفسهم لترجمة علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية ، واشتغلت الحركة الثقافية بهذا الزخم الفارغ ، الذي كان نفعه في ميزان الحضارات الأخرى ‏.‏ إذ جعلت المعايير الفلسفية اليونانية هي الحاكمة على الحق المطلق في النظام المعرفي الإسلامي ‏.‏

وصار القرآن نفسه يحاكم إلى منطق أرسطو وأفلاطون ، وشغل المسلمون دهورا بالنـزاع بين الإشراقيين والرواقيين ، وكان الجاهل بعلوم تلك الحضارات الوافدة معدودا فيمن لا يوثق بعلمه أصلا وإن كان إماما من أئمة الدين ‏.‏

وكل ذلك حينما انعكس الدور الأصيل الذي كانت تقوم به الفتوحات الإسلامية ألا وهو غزو العقول والقلوب بإيصال معاني هذا الدين المتين ‏.‏

وقد فطن الاستعمار ‏(‏ وإن شئت فقل ‏:‏ الاستخراب ‏)‏ لدور الترجمة في توطين الثقافة الغازيـة ، فأسس بجوار الترسانات العسكرية الجرارة هيئات علمية راقية المستوى كانت مهمتها مساعدة الزحف العسكري عبر استعراض ثقافة المستعمر بلغة الدولة المغزوة ، وعندما ظهر الفرق جليا بين تخلف الدول المغزوة وإمكانيات الدول الاستعمارية في المجال الاقتصادي والعسكري وفي المجالات المدنية المتنوعة تقبلت الناس هزيمتهم باقتناع وراحت نفسية الهزيمة تتغلغل في جذور الضمير حتى مسخت الأفئدة ووجدنا من أفراد الأمة الإسلامية من ينادي بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية ومن يطلب الكفران بكل ما منتم إلى الإسلام ‏.‏

تلك الهيئات العلمية هي المحافل الاستشراقية التي كانت تلعب دورا لا يقل خطورة عن الدور التنصيري الذي صاحب الاستعمار في مراحله المختلفة ‏.‏

والغريب أن جل الباحثين لم يفهموا أو لم يحاولوا أن يتفهموا أسباب قيام المحافل الاستشراقية بترجمة كثير من المراجع العربية إلى لغاتهم اللاتينية على اختلافها ‏.‏ فبلغت سذاجة البعض إلى الزعم أن المستشرقين قد انبهروا بالثقافة العربية فكانوا خداما في محرابها وسدنة في معبدها هياما بجمالها وعظمتها ‏.‏

ونحن لا ننكر وجود المستشرقين المنصفين لكن عددهم أو انتماءاتهم لا تمت بصلة للدور الجمعي الذي كان يقوم به جل المستشرقين ألا وهو القيام بحركة ترجمة واسعة النطاق من وإلى اللغة العربية بغرض أن يتخصصوا هم في اللغة العربية فيحتلوا مرجعيتها دون علماء المسلمين أنفسهم ‏.‏

وهذا ما قد حدث بالفعل ، فمن الذي ينكر عظمة مشروع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ، أو مَن من الأدباء يستطيع أن يتعامى عن

وفي غضون بضعة عقود أواخر القرن التاسع عشر كانت الأكاديميات الغربية موئلا لكثير من الباحثين العرب والمسلمين لدراسة اللغة العربية والإسلام نفسه ، وصارت دكتوراه السوربون أو دكتوراه الدولة من فرنسا وأكسفورد وهارفارد من إنجلترا تهيؤ صاحبها لتبوئ أعلى المناصب العلمية في جامعات بلاده ‏.‏

وصار بعض الأكاديميين يتفاخرون أنهم درسوا آداب اللغة العربية في أروقة جامعات أوروبا ، والأنكى أن منهم من يزهو أنه درس الحديث أو التاريخ الإسلامي أو سيرة الخلفاء على يد أساتذة الكراسي في الجامعات المسيحية ‏.‏

لكن المشاهد لكل ذي لب أن الدراسات العربية والإسلامية في تلك الجامعات لا تتم باللغة العربية ، كما ندرس مثلا الأدب الإنجليزي باللغة الإنجليزية ، بل إن كل الدراسات بما في ذلك البحث الذي يتقدم به الباحث تتم بغير اللغة العربية ، لا لشيء إلا لأن المشرفين أعاجم ، والمراجع التي يطالب الباحث العربي والمسلم بالرجوع إليها جلها كتبه المستشرقون بلغاتهم الأعجمية ‏.‏

وهكذا نرى كيف أن حركة الترجمة التي قام بها المستشرقون كان لها دور واسع بعد ذلك في تبوئ الثقافة الغربية منصب المرجعية في العلوم اللغوية العربية والإسلامية أيضا ‏.‏

ونحن إذا أردنا أن نستعيد المرجعية العلمية للحضارة الإسلامية ‏(‏ في إطار لغتنا وديننا على الأقل ‏)‏ فلابد من القيام بحركة ترجمة واسعة لعلومنا الإسلامية واللغوية بحث نكون – نحن – المتحدثين باسم لغتنا وديننا لا أن يكون وسطاء أعاجم أعلاج هم الناطقون الرسميون باسم الإسلام ‏.‏

إن طموح الدعاة يجب أن يتجاوز مجرد ترجمة معاني القرآن إلى ترجمة التراث الإسلامي الأصيل ، حتى يقرأ العالم عن ديننا كما نفهمه نحن لا كما يفهمه الأعاجم الأعلاج ‏.‏

وهذا يستتبع بالضرورة أن يكون من بين أبناء الأمة عامة والدعاة المخلصين خاصة من يتقن لغات الأمم حتى تأخذ حركة الترجمة جانب الأصالة ، وتأمن التحريف ، وتضمن الأمانة في النقل والصياغة ‏.‏

