فصل: الجزء الثاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


باب التحذير

أنشد فيه، وهو

الشاهد السادس والستون بعد المائة

، وهو من شواهد س‏:‏

فإياك إياك المراء فإنه *** إلى الشر دعاء وللشر جالب

على أن حذف الواو شاذ‏.‏

قال س‏:‏ اعلم أنه لا يجوز أن تقول إياك زيداً، كما أنه لا يجوز أن تقول رأسك الجدار وكذلك إياك أن تفعل إذا أردت إياك والفعل فإذا قلت إياك أن تفعل تريد إياك أعظ مخافة أن تفعل ومن أجل أن تفعل جاز‏.‏

يعني أن تقع بعد إياك على وجهين أحدهما أن تجعل مصدراً هو معقول به كما تقول إياك وزيداً وأصله أن تقول إياك وأن تفعل كما قالت إياك وزيداً؛ ولكنهم حذفوا الواو لطول الكلام‏.‏ ويقدّر أيضاً إياك من أن تفعل إذا حذرته الفعل‏.‏

والوجه الآخر‏:‏ أن تجعل أن تفعل مفعولاً له؛ وهذا لا يحتاج إلى حرف عطف؛ ويجوز أن يقع المصدر موقعه‏.‏

فإذا وقع أن والفعل بمنزلة المفعول، ثم أوقعت المصدر موقعه، لم يك بدّ من إدخال الواو عليه كما تدخل على غيره من المفعولات‏.‏

ثم قال سيبويه‏:‏ إلا أنهم زعموا أن ابن أبي إسحاق أجاز هذا البيت ، وهو قوله‏.‏ فإياك إياك المراء‏.‏‏.‏الخ‏.‏

والشاهد فيه أنه أتى بالمراء وهو مفعول به،بغير حرف عطف‏.‏ وعند سيبويه أن نصب المراء بإضمار فعل، لأنه لم يعطف على إياك‏.‏ وسيبويه وابن أبي اسحاق ينصبه ويجعله كأن والفعل وينصبه بالفعل الذي نصب إياك يقدر فيه‏:‏ اتق المراء، كما يقدر فعلاً آخر ينصب إياك‏.‏ وقال المازني‏:‏ لما كرر إياك مرتين، كان أحدهما عوضاً من الواو‏.‏ وعند المبرد‏:‏ المراء بتقدير أن تماري، كما تقول‏:‏ إياك أن تماري‏:‏ أي مخافة أن تماري‏.‏

وهذا البيت نسبه أبو بكر محمد التاريخي في طبقات النحاة - وكذلك ابن بري في حواشيه على درة الغواص الحريرية، وكذلك تلميذه ابن خلف في شرح شواهد سيبويه - للفضل بن عبد الرحمن القرشي، يقوله لابنه القاسم بن الفضل‏.‏ قال ابن بري‏:‏ وقبل هذا البيت‏:‏

من ذا الذي يرجو الأباعد نفعه *** إذا هو لم تصلح عليه الأقارب

والأباعد‏:‏ فاعل يرجو‏.‏ يريد‏:‏ كيف يرجو الأجانب نفع رجل أقاربه محرومون منه‏.‏ والمراء‏:‏ مصدر ماريته أماريه مماراة ومراء‏.‏ أي‏:‏ جادلته‏.‏ ويقال ماريته أيضاً‏:‏ إذا طعنت في قوله، تزييفاً للقول، وتصغيراً للقائل‏.‏ ولا يكون المراء إلا اعتراضاً، بخلاف الجدال‏:‏ فإنه يكون ابتداء، واعتراضاً‏.‏ والجدال مصدر جادل‏:‏ إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب‏.‏ كذا في المصباح ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة، وهو من شواهد س‏:‏

أخاك أخاك إن من لا أخاً له *** كساع إلى الهيجا بغير سلاح

على أن أخاك منصوب على الإغراء؛ وهو مكرر‏.‏ يريد‏:‏ الزم أخاك غير أن هذا مما لا يحسن فيه إظهار الفعل عنذ التكرير ويحسن إذا لم يكرر لأنهم‏.‏ إذا كرروا وجعلوا أحد الاسمين كالفعل، والاسم الآخر كالمفعول؛ وكأنهم جعلوا أخاك الأول بمنزلة الزم، فلم يحسن أن تدخل الزم على ما قد جعل بمنزلة الزم‏.‏

وجملة إن من لا أخاً له الخ استئناف بياني‏.‏ وأكد لأنه جواب عن السبب الخاص‏.‏ ومن‏:‏ نكرة موصوفة بالجملة بعدها، وقيل‏:‏ موصولة‏.‏ ول‏:‏ نافية للجنس، وأخ‏:‏ اسمها؛ واللام مقحمة بين المتضايفين، نحو قولهم‏:‏ يا بؤس للحرب والخبر محذوف أي‏:‏ موجود ونحوه‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ ومن ذلك قولهم‏:‏ لا أبا لزيد، ولا أخاً له، ولا غلامى له؛ على قول سيبويه‏:‏ إن اسم لا مضاف لما بعد اللام‏.‏ وأما على قول من جعل اللام وما بعدها صفة، وجعل الاسم مشبهاً بالمضاف لأن الصفة من تمام الموصوف، وعلى قول من جعلهما خبراً، وجعل أبا وأخا على لغة من قال‏:‏ إن أباها وأبا أباها، وجعل حذف النون على وجه الشذوذ؛ فاللام للاختصاص، وهي متعلقة باستقرار محذوف ا‏.‏هـ‏.‏

وقوله‏:‏ كساع إلى الهيجا الخ خبر إن‏.‏ يقول‏:‏ استكثر من الإخوان، فهم عدة تستظهر بها على الزمان؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ المرء كثير بأخيه ‏.‏ وجعل من لا أخا له يستظهر به، كمن قاتل عدوه ولا سلاح معه‏.‏ وقد صدق فإن من قطع أخاه وصرمه، كان بمنزلة من قاتل بغير سلاح‏.‏

وقد أورد هذا البيت أبو عبيد القاسم بن سلاّم في أمثاله وقال‏:‏ هو مثل في استغاثة الرجل بأهل الثقة ‏.‏ والهيج‏:‏ الحرب؛ تمد وتقصر‏.‏ قال ابن خلف‏:‏ وهي فعلاء وفعلى فمن قصرها فيكون المحذوف منها ألف المد دون ألف التأنيث‏.‏ وإنما كان حذف ألف المد أولى من حذف ألف التأنيث لوجهين‏:‏

أحدهما أن ألف التأنيث لمعنى، وألف المد لغير المعنى؛ فكان حذف ما ليس لمعنى، أولى مما جاء لمعنى‏.‏

والثاني‏:‏ أن جميع ما قصر، مما همزته للتأنيث، لا ينصرف بعد القصر؛ ولو كان المحذوف منه همزة التأنيث لانصرف الاسم، لزوال علامة التأنيث، كما صرفت قريقر وحبيّر مصغري قرقرى وحبارى - لزوال علامة التأنيث منه‏.‏ ألا ترى قوله‏:‏

يا رب هيجا هي خير من دعه

قصره ولم يصرفه‏؟‏ والقصر فيه ضرورة، وقيل‏:‏ هو لغة‏.‏ ولو كان المحذوف منه ألف التأنيث لقال‏:‏ يا رب هيجاً هي خير وكان ينون هيجا ويذكرها ويقول هو خير ولا يقول هي خير‏.‏

