فصل: مقدمة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك يا من شواهد آياته غنية عن الشرح والبيان، ودلائل توحيده متلوة بكل لسان‏.‏ صل وسلم على رسولك محمد المؤيد بقواطع الحجج والرهان، وعلى آله وصحبه الباذلين مهجهم في نصر دينه على سائر الأديان‏.‏ صلاة وسلاماً دائمين على ممر الأزمان‏.‏

أما بعد فيقول المفتقر إلى معونة ربه الهادي، عبد القادر بن عمر البغدادي‏:‏ هذا شرح شواهد الكافية لنجم الأئمة ، وفاضل هذه الأمة، المحقق محمد بن الحسن، الشهير بالرضي الأستراباذي، عفا الله عنه ورحمه‏.‏ وهو كتاب عكف عليه نحارير العلماء، ودقق النظر فيه أماثل الفضلاء؛ وكفاه من الشرف والمجد، ما اعترف به السيد والسعد؛ لما فيه من أبحاث أنيقة، وأنظار دقيقة؛ وتقريرات رائقة، وتوجيهات فائقة؛ حتى صارت بعده كتب النحو كالشريعة المنسوخة، وكالأمة الممسوخة؛ إلا أن أبياته التي استشهد بها - وهي زهاء ألف بيت - كانت محلولة العقال ظاهرة الإشكال لفحوص معناه وخفاء فظرها وقد انضم إليها التحريف، وبان عليها أثر التصحيف‏.‏ وكنت ممن مرن في علم الأدب، حتى صار يلبيه من كثب؛ وأفرغ في تحصيله جهده، وبذل فيه وكده وكده؛ وجمع دواوينه، وعرف قوانينه، واجتمع عنده بفضل الله من الأسفار، ما لم يجتمع عند أحد في هذه الأعصار؛ فشمرت عن ساعد الجد والاجتهاد، وشرعت في شرحها على وفق المنى والمراد‏.‏ فجاء بحمد الله حائز المفاخر والمحامد، فائقاً على جميع شروح الشواهد؛ فهو جدير بأن يسمى‏:‏ خزانة الأدب، ولب لباب لسان العرب وقد عرضت فيه بضاعتي للامتحان، وعنده يكرم المرء ويهان‏:‏

على أنني راض بأن أحمل الهوى *** وأخلص منه لا علي ولا ليا

وقد جعلته هدية لسدة هي مقبل شفاه الأقيال، ومخيم سرادق المجد والإقبال‏:‏ حضرة سيد ملوك بني آدم، وواسطة عقد سلاطين العالم، ملك ألبس الدنيا خلع الجمال والكمال، وأحيا داثر الأماني والآمال‏.‏ حامي بيضة الإسلام بالصارم الصمصام وناشر أعلام الشريعة الفراء والملة الحنيفية البيضاء، ومرغم أنوف الفراعين، ومعفر تيجان الخواقين، خليفة رب السموات والأرضين، ظل الله على العالمين، وقطب الخلافة في الدنيا والدين، خادم الحرمين الشريفين، وسلطان المشرقين، الغازي في سبيل الله، والمجاهد لإعلاء كلمة الله، ألا وهو السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي محمد خان ابن السلطان إبراهيم خان ، نخبة آل عثمان‏.‏ خلد الله ظلال خلافته السابغة الوارفة، وأفاض على العالمين سجال رأفته المترادفة‏.‏ ويسر له النصر المتين، وسهل له الفتح المبين، بجاه حبيبه ورسوله محمد الأمين‏.‏ آمين‏.‏

وهاهنا مقدمة تشتمل على أمور ثلاثة ينبغي ذكرها أمام الشروع في المقصود، فنقول بعون الله المعبود‏:‏

الأمر الأول شواهد اللغة والنحو والصرف

في الكلام الذي يصح الاستشهاد به في اللغة والنحو والصرف ‏.‏

قال الأندلسي في شرح بديعية رفيقه ابن جابر‏:‏ علوم الأدب ستة‏:‏ اللغة والصرف والنحو، والمعاني والبيان والبديع؛ والثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب، دون الثلاثة الأخيرة فإنه يستشهد فيها بكلام غيرهم من المولدين، لأنها راجعة إلى المعاني، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم، إذ هو أمر راجع إلى العقل، ولذلك قبل من أهل هذا الفن الاستشهاد بكلام البحتري، وأبي تمام، وأبي الطيب وهلم جراً ‏.‏

وأقول‏:‏ الكلام الذي يستشهد به نوعان‏:‏ شهر وغيره‏:‏ فقائل الأول قد قسمه العلماء على طبقات أربع‏:‏ الطبقة الأولى‏:‏ الشعراء الجاهليون، وهم قبل الإسلام، كامرئ القيس والأعشى‏.‏

الثانية‏:‏ المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، كلبيد وحسان‏.‏

الثالثة‏:‏ المتقدمون، ويقال لهم الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام، كجرير والفرزدق‏.‏

الرابعة‏:‏ المولدون، ويقال لهم المحدثون، وهم من بعدهم إلى زماننا، كبشار ابن برد وأبي نواس‏.‏

فالطبقتان الأوليان يستشهد بشعرهما إجماعاً‏.‏ وأما الثالثة فالصحيح صحة الاستشهاد بكلامها‏.‏

وقد كان أبو عمرو بن العلاء، وعبد الله بن أبي إسحاق، والحسن البصري، وعبد الله بن شبرمة، يلحنون الفرزدق والكميت وذا الرمة وأضرابهم، كما سيأتي النقل عنهم في هذا الشرح إن شاء الله، في عدة أبيات أخذت عليهم ظاهراً؛ وكانوا يعدونهم من المولدين لأنهم كانوا في عصرهم، والمعاصرة حجاب‏.‏

قال ابن رشيق في العمدة‏:‏ كل قديم من الشعراء فهو محدث في زمانه بالإضافة إلى من كان قبله‏.‏ وكان أبو عمرو يقول‏:‏ لقد أحسن هذا المولد حتى لقد هممت أن آمر صبياننا برواية شعره - يعني بذلك شعر جرير والفرزدق - فجعله مولداً بالإضافة إلى شعر الجاهلية والمخضرمين‏.‏ وكان لا يعد الشعر إلا ما كان للمتقدمين، قال الأصمعي‏:‏ جلست إليه عشر حجج، فما سمعته يحتج ببيت إسلامي ‏.‏

وأما الرابعة فالصحيح أنه لا يستشهد بكلامها مطلقاً؛ وقيل يستشهد بكلام من يوثق به منهم، واختاره الزمخشري، وتبعه الشارح المحقق؛ فإنه استشهد بشعر أبي تمام في عدة مواضع من هذا الشرح‏.‏

واستشهد الزمخشري أيضاً في تفسير أوائل البقرة من الكشاف ببيت من شعره، وقال‏:‏ وهو إن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فأجعل ما يقوله بمنزل ما يرويه‏.‏ ألا ترى إلى قول العلماء‏:‏ الدليل عليه بيت الحماسة، فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه ‏.‏

واعترض عليه بأن قبول الرواية مبني على الضبط والوثوق، واعتبار القول مبني على معرفة أوضاع اللغة العربية والإحاطة بقوانينها، ومن البين أن إتقان الرواية لا يستلزم إتقان الدراية‏.‏ وفي الكشف أن القول رواية خاصة، فهي كنقل الحديث بالمعنى‏.‏

وقال المحقق التفتازاني في القول بأنه بمنزلة نقل الحديث بالمعنى‏:‏ ليس بسديد، بل هو بعمل الراوي أشبه، وهو لا يوجب السماع، إلا ممن كان من علماء العربية الموثوق بهم، فالظاهر أنه لا يخالف مقتضاها، فإن استؤنس به ولم يجعل دليلاً، لم يرد عليه ما ذكر ولا ما قيل، من أنه لو فتح هذا الباب لزم الاستدلال بكل ما وقع في كلام علماء المحدثين كالحريري وأضرابه، والحجة فيما رووه لا فيما رأوه‏.‏ وقد خطأوا المتنبي وأبا تمام والبحتري في أشياء كثيرة كما هو مسطور في شروح تلك الدواوين‏.‏

وفي الاقتراح للجلال السيوطي‏:‏ أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين في اللغة والعربية‏.‏ وفي الكشاف ما يقتضي تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة ورواتها، فإنه استشهد على مسألة بقول أبي تمام الطائي‏.‏ وأول الشعراء المحدثين بشار بن برد، وقد احتج سيبويه ببعض شعره تقرباً إليه، لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره، ذكره المرزباني وغيره‏.‏ ونقل ثعلب عن الأصمعي أنه قال‏:‏ ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة وهو آخر الحجج ‏.‏

وكذا عد ابن رشيق في العمدة طبقات الشعراء أربعاً، قال‏:‏ هم جاهلي قديم، ومخضرم، وإسلامي، ومحدث‏.‏ قال‏:‏ ثم صار المحدثون طبقات أولى وثانية على التدرج هكذا في الهبوط إلى وقتنا هذا‏.‏

وجعل الطبقات بعضهم ستاً، وقال‏:‏ الرابعة المولدون، وهم من بعد المتقدمين كمن ذكر، والخامسة المحدثون، وهم من بعدهم كأبي تمام والبحتري، والسادسة المتأخرون، وهم من بعدهم كأبي الطيب المتنبي‏.‏

والجيد هو الأول، إذ ما بعد المتقدمين لا يجوز الاستدلال بكلامهم، فهم طبقة واحدة، ولا فائدة في تقسيمهم‏.‏

وأما قائل الثاني فهو إما ربنا تبارك وتعالى، فكلامه - عز اسمه - أفصح كلام وأبلغه، ويجوز الاستشهاد بمتواتره وشاذه، كما بينه ابن جني في أول كتابه المحتسب وأجاد القول فيه؛ وإما بعض إحدى الطبقات الثلاث الأول من طبقات الشعراء التي قدمناها‏.‏

وأما الاستدلال بحديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد جوزه ابن مالك وتبعه الشارح المحقق في ذلك، وزاد عليه بالاحتجاج بكلام أهل البيت رضي الله عنهم‏.‏ وقد منعه ابن الضائع وأبو حيان، وسندهما أمران‏:‏ أحدهما أن الأحاديث لم تنقل كما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما رويت بالمعنى‏.‏

وثانيهما أن أئمة النحو المتقدمين من المصرين لم يحتجوا بشيء منه‏.‏

ورد الأول - على تقدير تسليمه - بأن النقل بالمعنى إنما كان في الصدر الأول قبل تدوينه في الكتب، وقبل فساد اللغة، وغايته تبديل لفظ بلفظ‏.‏ يصح الاحتجاج به، فلا فرق‏.‏ على أن اليقين غير شرط، بل الظن كاف‏.‏

ورد الثاني بأنه لا يلزم من عدم استدلالهم بالحديث عدم صحة الاستدلال به، والصواب جواز الاحتجاج بالحديث للنحوي في ضبط ألفاظه‏.‏ ويلحق به ما روي عن الصحابة وأهل البيت، كما صنع الشارح المحقق‏.‏

وإن شئت تفصيل ما قيل في المنع والجواز، فاستمع لما ألقيه بإطناب دون إيجاز‏:‏ قال أبو الحسن ابن الضائع في شرح الجمل‏:‏ تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة - كسيبويه وغيره - الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث، واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب، ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى في الحديث لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب‏.‏ قال‏:‏ وابن خروف يستشهد بالحديث كثيراً، فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن، وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئاً وجب عليه استدراكه فليس كما رأى ‏.‏