وقد سمعت عن مركز للترجمة أسسه وأقام بنيانه الداعية المتخصص الشيخ سفر الحوالي في أوائل العقد الثاني من القرن الخامس عشر ، لهدف ترجمة تراث شيخ الإسلام ابن تيمية للغة الإنجليزية بدعم من بعض المحسنين الغيورين من أهل السنة ، بيد أن هذا المركز ما كاد يخطو خطواته الأولى حتى تعرض لحملة خبيثة من أعداء الإسلام فتم إجهاضه ولما يخرج نتاجه للناس ، ولا شك أن هذا المركز لو استمر نشاطه من حينه لأضحى علامة بارزة في السعي الدعوي المخلص لنشر الدين على المستوى العالمي ‏.‏

ولا ريب أن حركة الترجمة التي نعنيها تحتاج إلى دعم دولي أو معونة هيئات إسلامية عالمية ، وهي أشبه بالدور الجهادي الذي تقوم به هيئات الإغاثة في المناطق الإسلامية المنكوبة ، لأننا لا نرى نكبة أعظم من أن نتعلم الدين واللغة من غيرنا ‏.‏

وإضافة إلى ذلك لا بد أن يتجاور مع حركة الترجمة حركة علمية بحثية راقية المستوى تقوم بتعقب كتابات المستشرقين والرد عليها بنفس اللغة سواء عبر طبع كتب مستقلة أو في دورياتهم العلمية أو على صفحات الإعلام أو حتى على صفحات الإنترنت ‏.‏

وحديثنا على الترجمة لا يتطرق إلا محاربة الاستشراق والتنصير فقط ، بل إلى مواجهة كل المذاهب الهدامة والمنحرفة أيضا من حيث إن خطرها على الدين الحق لا يقل تشويها عن الكفر الصراح ‏.‏

وهاهي ذي قوى الرفض والمجوسية المتشيعة تنفث سمها بكل لغات العالم عبر المجلات التي تصدرها سفاراتها بلغات تلك البلدان ، وترصد ميزانيات ضخمة لمساعدة الأقليات الشيعية في كل العالم عبر المنح الدراسية للتعلم في قُمْ ومَشْهَد والترويج للمراجع الشيعية - وبخاصة أفكار الخميني - بكل لغات العالم ‏.‏

وقد رأيت في بعض الدول السُنّية جهود السفارة الإيرانية في الترويج للمذهب الإثني عشري بين جموع أهل السنة لدرجة طبع مجلة فاخرة بلغة تلك الدولة وتوزيع الكتب والمنشورات بالمجان ‏.‏

وهاهي ذي القاديانية والبهائية تحرص على طبع أدبياتها بكل لغات العالم مع الاهتمام باللغات العالمية كالإنجليزية والفرنسية والعربية ، مما ينبيك - أيها الغيور على دينك - أن الترجمة سلاح ماض في نشر الأفكار ‏.‏

ويمكننا صياغة الأفكار المهمة بالنسبة لهذه الطريقة فيما يلي ‏:‏

‏(‏1‏)‏ إيجاد الكوادر التي تتقن اللغات العالمية ، ومخاطبة الدعاة في كل بلدان العالم ممن يتقنون لغة بلدانهم مع اللغة العربية ، وتكوين جبهة عالمية للتعريف بالإسلام ، تمولها الحكومات والدول والهيئات الإسلامية والأفراد ، على أن يترك إشرافها للدعاة ‏.‏

‏(‏2‏)‏ عقد مؤتمرات عالمية أو محلية لمناقشة هذا الموضوع ، ومساهمة الدعاة في تقديم الأبحاث التي تخص هذا الصدد ، مع تقديم خبرات ذوي الخبرة في هذا المجال ‏.‏

‏(‏3‏)‏ تكوين مكاتب ترجمة لدى كل حركة أو اتجاه دعوي يقوم بترجمة الكتب التي تشرح حقائق الإسلام مع التنسيق بين تلك المكاتب حتى لا يحصل التكرار ‏.‏

‏(‏4‏)‏ تنمية مهارات الترجمة لدى الدعاة بعقد دورات تدريبية للترجمة ، واستضافة المتخصصين في هذا المجال لتدريس أحدث تقنيات الترجمة ‏.‏

‏(‏5‏)‏ صقل لغات المترجمين والرقي بمستواها حتى تكون ترجماتهم محل احترام أصحاب تلك اللغات ، ويكون ذلك بمزيد من التخصص في أدبيات اللغة الثانية التي يتقنها المترجم ‏.‏

‏(‏6‏)‏ إنشاء صحف ومجلات بلغات مختلفة تترجم فيها كتابات علماء العصر وفتاواهم ، ويوقف الناس من خلالها على أخبار المسلمين برؤانا وليس برؤى رويتر وأسوشيتدبرس ‏.‏

‏(‏7‏)‏ المسارعة في استكمال ترجمة معاني القرآن الكريم إلى كل لغات العالم سدا للفرض الكفائي العالق بكاهل الأمة ‏.‏

‏(‏8‏)‏ البدء في مشروع ترجمة الحديث النبوي إلى لغات العالم الحية ، واختيار الكتب المعتمدة مثل الصحاح أو رياض الصالحين ونحوها من الكتب التي عم نفعها بين المسلمين ‏.‏

‏(‏9‏)‏ البدء في مشروع جاد لترجمة عقائد أهل السنة والجماعة إلى كل لغات العالم ، في مواجهة الحملات الشرسة التي تقوم بها المذاهب الضالة في دعوة غير المسلمين ، وإنقاذا لأولئك الأفراد الذي وقعوا في براثن تلك المذاهب جهلا منهم بحقيقة الإسلام ‏.‏

‏(‏10‏)‏ تلافي القصور الإعلامي ، والبدء في مشروع جاد لقناة إسلامية دعوية عالمية تستخدم اللغات العالمية الحية في عرض الإسلام وتبيان حقائقه ‏.‏