وهذا البيت أول أبيات لمسكين الدارمي‏.‏ وبعده‏:‏

وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه *** وهل ينهض البازي بغير جناح

وما طالب الحاجات إلا معذب *** وما نال شيئاً طالب لنجاح

لحا الله من باع الصديق بغيره *** وما كل بيع بعته برباح

كمفسد أدناه ومصلح غيره *** ولم يأتمر في ذاك غير صلاح

وفي الأغاني وغيره إن مسكيناً الدارمي لما قدم على معاوية أنشده

إليك أمير المؤمنين رحلته *** تثير القطا ليلاً وهن هجود

على الطائر الميمون والجد صاعد *** لكل أناس طائر وجدود

إذا المنبر الغربي خلى مكانه *** فإن أمير المؤمنين يزيد

وسأله أن يفرض له، فأبى عليه - وكان لا يفرض إلا لليمن - فخرج من عنده وهو يقول‏:‏

أخاك أخاك إن من لا أخا له

الأبيات ولم يزل معاوية كذلك حتى كثرت اليمن وعزّت قحطان وضعفت عدنان فبلغ معاوية أن رجلاً من اليمن قال‏:‏ هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاريّ بالشام‏.‏ فرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس‏.‏ فقدم لذلك على معاوية عطارد بن حاجب، فقال له‏:‏ ما فعل الفتى الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان - يعني مسكيناً - فقال‏:‏ صالح يا أمير المؤمنين؛ قال‏:‏ أعلمه أني قد فرضت له، فله شرف العطاء وهو في بلاده، فإن شاء يقيم به وعندنا فليفعل، فإن عطاءه سيأتيه، وبشره بأني قد فرضت لأربعة آلاف من قومه‏.‏ فكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميماً في البرّ، فقال النجاشي، وهو شاعر اليمن‏:‏

ألا أيها الناس الذين تجمعو *** بعكّا أناس أنتم أم أباعر

أيترك قيساً آمنين بدارهم *** ونركب ظهر البحر والبحر زاخر

فو الله ما أدري وإني لسائل *** أهمدان تحمي ضيمها أم يحابر

أم الشرف الأعلى من أولاد حمير *** بنو مالك أن تستمرّ المرائر

أأوصى أبوهم بينهم أن تواصلو *** وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا‏؟‏‏!‏

فرجع القوم جميعاً عن وجههم، فبلغ ذلك معاوية، فسكّن منهم، وقال‏:‏ أنا أغزيكم في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مؤنة وأنا أعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك ومسكين الدارمي اسمه ربيعة بن عامر بن أنيس بن شريح بن عمرو بن عدي بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏

قال الكلبي‏:‏ كل عدس في العرب بضم العين وفتح الدال، إلا عدس بن زيد هذا، فإنه مضموم الدال‏.‏ هكذا في جمهرة النسب‏.‏

ومسكين الدارمي شاعر شجاع من أهل العراق، ولقّب المسكين لقوله‏:‏

أنا مسكين لمن أنكرني *** ولمن يعرفني جد نطق

ولقوله‏:‏

وسمّيت مسكيناً وكانت لحاجة *** وإني لمسكين إلى الله راغب

وهذه القصيدة من أحسن شعره‏:‏

اتق الأحمق أن تصحبه *** إنما الأحمق كالثوب الخلق

كلما رقّعت منه جانب *** حرّكته الريح وهناً فانخرق

وكصدع في زجاج فاحش *** هل ترى صدع زجاج يتفق

وإذا جالسته في مجلس *** أفسد المجلس منه بالخرق

وإذا نهنهته كي يرعوي *** زاد جهلاً وتمادى في الحمق

وإذا الفاحش لاقى فاحش *** فهنا كم وافق الشّنّ الطبق

إنما الفحش ومن يعتاده *** كغراب السوء ما شاء نغق

وحمار السوء إن أشبعته *** رمح الناس وإن جاع نهق

وغلام السوء إن جوّعته *** سرق الجار وإن يشبع فسق

وكغيرى رفعت من ذيله *** ثم أرخته ضراطاً فانمزق

أيها السائل عما قد مضى *** هل جديد مثل ملبوس خلق

أنا مسكين لمن أنكرني *** ولمن يعرفني جد نطق

لا أبيع الناس عرضي إنني *** لو أبيع الناس عرضي لنفق

ومن شعره يرثي ابن سميّة‏:‏

رأيت زيادة الإسلام ولّت *** جهاراً حين ودّعنا زياد

وردّ عليه الفرزدق بقوله‏:‏

أمسكين أبكى الله عينك إنم *** جرى في ضلال دمعها إذ تحدرا

بكيت امرأ من أهل ميسان كافر *** ككسرى على عدّانه وكقيصرا

أقول لهم لما أتاني نعيّه *** به لا بظبي بالصريمة أعفرا

قال الزمخشري في أمثاله‏:‏ به لا بظبي، مثل‏:‏ أي‏:‏ جعل الله ما أصابه لازماً مؤثراً فيه، ولا كان مثل الظبي في سلامته منه‏.‏ يضرب في الشماتة‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

ثم رأيت الميداني قال‏:‏ الأعفر‏:‏ الأبيض‏.‏ أي‏:‏ لتنزل به الحادثة لا بظبي‏.‏ يضرب عند الشماتة‏.‏ قال جرير حين نعي إليه زياد بن أبيه‏.‏‏.‏ وأنشد هذا البيت، وقال‏:‏ ومثله‏.‏

به لا بكلب نابح في السباسب

ومن شعر مسكين‏:‏

اصحب الأخيار وارغب فيهم *** ربّ من صحبته مثل الجرب

واصدق الناس إذا حدثتهم *** ودع الكذب لمن شاء كذب

ربّ مهزول سمين عرضه *** وسمين الجسم مهزول الحسب

ومن شعره الجيد مما أثبته السيد المرتضى علم الهدى في أماليه الدرر والغرر‏:‏

إن أدع مسكيناً فما قصرت *** قدري بيوت الحي والجدر

ما مسّ رحلي العنكبوت ول *** جدياته من وضعه غبر

لا آخذ الصبيان ألثمهم *** والأمر قد يعزى به الأمر

ولربّ أمر قد تركت وم *** بيني وبين لقائه ستر

ومخاصم قاومت في كبد *** مثل الدهان فكان لي العذر

ما علتي قومي بنو عدس *** وهم الملوك وخالي البشر

عمّي زرارة غير منتحل *** وأبي الذي حدثته عمرو

في المجد غرّتنا مبيّنة *** للناظرين كأنها البدر

لا يرهب الجيران غدرتن *** حتى يواري ذكرنا القبر

لسنا كأقوام إذا كلحت *** إحدى السنين فجارهم تمر

مولاهم لحم على وضم *** تنتابه العقبان والنسر

ناري ونار الجار واحدة *** وإليه قبلي تنزل القدر

ما ضرّ جاري أن أجاوره *** أن لا يكون لبيته ستر

أعشى إذا ما جارتي خرجت *** حتى يواري جارتي الخدر

ويصمّ عما كان بينهم *** سمعي وما بي غيره وقر

قوله‏:‏ فما قصرت قدري الخ، أي‏:‏ سترت‏.‏ يريد‏:‏ أنها بارزة لا يحجبها السواتر والحيطان‏.‏ وقوله‏:‏ ما مس رحلي العنكبوت الخ، هذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن؛ لأن العنكبوت إنما ينسج على ما لا تناله الأيدي ولا يكثر استعماله‏.‏ والجديات‏:‏ جمع جدية بالسكون، وهي باطن دفة الرحل‏.‏ وقوله‏:‏ لا آخذ الصبيان الخ، يقول‏:‏ لا أقبّل الصبي وأنا أريد التعرض لأمه‏.‏