وقال أبو حيان في شرح التسهيل‏:‏ قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الأحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب‏.‏ وما رأيت أحداً من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره‏.‏ على أن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب - كأبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر والخليل وسيبويه من أئمة البصريين، والكسائي والفراء وعلي بن المبارك الأحمر وهشام الضرير من أئمة الكوفين - لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على ذلك المسلك المتأخرون من الفريقين، وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد وأهل الأندلس‏.‏ وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء فقال‏:‏ إنما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في إثبات القواعد الكلية‏.‏ وإنما كان ذلك لأمرين‏:‏ أحدهما أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم تقل بتلك الألفاظ جميعها‏:‏ نحو ما روي من قوله‏:‏ زوجتكها بما معك من القرآن ملكتكها بما معك من القرآن ، خذها بما معك من القرآن ، وغير ذلك من الألفاظ الواردة، فنعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ، بل لا نجزم بأنه قال بعضها إذ يحتمل أنه قال لفظاً مرادفاً لهذه الألفاظ غيرها ، فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب، ولا سيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطها بالكتابة، والاتكال على الحفظ‏.‏ والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جداً لا سيما في الأحاديث الطوال‏.‏ وقد قال سفيان الثوري‏:‏ إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى ‏.‏ ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم العلم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى‏.‏ الأمر الثاني‏:‏ أنه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لأن كثيراً من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو ، فوقع اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون، ودخل في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب‏.‏ ونعلم قطعاً من غير شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب فلم يكن يتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها، وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز، وتعليم الله ذلك له من غير معلم‏.‏ والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقباً بزعمه على النحويين؛ وما أمعن النظر في ذلك، ولا صحب من له التمييز‏.‏ وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة - وكان ممن أخذ عن ابن مالك - قلت له‏:‏ يا سيدي، هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول‏.‏ فلم يجب بشيء‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتدئ‏:‏ ما بال النحويين يستدلون بقول العرب، وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول، كالبخاري ومسلم وأضرابهما‏؟‏‏!‏ فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث ‏.‏

وتوسط الشاطبي فجوز الاحتجاج بالأحاديث التي اعتني بنقل ألفاظها‏.‏ قال في شرح الألفية ‏:‏

لم نجد أحداً من النحويين استشهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يستشهدون بكلام أجلاف العرب وسفهائهم، الذين يبولون على أعقابهم، وأشعارهم التي فيها الفحش والخنى، ويتركون الأحاديث الصحيحة، لأنها تنقل بالمعنى، وتختلف رواياتها وألفاظها، بخلاف كلام العرب وشعرهم، فإن رواته اعتنوا بألفاظها، لما ينبني عليه من النحو، ولو وقفت على اجتهادهم قضيت منه العجب، وكذا القرآن ووجوه القراءات‏.‏

وأما الحديث فعلى قسمين‏:‏ قسم يعتني ناقله بمعناه دون لفظه، فهذا لم يقع به استشهاد أهل اللسان‏.‏ وقسم عرف اعتناء ناقله بلفظه لمقصود خاص؛ كالأحاديث التي قصد بها بيان فصاحته صلى الله عليه وسلم، ككتابه لهمدان، وكتابه لوائل بن حجر، والأمثال النبوية؛ فهذا يصح الاستشهاد به في العربية‏.‏ وابن مالك لم يفصل هذا التفصيل الضروري الذي لابد منه، وبنى الكلام على الحديث مطلقاً؛ ولا أعرف له سلفاً إلا ابن خروف؛ فإنه أتى بأحاديث في بعض المسائل حتى قال ابن الضائع‏:‏ لا أعرف هل يأتي بها مستدلاً بها، أم هي لمجرد التمثيل‏؟‏ والحق أن ابن مالك غير مصيب في هذا، فكأنه بناه على امتناع نقل الحديث بالمعنى، وهو قول ضعيف ‏.‏

وقد تبعه السيوطي في الاقتراح ‏.‏ قال فيه‏:‏ وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما أثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادر جداً، إنما يوجد في الأحاديث القصار على قلة أيضاً، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدت إليه عباراتهم، فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظاً بألفاظ؛ ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مروياً على أوجه شتى بعبارات مختلفة، ومن ثم أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث ‏.‏

ثم نقل كلام ابن الضائع وأبي حيان وقال‏:‏ ومما يدل على صحة ما ذهبا إليه،‏.‏‏.‏‏.‏أن ابن مالك استشهد على لغة أكلوني البراغيث بحديث الصحيحين‏:‏ يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ‏.‏ وأكثر من ذلك حتى صار يسميها لغة يتعاقبون‏.‏ وقد استشهد به السهيلي، ثم قال‏:‏ لكني أنا أقول‏:‏ إن الواو فيه علامة إضمار، لأنه حديث مختصر‏.‏ رواه البزار مطولاً‏.‏ فقال فيه‏:‏ إن لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم‏:‏ ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ‏.‏ وقال ابن الأنباري - في الإنصاف - في منع أن في خبر كاد ‏.‏ وأما حديث كاد الفقر أن يكون كفراً فإنه من تغيير الرواة، لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد ‏.‏

وقد رد هذا المذهب الذي ذهبوا إليه البدر الدماميني في شرح التسهيل ، ولله دره‏!‏ فإنه قد أجاد في الرد، قال‏:‏ وقد أكثر المصنف من الاستدلال بالأحاديث النبوية، وشنع أبو حيان عليه وقال‏:‏ إن ما استند إليه من ذلك لا يتم له، لتطرق احتمال الرواية بالمعنى، فلا يوثق بأن ذلك المحتج به لفظه عليه الصلاة والسلام حتى تقوم به الحجة‏.‏ وقد أجريت ذلك لبعض مشايخنا فصوب رأي ابن مالك فيما فعله، بناء على أن اليقين ليس بمطلوب في هذا الباب، وإنما المطلوب غلبة الظن الذي هو مناط الأحكام الشرعية، وكذا ما يتوقف عليه من نقل مفردات الألفاظ وقوانين الإعراب، فالظن في ذلك كله كاف‏.‏ ولا يخفى أنه يغلب على الظن أن ذلك المنقول المحتج به لم يبدل، لأن الأصل عدم التبديل، لاسيما والتشديد في الضبط، والتحري في نقل الأحاديث، شائع بين النقلة والمحدثين‏.‏ ومن يقول منهم بجواز النقل بالمعنى فإنما هو عنده بمعنى التجويز العقلي الذي لا ينافي وقوع نقيضه، فلذلك تراهم يتحرون في الضبط ويتشددون، مع قولهم بجواز النقل بالمعنى؛ فيغلب على الظن من هذا كله أنها لم تبدل، ويكون احتمال التبديل فيها مرجوحاً، فيلغى ولا يقدح في صحة الاستدلال بها‏.‏ ثم إن الخلاف في جواز النقل بالمعنى إنما هو فيما لم يدون ولا كتب، وأما ما دون وحصل في بطون الكتب فلا يجوز تبديل ألفاظه من غير خلاف بينهم‏.‏ قال ابن الصلاح بعد أن ذكر اختلافهم في نقل الحديث بالمعنى‏:‏ إن هذا الخلاف لا نراه جارياً ولا أجراه الناس - فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه لفظاً آخر ‏.‏

وتدوين الأحاديث والأخبار بل وكثير من المرويات، وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة العربية، حين كان كلام أولئك المبدلين على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ بلفظ يصح الاحتجاج به، فلا فرق بين الجميع في صحة الاستدلال؛ ثم دون ذلك المبدل - على تقدير التبديل - ومنع من تغيره ونقله بالمعنى، كما قال ابن الصلاح، فبقي حجة في بابه‏.‏ ولا يضر توهم ذلك السابق في شيء من استدلالهم المتأخر، والله أعلم بالصواب كلام الدماميني‏.‏

وعلم مما ذكرنا - من تبيين الطبقات التي يصح الاحتجاج بكلامها - أنه لا يجوز الاحتجاج بشعر ونثر لا يعرف قائله، صرح بذلك ابن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف ؛ وعلة ذلك مخافة أن يكون ذلك الكلام مصنوعاً، ولمولد، ولمن لا يوثق بكلامه‏.‏

ولهذا اجتهدنا في تخريج أبيات الشرح، وفحصنا عن قائليها، حتى عزونا كل بيت إلى قائله - إن أمكننا ذلك - ونسبناه إلى قبيلته وفصيلته، وميزنا الإسلامي عن الجاهلي، والصحابي عن التابعي، وهلم جراً، وضممنا إلى البيت ما يتوقف عليه معناه؛ وإن كان من قطعة نادرة وقصيدة عزيزة، أوردناها كاملة، وشرحنا غريبها ومشكلها، وأوردنا سببها ومنشأها؛ كل ذلك بالضبط والتقييد، ليعم النفع، ويؤمن التحريف والتصحيف، وليوثق بالشاهد لمعرفة قائله، ويدفع احتمال ضعفه‏.‏

قال ابن النحاس في التعليقة‏:‏ أجاز الكوفيون إظهار أن بعد كي واستشهدوا بقول الشاعر‏:‏

أردت لكيما أن تطير بقربتي *** فتتركها شنا ببيداء بلقع

قال‏:‏ والجواب أن هذا البيت لا يعرف قائله، ولو عرف لجاز أن يكون من ضرورة الشعر ‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ذهب الكوفيون إلى جواز دخول اللام في خبر لكن ، واحتجوا بقوله‏:‏

ولكنني من حبها لعميد

والجواب أن هذا البيت لا يعرف قائله ولا أوله، ولم يذكر منه إلا هذا، ولم ينشده أحد ممن وثق في اللغة، ولا عزي إلى مشهور بالضبط والإتقان ‏.‏

ويؤخذ من هذا أن الشاهد المجهول قائله وتتمته، إن صدر من ثقة يعتمد عليه قبل، وإلا فلا‏.‏ ولهذا كانت أبيات سيبويه أصح الشواهد، اعتمد عليها خلف بعد سلف، مع أن فيها أبياتاً عديدة جهل قائلوها، وما عيب بها ناقلوها‏.‏ وقد خرج كتابه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه وكيده، ونظر فيه وفتش، فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادعى أنه أتى بشعر منكر‏.‏ وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها، ولا ردوا حرفاً منها‏.‏

قال الجرمي‏:‏ نظرت في كتاب سيبويه فإذا فيه ألف وخمسون بيتاً، فأما الألف فقد عرفت أسماء قائليها فأثبتها، وأما الخمسون فلم أعرف أسماء قائليها ‏.‏

فاعترف بعجزه ولم يطعن عليه بشيء‏.‏

وقد روي هذا الكلام لأبي عثمان المازني أيضاً‏.‏

ولكون أبياته أصح الشواهد، التزمنا في هذا الشرح أن ننص على ما وجد فيه منها بيتاً بيتاً، ونميزها عن غيرها، ليرتفع شأنها ويظهر رجحانها‏.‏ وربما روي البيت الواحد من أبياته وغيرها على أوجه مختلفة، ربما لا يكون موضع الشاهد في بعضه وجميعها، ولا ضير في ذلك، لأن العرب كان بعضهم ينشد شعره للآخر فيرويه على مقتضى لغته التي فطره الله عليها، وبسببه تكثر الروايات في بعض الأبيات، فلا يوجب ذلك قدحاً فيه ولا غضاً منه‏.‏ فإذا وقع في هذا الشرح من ذلك شيء نبهنا عليه‏.‏

والتزمنا في شرح هذه الشواهد عدها واحداً بعد واحد، ليسهل موضع الحوالة فيه، ويزول التعب عن متعاطيه‏.‏

الأمر الثاني في ذكر المواد التي اعتمدنا عليها وانتقينا منهاضروبا وأجناسا‏:‏

فمنها ما يرجع إلى علم النحو وهو كتاب س‏.‏ والأصول لابن السراج‏.‏ ومعاني القرآن للفراء‏.‏ ومعاني القرآن للزجاج‏.‏ وتآليف أبي علي الفارسي‏:‏ ك التذكرة القصرية ، والمسائل البغدادية ، والمسائل العسكرية ، والمسائل البصرية ، والمسائل المنثورة ، ونقض الهاذور على ابن خالويه ، وكتاب الشعر ‏.‏ وتآليف تلميذه ابن جني‏:‏ ك الخصائص ، والمحتسب ، ووشرح تصريف المازني ، وسر الصناعة ، وإعراب الحماسة ، والمبهج في شرح أسماء شعرائها وشرح ديوان المتنبي ‏.‏ والإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري‏.‏ وتذكرة أبي حيان، وارتشاف الضرب له أيضاً‏.‏ والضرائر الشعرية لابن عصفور‏.‏ والأمالي لابن الحاجب‏.‏ والأمالي لابن الشجري‏.‏ وشروح الكافية ‏.‏ وشروح التسهيل ‏.‏ ومغني اللبيب ، وشروحه‏.‏ وغير ذلك من المتداول‏.‏