إن هذه الأفكار – أيها القارئ العزيز – قد تبدو لك ضربا من الأحلام الشاردة ، ولكنني أجزم لك غير شاك ، أن إمكانياتنا تستطيع أن تفعل ما هو أكثر من ذلك ، ولكن المطلوب ‏:‏ أن تحصل البداءة ، وتنشأ المبادرة الأولى ، وستجد الأمر بعد ذلك توجها يتصاعد ، ومسلكا يرتاده كل المخلصون ‏.‏

الطريقة التاسعة والعشرون ‏:‏ المراسلات

استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة المراسلة في عهد مبكر من زمان الدعوة ، وراسل الملوك في عهده ودعاهم إلى الإسلام ، فكان لهذه الرسائل دور مهم في توسيع نطاق الدعوة وكسر الحصار الإعلامي الذي فرضته اهتمامات الناس العادية ‏.‏

كما كان المراسلات بين أفراد الأمة ذات بعد إعلامي مهم ، حيث كانت هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الأخبار بين الناس وكانت الرسائل الإخوانية أيضا تلعب دورا اجتماعيا مهما ‏.‏

وقد عمل المسلمون على تطوير نظم نقل البريد حتى كانوا أول من ابتكر نقل الرسائل بالحمام الزاجل مما أحدث ثورة في سرعة نقل الرسائل ووصول المعلومات المهمة إلى كل الأصقاع ‏.‏

ومازالت المراسلات البريدية حتى عصرنا تلعب دورا اتصاليا مهما بين كل الشعوب ، بل مازالت البشرية تعتمد على نظام البريد العادي وسيلة في كثير من التعاملات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عصر البريد الإلكتروني والهاتف النقال ‏.‏

والمظنون أن البريد العادي سيظل متربعا على عرش وسائل الاتصال العادية باعتباره الوسيلة التي تتيح الناس التعبير عما يجيش في قلوبهم بسهولة عبر سطر الكلمات ‏.‏

ومع تطور نظم نقل البريد العادي بين الدول أصبح بإمكان كل إنسان أن يراسل أي فرد أو هيئة في العالم متى توفر العنوان الصحيح ‏.‏ كما أن كثيرا من الدول والشركات الاستثمارية أنشأت هيئات لنقل البريد السريع يضمن وصول الخطاب أو الطرد في مدة يسيرة جدا حتى لو كان المرسل إليه يسكن في أقاصي العالم ‏.‏

لقد وجدت منظمة عالمية تسهل على الشباب من الجنسين التراسل عبر البريد ، بحيث توفر العناوين والمعلومات المطلوبة بين الطرفين ، وفي الغالب ما يتم التعارف بين فتى وفتاة من ذوي المراهقة ، وفي الغالب أيضا ما يتم التعارف لأسباب تتنافى مع الشرائع السماوية ، فما أشبه دور هذه المنظمة بدور القواد الذي يسهل الفجور لراغبيه ‏.‏

وقد ظهر أن وراء هذه المنظمة هيئات دولية وأجهزة مخابرات تخطط لاصطياد الجواسيس وتجميع المعلومات عن دول معينة ، ولا نريد أن نغالي فنتهم بالشطط فنقول إنه مخطط عالمي لنشر الفجور بين شباب المسلمين ‏.‏

وقد تنبه لخطورة المراسلات ودورها في توسيع دائرة التعارف مع الناس كل الكنائس العالمية ، فأسست في هيئاتها الدعوية مكاتب خاصة للمراسلات ، مهمتها مخاطبة الناس عن طريق الخطابات ، وتجميع العناوين بكل السبل الممكنة ، والتجاوب مع الشخصيات الفضولية ، واستخدام طريقة الطعم في صيد الفريسة ‏.‏

ولن نتمادى في سرد تفاصيل المكائد التي تحيكها الكنائس عبر المراسلات ، فهو جزء من كيد التنصير الذي بينا كثيرا من أساليبه في طريقة ‏(‏ مقاومة التنصير ‏)‏ ، ولكننا سنؤكد على الفائدة المستوحاة من هذه الطريقة ، وهي أن قطاعا عريضا ممن يتخذون المراسلة هواية يمكنهم أن يسمعوا كلمة الحق إذا وجد من يحسن استغلال هذه الوسيلة ‏.‏

كما أن المراسلة أضحت خير وسيلة للتبادل العلمي بين الأفراد ، وعن طريق البريد الإلكتروني تستطيع الهيئات العلمية أن تتعاون في كل المجالات عبر التواصل المستمر والسريع على صفحات الإنترنت ‏.‏ وليس يخفى أن كثيرا من الجامعات والمعاهد صارت تمنح الدرجات العلمية للدارسين عن طريق المراسلة ‏.‏

وفي البلدان الرأسمالية تلجأ شركات الدعاية إلى الحصول على أسماء المواطنين بكل وسيلة ممكنة ، كما أنها تنتقي الشرائح ذات الدخل المرتفع ، ثم تقوم بإرسال خطابات تتضمن الدعاية لمنتجات معينة أو أسواق تجارية معينة مع إرفاق الصور الإيضاحية المطبوعة بأعلى مستوى من طرق الطباعة ‏.‏

ولا يمكن لتلك الشركات الدعائية أن تلجأ لهذه الوسيلة ما لم تكن قد أجرت دراسات إحصائية دقيقة على أساسها استعملت وسيلة المراسلات في الدعاية ‏.‏

وقد مر معنا كيف أن الكنائس العالمية استشعرت الأثر البالغ للمراسلات فعملت على تطوير هذا الجانب الإعلامي في أجهزتها الدعوية ، فما برحنا نسمع كثيرا عن أناس تصلهم رسائل من الكنائس تدعوهم للتنصر مع عرض كثير من المغريات الدنيوية ‏.‏

وفد فطن اللاعبون في المجال السياسي هذه الأهمية ، فصارت الأحزاب التي تتنافس على الحكم في الأنظمة الديمقراطية التي تتبع نظام الانتخاب الحر تقوم بإرسال الخطابات إلى كل المواطنين في الدوائر التي يتنافسون فيها لأجل كسب أصواتهم ‏.‏