ومثله لغيره‏:‏

ولا ألقي لذي الودعات سوطي *** ألاعبه وربّته أريد

وأنشد ابن الأعرابي في مثله‏:‏

إذا رأيت صبي القوم يلثمه *** ضخم المناكب لا عمّ ولا خال

فاحفظ صبيك منه أن يدنسه *** ولا يغرنك يوماً قلة المال

وقوله‏:‏ قاومت في كبد الخ، الكبد‏:‏ المزلة التي لا تثبت فيها الأرجل‏.‏ والدهان‏:‏ الأديم الأحمر‏.‏ وقوله‏:‏ فكان لي العذر، إنما يكون العذر إذا كان ثم ظلم؛ فيقول‏:‏ إنما أقاوم وأخاصم مظلوماً متعدى عليه؛ وإذا كان كذلك، فيجب الاعتذار على الظالم ويكون العذر لي، كقوله‏:‏

فإن كان سحراً فاعذريني على الهوى *** وإن كان داء غيره فلك العذر

وقوله‏:‏ فجارهم تمر، أي‏:‏ يستحلى الغدر به كما يستحلى التمر‏.‏ وقوله‏:‏ ناري ونار الجار واحدة، يقال‏:‏ إنه كانت له امرأة تماضّه؛ فلما قال ذلك قالت له‏:‏ أجل، إنما ناره ونارك واحدة لأنه أوقد ولم توقد، والقدر تنزل إليه قبلك، لأنه طبخ ولم تطبخ وأنت تستطعمه‏.‏‏.‏وقوله‏:‏ أن لا يكون لبيته ستر، يقال‏:‏ إنها قالت له‏:‏ أجل، إن كان له ستر هتكته‏!‏‏.‏

وقوله‏:‏ أعشى إذا ما جارتي خرجت، استشهد به في التفسير عند قراءة ومن يعش عن ذكر الرحمن بفتح الشين، ولأجله أوردت هذه القصيدة، فإن شرّاح شواهد التفسير اختلفوا في هذا البيت‏:‏ فبعضهم نسبه إلى حاتم الطائيّ، وبعضهم نسبه إلى غيره‏.‏ قال صاحب الكشاف‏:‏ ومن يعش بضم الشين وفتحها؛ والفرق بينهما‏:‏ أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل‏:‏ عشي؛ وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل‏:‏ عشا‏.‏ ونظيره عرج لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج، قال الحطيئة‏:‏

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

أي‏:‏ تنظر إليها نظر العشي؛ لما يضعف بصرك من عظم الوقود، واتساع الضوء‏.‏ وهو بين في قول حاتم‏:‏

أعشو إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

وقرئ‏:‏ يعشو‏.‏ ومعنى القراءة بالفتح‏:‏ ومن يعم عن ذكر الرحمن، وهو القرآن‏.‏ وأما القراءة بالضم فمعناها‏:‏ ومن يتعام عن ذكره، أي‏:‏ يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى‏.‏‏.‏ه مختصراً‏.‏

باب المفعول فيه

أنشد فيه وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة وهو من شواهد الكامل

فلا يغنيكم قناً وعوارضه *** ولأقبلن الخيل لابه ضرغد

على أن قناً وعوارضاً منصوبان على إسقاط حرف الجر ضرورة، لأنهما مكانان مختصان، لا ينتصبان انتصاب الظرف‏.‏ وهما بمنزلة ذهبت الشام في الشذوذ‏.‏

أوعد أعداءه بتتبعهم، والإيقاع بهم حيث حلوا في المواضع المنيعة‏.‏ ومعنى لأبغينكم‏:‏ لأطلبنكم‏.‏ والبغي له معنيان‏:‏ أحدهما الطلب، يقال‏:‏ بغيت الضالة‏.‏ فهو متعد إلى مفعول واحد‏.‏ والآخر‏:‏ الظلم والتعدي؛ يتعدى بعلى، يقال‏:‏ بغى فلان على فلان‏.‏ فهو فعل لازم‏.‏

وقناً قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم هو بفتح القاف وبعده نون، وهو اسم مقصور يكتب بالألف، لأنه يقال في تثنيته‏:‏ قنوان؛ هو جبل في ديار بني ذبيان، قال النابغة‏:‏

فإما تنكري نسبي فإني *** من الصهب السبال بني ضباب

فإن منازلي وبلاد قومي *** جنوب قناً هنالك كالهضاب

وقال أبو عمرو الشيباني‏:‏ قناً ببلاد بني مرّة؛ وقال الشماخ‏:‏

تربّع من جنبي قناً فعوارض *** نتاج الثريّا نوءها غير مخدج

وينبئك أنّ قناً جبلان، قول الطرماح‏:‏

تحالف يشكر واللؤم قدم *** كما جبلا قناً متحالفان

ولكونه اسم جبلين يثنى فيقال‏:‏ قنوين، قال الشماخ‏:‏

كأنها وقد وبدا عوارض *** والليل بين قنوين رابض

بجلهة الوادي قطاً نواهض

وبما ذكرنا لا يلتفت إلى قول ابن القوطية، كما نقله أبو حيان في تذكرته‏:‏ لا أعرف قناً في الأمكنة، وإنما هو قباً بالموحدة، وليس قبا المدينة ولا قبا بطريق مكة، هذان يذكّران ويؤنثان، وذلك يذكّر لا غيره ومن ذكّره قصره وصرفه، ومن أنّثه مدّه ولم يصرفه‏.‏

وأقول‏:‏ لم يذكر أحد ممن ألف في المقصور والممدود، ان قناً يمدّ‏.‏

وروى ابن الأنباري في المفضّليات‏.‏

فلأنعينكم الملا وعوارضاً

والملا بالفتح‏:‏ من أرض كلب‏.‏ وأنعينكم‏:‏ من النعي، بالنون، أي‏:‏ لأذكرن معايبكم وقبيح أفعالكم‏.‏ يقال‏:‏ فلان ينعى على فلان ذنوبه‏.‏ أي‏:‏ يذكرها ويصفها‏.‏

وروى الحرمازي‏:‏ فلأبغينكم الملا من البغي، وهو الطلب‏.‏ ولم يقع في رواية ابن الأنباري‏:‏ قنا، بدل الملا‏.‏