ومنها ما يرجع إلى شروح الشواهد وهو شرح أبيات الكتاب‏:‏ لأبي جعفر النحاس، وللأعلم الشنتمري، ولابن خلف، ولأبي محمد الأعرابي المسمى فرحة الأديب ‏.‏ وشرح أبيات الجمل لابن السيد البطليوسي، ولابن هشام اللخمي، ولغيرهما‏.‏ وشرح أبيات المفصل لابن المستوفي الإربلي، ولبعض علماء العجم المسمى بالتخمير‏.‏ وشرح أبيات شروح ألفية ابن مالك للعيني، وشرح أبيات ابن الناظم لابن هشام الأنصاري، ولم يكمل‏.‏ وشرح أبيات الكشاف للحموي‏.‏ وشرح أبيات التفسيرين لخضر الموصلي‏.‏ وشرح أبيات الإيضاح والمفتاح في علم المعاني ‏.‏ وشرح أبيات التخليص للعباسي‏.‏ وشرح أبيات إصلاح المنطق ليوسف بن السيرافي‏.‏ وشرح أبيات الغريب المصنف له أيضاً‏.‏ وشرح أبيات أدب الكاتب للجواليقي، ولابن السيد البطليوسي، وللبلي‏.‏ وشرح أبيات الآداب المسمى ب العباب وغير ذلك‏.‏

ومنها ما يرجع إلى تفسير أبيات المعاني المشكلة ، وهو أبيات المعاني للأخفش المجاشعي؛ وأبيات المعاني للأشنانداني بخط ابن جني وعليها أجازة أبي علي له‏.‏ وأبيات المعاني لابن السكيت‏.‏ وأبيات المعاني لابن قتيبة في مجلدين ضخمين‏.‏ وأبيات المعاني لابن السيد البطليوسي وغير ذلك‏.‏

ومنها ما يرجع إلى دفاتر أشعار العرب وهو قسمان‏:‏ دواوين ومجاميع فالأول‏:‏ ديوان امرئ القيس الكندي، وديوان الأعشى ميمون، وديوان علقمة الفحل، وديوان ابن حلزة، وديوان أبي دواد الإيادي، وديوان طرفة ابن العبد، وديوان عمرو بن قميئة، وديوان طفيل الغنوي، وديوان عامر بن الطفيل، وديوان بشر بن أبي خازم، وديوان أوس بن حجر، وديوان أعشى باهله، وديوان عوف بن عطية بن الخرع، وديوان مطير بن الأشيم، وديوان الحادرة، وديوان المثقب العبدي، وديوان لقيط بن يعمر الإيادي، وديوان نابغة بني شيبان، وديوان النابغة الذبياني، وديوان زهير بن أبي سلمى، وديوان أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن شعر الصحابة‏:‏ ديوان حسان بن ثابت، وديوان لبيد بن ربيعة العامري، وديوان كعب بن زهير، وديوان حميد بن ثور، وديوان أبي محجن الثقفي، وديوان النمر بن تولب، وديوان عمرو بن معد كرب، وديوان خفاف بن ندبة، وديوان الخنساء أخت صخر، وغير ذلك‏.‏ ومن شعر الإسلاميين‏:‏ ديوان رافع بن هريم اليربوعي، وديوان القطامي، وديوان جران العود، وديوان محمد بن بشير الخارجي، وديوان ابن همام السلولي، وديوان الشماخ، وديوان عدي بن الرقاع، وديوان عروة بن حزام العذري، وديوان عبيد الله الهذلي، وديوان أبي دهبل الجمحي، وديوان الحطيئة، وديوان عمرو بن الأهتم المنقري، وديوان ابن قيس الرقيات، وديوان الفرزدق، وديوان جرير، وديوان الأخطل النصراني، وديوان ذي الرمة، وديوان جميل العذري، وديوان المغيرة بن حبناء، وديوان رجز رؤبة بن العجاج، وديوان رجز الزفيان السعدي، وديوان رجز أبي الأخزر الحماني وغير ذلك‏.‏ ومن دواوين المولدين والمحدثين ديوان مسلم بن الوليد، وديوان ابن الوكيع، وديوان العباس بن الأحنف، وديوان علي بن جبلة الطوسي، وديوان أبي نواس، وديوان ابن المعتز، وديوان ابن الرومي، وديوان أبي تمام الطائي، وديوان البحتري، وديوان الشريف المرتضى، وديوان المتنبي، وديوان أبي فراس الحمداني، وغير ذلك‏.‏ والمجاميع منها أشعار بني محارب للشيباني‏.‏ والمفضليات للمفضل الضبي‏.‏ وأشعار الهذليين للسكري وشرحها له، وللإمام المرزوقي‏.‏ وأشعار لصوص العرب للسكري أيضاً‏.‏ والنقائض لابن حبيب‏.‏ ومختار شعر الشعراء الستة‏:‏ امرئ القيس والنابغة وعلقمة وزهير وطرفة وعنترة، وشرحها للأعلم الشنتمري‏.‏ وأشعار تغلب لأبي عمرو الشيباني‏.‏ ومختار شعراء القبائل لأبي تمام، والحماسة أيضاً وشرحها للنمري وأبي محمد الأعرابي وللإمام المرزوقي، وللخطيب التبريزي، ولأبي الفضل الطبرسي‏.‏ والحماسة البصرية ، وحماسة الشريف الحسني ، وحماسة الأعلم الشنتمري ، وأشعار النساء للمرزباني‏.‏ وشروح المعلقات لابن النحاس، وللزوزني، وللخطيب التبريزي‏.‏ وجمهرة أشعار العرب ‏.‏ ومنتهى الطلب من أشعار العرب‏:‏ فيه أكثر من ألف قصيدة‏.‏ واليتيمة للثعالبي‏.‏ وكتاب المغربين ، وكتاب النساء الفوارك ، وكتاب النساء النواشز ؛ والثلاثة للمدائني‏.‏ والمجتنى لابن دريد‏.‏ وشروح لامية العرب‏:‏ للخطيب التبريزي، وللزمخشري، ولغيرهما‏.‏ وشرح بانت سعاد لابن الأنباري، ولأبي العباس الأحول، ولابن خالويه، ولابن هشام الأنصاري، ولابن كتيلة البغدادي‏.‏ وشرح البردة لابن مرزوق‏.‏ وغير ذلك‏.‏ ومن المجاميع‏:‏ النوادر والأمالي‏.‏

أما النوادر فهي نوادر أبي زيد الأنصاري وشرحها لأبي الحسن الأخفش ولغيره‏.‏ ونوادر ابن الأعرابي ، وشرحها لأبي محمد الأعرابي‏.‏ ونوادر أبي علي القالي ، وشرحها لأبي عبيد البكري‏.‏ وأما الأمالي فهي أمالي ثعلب ، وأمالي الزجاجي الصغرى والكبرى، وأمالي أبي علي القالي ، وشرحها لأبي عبيد البكري، وذيل أمالي القالي للقالي أيضاً، وصلة ذيل الأمالي له أيضاً؛ وأمالي الصولي ، وأمالي السيد المرتضى المسماة بالغرر والدرر، في مجلين ضخمين‏.‏ وأمالي شيخنا الشهاب الخفاجي ‏.‏

ومنها ما يرجع إلى فن الأدب وهي‏:‏ البيان للجاحظ، والمحاسن والأضداد له أيضاً، وكتاب الشعر والشعراء له أيضاً‏.‏ والكامل للمبرد، وشرحه لابن السيد البطليوسي، ولأبي الوليد الوقشي، ولغيرهما‏.‏ والعقد الفريد لابن عبد ربه‏.‏ وزهر الآداب للحصري، وجواهر النكت الملح له أيضاً‏.‏ وديوان المعاني لأبي هلال العسكري‏.‏ والأغاني للأصفهاني في عشرين مجلداً‏.‏ والعمدة لابن رشيق، في مجلدين‏.‏ والمثل السائر لابن الأثير‏.‏ وتحرير التحبير لابن أبي الإصبع‏.‏ ومساوي الخمر لابن الحباب السعدي‏.‏ والأوائل لابن هبة الله الموصلي في مجلدين‏.‏ ومدرج البلاغة لابن فضالة المجاشعي‏.‏ ونقد الشعر لقدامة الكاتب، وشرحه لعبد اللطيف البغدادي‏.‏ وسفر السعادة للسخاوي‏.‏

ومنها ما يرجع إلى كتب السير وكتب الصحابة وأنساب العرب وهو‏:‏ سيرة ابن هشام وشرحه‏:‏ الروض الآنف للسهيلي‏.‏ وسيرة الكلاعي ‏.‏ وسيرة ابن سيد الناس ‏.‏ وسيرة الشامي ‏.‏ والاستيعاب لابن عبد البر‏.‏ والإصابة لابن حجر‏.‏ وجمهرة الأنساب لابن الكلبي، ومختصرها لياقوت الحموي‏.‏ وأنساب قريش ، للزبير بن البكار‏.‏ وتنكيس الأصنام لابن الكلبي‏.‏

ومنها ما يرجع إلى طبقات الشعراء وغيرهم وهو‏:‏ كتاب الشعراء لابن قتيبة‏.‏ والمؤتلف والمختلف للآدمي‏.‏ والموشح لأبي عبيد الله المرزباني‏.‏ وكتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني‏.‏ وكتاب المقتولين غيلة لابن حبيب، وكتاب من نسب إلى أمه من الشعراء له أيضاً‏.‏ وكتاب المنسوبين إلى أمهاتهم للحلواني بخطه‏.‏ وطبقات النحويين للتاريخي‏.‏ وطبقاتهم أيضاً لأبي عبد الله اليمني‏.‏ ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، في عدة مجلدات‏.‏

ومنها ما يرجع إلى كتب اللغة وهو‏:‏ الجمهرة لابن دريد‏.‏ والصحاح للجوهري‏.‏ والعباب للصاغاني‏.‏ والقاموس لمجد الدين‏.‏ واليواقيت لأبي عمر المطرزي‏.‏ وكتاب ليس لابن خالويه‏.‏ والنهاية لابن الأثير‏.‏ والزاهر لابن الأنباري‏.‏ وكتاب النبات في مجلدات كبار ستة لأبي حنيفة الدينوري‏.‏ وإصلاح المنطق لابن السكيت، وشرحه للبلي، ومختصره للخطيب التبريزي‏.‏ وكتاب الألفاظ لابن السكيت‏.‏ وأدب الكاتب لابن قتيبة، وشرحه للجواليقي، ولابن السيد البطليوسي، وللزجاجي، وللبلي، ولابن بري‏.‏ والفصيح لثعلب، وشروحه لابن درستويه، وللهروي، وللمرزوقي، وللبلي،ولابن هشام اللخمي، ولغيرهم‏.‏ وذيل الفصيح لعبد اللطيف البغدادي‏.‏ وكتاب الأضداد لابن السكيت، ولعبد الواحد اللغوي، ولغيره‏.‏ وكتاب الفروق لأبي هلال العسكري‏.‏ وكتاب البيضة والدرع لأبي عبيدة‏.‏ وخلق الإنسان للزجاج‏.‏ والمعربات للجواليقي‏.‏ والمثلثات لابن السيد البطليوسي‏.‏ وكتاب التفسح في اللغة لأبي الحسين النحوي‏.‏ والمرصع لابن الأثير‏.‏ والمزهر للجلال السيوطي‏.‏ وكتاب القلب والإبدال لابن السكيت وكتاب المذكر والمؤنث له أيضاً ولغيره‏.‏ وكتاب الأيام والليالي للفراء‏.‏ وكتاب اليوم والليلة والشهر والسنة والدهر لأبي عمر المطرزي كتاب الأنواء وأسماء الشهور للزجاج والأنواء لأبي العلاء المعري وغيره‏.‏ والمقصور والممدود لابن الأنباري، وللقالي، ولابن ولاد، ولغيرهم، وغير ذلك‏.‏