ويبرز دور المراسلة في إشعار الجهات التي يتم مراسلتها بوجود رأي عام موحد في مسألة معينة ، وتتبلور أهمية تكوين هذا الرأي العام الموحد في تصعيد موقف الدعوة الإسلامية تجاه استنكار بعض الممارسات الإعلامية بما يشعر تلك الأجهزة أن ممارستها لا تغضب فئة المتدينين فقط ، بل إنها بالإصرار على ممارساتها ستغضب الرأي العام الذي تخدم اتجاهاته ومشاعره ‏.‏

وقد قامت بعض الهيئات الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية بحملة مراسلة ضد شركة مشروبات استخدمت الكعبة المشرفة في إحدى إعلاناتها التسويقية ، فما كان من تلك الشركة إلا أن قدمت اعتذارها للمسلمين وسحبت هذا الإعلان ولم تجز عرضه بعد ذلك ‏.‏ ومن المواقف المشابهة ما لاحظته من بعض الصحفيين ذوي الاتجاه العلماني أنهم بمجرد أن تصلهم رسائل احتجاج على بعض الممارسات اللادينية في المجتمع من جهات مختلفة فإنهم يسارعون إلى المشاركة في استنكار تلك الممارسات لشعورهم أن ذلك يستجلب ود الرأي العام لهم ‏.‏ ومن سبر الممارسة الصحفية لكثير من الجرائد والمجلات لاحظت أن الإعلام الصحفي يتأثر كثيرا بالتجاوب الذي يبديه القراء مع تلك الصحيفة أو المجلة ، وذلك عبر الرسائل التي تصل إليهم بالبريد ‏.‏

لذلك فإن مما يجدر بالدعوة الإسلامية أن تهتم به وتوليه عناية جليلة ‏:‏ وسيلة المراسلات الدعوية ‏.‏ فبها يمكن توسيع مستوى الشرائح التي تخاطبها الدعوة ، وخلخلة أي حصار يمكن أن يفرض عليها من قوى الطغيان ‏.‏ وبإمكان الدعوة أن توجد رأيا عاما إذا استطاعت أن تجعل من هذه الوسيلة نمطا دعويا مدروس الأبعاد ‏.‏

وإن أهم خطوة يجب أن تتخذ لتطبيق هذه الوسيلة أن يوجد الأفراد المهتمون بهذه الوسيلة والمستعدون لمواجهة كل مصاعبها ، إذ لا شك أنها وسيلة تتطلب جهدا وتفرغا واسع المدى ‏.‏

والدعوة الإسلامية إذا كانت تقوم بها هيئة منظمة ذات إمكانيات مادية فأحرى بها أن تؤسس مكتبا للمراسلات يتبعها يقوم بالدور الدعوي المنوط به بحيث يتفرغ هذا المكتب كليا لهذه الوسيلة ‏.‏

أما على مستوى المناطق التي لا تسعفها الظروف في إيجاد دعوة منظمة فليس من العسير حينئذ أن يتعاون على أداء هذا الدور بعض الدعاة بحيث يتناوبون في توزيع المهمات والأدوار فيما بينهم ‏.‏

وهذه جملة من الأفكار التي يمكن الأخذ بها في مجال المراسلات مع اعتبار أن هذه الوسيلة تحتاج إلى التطوير المستمر والمنافسة الضروس مع الخصوم أعني خصوم الإسلام ‏.‏

أولا ‏:‏ تفريغ بعض الأفراد للقيام بمهمة المراسلات ، قد يكون دور هؤلاء الأفراد مجرد تحضير العناوين وكتابة الرسائل – أعني نسخها – ثم إرسالها لأصحابها ، بحيث يكون معهم آخرون يعدون المادة العلمية ويخططون لعملية المراسلات جملة وتفصيلا ‏.‏

وهؤلاء المخططون هم الذي يحددون الشرائح التي يجب الاهتمام بها ويحددون الأولويات التي ستطبق في نظام العمل ‏.‏ كما أن هؤلاء هم الذين يعدون الخطابات والردود بالتعاون مع أهل العلم والمتخصصين في كل المجالات ‏.‏

ومن وظيفة المخططين أنهم يقومون – بالاستشارة مع أهل العلم – باختيار الشرائح التي يمكن مخاطبتها عبر المراسلة مثل الشرائح التالية ‏:‏

‏(‏1‏)‏ مراسلة ذوي المناصب ومناصحتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو المساعدة في ذلك ‏.‏

‏(‏2‏)‏ مراسلة شريحة المفسدين في المجتمع مثل باعة الخمور والمغنين والممثلين أو الصحفيين والكتاب العلمانيين أو الفئات ذات الانحراف الاجتماعي مثل المدمنين والزناة والشواذ ‏.‏‏.‏ الخ ‏.‏

‏(‏3‏)‏ مراسلة الصحف والمجلات على وجه التأييد لبعض المواقف الجمعية أو استنكارها ، ويدخل ضمن ذلك مراسلة وسائل الإعلام المختلفة كالإذاعة والتلفاز للتعبير عن موقف الدعوة الإسلامية تجاه بعض الممارسات الإعلامية ‏.‏

‏(‏4‏)‏ مراسلة الشركات أو المصانع التي تنتج منتجات تتعارض مع الشريعة الإسلامية ، أو بغرض أن تقوم تلك الشركات بإنتاج منتجات تخدم المجتمع المسلم ، فالسوق الاقتصادي يقوم على العرض والطلب ، والإنتاج عند تلك الشريحة متوقف على وجود الطلب ، والمراسلة خير وسيلة لإفهام تلك الشريحة ‏.‏