وعوارض بضم العين المهملة وكسر الراء وبعدها ضاد معجمة‏:‏ جبل لبني أسد، وقال أبو رياش‏:‏ هو جبل في بلاد طيئ، وعليه قبر حاتم‏.‏ وهذا هو الصحيح‏.‏ كذا في معجم ما استعجم‏.‏ واللابة‏:‏ الحرة بالفتح، وهي أرض ذات حجارة سود‏.‏ وضرغد بفتح الضاد والغين وسكون الراء؛ قال أبو عبيد البكري‏:‏ هي أرض لهذيل وبني غاضرة وبني عامر بن صعصعة، وقيل‏:‏ هي حرة بأرض غطفان من العالية، وقال الخليل‏:‏ ضرغد‏:‏ اسم جبل، ويقال‏:‏ موضع ماء ونخل‏.‏ اه‏.‏

وقال أبو محمد الأعرابي ضرغد من مياه بني مرة‏.‏

وقوله‏:‏ ولأقبلن الخيل، هكذا رواه سيبويه‏.‏ وفيه قولان‏:‏

أحدهما لأبي علي الفارسي، وهو أنه فعل لازم يتعدى بحرف الجر، والأصل لأقبلن بالخيل إلى لابة ضرغد‏.‏ كذا حكاه عنه أبو البقاء في شرح الإيضاح للفارسي، وابن خلف في شرح أبيات سيبويه، والسخاوي في سفر السعادة قال‏:‏ لأنّ أقبل فعل غير متعد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأقبل بعضهم على بعض وتقول‏:‏ أقبلت بوجهي عليه؛ فأجاز هنا حذف حرفي جر في فعل واحد‏.‏ وهذا تعسف، مع أنه منع حذف على، من قولهم‏:‏ كررت على مسمعي، وهو حرف واحد‏.‏

والقول الثاني للعبدري شارح الإيضاح، وهو أن أقبل هنا متعد بمعنى جعل مقابلاً، وليس ضد أدبر‏.‏ والمعنى‏:‏ لأجعلن الخيل تقابل؛ فهو متعد إلى مفعولين‏.‏ وهذا هو المعروف في اللغة، فإن قبل بدون همزة يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى استقبل، وأقبل بالهمز يتعدى إلى مفعولين قال أبو زيد في نوادره‏:‏ قبلت الماشية الوادي تقبله قبولاً؛ إذا استقبلته، وأقبلتها إياه ‏.‏

وقال صاحب الصحاح‏:‏ وأقبلته الشيء، أي‏:‏ جعلته يلي قبالته؛ وأقبلت الإبل أفواه الوادي‏.‏

وحكى السخاوي في سفر السعادة عن شيخه الإمام الشاطبي‏:‏ أقبلته الرمح‏:‏ إذا جعلته قبله‏.‏ وقال أبو حيان في تذكرته‏:‏ ما نقله أبو زيد نقله الهجري أيضاً في نوادره، وفي الحديث‏:‏ أن حكيم بن حزام كان يشتري العير من الطعام والإدام ثم يقبلها الشعب‏.‏

وأنشد الشيباني‏:‏

أكلفها هواجر حاميات *** وأقبل وجهها الريح القبولا 1‏.‏ه

وروى غير سيبويه، منهم ابن الأنباري في شرح المفضليات ‏.‏

ولأهبطن الخيل لابت ضرغد

قال‏:‏ وروى أيض‏:‏ ولأوردن الخيل ‏.‏

وهذا البيت من قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتاً لعامر بن الطفيل العامري‏.‏

قال أبو محمد الأعرابي‏:‏ قالها عامر يوم الرقم، يوم هزمتهم بنو مرة ففرّ عامر، واختنق أخوه الحكم بن الطفيل‏.‏ وفي ذلك اليوم قتل عقبة بن أنيس الأشجعي مائة وخمسين رجلاً من بني عامر، أدخلهم شعب الرقم فذبحهم‏.‏ فسمي عقبة ذلك اليوم مذبحاً‏.‏ والمخاطب بشعر عامر بنو مرة وفزارة‏.‏ وقنا وعوارض‏:‏ جبلان من بلاد بني فزارة‏.‏‏.‏ وأولها‏:‏

ولتسألن أسماء وهي حفية *** نصحاءها‏:‏ أطردت أم لم أطرد

قال ابن الأنباري‏:‏ أسماء بنت قدامة بن سكين الفزاري، قال أبو محمد الأعرابي‏:‏ كان يهواها عامر ويشبب بها في شعره، وكان قد فجر بها‏.‏ انتهى‏.‏ ونصحاء‏:‏ جمع نصيح‏.‏

وروى شارح ديوانه‏:‏ فصحاءها بالفاء، قال‏:‏ هو جمع فصيح‏.‏ وطردت ، بالبناء للمفعول والتكلم‏.‏

قالوا لها‏:‏ فلقد طردنا خيله *** قلح الكلاب وكنت غير مطرد

قلح منصوب على الذم؛ والقلح‏:‏ صفرة تعلو الأسنان، شبه عامر بني فزارة بها‏.‏ وجملة وكنت إلى آخره حال‏.‏

لاضير قد عركت بمرة بركه *** وتركن أشجع مثل خشب الغرقد

هذا البيت لم يروه المفضل في المفضليات ولا شرّاحها‏.‏ قال شارح الديوان‏:‏ يقال للصدر‏:‏ برك بالفتح، وبركة بالكسر‏.‏ وأشجع‏:‏ قبيلة‏.‏ والغرقد‏:‏ شجر‏.‏

فلأبغينكم قناً وعوارضاً

هذا التفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏ خاطب بني فزارة‏.‏

بالخيل تعثر في القصيد كأنه *** حدأ تتابع في الطريق الأقصد

القصيد‏:‏ كسر القنا، جمع قصيدة‏.‏ والحدأ كعنب‏:‏ جمع حدأ كعنبة، وهي طائر معروف‏.‏ وبالخيل‏:‏ متعلق بأقبلن في البيت قبله‏.‏ وجملة تعثر حال من الخيل‏.‏

في ناشىء من عامر ومجرب *** ماض إذا سقط العنان من اليد

لم يرو هذا البيت أيضاً صاحب المفضليات ‏.‏ قال شارح الديوان‏:‏ الناشىء الحدث حين نشأ‏.‏ وقول سقط العنان أي لشدة الجهر

ولأثأرن بمالك وبمالك *** وأخي المرواة الذي لم يسند

معطوف على قوله فلا يغنيكم يقول لأدركن بثأر مالك ومالك، أي‏:‏ لأقتلن بهما‏.‏ والمروراة بالفتح‏:‏ موضع بظهر الكوفة؛ وقال البكري في المعجم‏:‏ هو جبل لأشجع‏.‏ وقوله‏:‏ لم يسند ، أي‏:‏ لم يدفن ولكن ترك للسباع تأكله‏.‏

وقتيل مرة أثأرن فإنه *** فرغ وإن أخاهم لم يقصد

قتيل يروى بالحركات الثلاث‏:‏ بالجر عطفاً على ما قبله والواو للقسم، وبالرفع على المبتدأ والخبر أثأرن ، وبالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه أثأرن‏.‏ وليس مفعول أثأرن المذكور، لأن الفعل المؤكد لا يتقدم معموله عليه‏.‏ ومرة‏:‏ قبيلة‏.‏ وأثأرن ، توكيده يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في أدوات القسم وفرغ روي بكسر الفاء والغين المعجمة بمعنى الهدر؛ وروي بفتحها مع العين المهملة‏.‏ أراد أنه رأس عال في الشرف‏.‏ ولم يقصد‏:‏ لم يقتل؛ يقال‏:‏ أقصدت الرجل‏:‏ إذا قتلته‏.‏ يقول‏:‏ قتيل بن مرة صار دمه هدراً، فلا بد من أخذ ثأره منهم، فإن أخا بني مرة لم يقتل إلى الآن؛ فلا بد من قتلهم وأخذ الثأر منهم‏.‏