ومنها ما يتعلق بأغلاط اللغويين وهو‏:‏ التنبيهات على أغاليط الرواة لعلي ابن حمزة البصري وفيه‏:‏ أغلاط نوادر أبي زياد الكلابي ، وأغلاط نوادر أبي عمرو الشيباني ، وأغلاط النبات لأبي حنيفة الدينوري، وأغلاط الغريب المصنف لأبي عبيد، وأغلاط إصلاح المنطق لابن السكيت، وأغلاط الجمهرة لابن دريد، وأغلاط المجاز لأبي عبيدة، وأغلاط الفصيح لثعلب، وأغلاط الكامل للمبرد، وغير ذلك‏.‏ وكتاب التصحيف للحسن العسكري ، وكتاب التنبيه على حدوث التصحيف لحمزة الأصفهاني‏.‏ ولحن العامة للجواليقي ولأبي بكر الزبيدي‏.‏ وحاشية ابن بري على صحاح الجوهري‏.‏ وأغلاط الجوهري للصلاح الصفدي ‏.‏ ودرة الغواص للحريري، وشرحها لابن بري، ولابن الظفر ، ولابن الحنبلي، ولشيخنا الشهاب الخفاجي‏.‏

ومنها كتب الأمثال وهي‏:‏ أمثال أبي عبد القاسم بن سلام ، وشرحها لتلميذه‏.‏ وأمثال أبي فيد‏:‏ مؤرخ السدوسي‏.‏ والفاخر للمفضل بن سلمة والأمثال التي على أفعل لحمزة الأصفهاني‏.‏ ومجمع الأمثال للميداني‏.‏ ومستقصى الأمثال للزمخشري‏.‏ وغير ذلك‏.‏

ومنها كتب الأماكن والبلاد وهي‏:‏ المعجم فيما استعجم لأبي عبيد البكري في ثلاث مجلدات كبار‏.‏ ومعجم البلدان لياقوت الحموي في عشر مجلدات كبار، وغير ذلك مما لو سردته لطال، وأورث السأم والملل‏.‏

الأمر الثالث ترجمة الشارح المحقق

والحبر المدقق، رحمه الله وتجاوز عنه ولم أطلع على ترجمة له وافية بالمراد، وقد رأيت في آخر نسخة قديمة من هذا الشرح ما نصه‏:‏ هو المولى الإمام، العالم العلامة، ملك العلماء، صدر الفضلاة، مفتي الطوائف، الفقيه المعظم، نجم الملة والدين، محمد بن الحسن الأستراباذي‏.‏ وقد أملى هذا الشرح بالحضرة الشريفة الغروية في ربيع الآخر من سنة ثمان وثمانين وستمائة ‏.‏

هذا صورة ما رأيته‏.‏ وهذا التاريخ غير موافق لما أرخه هو في آخر شرحه قيل أحكام هاء السكت‏.‏ قال فيه‏:‏ هذا آخر شرح المقدمة، والحمد لله على إنامه وإفضاله، بتوفيق إكماله، وصلواته على محمد وكرام آله‏.‏ وقد تم تمامه وختم اختتامه، في الحضرة المقدسة الغروية على مشرفها أفضل تحية رب العزة وسلامه، في شوال سنة ست وثمانين وستمائة ‏.‏

وقد أورده الجلال السيوطي في معجم النحويين ولم يعرف اسمه، قال‏:‏ الرضي الإمام المشهور، صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل‏.‏ وقد أكب الناس عليه وتداولوه، واعتمده شيوخ العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم‏.‏ وله فيه أبحاث واختيارات جمة ومذاهب ينفرد بها‏.‏ ولقبه نجم الأئمة، ولم أقف على اسمه ولا على شيء من ترجمته‏.‏ إلا أنه فرغ من تأليفه هذا الشرح سنة ثلاث وثمانين وستمائة، وأخبرني صاحبنا شمس الدين بن عوم بمكة أن وفاته سنة أربع وثمانين وست وستمائة، الشك مني‏.‏ وله شرح على الشافية ‏.‏

هذا ما ذكره السيوطي، والتاريخان غير موافقين لما ذكرناه‏.‏ وقد ذكر البقاعي في مناسبات القرآن تاريخ هذا الشرح كما نقلنا، قال‏:‏ هو محمد بن الحسن الأستراباذي العلامة نجم الدين، وتمم شرح الكافية في سنة ست وثمانين وستمائة‏.‏ ولم ينقل الشرح من العجم إلى الديار المصرية إلا بعد أبي حيان وابن هشام ‏.‏

وعلى هذا لا يمكن أن يكون تاريخ وفاته ما ذكر السيوطي؛ فإنه عاش مدة يحرر شرحه، ولهذا تختلف نسخه اختلافاً كثيراً، كما نقله السيد الجرجاني في إجازته الآتية‏.‏ وشرحه للشافية متأخر عن شرحه للكافية فلا يصح ذلك التاريخ‏.‏ وعصره قريب من عصر ابن الحاجب، فإن وفاة ابن الحاجب كانت في سنة ست وأربعين وستمائة‏.‏

وقد رأيت أن أكتب هنا صورة إجازة الشريف الجرجاني لمن قرأ عليه هذا الشرح، فإنه بالغ في تقريضه وأطرى، ومدح الشارح بما هو اللائق والأحرى‏.‏ وهي هذه‏:‏ أحمده على جزيل نواله، وأصلي على نبيه محمد وصحبه وآله‏.‏ وبعد فإن صناعة الإعراب لا يخفى شأنها، في رفعة مكانها، تجري من علوم الأدب مجرى الأساس، وتنزل منها منزلة البرهان من القياس‏.‏ وبها يتم ارتشاف الضرب، من تراكيب كلام العرب‏.‏ بل هي مرقاة منصوبة إلى علم البيان، المطلع على نكت نظم القرآن‏.‏ وإن شرح الكافية - للعالم الكامل نجم الأئمة، وفاضل الأمة، محمد بن الحسن الرضي الأستراباذي، تغمده الله بغفرانه، وأسكنه بحبوحة جنانه - كتاب جليل الخطر، محمود الأثير، يحتوي من أصول هذا الفن على أمهاتها، ومن فروعه على نكاتها، قد جمع بين الدلائل والمباني وتقريرها، وبين تكثير المسائل والمعاني وتحريرها، وبالغ في توضيح المناسبات، وتوجيه المباحثات، حتى فاق بيانه، على أقرانه، وجاء كتابه هذا كعقد نظم في جواهر الحكم، بزواهر الكلم‏.‏ لكن وقع فيه تغييرات، وشيء كثير من المحو والإثبات، وبدل بذلك صور نسخه تبديلاً، بحيث لا نجد إلى سيرتها سبيلاً‏.‏ وإني - ما منيت به من الأشغال، واختلال الحال، وانتكاس سوق الفضل والكمال، وانقراض عصر الرجال، الذين كانوا محط الرحال، ومنبع الأفضال، ومعدن الإقبال، ومجمع الآمال؛ وتلاطم أمواج الوسواس، من غلبة أفواج الشوكة وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس - قد بذلت وسعي في تصحيحه بقدر ما وفى به حسي مع تلك العوائق، ووسعه مقدرتي مع موانع العوائق، فتصحح إلا ما ندر، وطغى به القلم وزاغ البصر‏.‏ وقد قرأه علي من أوله إلى آخره، المولى الإمام، والفاضل الهمام، زبدة أقرانه في زمانه، وأسوة الأفاضل في أوانه، محمد حاجي ابن الشيخ المرحوم السعيد عمر بن محمد - زيدت فضائله كما طابت شمائله - قراءة بحث وإتقان، وكشف وإيقان‏.‏ وقد نقر فيها عن معضلاته، وكشف عن وجوه مخدراته‏.‏ هذا، وقد أجزته أن يرويه عني مع سائر ما سمعه علي من الأحاديث وفنون الأدب والأصولين، راجياً منه أن لا ينساني في خلواته، وفي دعواته عقيب صلواته، لعل الله يجمعنا في جناته، ويتغمدنا بمرضاته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير‏.‏ وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير‏.‏ كتبه الفقير الحقير الجاني، علي بن محمد الحسيني الجرجاني‏.‏ وذلك بمحروسة سمرقند سنة اثنتين وثمانمائة ‏.‏

وهذا آخر الإجازة‏.‏ وقد حان أن نشرع فيما انتوينا، ونتوجه إلى ما انتحينا، راجين من الله وإخلاص العمل، والعصمة عن الزيغ والخطل‏.‏ ومن هنا نقول، وعلى الله القبول‏.‏

أنشد في خواص الاسم‏:‏

 

الشاهد الأول

يقول الخنى وأبغض العجم ناطق *** إلى ربنا صوت الحمار اليجدع

أورده الشارح، وابن هشام في مغني اللبيب ، على أن أل في اليجدع اسم موصول، دخل على صريح الفعل لمشابهته لاسم المفعول، وهو مع ذلك شاذ قبيح لا يجيء إلى في ضرورة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أراد الذي يجدع كما تقول‏:‏ هو ال يضربك ، تريد الذي يضربك‏.‏ وقال ابن السراج في كتاب الأصول‏:‏ لما احتاج إلى رفع القافية قلب الاسم فعلاً، وهو من أقبح ضرورات الشعر‏.‏ قيل‏:‏ لا ضرورة فيه فإنه بمكن أن يقول يجدع بدون أل لاستقامة الوزن، وأن يقول المتقصع ‏.‏

أقول‏:‏ هذا مبني على أن معنى الضرورة عند هذا القائل ما ليس للشاعر عنه مندوحة، وهو فاسد كما يأتي بيانه‏.‏ والصحيح تفسيرها بما وقع في الشعر دون النثر سواء كان عنده مندوحة ولا‏.‏

قال شارح شواهد الألفية‏:‏ ذاك مسلم في يجدع دون المتقصع فإنه يلزمه الإقواء وهو عيب ‏.‏

أقول‏:‏ لا يلزمه الإقواء؛ فإن اليربوع مرفوع، والمتقصع وصفه كما يأتي بيانه‏.‏ وقيل أل فيه زائدة والجملة صفة الحمار وحال منه، لأن أل في الحمار جنسية، وهذا لا يتمشى في أخواته‏.‏

وقول الشارح المحقق لمشابهته لاسم المفعول يريد أنها إذا دخلت على مضارع مبني للمفعول إنما تدخل عليه لمشابهته لاسم المفعول، نحو اليجدع واليتقصع ‏.‏

وقول الفرزدق‏:‏ البسيط

ما أنت بالحكم الترضى حكومته *** ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل

وإذا دخلت على مضارع مبني للفاعل إنما تدخل عليه لمشابهته لاسم الفاعل كقوله‏:‏

وليس اليرى للخل مثل الذي يرى *** له الخل أهلاً أن يعده خليلا

وقوله‏:‏ البسيط

ما كاليروح ويغدو لاهياً فرح *** مشمر يستديم الحزم ذو رشد

وقوله‏:‏ السريع

لا تبعثن الحرب إني لك ال *** ينذر من نيرانها فاتق

وقوله‏:‏

فذو المال يؤتي ماله دون عرضه *** لما نابه والطارق اليتعمل

وقوله‏:‏

أحين اصطباني أن سكت وأنني *** لفي شغل عن دخلي اليتتبع

وقول أبي علي الفارسي في المسائل العسكرية‏:‏ إن دخول أل على الفعل المضارع لم يوجد إلا في اليجدع واليتقصع ، وأظن حرف وحرفين آخرين، ليس كذلك كما ذكرنا؛ وسكت عن دخولها على الظرف نحو‏:‏ الرجز

من لا يزال شاكراً على ألمعه *** فهو حر بعيشه ذات سعه

وقوله‏:‏

وغيرني ما غال قيساً ومالك *** وعمراً وحجراً وبالمشقر المعا

يريد الذين معا - وقال الكسائي‏:‏ أراد مع وأل زائدة - وعن دخولها على الجملة الاسمية نحو‏:‏ الوافر

بل القوم الرسول الله فيهم *** هم أهل الحكومة من قصي

لأنه لا يرد النقض بها وإن كانت موصولة اسمية شاذة كشذوذها مع الفعل والكل خاص بالشعر‏.‏