‏(‏5‏)‏ مراسلة الدعاة والمصلحين في كل مكان لتكوين جبهة إسلامية عالمية أقل أوجه التعاون فيما بينها التواصل بالمراسلة ، ويدخل ضمن ذلك مراسلة العلماء والمفتين لطلب فتاواهم أو مطالبتهم بتبني مواقف معينة تجاه المجتمع ، فالملاحظ أن هناك مجموعة من العلماء الذين يتاورون عن المجاهرة بمواقفهم لسبب أو لآخر ، ومثل هؤلاء يحتاجون إلى تحفيز من قطاع الدعاة والمصلحين ، حتى يقوم أهل العلم بالدور الذي أناطه الله بهم ، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ‏}‏ ‏.‏

‏(‏6‏)‏ مراسلة الأفراد العاديين في المجتمع بمختلف الشرائح كالطلاب والمدرسين والموظفين والعمال وربات البيوت وأصحاب المحلات والأنشطة الاقتصادية ‏.‏

‏(‏7‏)‏ مراسلة الأغنياء وأصحاب الثروات لحثهم على الإنفاق والبذل في سبيل خدمة الدين أو إخراج الزكاة للفقراء والمساكين والمستحقين ‏.‏

‏(‏8‏)‏ أما بالنسبة للعناوين فيمكن الاعتماد على المجلات التي تعلن عن عناوين بعض الممثلين والمغنين أو لاعبي الكرة ، أو بالاستفسار من الدليل أو غير ذلك من الأساليب والسبل ‏.‏

‏(‏9‏)‏ من الأفضل للهيئات التي تخصص مكتبا إعلاميا للمراسلة أن تضع خططا وتصورات واضحة لنشاطها بحيث يراعى معقولية الهدف والغاية وواقعية الوسيلة مع مراقبة الأداء وإصلاحه كلما أمكن ‏.‏

‏(‏10‏)‏ استخدام المراسلة للإعلان عن الأنشطة الدعوية كالدروس والمحاضرات والندوات والمؤتمرات سواء عبر البريد العادي أو الإلكتروني على صفحات الإنترنت ‏.‏

‏(‏11‏)‏ مما ينبغي الاعتناء به ‏:‏ استغلال المناسبات المختلفة في المراسلة ، كالأعياد الشرعية ‏(‏ الفطر والأضحى ‏)‏ والمناسبات الاجتماعية كأفراح الزفاف للتهنئة أو مناسبات الجنائز للتعزية أو مناسبات نجاح الطلبة أو قدوم مولود جديد أو الفوز بجائزة علمية أو منصب مرموق ونحو ذلك ، فمراسلة أصحاب الشأن في هذه المناسبات مع إرفاق الرسالة بنصيحة تناسب المقام دور يسير ومؤثر لا ينبغي أن نغفل عنه ‏.‏

هذه جملة من الأفكار ، ما قصدت منها الحصر – كما أشرت – ولكن كان المراد فتح الآفاق تجاه وسيلة قد تكون غائبة عن التفكير الجماعي لمنظري الدعوة والمهتمين بشئونها ‏.‏

والمطلوب أن تقوم الدعوة في كل مكان باستخدام هذه الوسيلة مع مراعاة إمكانياتها وما هو أصلح لبرامجها ، مع اعتبار أن هذه الوسيلة كغيرها من الوسائل تخضع لضابط المصلحة والمفسدة الشرعية المعتبرة وما لهما من دور في تحديد القرار لتطبيق وسيلة من الوسائل ‏.‏

وقد يبدو لبعض الدعاة من هذا العرض أن طريقة المراسلة تحتاج إلى إمكانيات ضخمة تنوء بالعصبة أولي القوة ، وليس ذلك بالمقصود لما أسلفناه مرارا أننا صغنا هذه الطرق في خدمة الدين بما يتناسب مع قدرات كل فرد على حدة ، بحيث نفترض عدم وجود الإمكانات والمعونات ، فيستطيع كل داعية أن يقوم بدور ما في هذه الطريقة ‏.‏

وقد رأيت بعض الشباب المسلم الغيور يكتب رسائل تأييد ومناصحة وتثبيت للدعاة الذين تعرضوا لبـعض الضغوط والظلم ، لأنهم أحسوا أن مثل هذه الرسائل قد يكون لها دور بعيد المدى في رفع معنويات هؤلاء الدعاة ، فأكبرت فيهم هذا الفهم وحمدت الله أن وجد من بين شبيبة المسلمين من يحمل هم هذا الدين بل ويسعى بذمة دعاته وعلمائه ‏.‏

وليس من العسير أن يقوم بعض الأفراد في منطقة واحدة بالتعاون في بينهم لمراسلة تاركي الصلاة أو المجاهرين بالمعاصي أو قيام المتحجبات بمراسلة المتبرجات في الحي أو اللاتي يسببن خللا خلقيا أو رواجا لمظهر الفجور ‏.‏

كما أنه من اليسير جدا أن يراسل الفرد الواحد جريدة يقرؤها ويواظب عليها ، يناصحهم في انحراف صحفي عن جادة الحق أو في عرض صور مخلة بالآداب أو في التعرض لقطعيات الدين بقدح أو عيب ‏.‏

كل هذه الاقتراحات وغيرها مما لا يزال رهين عقول الدعاة الأذكياء الغيورين يمكن تطبيقه دون احتياج إلى إمكانيات ذات بال ، وبالنية الصادقة والعزيمة القوية يرتفع البنيان ويعلو ‏{‏ وإن الله لمع المحسنين ‏}‏ ‏.‏

الطريقة الثلاثون ‏:‏ المؤتمرات

‏(‏ الشورى بين الدعاة في أمور الدين ‏)‏

إن تماسك بنيان الجماعة المسلمة مؤسس على ركنين مهمين ، بهما يستقر الاجتماع ، وعليهما يتعاظم العمل والبذل ‏:‏

الأول ‏:‏ التعاون ، وعدم التفرق والاختلاف ‏.‏

الثاني ‏:‏ الشورى بين المسلمين ‏.‏

وقد نطق القرآن بهذه الأمرين حيث قال الله تعالى ‏:‏ ‏{‏ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ‏}‏ وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ‏}‏ وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ‏}‏ ، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ‏}‏ ‏.‏