وبقية الأبيات لا حاجة لنا بها‏.‏ وعامر بن الطفيل هو عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري‏.‏ وهو ابن عم لبيد الصحابي‏.‏ وكنية عامر في الحرب أبو عقيل، وفي السلم أبو علي‏.‏ وكانت أصيبت إحدى عينيه في بعض الحروب‏.‏

قال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ كان عامر من أشهر فرسان العرب، بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً؛ حتى بلغ أن قيصر كان إذا قدم عليه قادم من العرب قال‏:‏ ما بينك وبين عامر بن الطفيل‏؟‏ فإن ذكر نسباً عظم عنده؛ حتى وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له‏.‏ فقال‏:‏ ابن عم عامر بن الطفيل‏؟‏ فغضب علقمة، وكان ذلك مما أوغر صدره وهيجه إلى أن دعاه إلى المنافرة‏.‏ وكان عمرو بن معد يكرب - وهو فارس اليمن - يقول‏:‏ ما أبالي أي ظعينة لقيت على ماء من أمواه معد، ما لم يلقني دونها عبداه وحراها‏!‏ ويعني بالحرين‏:‏ عامر بن الطفيل، وعتيبة ابن الحارث بن شهاب اليربوعي؛ وعنى بالعبدين‏:‏ عنترة العبسي والسليك بن السلكة‏.‏

قال الأثرم‏:‏ ويقال‏:‏ كانت المنافرة أن علقمة بن علاثة شرب الخمر، فضربه عمر الحد، فلحق بالروم فارتد؛ فلما دخل على ملك الروم قال‏:‏ انتسب‏.‏ فانتسب له علقمة‏.‏ فقال‏:‏ أنت ابن عم عامر بن الطفيل‏؟‏ فقال‏:‏ ألا أراني لا أعرف هاهنا إلا بعامر‏؟‏‏!‏ فغضب فرجع فأسلم وتقدم بيان المنافرة في الشاهد السادس والعشرين‏.‏

ولما قدمت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة، قدم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس أخو لبيد الصحابي لأمه - وكانا رئيسي القوم ومن شياطينهم - فقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به؛ وقد قال له قومه‏:‏ يا عامر، إن الناس قد أسلموا فأسلم‏.‏ قال‏:‏ والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش‏!‏ ثم قال لأربد‏:‏ إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئاً، فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال له عامر‏:‏ أتجعل لي نصف ثمار المدينة، وتجعلني ولي الأمر من بعدك وأسلم‏؟‏ فأبى عليه صلى الله عليه وسلم فانصرف عامر وقال‏:‏ أنا والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً فلما ولي قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم اكفني عامر بن الطفيل‏.‏ فلما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد‏:‏ ويلك يا أربد‏:‏ أين ما كنت أمرتك به‏!‏ والله ما كان على ظهر الأرض رجل أخوف عندي علي منك‏!‏ وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً‏.‏ قال‏:‏ لا أبالك‏!‏ لا تعجل علي‏!‏ والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف‏؟‏‏!‏ وخرجا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول‏:‏ يا بني عامر‏!‏ أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول‏!‏ ثم خرج أصحابه حين واروه التراب، حتى قدموا أرض بني عامر، فقالوا‏:‏ ما وراءك يا أربد‏؟‏ قال‏:‏ لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله‏.‏ فخرج بعد مقالته بيوم ويومين، معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما‏.‏

وروى ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ لما مات عامر نصبت بنو عامر أنصاباً، ميلاً في ميل حمى على قبره، لا تنشر فيه راعية، ولا يرعى، ولا يسلكه راكب ولا ماش، وكان جبار بن سلمى بن عامر بن مالك غائباً، فلما قدم قال‏:‏ ما هذه الأنصاب‏؟‏ قالوا‏:‏ نصبناها حمى على قبر عامر‏.‏ فقال‏:‏ ضيقتم على أبي علي، إن أبا علي بان من الناس بثلاث‏:‏ كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضل حتى يضل النجم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل‏!‏‏.‏

ولعامر وقائع في مذحج وخثعم وغطفان وسائر العرب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة وهو من شواهد س‏:‏

لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب

على أن حذف حرف الجر من الطريق شاذ‏.‏ والأصل‏:‏ كما عسل في الطريق الثعلب‏.‏

قال البن هشام في المغني‏:‏ وقول ابن الطراوة‏:‏ إنه ظرف، مردود بأنه غير مبهم‏.‏ وقوله‏:‏ إنه اسم لكل ما يقبل الاستطراق فهو مبهم لصلاحيته لكل موضع، منازع فيه، بل هو اسم لما هو مستطرق ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ استشهد به سيبويه على وصول الفعل إلى الطريق، وهو اسم خاص للموضع المستطرق، بغير واسطة حرف جر تشبيهاً بالمكان، لأن الطريق مكان‏.‏ وهو نحو قول العرب‏:‏ ذهبت الشام‏.‏ إلا أن الطريق أقرب إلى الإبهام من الشام، لأن الطريق تكون في كل موضع يسار فيه، وليس الشام كذلك‏.‏

وهذا البيت من قصيدة طويلة عدتها اثنان وخمسون بيتاً، لساعدة بن جؤية الهذلي‏.‏ وقبل بيت الشاهد هذه الأبيات‏:‏

فتعاوروا ضبراً وأشرع بينهم *** أسلات ما صاغ القيون وركبوا

من كل أسحم ذابل لا ضره *** قصر ولا راش الكعوب معلب

خرق من الخطي أغمض حده *** مثل الشهاب رفعته يتلهب

مما يترص في الثقاف يزينه *** أخذى كخافية العقاب مخرب

لدن بهز الكف يعسل متنه

التعاور‏:‏ التداول بالطعن وغايره‏.‏ والضبر بفتح المعجمة وسكون الموحدة‏:‏ مصدر ضبر‏:‏ إذا وثب؛ والضبر‏:‏ الجماعة أيضاً‏.‏ وروي موضعه‏:‏ ضرباً، وأشرعت الرمح، أي‏:‏ أملته‏.‏ والأسلات‏:‏ الرماح‏.‏ والقيون‏:‏ جمع قين، وهو الحداد، وأراد‏:‏ بما صاغ القيون‏:‏ الأسنة وقوله‏:‏ من كل أسحم، أي‏:‏ أسود‏.‏ وروي بدله‏:‏ أمسر‏.‏ وكذلك روي‏:‏ أظمى وهو بمعناه‏.‏ وأراد به الرمح‏.‏ وذابل‏:‏ قد جف وفيه لين‏.‏ يقول‏:‏ ليس به قصر فيضره ولا ضعف فيشد‏.‏