قال الشاطبي في شرح ألفية ابن مالك‏:‏ وأما أل فمختصة بالأسماء على جميع وجوهها‏:‏ من كونها لتعريف العهد، والجنس، وزائدة، وموصولة وغير ذلك من أقسامها‏.‏

واعلم أن صريح مذهب الشارح المحقق في الضرورة هو المذهب الثاني وهو ما وقع في الشعر، وهو مذهب الجمهور‏.‏ وذهب ابن مالك إلى أنها ما ليس للشاعر عنه مندوحة، فوصل أل بالمضارع وغيره عنده جائز اختياراً، لكنه قليل، وقد صرح به في شرح التسهيل فقال‏:‏ وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة لإمكان أن يقول الشاعر‏:‏ صوت الحمار يجدع، وما من يرى للخل، والمتقصع، وإذا لم يفعلوا ذلك مع الاستطاعة ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار‏.‏ وما ذهب إليه باطل من وجوه‏:‏ أحدها إجماع النحاة على عدم اعتبار هذا المنزع وعلى إهماله في النظر القياسي جملة‏.‏ ولو كان معتبراً لنبهوا عليه‏.‏

الثاني أن الضرورة عند النحاة ليس معناها أنه لا يمكن في الموضع غير ما ذكر، إذ ما من ضرورة إلا ويمكن أن يعوض من لفظها غيره، ولا ينكر هذا إلا جاحد لضرورة العقل‏.‏ هذه الراء في كلام العرب من الشياع في الاستعمال بمكان لا يجهل، ولا تكاد تنطق بجملتين تعريان عنها، وقد هجرها واصل بن عطاء لمكان لثغته فيها، حتى كان يناظر الخصوم ويخطب على المنبر فلا يسمع في نطقه راء، فكان إحدى الأعاجيب حتى صار مثلاً‏.‏ ولا مرية في أن اجتناب الضرورة الشعرية أسهل من هذا بكثير وإذا مصل الأمر إلى هذا الحد أدى أن لا ضرورة في شعر عربي‏.‏ وذلك خلاف الإجماع، وإنما معنى الضرورة أن الشاعر قد لا يخطر بباله إلا لفظه ما تضمنته ضرورة النطق به في ذلك الموضع إلى زيادة ونقص وغير ذلك، بحيث قد ينتبه غيره إلى أن يحتال في شيء يزيل تلك الضرورة‏.‏

الثالث أنه قد يكون للمعنى عبارتان وأكثر، واحدة يلزم فيها ضرورة إلا أنها مطابقة لمقتضى الحال، ولا شك أنهم في هذه الحال يرجعون إلى الضرورة، لأن اعتناءهم بالمعاني أشد من اعتنائهم بالألفاظ‏.‏ وإذا ظهر لنا في موضع أن ما لا ضرورة فيه يصلح هنالك فمن أين يعلم أنه مطابق لمقتضى الحال‏.‏

الرابع أن العرب قد تأبى الكلام القياسي لعارض زحاف، فتستطيب المزاحف دون غيره وبالعكس، فتركب الضرورة لذلك‏.‏

وقد بسط الرد عليه الشاطبي في شرح الألفية ، وهذا أنموذج منه‏.‏ ثم قال‏:‏ وقد بنيت هذه المسألة بما هو أوسع من هذا في باب الضرائر من أصول العربية‏.‏

وهذا البيت ثاني أبيات سبعة أوردها أبو زيد في نوادره لذي الخرق الطهوي وهي‏:‏

أتاني كلام الثعلبي ابن ديسق *** ففي أي هذا ويله يتترع

يقول الخنى وأبغض العجم ناطق *** إلى ربنا صوت الحمار اليجدع

فهلا تمناها إذ الحرب لاقح *** وذو النبوان قبره يتصدع

يأتك حيا دارم وهما مع *** ويأتك ألف من طهية أقرع

فيستخرج اليربوع من نافقائه *** ومن جحره بالشيحة اليتقصع

ونحن أخذنا الفارس الخير منكمفظل وأعيا ذو الفقار يكرع

ونحن أخذنا قد علمتم أسيركميساراً فنحذي من يسار وننقع

قوله أتاني كلام الثعلبي هو بفتح المثلثة وسكون العين المهملة كما في نوادر أبي زيد في نسخة قديمة صحيحة، نسبة إلى ثعلبة بن يربوع‏:‏ أبي قبيلة، لا بمثناة فوقية فغين معجمة نسبة إلى تغلب بن وائل‏:‏ أبي قبيلة كما ضبطه بعضهم‏.‏ فإن ابن ديسق هو أبو مذعور طارق بن ديسق بن عوف بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة ابن يربوع‏.‏‏.‏ كذا سرد الأسود أبو محمد الأعرابي الغندجاني في شرحه نوادر ابن الأعرابي، وأورد له شعراً جيداً‏.‏ وديسق علم منقول، قال الصاغاني في العباب‏:‏ قال الليث‏:‏ الديسق خوان من فضة، والطريق المستعمل، والحوض الملآن، والشيخ، والنور، وكل حلي من فضة بيضاء صافية، وعاء من أوعيتهم؛ مأخوذ من الدسق بفتحتين وهو امتلاء الحوض، يقال‏:‏ ملأت الحوض حتى دسق، أي‏:‏ ساح ماؤه‏.‏ وقيل هو بياض الحوض وبريقه‏.‏ وقوله يتترع التترع بفتحتي التاء المثناة فوق والراء، في العباب‏:‏ ترع الرجل كفرح، إذا اقتحم الأمور مرحاً ونشاطاً‏.‏ وقيل ترع سارع إلى الشر والغضب، وتترع إليه بالشر أي‏:‏ تسرع‏.‏ وكأنه توعده بالقتل والسبي والنهب وما أشبه ذلك‏.‏ يقول‏:‏ إلى أي هذه الأمور يسابق شره وبلائه‏.‏ وقوله يقول الخنى‏.‏‏.‏ البيت، قال الجوهري وتبعه الصاغاني‏:‏ هذا من أبيات الكتاب وهذا لا أصل له‏.‏ وقد تصفحت شواهد سيبويه في عدة نسخ ولم أجده فيها‏.‏ قال الصاغاني‏:‏ لم أجد هذا البيت في شعر ذي الخرق، وقد قرأت شعره في أشعار بني طهية‏.‏ وساق له أبياتاً سبعة لم يكن هذا البيت فيها، وذكر له بيتاً بدل ما قبل البيت الأخير، وهو‏:‏

ونحن حسبنا الدهم وسط بيوتكم *** فلم تقربوها والرماح تزعزع

والخنى بالخاء المعجمة والنون‏:‏ الفحش من الكلام، وألفه منقلبة عن ياء، ولهذا كتبت بالياء‏.‏ يقال‏:‏ كلام خن وكلمة خنية، وقد خني عليه بالكسر وأخني عليه في منطقه، إذا أفحش‏.‏ وهو منصوب بالقول لتضمنه معنى الجملة كقلت قصيدة، فلا حاجة لتأويل يقول بيفوه ويتكلم‏.‏ وجملة يقول الخنى تفسير لقوله أتاني كلام الثعلبي‏.‏ وأبغض اسم تفضيل على غير قياس، لأنه بمعنى اسم المفعول من أبغضته إبغاضاً فهو مبغض، أي‏:‏ مقته وكرهته، ولأنه من غير الثلاثي، وهو من بغض الشيء بالضم بغاضة بمعنى صار بغيضاً، فلا شذوذ‏.‏ قال السخاوي في شرح المفصل‏:‏ قالوا هو أبغض لي من زيد وأمقت لي منه، أي‏:‏ يبغضني أكثر مما يبغضني زيد، وقالوا إنه مردود إلى بغض ومقت، يقال بغض بغاضة، إذ صار بغيضاً‏.‏ قال ابن بري‏:‏ إنما جعل شاذاً لأنه جعل من أبغض، والتعجب لا يكون من أفعل إلا بأشد‏.‏ وليس كما ظن الجوهري، بل هو من بغض فلان إلي ‏.‏ وحكى اللغويين والنحويين ما أبغضني له إذا كنت أنت المبغض له، وما أبغضني إليه إذا كان هو المبغض لك‏.‏ انتهى‏.‏ وإلى في التفضيل غير ما ذكر في التعجب‏.‏ فإن إلى هنا بمعنى عند ومجرورها فاعل معنى‏.‏ والعجم‏:‏ جمع أعجم وعجماء، وهو الحيوان الذي لا ينطق‏.‏ والأعجم أيضاً‏:‏ الإنسان الذي في لسانه عجمة، وإن كان بدوياً، لشبهه بالحيوان‏.‏ وناطقاً فاعل من النطق، قال الراغب‏:‏ النطق في التعارف‏:‏ الأصوات المتقطعة التي يظهرها اللسان وتعيها الآذان‏.‏‏.‏ ولا يقال للحيوانات ناطق إلا مقيد وعلى طريق التشبيه، كقول الشاعر‏:‏

عجبت لها أنى يكون غناؤه *** فصيحاً ولم تفغر بمنطقها فما

انتهى‏.‏ وهو هنا مجاز عن الصوت، من إطلاق الخاص وإرادة العام، وهو منصوب على التمييز للنسبة، وأصله‏:‏ وأبغض نطق العجم، أي تصويتها، فلما حذف صارت نسبة البغض إلى العجم مبهمة ففسرت بالتمييز، ولابد من هذا المحذوف ليصح الإخبار‏.‏ أراد الشاعر تشبيه صوته إذ يقول الخنى ، في بشاعته بصوت الحمار إذ تقطع أذناه‏.‏ وصوت الحمار شنيع في غير تلك الحال، فما الظن به فيها‏؟‏‏؟‏‏؟‏‏!‏ وزعم جماعة أن ناطقاً بمعنى ذات النطق، فقد تكلف‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو حال من أبغض، ويرد عليه أن الأصح أن المبتدأ لا يتقيد بالحال‏.‏ وجوز هذا القائل أن يكون حالاً من ضمير يقول، مع اعترافه بأنه يلزم الفصل بين المبتدأ والخبر بالأجنبي‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنه حال من ضمير أبغض ، وهذا سهو، إذ ليس فيه ضمير، ولو كان خبراً لتحمله‏.‏ وقوله إلى ربنا متعلق بأبغض‏.‏ وروى ابن جني في سر الصناعة‏:‏ إلى ربه فالضمير يرجع إلى ابن ديسق‏.‏ وقوله اليجدع قال الصاغاني‏:‏ الجدع بالدال المهملة‏:‏ قطع الأنف، وقطع الأذن، وقطع اليد، وقطع الشفة‏.‏ وجدعته أي‏:‏ سجنته وحبسته ‏.‏ ثم قال‏:‏ وحمار مجدع مقطوع الأذنين ‏.‏ وأنشد هذا البيت عن نوادر أبي زيد ‏.‏ وزعم شارح مغني اللبيب - وهو الحق - أنه من جدعت الحمار‏:‏ سجنته، قال‏:‏ لأن الحمار إذا حبس كثر تصويته، وإذا جعل من الجدع الذي هو قطع الأذن لم يظهر له معنى‏.‏ قال السيوطي‏:‏ وليس كما قال، لأن صوت الحمار حالة تقطيع أذنه أكثر وأقبح‏.‏ وكأنه ظن أن المراد صوته بعد التجديع؛ وليس كذلك، بل المراد وقت التجديع ‏.‏ هذا كلامه، وفيه نظر فإنه قيل لا يصوت عند قطع أذنه أصلاً، وقيل‏:‏ إن الحمار إذا كان مقطوع الأذن يكون صوته أرفع، وإنما كان صوت الحمار مستكرهاً لأن أوله زفير وآخره شهيق؛ وهذه الحالة تنفر منها الطباع‏.‏ وقد ورد تمثيل الصوت المرتفع بصوت الحمار في القرآن، قال تعالى في وصية لقمان لابنه‏:‏ واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، أي‏:‏ أوحش الأصوات وأقبحها‏.‏ قال القاضي‏:‏ وفي تمثيل الصوت المرتفع به ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة ‏.‏ وقال معين الدين الصفي‏:‏ شبه الرافعين صوتهم بالحمير من غير أداة التشبيه، مبالغة في التنفير‏.‏ ولما كان صوته لا يكاد يختلف، وأصوات سائر الحيوانات مختلفة جداً، أفرد وجمعت‏.‏ والحمير بمنزلة أسماء الأجناس على الأصح‏.‏ والظاهر أن أنكر الأصوات إلخ كلام لقمان، وقيل هذا من كلام الله انتهى‏.‏ وهذا القول الأخير يناسبه قول الشاعر إلى ربنا فإن إلى بمعنى عند ‏.‏ وقال النسفي‏:‏ ولو كان في ارتفاع الصوت فضيلة لم يستشنع صوت الحمار الذي هو أرفع الأصوات‏.‏ وقوله‏:‏ فهلا تمناها الضمير راجع إلى معهود في الذهن، أي‏:‏ فهلا تمنى الحرب حين كانت حبلى بمنايا الرجال، ومقارعة الأبطال‏.‏ ولاقح من لقحت الناقة لقحاً، من باب تعب، فهي لاقح مطاوع ألقح الفحل الناقة إلقاحاً‏:‏ أحبلها؛ كذا في المصباح‏.‏ وقوله وذو النبوان في شرح نوادر أبي زيد وذو النبوان لم يعرفه أبو زيد ‏.‏ والنبوان - بفتح النون والباء الموحدة - اسم ماء بنجد لبني أسد، وقيل لبني السيد من ضبة‏.‏ كذا في معجم البلدان لياقوت الحموي‏.‏ ويقال له نبوان أيضاً بلا لام، قال أبو صخر الهذلي‏:‏ الكامل