وقد أعطينا الركن الأول ‏(‏التعاون وعدم التفرق ‏)‏ حظه من البحث والتنظير عند الكلام عن العمل الجماعي ، وبقي أن نجيل النظر في قضية الشورى التي ثار حولها الكثير من الجدل بين تيارات الدعوة الإسلامية على اختلاف اتجاهاتها ‏.‏

وقد فضلت أن أعنون للشورى بعنوان أساسي هو ‏:‏ ‏(‏ المؤتمرات ‏)‏ لأن المقصود تفصيل الوسائل الخادمة للدين وليس بحث المشكلات الدعوية لذاتها ، فليس إيثار عنوان ‏(‏ المؤتمرات ‏)‏ زهدا في اللفظ القرآني إذن ، إذ أن قضية الشورى من حيث هي مشكل سياسي دعوي ينبغي أن يبت في مسائلة الشائكة من خلال الإقرار بضرورة الاجتماع والتشاور والتباحث ، وإلا فإن ذات قضية الشورى ستبقى معلقة وغير محسومة ‏.‏

وكثير من الدعاة لا يزال ينظر إلى هذه القضية باعتبارها ترفا فكريا ينبغي أن ينأى بنفسه عنه ، والحقيقة أن قضية الشورى من أخطر المشكلات التي واجهت المسلمين عبر تاريخهم الطويل ، كما أنها القضية الأولى في جانب فقه السياسة الشرعية وإدارة شئون الدولة ، وغدت – لغياب الخلافة – قضية متصدرة في جانب فقه الدعوة وإدارة شئونها ‏.‏

وليس خافيا على أحد من الدعاة أن أهم المشكلات التي تواجه الدعاة هي حيرتهم تجاه القضايا التي تتفجر في الساحة ، بدءا من القضايا المصيرية مثل المواجهة مع قوى الظلم والعدوان كاليهود ومن عاونهم ومرورا بالقضايا ذات البعد التأثيري الغائر في المجتمع المسلم مثل كيفية مواجهة أثر الإعلام في تدين المسلمين أو محاربة الأفكار المنحرفة والضالة كالعلمانية والتشيع الغالي ‏(‏ وأعني به الرفـض ‏)‏ وانتهاء بالمسائل ذات الاهتمام المشترك بين جميع الناس مثل حكم التعامل مع البنوك الربوية والعمل في الفنادق ونحو ذلك مما يتكرر السؤال عنه ‏.‏

وإزاء هذا المشكل تبرز المؤتمرات كحل لهذه المشكلة ، وأنا أعني بلفظ المؤتمرات معناه اللغوي لا الاصطلاحي ، فليس ضروريا أن يضم المؤتمر مئات المشاركين ، كما أنه ليس جوهريا أن يعقد في صالة للمؤتمرات ، ولا أن يأخذ تنظيمه الطابع التقليدي الذي نراه أو نسمع عنه ‏(‏ وإن كان تنظيم المؤتمرات في حد ذاته أمرا محمودا بل قد يكون ضروريا ‏)‏ ، فكل اجتماع يعقده مجموعة من الدعاة للبحث والتشاور في أمر من أمور الدعوة فهو مؤتمر ويمكن أن نسميه اجتماعا ‏.‏

وعلى ذلك فصورة المؤتمرات التي ندعو إليها كوسيلة من وسائل خدمة الدين ‏:‏ هي الاجتماع الدائم بين الدعاة للتباحث والتشاور في قضايا الدعوة سواء اتخذوا رأيا موحدا أم لا ، وسواء ترتب على هذه الاجتماعات عمل أم لا ، فالتشاور والتباحث مقصود لذاته ‏.‏

ولعل سائلا يتعجب ‏:‏ كيف يكون التشاور مقصودا لذاته ‏؟‏‏!‏ والجواب أن هذا التشاور عامل مهم في تقريب الأفهام ووجهات النظر بين الدعاة ، بحيث تذوب به الحزازات بين الدعاة ، وتتعاظم مساحة القاسم المشترك الذي يجمع بينهم ، كما تتضاءل الفوارق ويضمحل سوء الظن ووسواس الصدر ، وتتجه الاهتمامات بعد إذا لتضييق الفجوات واتخاذ الخطوات البنّاءة ، بعيدا عن النقاش العقيم والنقد المفرغ من أهدافه ‏.‏

ولقد صارت المجتمعات المتمدنة تولي المؤتمرات اهتماما بالغا ، حيث أضحت هذه المؤتمرات علامة بارزة على قوة المجتمع وتماسكه وتطلعه إلى مستقبله بالخطو الرشيد ‏.‏

ولن تخطيء عيناك الندوات التي تعقدها كل الهيئات العلمية وغيرها لمنسوبيها بهدف رفع مستوى الوعي لدى هؤلاء تجاه القضية التي يدعون المتخصصين للحديث عنها ‏.‏

وقد بينا قبل أن هذه المؤتمرات يطلق عليها في اللسان الغربي ‏(‏ سمنار ‏)‏ حتى سرى استعمال اللفظ بين المتخصصين من أبناء اللسان العربي ، والحري أن يستبدلوه بلفظ المؤتمر البحثي أو الندوة أو ما شابه من الألفاظ العربية الأصيلة ‏.‏

وفي هذه المؤتمرات البحثية يتم دعوة المتخصصين من ذوي الخبرات للحديث عن القضية التي يراد بحثها ، ويتم مناقشة هؤلاء المتخصصين وسؤالهم والتحاور معهم بروح علمية موضوعية ‏.‏

وفي الغالب ما يتم ختم تلك المؤتمرات بقرارات وتوصيات وإعلان ، من شأن كل ذلك أن يكون خطوة مساهمة في أي مشروع يراد إقامته ، فكل شيء أقامه الإنسان على وجه الأرض إن هو إلا وليد فكرة تضافرت مع مثلها وغذتها العزيمة وطبقتها الإمكانيات المتاحة ‏.‏