في الصحاح‏:‏ ورمح راش أي‏:‏ خوّار‏.‏ وناقة راشة‏:‏ ضعيفة ‏.‏ وهو من مادة الريش‏.‏ وهو خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ ولا هو راش الكعوب‏.‏ ومعلب‏:‏ خبر بعد خبر‏.‏ والمعلب‏:‏ اسم مفعول من علبت الشيء ‏(‏تعليباً‏)‏‏:‏ إذا شددته وحزمته بعلباء البعير؛ والعلباء بالكسر والمد‏:‏ عصب العنق‏.‏ وقوله‏:‏ خرق من الخطي ، هو بكسر الخاء وسكون الراء وبالجر‏:‏ صفة لأسحم ذابل‏.‏

قال السكري في شرح أشعار هذيل‏:‏ يعني بالخرق الرمح؛ ضربه مثلاً‏.‏ يقول‏:‏ هو في الرماح مثل الخرق في الفتيان‏.‏ والخرق‏:‏ الذي يتصرف في الأمور ويتخرق فيها‏.‏ وأغمض حده‏:‏ يعني ألطف ورقق حد السنان‏.‏ والشهاب‏:‏ السراج، شبه السنان به، عن غير أبي نصر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ خرق‏:‏ ماض‏.‏ وروى بعضهم‏:‏

خرق من الخطي ألزم لهذم والخرق ، أي‏:‏ بفتح الكسر‏:‏ الطويل‏.‏ واللهذم‏:‏ الحديد القاطع انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ مثل الشهاب بالجر‏:‏ صفة أخرى‏.‏ وقوله‏:‏ مما يترص الخ ، يعني‏:‏ هذا الرمح مما يترص، أي‏:‏ يحكم؛ في الصحاح‏:‏ أترصته وترصته، أي‏:‏ أحكمته وقومته، فهو مترص وتريص‏.‏ وهو بالتاء المثناة والراء والصاد المهملتين‏.‏ وطالثقاف بالكسر‏:‏ الخشبة التي يقوّم بها الرمح‏.‏ وقوله‏:‏ أخذى ، أي‏:‏ سنان أخذى، وهو بالخاء والذال المعجمتين، وهو صفة‏.‏

قال السكري‏:‏ أخذى‏:‏ منتصب مثل الأخذى من الكلاب وهو المنتصب الأذن‏.‏ وشبهه بخافية العقاب في الدقة، والخافية‏:‏ ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح، وهي ريشة بيضاء‏.‏ ومخرب ، بالخاء المعجمة‏.‏ يقول‏:‏ كأنه غضبان من الحرص أن يقع في الدم‏.‏ يقال‏:‏ خرّبته بالتشديد فخرب كفرح‏.‏ أي‏:‏ أغضبته فغضب‏.‏

وقوله‏:‏ لدن بهز الكف الخ بجر لدن صفة أخرى لأسحم ذابل، ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي‏:‏ هو لدن، واللدن‏:‏ اللين الناعم‏.‏ ويعسل يشتد اهتزازه‏.‏ وعسل الثعلب والذئب في عدوه‏:‏ إذا اشتد اضطرابه، بفتح السين في الماضي وكسرها في المستقبل، والمصدر عسلاً وعسلاناً بتحريكهما‏.‏ والباء في قوله‏:‏ بهز ، بمعنى عند متعلقة بلدن‏.‏

قال ابن خلف في شرح أبيات سيبويه‏:‏ والأحسن أن يكون ظرفاً ليعسل، أي‏:‏ يعسل متنه عند هزه‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن فيه ظرف قد عمل فيه يعسل، فكيف يعمل في ظرف آخر‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنهما ظرفان مختلفان‏:‏ لأن فيه ظرف مكان وبهز ظرف زمان‏.‏‏.‏ والهز‏:‏ مصدر مضاف إلى الفاعل، والمفعول محذوف، أي‏:‏ بهز الكف إياه‏.‏

وقال أبو علي في إيضاح الشعر‏:‏ التقدير في قوله يعسل متنه ، يعسل هو، يريد أنه لا كزازة فيه إذا هززته ولا جسو‏.‏ ومثل ذلك قول الآخر‏:‏ وكاهتزاز رديني تعاوره *** أيدي التجار فزادوا متنه لينا

ومثل ذكر المتن في هذه المواضع والمراد الجمهور، قول الآخر‏:‏

يغشى قرا عارية أقراؤه

ألا ترى أن المعنى يغشى هذه الفلاة، ولا يريد تخصيص مكان منها دون مكان‏.‏ قال ابن خلف‏:‏ ويجوز أن يريد ثعلب الرمح، وهو طرفه الداخل في جلبة السنان، أي‏:‏ يضطرب وسطه كما يضطرب طرفه، لاعتداله واستوائه‏.‏ ونبه بالأبعد على الأقرب، لأنه إذا اهتز وسطه، فأطرافه أول‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن ذكر الطريق على هذا يكون لغواً‏.‏ والهاء من فيه ضمير الهز، كما قاله أبو علي ولبن الشجري‏.‏ وأعاده ابن خلف على لدن‏.‏ وجملة يعسل متنه مفسرة لقوله‏:‏ لدن‏.‏ وما ذكر هو رواية س‏.‏ ورواه السكؤي في أشعاره هذيل كذا‏:‏

لذ بهز الكف يعسل نصله واللذ بالفتح‏:‏ اللذيذ‏.‏ يقول‏:‏ هذا الرمح إذا هز بالكف فهو لذيذ أي‏:‏ تلتذه الكف‏.‏ والالتذاذ في التحقيق لصاحب الكف‏.‏

وقال السكري‏:‏ يضطرب نصله كما يضطرب الثعلب في الطريق إذاعدا؛ والنصل‏:‏ السنان‏.‏ ورواية سيبويه هي الجيدة‏.‏

وابن جؤية كما قال الآمدي في المؤتلف والمختلف ساعدة بن جؤية‏.‏ أخو بني كعب كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر‏.‏ شاعر محسن جاهلي‏.‏ وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة، وليس فيه من الملح ما يصلح للمذاكرة‏.‏ انتهى‏.‏

وهو شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم، وليست له صحبة‏.‏ كذا قال ابن حجر في الإصابة ‏.‏ فقول الآمدي‏:‏ جاهلي ليس كما ينبغي‏.‏ وجؤية بضم الجيم بعدها همزة مفتوحة وبعد الهمزة ياء مشددة‏.‏ هذا هو المشهور‏.‏ وهو مصغر، وفي مكبره خمسة أقوال بينها ابن خلف في أوائل شرح أبيات سيبويه‏.‏ ومقابل المشهور أنه ساعدة بن جوين ‏.‏ والله أعلم‏.‏

وذكر الآمدي أن ابن جؤية شاعر آخر، اسمه عائذ بن جؤية النصري اليربوعي‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السبعون بعد المائة وهو من شواهد س‏:‏