ولها بذي نبوان منزلة *** قفر سوى الأرواح والرهم

أي‏:‏ لها بأراضي نبوان منزلة‏.‏ والمراد ب ذي النبوان هنا رجل، وهو إما صاحب هذا الماء ولأنه دفن في أرضها‏.‏ والتصدع‏:‏ التشقق، يقال صدعته صدعاً، من باب نفع‏:‏ شققته‏.‏ وصدعت القوم صدعاً فتصدعوا‏:‏ فرقتهم فتفرقوا‏.‏ والمراد بها هنا الحفر والنبش، أي‏:‏ هلا تمنيت الحرب إذا قتلنا منكم ذا النبوان فحفرت له قبراً وواريته فيه، وأنت شديد الحزن عليه ولم تقدر على الأخذ بثأره‏؟‏‏!‏ وقوله‏:‏ يأتك حيا دارم فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، جزم يأت في جواب شرط مقدر، أي‏:‏ إن تمنيت حربنا يأتك الحيان من دارم دفعة‏.‏ ودارم‏:‏ أبو قبيلتين من تميم‏.‏ وطهية‏:‏ حي من تميم، سموا باسم أمهم، وهي طهية بنت عبد شمس ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، وهي أم أبي سود وعوف بن مالك بن حنظلة، والنسبة إليها طهوي بسكون الهاء وبعضهم يفتحها على القياس‏.‏ وأقرع بالقاف‏:‏ تام، يقال ألف أقرع، ودرهم أقرع، ومائة قرعاء‏.‏ وقوله‏:‏ فيستخرج اليربوع‏.‏‏.‏ الخ الفاء للسببية، ويستخرج منصوب بأن مضمرة وجوباً، وهو مبني للمفعول، ويجوز بالبناء للفاعل نسبة إلى الألف‏.‏ واليربوع‏:‏ دويبة تحفر الأرض - والياء زائدة، لأنه ليس في كلام العرب فعلول سوى صعفوق على ما فيه - وله جحران أحدهما‏:‏ القاصعاء وهو الذي يدخل فيه‏.‏ وأما قول الفرزدق يهجو جرير‏:‏ الكامل

وإذا أخذت بقاصعائك لم تجد *** أحداً يعينك غير من يتقصع

فمعناه إنما أنت في ضعفك إذا قصدت لك كأولاد اليرابيع لا يعينك إلا ضعيف مثلك‏.‏ والآخر‏:‏ النافقاء وهو الجحر الذي يكتمه ويظهر غيره، وهو موضع يرققه، فإذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي‏:‏ خرج‏.‏ وجمعها قواصع ونوافق‏.‏ ونافق اليربوع‏:‏ أخذ في نافقائه، ومنه المنافق، شبه باليربوع لأنه يخرج من الإيمان من غير الوجه الذي دخل فيه، وقيل لأنه يستر كفره، فشبه بالذي يدخل النفق - وهو السرب - يستتر فيه‏.‏ والجحر يكون للضب واليربوع والحية، والجمع جحره، كعنبة‏.‏ وانجحر الضب على انفعل‏:‏ أوى إلى جحره‏.‏ وقوله بالشيحة رواه أبو عمر الزاهد وغيره تبعاً لابن الأعرابي‏:‏ ذي الشيحة وقال‏:‏ لكل يربوع شيحة عند جحره‏.‏ ورد الأسود محمد الأعرابي الغندجاني على ابن الأعرابي وقال‏:‏ ما أكثر ما يصحف في أبيات المتقدمين، وذلك أنه توهم أن ذا الشيحة موضع ينبت الشيح، وإنما الصحيح‏:‏ ومن جحره بالشيخة بالخاء المعجمة، وقال‏:‏ هي رملة بيضاء في بلاد بني أسد وحنظلة‏.‏ وكذا رواه الجرمي أيضاً‏.‏ والشين في الروايتين مكسورة‏.‏ وقوله اليتقصع رواه أبو محمد الخوارزمي عن الرياشي بالبناء للمفعول‏.‏ يقال‏:‏ تقصع اليربوع دخل في قاصعائه، فتكون صفة للجحر وصلته محذوفة، أي‏:‏ من جحره الذي يتقصع فيه، كما قدره ابن جني في سر الصناعة ‏.‏ وروي بالبناء للفاعل، فيكون صفة اليربوع ولا حذف‏.‏ ورواه أبو زيد المتقصع بصيغة اسم المفعول وقال‏:‏ والمتقصع متفعل من القاصعاء ، فيكون صفة اليربوع أيضاً لكن فيه حذف الصلة‏.‏ قال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد‏:‏ رواه لنا أبو العباس ثعلب اليتقصع واليجدع ، قال‏:‏ هكذا رواه أبو زيد‏.‏ قال‏:‏ والرواية الجيدة عنده المتقصع والمجدع ، وقال‏:‏ لا يجوز إدخال أل على الأفعال؛ فإن أريد بها الذي كان أفسد في العربية‏.‏ وكان لا يلتفت إلى شيء من هذه الروايات التي تشذ على الإجماع والمقاييس‏.‏ ومعنى البيت‏:‏ إنكم إن حاربتمونا، جئنا لكم بجيش لهام، يحيطون بكم فيوسعونكم قتلاً وأسراً، ولا نجاة لكم احتلتم بكل حيلة، كاليربوع الذي يجعل النافقاء حيلة لخلاصه من الحارش، فإذا كثر عليه الحارش؛ أخذوا عليه من نافقائه وقاصعائه، فلا يبقى له مهرب البتة‏.‏

وروى بعض شراح الشواهد هذا البيت بعد البيتين الأولين، ولم يزد على الثلاثة، وظن أن قوله يستخرج اليربوع بالبناء للمعلوم - معطوف على قوله يقول الخنى فقال‏:‏ ووصفه أخيراً بالخديعة والمكر‏.‏

ثم أخذ الشاعر في الفخر عليه بما فعل قومه فيهم من القتل والأسر في الحروب السابقة فقال‏:‏ ونحن أخذنا‏.‏‏.‏الخ الخير هنا إما أفعل تفضيل أي‏:‏ أفضلكم، وإما مخفف خير بالتشديد، أي‏:‏ الجيد الفاضل‏.‏ ومنكم على التقديرين متعلق بأخذنا‏.‏ وقوله فظل أي‏:‏ استمر في أسرنا‏.‏ قوله وأعيا ذو الفقار هو بفتح الفاء، قال الصاغاني‏:‏ هو معشر بن عمرو الهمداني‏.‏ وهو فاعل أعيا ، من أعيا في مشيه أي‏:‏ كل، بمعنى لم يقدر على شيء‏.‏ وجملة يكرع بالبناء للمفعول حال من الفاعل، ومعناه تقطع أكارعه‏:‏ جمع كراع بالضم وهو - كما قال ابن فارس - من الإنسان‏:‏ ما دون الركبة، ومن الدواب‏:‏ ما دون الكعب‏.‏ وروى الصاغاني‏:‏ وأضحى ذو الفقار يكرع فجملة يكرع إما خبر أضحى ، وحال أيضاً إن كانت تامة‏.‏ وقوله ونحن أخذنا قد علمتم الخ يقول‏:‏ نحن قد فككنا يساراً - الذي أسرتموه - من أسركم بأموالنا‏.‏ فنحن نعطي ونضيف من ثروة، وأنتم صعاليك لا تقدرون على شيء من ذلك‏.‏ ويسار الأول اسم رجل، والثاني بمعنى الغنى والثروة‏.‏ ونحذي بضم النون وسكون المهملة والذال المعجمة بمعنى نعطي، من الإحذاء‏.‏ وهو الإعطاء‏.‏ وننقع بالنون والقاف، يقال‏:‏ نقع الجزور ينقع بفتحتين نقوعاً، إذا نحرها للضيافة‏.‏ قال الصاغاني‏:‏ وفي كلام العرب إذا لقى الرجل منهم قوماً يقول‏:‏ ميلوا ينقع لكم، أي يجزر لكم، كأنه يدعوهم إلى دعوته‏.‏ والنقيعة‏:‏ الجزور التي تجزر للضيافة‏.‏ وفسر بعض من كتب على نوادر أبي زيد ننقع بقوله نروى‏.‏ وهذا غير مناسب‏.‏ وقال الرياشي‏:‏ حفظي ونمنع ومصدره المنع إما مقابل الإعطاء، وإما بمعنى الحياطة والنصرة‏.‏ يقال فلان في عز ومنعة بالتحريك، وقد تسكن النون، وكلاهما مناسب لنحذي‏.‏ قال الصاغاني‏:‏ والمانع - من صفات الله تعالى - له معنيان‏:‏ أحدهما مقابل الإعطاء، والثاني أنه يمنع أهل دينه، أي‏:‏ يحوطهم وينصرهم‏.‏

تتمة

نسب أبو زيد في نوادره هذا الشعر لذي الخرق الطهوي قال‏:‏ وهو جاهلي ‏.‏ ومن لقب من الشعراء من بني طهية ذا الخرق ثلاثة‏:‏ أحدهم خليفة ابن حمل بن عامر بن حميري بن وقدان بن سبيع بن عوف بن مالك بن حنظلة بن طهية، ولقب ذا الخرق بقوله‏:‏ البسيط

ما بال أم حبيش لا تكلمن *** لما افتقرنا وقد نثري فننتفق

تقطع الطرف دوني وهي عابسة *** كما تشاوس فيك الثائر الحنق

لما رأت إبلي جاءت حمولته *** غرثى عجافاً عليها الريش والخرق

قالت‏:‏ ألا تبتغي مالاً تعيش به *** عما تلاقي وشر العيشة الرمق

فيئي إليك فإنا معشر صبر *** في الجدب لا خفة فينا ولا ملق

إنا إذا حطمة حتت لنا ورق *** نمارس العيش حتى ينبت الورق

الثاني قرط، ويقال له‏:‏ ذو الخرق بن قرط أخو بني سعيدة بن عوف ابن مالك بن حنظلة بن طهية، وهو فارس أيضاً‏.‏

الثالث شمير بن عبد الله بن هلال بن قرط بن سعيدة، كذا في المؤتلف والمختلف للآمدي‏.‏ ولم يذكر هذا صاحب العباب ولم أر من قيد أحد هذه الثلاثة من كونه جاهلياً، فلا يظهر أن هذا الشعر لمن هو من هؤلاء الثلاثة‏.‏ وقال العيني‏:‏ إن ذا الخرق الطهوي صاحب الشعر اسمه دينار بن هلال‏.‏ ولا أدري من أين نقله‏.‏ وقال شارح شواهد المغني‏:‏ وفي المؤتلف والمختلف للآمدي أن اسمه قرط، شاعر جاهلي، سمي بذلك لقوله‏:‏