وما أجدر الدعاة أن يتنادوا إلى مثل هذه المؤتمرات فيطرحوا على بساط البحث والمناقشة كل قضاياهم ومشكلاتهم ، ليس بالضرورة أن يجدوا لها حلا ناجعا ، فمجرد الاجتماع والتشاور سيكون له دور في وضع اللبنة الأولى لحل أي مشكل ‏.‏

وأصل الشورى يستند في التنظير السياسي الإسلامي إلى مبدأ النصيحة الذي بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يمثل ركنا مهما من الدين حيث قال ‏:‏ ‏(‏ الدين النصيحة ‏)‏ ، قلنا لمن يا رسول الله ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ‏)‏ ‏.‏

لكن الشورى الإسلامية تختلف عن نظرية الديمقراطيات الغربية التي تجعل الفرد العادي في المجتمع عضوا مشاركا في صنع السياسة العامة واتخاذ القرار حتى لو كان الشأن متعلقا بأساسيات الدين وقطعياته وحتى لو كان ذلك الفرد لين الديانة ‏.‏

فالشورى الإسلامية تحترم رأي كل مسلم وتعطيه الحق في التعبير عن رأيه ولكن في إطار نظام تصاعدي لا يخل بمبدأ التخصص ، ويمنع افتئات الحقوق وانتقاصها من ذويها مع جعل المصالح العامة للأمة فوق كل اعتبار ‏.‏

فليس مقبولا أن يناقش الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب مشروع قانون في الدولة – كما يحدث في بعض الدول – كما أنه ليس من المنطقي أن يتدخل مقدوحوا العدالة في وضع سياسة تربوية للأجيال الصاعدة ‏.‏

وقد رأينا المهزلة العالمية التي كان بطلها رئيس دولة خرق الآذان بكلامه عن مبادئ العدل الذي يجب أن يسود العالم وإذا به كهل بهيمي الشهوة افتضح أمره بين شعوب العالم ‏.‏

مثل هذه المشاركة الفوضوية تأباها شريعة الإسلام ، حرصا على النظام العام ومحافظة على كيان المجتمع من المتسلقين الوصوليين الذين يقدمون في الغالب مصالحهم الشخصية على مصلحة الأمة ‏.‏

كما أن الشورى التي نتحدث عنها لابد أن توجد السلام الاجتماعي المنشود ، لا أن تكون سببا للتهارج كما يحدث في الكرنفالات الانتخابية في دول العالم حيث يظهر لكل ذي لب أن المقصود بالانتخاب تحقيق مصالح شخصية أو فئوية يتقاتل دونها المنتخبون ، وتذهب مصالح الأمة أدراج الرياح أو تحت الأقدام ‏.‏

كما أننا يجب أن نفهم أن الشورى وسيلة وليست غاية ، وخلق وشيمة وليست شهوة وغريزة ، فممارس الشورى عندئذ لا بد أن يتحلى بآداب الشورى مثل ‏:‏

‏(‏1‏)‏ احترام القطعيات والأساسيات وعدم استنفاد المجهودات في نقض الثوابت ‏.‏

‏(‏2‏)‏ احترام الرأي المخالف وعدم تسفيهه إذا لم يتعارض مع الثوابت والقطعيات ‏.‏

‏(‏3‏)‏ سلوك السبيل السوية في الرد على آراء المخالفين واستحضار النيات الصالحة في التقويم والرد ‏.‏

‏(‏4‏)‏ عدم إهمال أخلاق الأخوة الإسلامية العالية مثل التسامح والبشاشة والابتسام في الوجه مما يورث مناخا وديا عند التشاور والتباحث ‏.‏

‏(‏5‏)‏ الالتزام برأي المجموع وعدم الخروج عليه أو قدحه حتى لو ظهر خطؤه بعد ذلك ، ومن أرقى الأخلاق في الشورى أن يمدح رأي المجموع وإن كان مخالفا لرأيه ويروجه بين الناس ‏.‏

إن تطبيق نظام الشورى الإسلامية في المؤتمرات الدعوية طريق ضرورية لتأهيل الدعاة لحمل مسئولية القيادة فيما بعد ، فإن هذه الشورى هي التي تضمن تكوين شخصية القائـد المنظـم العملي المتسامح ، وتختصر الشورى من شخصيات أصحابها حب السيطرة والأنانية ورؤية الذات ‏.‏

ويمكننا أن نصوغ كيفية تطبيق هذه الوسيلة في النقاط الآتية ‏:‏

‏(‏1‏)‏ تنمية الروح الجماعية واحترام مبدأ الشورى بين الدعاة خاصة وبين المنتمين للصحوة المباركة عامة ، واعتماد المناهج العلمية والتربوية التي تلمح هذا البعد ، مع محاولة تلقينه للأجيال الناشئة عبر الطرق التي ذكرناها في الطريقة الثالثـة بعد العشـرين ‏(‏ العناية بالأطفال ‏)‏ ‏.‏

‏(‏2‏)‏ تداول الأدبيات التي تغذي هذا الجانب بين الدعاة وفي الملتقيات العلمية كالخطب والدروس حتى يتحول مبدأ الشورى إلى عقيدة اجتماعية لا مجرد مظهر اعتيادي ‏.‏

‏(‏3‏)‏ أن تتعاهد الحركات الإسلامية على اعتماد مبدأ الشورى في آلياتها الحركية ، وأن تنبذ احتكار القرارات المصيرية ، وأن تُشعر الواقع الدعوي أنها تصدر في مواقفها عن آراء المتخصصين من أهل العلم المعتبرين ‏.‏