جاءت عجافاً عليها الريش والخرق

وفيه ثلاثة أمور‏:‏ الأول أن الآمدي لم يذكر هذا الشعر فكيف ينسبه إلى قرط‏.‏ الثاني أنه لم يقيد قرطاً بكونه جاهلياً‏.‏ الثالث أن هذا الشعر ليس لقرط، وإنما هو لخليفة بن حمل كما تقدم آنفاً‏.‏ وفيه أيضاً أن الرواية غرثى عجافاً لا جاءت عجافاً ‏.‏

بقي من يلقب بذي الخرق من الشعراء من غير طهية‏.‏ وهم اثنان‏:‏ أحدهما ذو الخرق اليربوعي أحد بني صبير بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏ والثاني‏:‏ ذو الخرق بن شريح بن سيف بن أبان بن دارم‏.‏ وهذا والذي قبله من شعراء الجاهلية‏.‏

ومن غير الشعراء ذو الخرق النعمان بن راشد بن معاوية بن عمرو بن وهب ابن مرة، كان يعلم نفسه في الحرب بخرق حمر وصفر‏.‏ وذو الخرق أيضاً‏:‏ فرس عباد بن الحارث بن عدي بن الأسود، كان يقاتل عليه يوم اليمامة‏.‏ والخرق‏:‏ جمع خرقة وهي القطعة من الثوب‏.‏

والأسود الغندجاني ترجمة ياقوت الحموي في معجم الأدباء المسمى إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، قال‏:‏ هوالحسن بن أحمد أبو محمد الأعرابي المعروف بالأسود الغندجاني اللغوي النسابة، وغندجان بلد قليل الماء لا يخرج منه إلا أديب وحامل سلاح‏.‏ في القاموس‏:‏ غندجان بالفتح بلد بفارس بمفازة معطشة‏.‏ وكان الأسود صاحب دنيا وثروة، وكان عارفاً بأيام العرب وأشعارها، قيماً بمعرفة أحوالها‏.‏ وكان مستنده فيما يوريه عن محمد بن أحمد أبي الندى‏.‏ وكان قد رزق في أيامه سعادة، وذاك أنه كان في كنف الوزير العادل أبي منصور بهرام بن مافنه، وزير الملك أبي كالنجار ابن بهاء الدولة ابن بويه صاحب شيراز، وقد خطب له ببغداد بالسلطنة‏.‏ وكان الأسود إذا صنف له كتاباً جعله باسمه‏.‏ وكان يفضل عليه إفضالاً جماً، فأثرى من جهته‏.‏ ومات أبو منصور الوزير في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة‏.‏ قال ياقوت‏:‏ وقرأت في بعض تصانيفه أنه صنفه في شهور سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقرئ عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة‏.‏ وله من التصانيف‏:‏ فرحة الأديب ، في الرد على يوسف بن أبي سعيد السيرافي في شرح أبيات سيبويه‏.‏ وكتاب قيد الأوابد في الرد على ابن السيرافي أيضاً في شرح أبيات إصلاح المنطق‏.‏ وكتاب ضالة الأديب في الرد على ابن الأعرابي في النوادر التي رواها ثعلب عنه‏.‏ وكتاب الرد على أبي علي النمري في شرح مشكل أبيات الحماسة ‏.‏ وكتاب نزهة الأديب في الرد على أبي علي في التذكرة وكتاب السل والسرقة وكتاب الخيل مرتب على حروف المعجم‏.‏ وكتاب في أسماء الأماكن ‏.‏ وأكثرها عندي، ولله الحمد والمنة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني

من شواهد سيبويه‏:‏

ولا أرض أبقل إبقالها

أوله‏:‏

فلا مزنة ودقت ودقها

أورده نظيراً لعرفات‏:‏ في كونها مؤنثة لا يجوز فيها التذكير إلا بتأويل بعيد، وهو أن يراد بها المكان‏.‏ وأورده أيضاً في باب المذكر والمؤنث على أنه لا يحذف علامة التأنيث في المسند إلى ضمير المؤنث المجازي إلا لضرورة الشعر‏.‏ وهو من شواهد الكتاب ومغني اللبيب ‏.‏ قال ابن خلف‏:‏ الشاهد فيه أنه ذكر أبقل وهو صفة للأرض ضرورة، حملاً على معنى المكان، فأعاد الضمير على المعنى وهو قبيح‏.‏ والصحيح أنه ترك فيه علامة التأنيث للضرورة واستغنى عنه مما علم من تأنيث الأرض‏.‏ وإلى هذا الوجه أشار أبو علي‏.‏ وقال غيره‏:‏ وإنما قبح ذلك لاتصال الفاعل المضمر بفعله، فكأنه كالجزء منه حتى لا يمكن الفصل بينهما بما يسد مسد علامة التأنيث‏.‏ ولا يخفى ما فيه‏.‏ وعند ابن كيسان والجوهري أن الفعل إذا كان مسنداً لضمير المؤنث المجازي لا يجب إلحاق علامة التأنيث‏.‏

وقول بعضهم‏:‏ وهذا ليس بضرورة لأنه كان يمكنه أن يقول ولا أرض أبقلت إبقالها بنقل حركة الهمزة إلى ما قبلها وإسقاطها - ليس بجيد، لأن الصحيح أن الضرورة ما وقع في الشعر، سواء كان للشاعر عنه فسحة أم لا‏.‏ وأجاب السيرافي بأنه يجوز أن يكون الشاعر ليس من لغته تخفيف الهمزة، وحينئذ لا يمكنه ما ذكره‏.‏ وذكر ابن يسعون أن بعضهم رواه بالتاء بالنقل المذكور‏.‏ وقال ابن هشام‏:‏ فإن صحت الرواية وصح أن القائل ذلك هو الذي قال ولا أرض أبقل بالتذكير صح لابن كيسان مدعاة، وإلا فقد كانت العرب ينشد بعضهم بعضاً، وكل يتكلم على مقتضى لغته التي فطر عليها، ومن هنا كثرت الروايات في بعض الأبيات‏.‏

وزعم جماعة أنه لا شاهد فيه، فقال أبو القواس في شرح ألفية ابن معطي أنه روى إبقاها بالرفع، مسنداً إلى المصدر‏.‏ ويرده أن إبقالها منصوب على المصدر التشبيهي، أي‏:‏ ولا أرض أبقلت كإبقال هذه الأرض‏.‏ ولو كان كما زعم كان معناه نفي الإبقال، وهو نقيض مراد الشاعر‏.‏ وزعم بعضهم أن ضمير أبقل عائد على مذكر محذوف، أي‏:‏ ولا مكان أرض، فقال أبقل باعتبار المحذوف، وقال إبقالها باعتبار المذكور‏.‏ وهذا فاسد أيضاً، لأن ضمير إبقالها ليس عائداً على الأرض المذكورة هنا، فتذكير أبقل باعتبار المحذوف لا دليل عليه، ولو قال إن الأرض مما يذكر ويؤنث - كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات عندما أنشد هذا البيت‏:‏ إن الأرض تذكر وتؤنث، وكذلك السماء، ولهذا قال أبقل إبقالها - لكان وجهاً‏.‏

قال ابن الحاجب في أماليه‏:‏ الضمير في ودقها وإبقالها ، راجع إلى غير المزنة والأرض المذكورتين، ولا يستقيم أن يعود إليهما لئلا يصير مخبراً أنه ليس مزنة تدق مثل مدق نفسها، وهو فاسد‏.‏ وإن لم تقدر محذوفاً كان أفسد، إذ يصير المعنى أنه ليس مزنة تدق ودق نفسها، والأمر على خلافه، إذ لا تدق مزنة إلا ودق نفسها‏.‏ فوجب أن يكون التقدير، فلا مزنة ودقت ودقاً مثل هذه المزنة، المحذوفة‏.‏ وزعم الصاغاني في العباب‏:‏ أن الرواية ولا روض أبقل إباقلها ، وهذا لا يصادم نقل سيبويه لأنه ثقة، والاعتماد عليه أكثر‏.‏

فقوله‏:‏ فلا مزنة إلى الخ لا الأولى نافية للجنس على سبيل الظهور عاملة عمل ليس وملغاة، والثانية نافية للجنس على سبيل التنصيص، ومزنة اسم لا إن كانت عاملة عمل ليس، ومبتدأ إن كانت غير عاملة، وصح الابتداء بالنكرة إما للمعلوم وإما للوصف‏.‏ وجملة ودقت محلها نصب‏:‏ خبر لا، ورفع‏:‏ خبر المبتدأ، ونعت ل مزنة والخبر محذوف، أي‏:‏ موجودة ومعهودة‏.‏ وجملة أبقل خبر لا فقط، ولا يجوز كونها صفة لاسم لا، كما جوزه شراح الشواهد؛ لأنه يجب حينئذ تنوين اسم لا لكونه مضارعاً للمضاف‏.‏ والمزنة - واحدة المزن - السحابة البيضاء، ويقال المطرة‏.‏ والمعنى هنا على الأول‏.‏ انتهى‏.‏ وكلاهما غير صحيح، أما الأول فلأن السحابة البيضاء لا ودق لها، وأما الثاني فيرده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أنزلتموه من المزن‏}‏‏.‏ والودق‏:‏ المطر، قال المبرد في الكامل‏:‏ يقال ودقت السماء يا فتى تدق ودقاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏، وأنشد هذا البيت‏.‏ وأبقل قال الدينوري في كتاب النبات‏:‏ يقال بقل المكان يبقل بقولاً إذا نبت بقله، وأبق يبقل إبقالاً وهذا أكثر اللغتين وأعرفهما، وأكثر العلماء يرد بقل المكان‏.‏ وقال بعض الرواة‏:‏ أبقلت الأرض وأبقلها الله وبقل وجه الغلام إذا خرج وجهه‏.‏ وقال بعض علماء العربية‏:‏ أبق المكان ثم يقولون‏:‏ مكان باقل، قال‏:‏ ولا نعلمهم يقولون بقل المكان‏.‏ ومثله قولهم أدرست الأرض ونبت دارس، ولا يقولن غيرها، وقال أيضاً‏:‏ أعشب البلد ثم قال‏:‏ بلد عاشب، وكذا قال أبو عبيدة والأصمعي، وتبعهما ابن السكيت وغيره، قالوا‏:‏ يقال‏:‏ بلد عاشب، ولا يقال إلا أعشب ، وباق الرمث - وهو نبت - وقد أبقل، ودارس الرمث وقد أدرس، فيقولون في النعت على فاعل، وفي الفعل على أفعل، كذا تكلمت به العرب‏.‏ قال الدينوري - وتبعه علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة -‏:‏ وقد جاء عن العرب ما يرد عليهم، قال رؤبة‏:‏ الرجز

يملحن من كل غميس مبقل

وقال ابن هرمة‏:‏

لرعت بصفراء السحالة حرة *** لها مرتع بين النبيطين مبقل

وقال آخر‏:‏

ولا أرض أبق إبقالها

فجاء به على أبقل يبقل فهو مبقل‏.‏ وقال النابغة الجعدي‏:‏ المتقارب

على جانبي حائر مفرط *** ببرث تبوأنه معشب

وقال الدينوري في موضع آخر‏:‏ النبات كله ثلاثة أصناف‏:‏ شيء باق على الشتاء أصله وفرعه‏.‏ وشيء آخر يبيد الشتاء فرعه ويبقى أصله، فيكون نباته في أرومته الباقية‏.‏ وشيء ثالث يبيد الشتاء أصله وفرعه، فيكون نباته من بزره‏.‏ وكل ذلك يتفرق ثلاثة أصناف أخر‏:‏ فصنف يسمو صعداً على ساقه مستغنياً بنفسه عن غيره‏.‏ وصنف يسمو أيضاً صعداً لا يستغني بنفسه، ويحتاج إلى ما يتعلق به ويرتقي فيه‏.‏ وصنف ثالث لا يسمو ولكن يتسطح على الأرض فينبت مفترشاً‏.‏ فيقال لكل ما سما بنفسه‏:‏ شجر، دق وجل، قاوم وعجز عنه‏.‏ وقيل له شجر أنه شجر فسما، فكل ما سمكته ورفعته فقد شجرته‏.‏ وما كان منه ينبت في بزره ولا ينبت في أرومته فاسمه البقل‏.‏ وكل نابتة بقلة في أول ما تنبت، ولذلك قيل لوجه الغلام أول ما يخرج‏:‏ بقل‏.‏ وما نبت في أرومة وكان مما يهلك فرعه فاسمه الجنبة، لأنه فارق الذي يبقى فرعه وأصله، وفارق البقل الذي يبيد أصله وفرعه فكان جنبة بينهما‏.‏ وما تعلق بالشجر فرقى فيه وعصب به فهو في طريقة العصبة‏.‏ وما افترش ولم يسم فهو في طرقة السطاح، وقد زعم أبو عبيدة أنه النجم‏.‏ على أن كل ما طلع من الأرض فقد نجم، فهو نجم إلى أن تتبين وجوهه ‏.‏

وقال الجواليقي في لحن العامة‏:‏ يذهب العامة إلى أن البقل ما يأكله الناس خاصة دون البهائم، من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ‏.‏ وليس كذلك، إنما البقل العشب، وما ينبت الربيع مما تأكله البهائم، قال الشاعر‏:‏

ولا أرض أبقل إبقالها

وقال آخر‏:‏ الكامل

قوم إذا نبت الربيع لهم *** نبتت عداتهم مع البقل

وقال زهير‏:‏

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطيناً لهم حتى إذا أنبت البقل

يقال منه‏:‏ بقلت الأرض وأبقلت، لغتان فصيحتان، إذا أنبتت البقل‏.‏ قال أبو النجم يصف الإبل‏:‏ الرجز

تبقلت في أول التبقل

والفرق بين البقل ودق الشجر‏:‏ أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر يبقى له‏.‏

تتمة

قال شراح شواهد الكتاب‏:‏ هذا البيت لعامر بن جوين الطائي، وهو أحد الخلعاء الفتاك، قد تبرأ قومه من جرائره‏.‏ وله حكاية مع امرئ القيس، وستأتي في ترجمته إن شاء الله‏.‏ وصف به أرضاً مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث‏.‏ ولم يذكروا مما قبله ولا ما بعده شيئاً‏.‏ وقال شارح شواهد المغني‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ أوله‏:‏ المتقارب

وجارية من بنات الملو *** ك قعقعت بالرمح خلخالها

ككرفئة الغيث ذات الصبي *** ر ترمي السحاب ويرمي لها

تواعدتها بعد مر النجو *** م كلفاء تكثر تهطالها

فلا مزنة ودقت ودقها

انتهى‏.‏ وقد رأيت البيتين الأولين في شعر الخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخراً أوله‏:‏ المتقارب

ألا ما لعيني ألا ماله *** لقد أخضل الدمع سربالها

ثم وصفت جيشاً فقالت‏:‏

ورجراجة فوقها بيضه *** عليها المضاعف زفناً لها

ككرفئة الغيث ذات الصبير

وقال شارح ديوانها الأخفش‏:‏ الرجراجة‏:‏ الكتيبة، كأنها تتحرك وتتمخض من كثرتها‏.‏ والمضاعف من الدروع‏:‏ التي تنسج حلقتين حلقتين‏.‏ ووزفنا له‏:‏ مشينا لها باختيال، وهي بالزاي المعجمة والفاء، زاف يزيف زيفاً وزيفاناً‏:‏ تبختر في مشيته‏.‏ وشبه الرجراجة في كثرتها وحركتها وتمخضها بالكرفئة، وهي السحابة العظيمة التي يركب بعضها على بعض حملاً للماء‏.‏ والحمل - بالفتح -‏:‏ ما كان في الجوف مستكناً‏.‏ والحمل - بالكسر -‏:‏ ظاهر مثل الوقر على الظهر‏.‏ شبه الكرفئة بالناقة يكثر لحمها وشحمها، يقال‏:‏ إن عليها لكرافئ من اللحم والشحم‏.‏ والصبير‏:‏ سحاب أبيض‏.‏ ترمي السحاب هذه الكرفئة أي‏:‏ تنضم إليه وتتصل به، ويرمى لها بالبناء للمفعول، أي‏:‏ يضم إليها حتى يستوي ويخلولق‏.‏

قال ابن الأعرابي‏:‏ هذا البيت لعامر بن جوين الطائي‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الكرفئة وجمعه كرافئ‏:‏ قطع من السحاب بعضها فوق بعض‏.‏ والصبير‏:‏ السحاب الأبيض‏.‏ ثم قالت تخاطب أخاها‏:‏

وبيض منعت غداة الصباح *** وقد كفت الروع أذيالها

وهاجرة حرها واقد *** جعلت رداءك أظلالها

وجامعة الجمع قد سقته *** وأعلمت بالرمح أغفالها

ورعبوبة من بنات الملو *** ك قعقعت بالرمح خلخالها

بيض ، تعني جواري سبين‏.‏ كفت‏:‏ كشفت‏.‏ والروع‏:‏ الفزع‏.‏ وروى ابن الأعرابي‏:‏ تكشف للروع أذيالها ‏.‏ واقد‏:‏ شديد الحر‏.‏ جعلت رداءك أظلالها، أي‏:‏ استظللت فيها بالرداء‏.‏ وتعني بجامعة الجمع إبلاً كثيرة‏.‏ قد سقتها إما لتزويج وإما لسباء تفكه‏.‏ وروى ابن الأعرابي‏:‏ ومعلمة سقتها قاعداً ‏.‏ معلمة‏:‏ إبل‏.‏ قاعداً‏:‏ أي‏:‏ قاعد على فرسك‏.‏ والأغفال‏:‏ التي لا سمات عليها ولا علامات‏.‏ تقول‏:‏ أعلمت منها ما كان أغفالاً‏.‏ والرعبوبة‏:‏ الناعمة الرخصة اللينة‏.‏ قعقعت خلخالها، أي‏:‏ تزوجت به وسبيتها، فهو سلبها‏.‏

ولا يخفى أن هذه الأبيات غير مرتبطة ببيت الشاهد، ولا مناسبة لها به‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقد نسب أبو محمد الأعرابي في فرحة لأديب الأبيات التي نقلت عن الزمخشري إلى عامر المذكور‏.‏

وقال المظهري في شرح المفصل كلاماً يشبه كلام المبرسمين وهذيان المحمومين، وهو قوله‏:‏ قصة هذا البيت أن جارية هربت من غارة وفي رجلها خلخال، يقول الشاعر‏:‏ إن هذه الجارية تعدو ويصوت خلخالها كصوت الرعد، فليس مزنة تمطر مطراً مثل السحاب الذي يشبه هذه الجارية، وليس أرض تخرج النبات مثل أرض أصابها ذلك السحاب‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وعامر بن جوين صاحب الشاهد‏:‏ هو - كما قال محمد بن حبيب في أسماء المغتالين من الأشراف في الجاهلية والإسلام - هو عامر بن جوين بن عبد رضاء بن قمران الطائي، أحد بني جرم بن عمرو بن الغوث بن طيئ، كان سيداً شاعراً فارساً شريفاً؛ وهو الذي نزل به امرئ القيس بن حجر‏.‏ وكان سبب قتله أن كلباً غزت بني جرم، فأسر بشر بن حارثة وهبير بن صخر الكلبي، عامر بن جوين - وهو شيخ - فجعلوا يتدافعونه لكبره، فقال عامر بن جوين‏:‏ لا يكن لعامر بن جوين الهوان‏!‏ فقالوا له‏:‏ وإنك لهو‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فذبحوه ومضوا، فأقبل الأسود بن عامر فلما رأى أباه قتيلاً تتبعهم فأخذ منهم ثمانية نفر - وكانوا قتلوا عامراً وقد هبت الصبا - فكعمهم ووضع أيديهم في جفان فيها ماء، وجعل كلما هبت الصبا ذبح واحداً حتى أتى عليهم‏.‏

قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين‏:‏ عاش عامر بن جوين مائتي سنة‏.‏

ورضاء بضم الراء والمد؛ قال ابن الكلبي في كتاب الأصنام‏:‏ وقد كانت العرب تسمى بأسماء يعبدونها لا أدري أعبدوها للأصنام أم لا‏:‏ منها عبد رضاء، كان بيتاً لأبي ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد ين مناة بن تميم، وهدمه المستوغر في الإسلام وقال‏:‏ الكامل

ولقد شددت على رضاء شدة *** فتركتها تلا تنازع أسحما

وقمران - بفتح القاف وسكون الميم وبعدها راء مهملة -‏.‏ وجرم اسم ثعلبة حضنته أمة يقال لها جرم فسمي بها، وابنه الأسود كان شريفاً شاعراً‏.‏ وقبيصة بن الأسود وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذه نسبة عامر بن جوين من الجمهرة‏:‏ عامر بن جوين بن عبد رضاء بن قمران بن ثعلبة بن جيان وهو جرم بن عمرو بن الغوث بن طيء‏.‏

وأبو حنيفة الدينوري هو أحمد بن داود بن ونند‏.‏ أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت، وكان نحوياً لغوياً مهندساً منجماً حاسباً، راوية ثقة فيما يرويه ويحكيه‏.‏ مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائتين؛ قال أبو حيان التوحيدي‏:‏ أبو حنيفة الدينوري من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم‏.‏ وهذا كلامه في الأنواء يدل على حظ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك، وأما كتابه في النبات فكلامه فيه في عروض كلام أبدى بدوي، وعلى طباع أفصح عربي‏.‏ ولقد قيل لي إن له في القرآن كتاباً يبلغ ثلاثة عشر مجلداً - وما رأيته - وإنه ما سبق إلى ذلك النمط مع ورعه وزهده وجلالة قدره‏.‏ وله من الكتب‏:‏ كتاب الباءة ‏.‏ كتاب ما تلحن فيه العامة ‏.‏ كتاب الشعر والشعراء ‏.‏ كتاب الفصاحة ‏.‏ كتاب الأنواء ‏.‏ كتاب في حساب الدور ‏.‏ كتاب البحث في حساب الهند ‏.‏ كتاب الجبر والمقابلة ‏.‏ كتاب البلدان ، كبير‏.‏ كتاب النبات ، لم يصنف مثله في معناه‏.‏ كتاب الجمع والتفريق ‏.‏ كتاب الأخيار الطوال ‏.‏ كتاب الوصايا ‏.‏ كتاب نوادر الجبر ‏.‏ كتاب إصلاح المنطق ‏.‏ كتاب القبلة والزوال ‏.‏ كتاب الكسوف ‏.‏ وله غير ذلك‏.‏

روي أن أبا العباس المبرد ورد الدينور زائراً لعيسى بن ماهان، فأول ما دخل عليه وقضى سلامه قال له عيسى‏:‏ أيها الشيخ ما الشاة المجثمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها‏؟‏ فقال‏:‏ هي الشاة القليلة اللبن، مثل اللجبة، فقال‏:‏ هل من شاهد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قول الراجز‏:‏ الرجز

لم يبقى من آل الحميد نسمه *** إلا عنيز لجبة مجثمة

فإذا الحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فلما دخل عليه قال‏:‏ أيها الشيخ، ما الشاة المجثمة التي نهينا عن أكل لحمها‏؟‏ فقال‏:‏ هي التي جثمت على ركبها وذبحت من خلف قفاها‏.‏ فقال‏:‏ كيف تقول وهذا شيخ أهل العراق يقول هي مثل اللجبة‏؟‏‏!‏ وأنشده الشعر‏.‏ فقال أبو حنيفة‏:‏ أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة، إن كان هذا التفسير سمعه هذا الشيخ وقرأه، وإن كان الشعر إلا لساعته هذه‏.‏ فقال أبو العباس‏:‏ صدق الشيخ، فإنني أنفت أن أرد عليك من العراق، وذكري ما قد شاع، فأول ما تسألني عنه لا أعرفه‏.‏ فاستحسن منه هذا الإقرار‏.‏

وأنشد بعد لامرئ القيس، وهو