‏(‏4‏)‏ قيام المجموعات الدعوية في كل مكان بتكوين مجالس تنفيذية ، ومن أعمال هذه المجالس التنفيذية الاجتماع الدوري لمناقشة مستجدات العمل الدعوي ، ومتابعة الأنشطة المعتمدة ، والتحاور في إيجابيات وسلبيات الأداء الدعوي لتلك المجالس التنفيذية ‏.‏ ويسري هذا النظام على أي مجموعة تدعو إلى الله ولو صغرت ، فأمارة جديتها أن يتشاور أفرادها ، ويتحركوا تحركات مدروسة ، ويخطوا خطوات واضحة المعالم بينة المراحل جلية الأهداف والوسائل ‏.‏

‏(‏5‏)‏ أن يعمل الدعاة على اعتماد الأبحاث الإحصائية قبل تبنيهم لمواقف معينة ذات خطر ، فمن علامات الجهل والاستبداد والمخاطرة بمصير الدعوة أن تصدر المواقف دون سبر لاستعداد الناس للمشاركة في تبني ذات الموقف ‏.‏

وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أخذ رأي الأنصار قبل اتخاذ قرار المواجهة في غزوة بدر لأنهم الكثرة التي سيعتمد عليها في مواجهة قريش ، فلـما اطمأن إلى تأييدهم أصدر قرار الحرب وهو مطمئن لتأييد الصحابة أجمعين ‏.‏

‏(‏6‏)‏ تحديد مواعيد دورية للمؤتمرات والاجتماعات الدعوية ، والحرص على ألا تكون عشوائية الهدف والغاية ، مع مراعاة الجوانب التنظيمية لإنجاح تلك الاجتماعات ‏.‏

‏(‏7‏)‏ أصبح بالإمكان عقد المؤتمرات والاجتماعات عبر شبكات الإنترنت بحيث يتحدث مجموعة من الأفراد بالصوت والصورة ، مما يتيح قدرا من الأمان لتلك الاجتماعات في حق من يحال بينهم وبين عقدها بصورة علنية ‏.‏

‏(‏8‏)‏ يفضل أن تعلن توصيات المؤتمرات العامة وتنشر بين قطاعات الصحوة حتى يتبنى الأفراد توجهات القادة ‏.‏

‏(‏9‏)‏ يفضل للمؤتمرات الدعوية الكبرى أن تعقد بدون إشراف حكومي حتى تكون في مأمن من الضغوط المعروفة ، وحتى تعتمد الشفافية المطلوبة لتحقيق مصداقيتها لدى قطاعات الصحوة ‏.‏

‏(‏10‏)‏ الوقوف بحزم أمام الشخصيات المريضة التي تشغّب في المؤتمرات ، وعدم إتاحة الفرصة لها لإفساد الجمع أو تحزيب المجتمعين ‏.‏

‏(‏11‏)‏ تكريم الشخصيات الدعوية الناشطة والتنويه بجهودها وإجلال بذلها من باب ‏:‏ ‏(‏ من لا يشكر الناس لا يشكر الله ‏)‏ ‏.‏

‏(‏12‏)‏ الاجتهاد في عقد المؤتمرات العالمية لشرح قضية الإسلام للناس ، ومواجهة حملات التشويه التي تمارس ضد الصحوة المباركة ، وتجديد دعوة الأنبياء والرسل بالجهر بنداء التوحيد عبر المنابر العالمية لإقامة الحجة لله تبارك وتعالى والإعذار بأداء الأمانة ‏.‏

‏(‏13‏)‏ تبني ميثاق عمل إسلامي بين الحركات الإسلامية لعقد المؤتمرات التي تفيد المسلمين ، بحيث يظهر المسلمون كقوة ذات شأن ‏.‏

‏(‏14‏)‏ استغلال تلك المؤتمرات في التبرؤ من المذاهب الضالة والاتجاهات المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة ، والتي تتمسح بالإسلام وأهله ، حتى يعتمد الناس معايير أهل الصحوة المباركة في تقويم الاتجاهات الجديدة ‏.‏

‏(‏15‏)‏ محاولة حشد تأييد علماء العصر وأئمة الدين من أهل السنة لتلك المؤتمرات حتى تغدو هذه المؤتمرات ذات مرجعية علمية دعوية عالمية ينظر إليها المسلمون نظرة إجلال واحترام ‏.‏

وبعد ‏.‏‏.‏ فإن هذا الجانب لا تكفيه مثل هذه العناصر المجملة ، ولكنه يحتاج إلى صياغة آليات تتناسب مع كل مجموعة دعوية على حدة ، وحسبي أنني قدمت الأفكار العامة داعيا طاقات المبدعين من الكتاب أن يفصلوا المجمل وأن يقدموا للناس تصورات مختلفة لتطبيق هذه الوسيلة المهمة ‏.‏

ومن آمالي أن أرى شبيبة الإسلام تعتمد نهج الشورى في عملها الدعوي دق أو جل ، وتقديم صورة عملية للدعوة المنظمة التي تمارس العمل الدعوي بطرق راقية الأسلوب ، وأن تنبذ العشوائية والاستبدادية ، وأن تعظم آراء أهل العلم وتحترم أفكار المتخصصين ، وأن يسود بينهم الخطاب العلمي في تناول الآراء دون الخطاب العاطفي ‏.‏

وبعد ‏.‏‏.‏ أيضا ‏.‏‏.‏ فإن دعوتنا تستحق منا الصمود أمام كل العوائق التي تعوق تطوير أداء الدعاة ، كما تستحق منا أن نؤمن أن نمو ورقي الأساليب الدعوية هو من شروط نجاح الدعـوة نفسها ‏.‏

فلتَصْفُ القلوب وَتُنَقَّ من أغراضها ، ولْتَعْنُ الوجوه جميعا للحي القيوم ، ولْتَصْطَفَّ الأقدام في جادة واحدة ، وتتشابك الأيدي والسواعد في نسق جامع ، وليكن لسان حال دعاتنا ‏:‏

هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل

فصفوا الجحافل آساده ودكوا به دولة الباطل