عزمت على إقامة ذي صباح *** لأمر ما يسود من يسود

على أن الشاعر جر ذي صباح على لغة خثعم‏.‏ وهو ظرف لا يتمكن، والظروف التي لا تتمكن لا تجر ولا ترفع‏.‏ ولا يجوز مثل هذا إلا في لغة هؤلاءالقوم، وفي ضرورة‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وذو صباح بمنزلة ذات مرة، تقول‏:‏ سير عليه ذا صباح‏.‏ خبرنا بذلك يونس‏.‏ إلا أنه قد جاء في لغة خثعم مفارقاً لذات مرة ولذات ليلة‏.‏ وأما الجيدة العربية فأن تكون بمنزلتها يريد بمنزلتها‏:‏ ظرفاً قال رجل من خثعم‏:‏ عزمت على إقامة‏.‏‏.‏البيت‏.‏ فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو البقاء في شرح الإيضاح‏:‏ قيل‏:‏ هو بمنزلة ذات مرة، إلا أنه أخرجه عن الظرف بالإضافة إليه، وقيل‏:‏ ذو زائدة، أي‏:‏ على إقامة صباح‏.‏

وجعل ابن جني في الخصائص، إضافة ذي إلى صباح من إضافة المسمى إلى الاسم، نحو‏:‏ كان عندنا ذات مرة، أي‏:‏ الدفعة المسماة مرة، والوقت المسمى صباحاً‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

قال أبو علي الفارسي في التذكرة‏:‏ هذا البيت قاله الشاعر ولم يقل بيتاً غيره‏.‏ وكان استعان هو وقومه بملك على أعدائهم؛ فقال‏:‏ إن أردتم أعنتكم، على أن يكون النهب لي‏!‏ فقالوا‏:‏ لا نريد ذلك‏!‏ فقاتلوا أعداءهم بأنفسهم، فاستظهر عليهم أعداؤهم؛ فلما رأى استظهارهم عليهم أعانهم راضياً بأن لا يكون له النهب‏.‏ فقال هذا الشاعر هذا البيت فقط يمدحه‏.‏ فاللام متعلقة بيسود، كأنه قال‏:‏ يسود لأمر من يسود، أي‏:‏ بعقله وفضله يسود، ليس للاشيء، بل لأمر فيه‏.‏ انتهى وفيه‏:‏ أنه ليس بيتاً مفرداً، وإنما هو من أبيات‏.‏ وليست القصة كما ذكرها‏.‏ قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب هذا البيت لأنس بن مدركة الخثعمي‏.‏ وذلك‏:‏ أنه غزا هو ورئيس آخر من قومه بعض قبائل العرب متساندين، فلما قربا من القوم أمسيا فباتا حيث جن عليهم الليل، فقام صاحبه فانصرف ولم يغنم، وأقام أنس حتى أصبح، فشن عليهم الخيل فأصاب وغنم، وغنم أصحابه‏.‏‏.‏ فهذا معنى قوله‏:‏ عزمت على إقامة ذي صباح‏.‏ وهو آخر الأبيات‏.‏

قال أبو الندى‏:‏ وكان أنس مجاوراً لبني الحارث بن كعب، فوجد أصحابه منهم جفاءً وغلظة فأرادوا أن يفارقوهم، فقال لهم‏:‏ أقيموا إلى الصباح؛ فلما ظفر بنو الحارث ببني عامر، يوم فيف الريح، قال عند ذلك ما قال‏.‏ وأول الأبيات‏:‏

دعوت بني قحافة فاستجابو *** فقلت‏:‏ ردوا فقد طاب الورود

دعوت إلى المصاع فجاوبوني *** بورد ما ينهنهه المذيد

كأن غمامة برقت عليهم *** من الأصياف ترجسها الرعود

عزمت على إقامة ذي صباح

انتهى ولا يخفى أن هذه الأبيات أجنبية لا يظهر ارتباطها بالبيت الأخير‏.‏

والمصاع‏:‏ مصدر ماصع أي‏:‏ قاتل، والمصع‏:‏ الضرب بالسيف‏.‏ وقوله‏:‏ على إقامة ذي صباح لا يبعد أن يكون على تقدير‏:‏ على إقامة ليل ليل ذي صباح‏.‏ وما‏:‏ زائدة للتوكيد‏.‏ يقول‏:‏ عزمت على الإقامة إلى وقت الصباح، لأني قد وجدت الرأي والحزم قد أوجبا ذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ لأمر ما يسود من يسود، يريد‏:‏ أن الذي يسوده قومه لا يسودونه إلا لشيء من الخصال الجميلة والأمور المحمودة رآها قومه فيه فسودوه لأجلها‏.‏

أنشد صاحب الكشاف هذا البيت في سورة الإخلاص، في جواب السائل‏:‏ لم كانت هذه السورة مع قصرها عدل القرآن‏؟‏ قال الجاحظ في كتاب شرائع المروءة‏:‏ وكانت العرب تسود على أشياء‏:‏ أما مضر فتسود ذا رأيها، وأما ربيعة فمن أطعم الطعام، وأما اليمن فعلى النسب‏.‏ وكان أهل الجاهلية لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال‏:‏ السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والتواضع، والبيان؛ وصار في الإسلام سبعاً‏.‏ وقيل لقيس بن عاصم‏:‏ بم سدت قومك‏؟‏ قال‏:‏ ببذل الندى، وكف الأذى، ونصرة المولى، وتعجيل القرى‏.‏ وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ السودد اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ ذكر أبو عمرو بن العلاء عيوب جميع السادة، وما كان فيهم من الخلال المذمومة؛ إلى أن قال‏:‏ ما رأيت شيئاً يمنع من السودد إلا قد رأيناه في سيد‏:‏ وجدنا الحداثة تمنع السودد، وساد أبو جهل بن هشام وما طر شاربه، ودخل دار الندوة وما استوت لحيته‏.‏ ووجدنا البخل يمنع السودد، وكان أبو سفيان بخيلاً عاهراً وكان عامر بن الطفيل بخيلاً فاجراً وكان سيداً‏.‏ والظلم يمنع من السودد، وكان كليب بن وائل ظالماً، وكان سيد ربيعة، وكان حذيفة حذيفة بن بدر ظالماً، وكان سيد غطفان‏.‏ والحمق يمنع السودد، وكان عيينة بن حصن أحمق وكان سيداً‏.‏ وقلة العدد تمنع السودد، وكان السيل بن معبد سيداً ولم يكن بالبصرة من عشيرته رجلان‏.‏ والفقر يمنع السودد، وكان عتبة بن ربيعة مملقاً، وكان سيداً‏.‏

وناظم هذا البيت أنس بن مدرك الخثعمي، كما ذكرنا‏.‏ وهو جاهلي‏.‏

وصحفه ابن خلف في شرح أبيات سيبويه، بأوس بن مدرك، وقال‏:‏ أوس من الأسماء المنقولة إلى العلمية‏.‏ والأوس هنا الذئب، وإن أمكن أن يكون من العطية‏.‏

وكشفت عن اسمه في الجمهرة لابن الكبي فوجدته قال في جمهرة خثعم بن أنمار، ما نصه‏:‏ أنس بن مدرك بن كيعب - بالتصغير - بن عمرو بن سعد بن عوف بن العتيك بن حارثة بن سعد بن عامر بن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم‏.‏ وهو أبو سفيان الشاعر‏.‏ وقد رأس‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ابن خلف عن الجاحظ‏:‏ أن هذا البيت لإياس بن مدركة الحنفي‏.‏ وهذا غير مناسب، فإنهم نقلوا أن قائل هذا البيت خثعمي لا حنفي‏.‏ وخثعم أبو قبيلة من اليمن، وهو خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة

صلاءة ورس وسطها قد تفلقا

على أن وسط ساكنة السين، قد تتصرف وتخرج عن الظرفية كما في هذا البيت‏.‏

وصدره‏:‏

أتته بمجلوم كأن جبينه

فوسطها مرفوع على أنه مبتدأ، وجملة قد تفلق خبره‏.‏

كذا أورده أبو علي الفارسي في الإيضاح الشعري، وابن جني في الخصائص وأوردا له نظائر‏.‏

قال ثعلب في الفصيح‏:‏ جلس وسط القوم، بسكون السين؛ وجلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه، بفتح السين‏.‏ قال شارحه الإمام المرزوقي‏:‏ النحويون يفصلون بينهما ويقولون‏:‏ وسط، بسكون السين، اسم الشيء الذي ينفك عن المحيط به جوانبه، تقول‏:‏ وسط رأسه دهن، لأن الدهن ينفك عن الرأس ووسط رأسه صلب لأن الصلب لا ينفك عن الرأس‏.‏ وربما قالوا‏:‏ إذا كان آخر الكلام هو الأول فاجعله وسطاً بالتحريك، وإذا كان آخر الكلام غير الأول فاجعله وسطاً بالتسكين‏.‏

وحكى الأخفش‏:‏ أن وسطاً قد جاء في الشعر اسماً وفارق الظرفية، وأنشد بيتاً آخره وسطها قد تفلقا وسطها مبتدأ مرفوع‏.‏ ويقال‏:‏ وسطت الأمر أسطه وسطاً بالسكون‏.‏ وأبو العباس ثعلب راعى فيما اختاره هنا، أن وسطاً إذا كان بعض ما أضيف إليه يحرك السين منه؛ وإذا كان غير ما أضيف إليه يسكن سينه؛ ألا ترى أن وسط الدار بعضها، وأن وسط القوم غيرهم‏!‏ فاما تفسيرهم لوسط ببين، فبين لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعداً، تقول‏:‏ بين زيد وعمرو بين، لتباينهما؛ وإن كررت بين للتأكيد جاز‏.‏ ووسط لشيئين يتصل أحدهما بالآخر، تقول‏:‏ وسط الحصير قلم، ولا تقول‏:‏ بين الحصير قلم؛ إلا أنه يستعار فيوضع بدلاً منه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن هشام اللخمي في شرح الفصيح‏:‏ وسط الشيء وأوسطه‏:‏ ما بين طرفيه، فإذا سكنت السين كان ظرفاً، وإذا فتحتها كان اسماً؛ فإنما يكون اسماً إذا أردت به الوسط كله، ويكون ظرفاً إذا لم ترد به الوسط كله وذلك إذا حسنت فيه في، تقول‏:‏ قعدت وسط الدار، فوسط الدار ساكن الوسط - وهو السين - لأنه ظرف ولأنك لا تأخذ بقعودك وسط الدار كله، وإنما تريد قعدت في وسط الدار، فلما أسقطت في، انتصب على الظرف‏.‏

فإن قلت‏:‏ ملأت وسط الدار قمحاً، فتحت السين لأنه مفعول به، لأن ملأت لا يقع إلا على الوسط كله، فقمح نصب على التمييز، لأن التقدير ملأت وسط الدار من قمح‏.‏ وكذلك تقول‏:‏ حفرت وسط الدار بئراً، وبنيت وسط الدار مجلساً؛ فوسط مفعول به، وبئراً ومجلساً منصوبان على الحال‏.‏

قال أبو علي في التذكرة‏:‏ فإن قلت‏:‏ إنه في حال ما يحفر ليس ببئر؛ فإن ذلك تجوز؛ ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني أراني أعصر خمراً فالبئر أقرب من هذا؛ ألا ترى أن هذا في حال العصر ليس بخمر حتى يشتد‏!‏ وبعض الآبار في العمق أقل من بعض، ولا يخرجه ذلك عن أن يكون بئراً‏.‏ ويجوز أن يحمل حفرت على معنى جعلت؛ فتنصبه على أنه مفعول، فإن هذا مذهب البصريين‏.‏

وأكثر اللغويين يجعلون الوسط والوسط بمعنى واحد، وهو مذهب أبي العباس، وتمثيله يدل على ذلك، لأنه قال‏:‏ وجلس وسط الناس، يعني بينهم، بسين ساكنة - على أن وسطاً ظرف، ولذلك قدره بالظرف - ثم قال‏:‏ وجلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه بتحريك السين‏.‏ وهذا لا يجوز عند البصريين، لأنه إذا فتح السين كان اسماً وإذا كان اسماً لم ينصبه إلا الفعل المتعدي‏.‏ فقوله‏:‏ جلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه، بفتح السين، لا يجوز لما قدمنا‏.‏ فإن سكنت السين كان ظرفاً وكان العامل فيه جلس‏.‏ فاعلم ذلك انتهى‏.‏

وهذا مخالف لما قاله الإمام المرزوقي، فتأمل‏!‏ وروى أبو الحسن علي بن محمد المدايني في كتاب النساء الناشزات - كما سيأتي - نصفها قد تعلقا‏.‏ وعليه لا شاهد فيه‏.‏

والمجلوم بالجيم واللام‏:‏ اسم مفعول من جلمت الشيء جلماً، من باب ضرب‏:‏ قطعته، فهو مجلوم، وجلمت الصوف والشعر‏:‏ قطعته بالجلمين‏:‏ وهذا هو المراد هنا‏.‏

قال صاحب المصباح‏:‏ الجلم بفتحتين‏:‏ المقراض، والجلمان بلفظ التثنية مثله، كما يقال فيه‏:‏ المقراض والمقراضان والقلم والقلمان‏.‏ ويجوز أن يجعل الجلمان والقلمان اسماً واحداً على فعلان، كالسرطان والدبران، وتجعل النون حرف إعراب‏.‏ ويجوز أن يبقيا على بابهما في إعراب المثنى، فيقال‏:‏ شريت الجلمين والقلمين‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه رواية أبي زيد وغيره‏.‏ ورواه أبو حاتم‏:‏ أتته بمحلوق من حلق رأسه بالموسى، مثلاً، من باب ضرب‏.‏

والجبين‏:‏ ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان‏:‏ عن يمين الجبهة وشمالها، قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما‏.‏ فتكون الجبهة بيبن جبينين‏.‏ وجمعه جبن بضمتين وأجبنة مثل أسلحة، كذا في المصباح‏.‏

والصلاية بفتح الصاد‏:‏ الحجر الأملس الذي يسحق عليه شيء، ويقال‏:‏ صلاءة أيضاً بالهمزة‏.‏ وروي هنا بهما‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والصلاية‏:‏ الفهر، أي‏:‏ حجر ملء الكف؛ وإنما قال امرؤ القيس‏:‏

مداك عروس وصلاية حنظل

فأضافه إليه، لأنه يفلق به إذا يبس‏.‏ والورس بفتح الواو وسكون الراء‏:‏ نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به، وقيل‏:‏ صنف من الكركم، وقيل‏:‏ يشبهه‏.‏ وقوله‏:‏ قد تفلقا يقال‏:‏ فلقته فلقاً من باب ضرب‏:‏ شققته فانفلق، وفلّقته بالتشديد‏:‏ مبالغة، ومنه خوخ مفلّق، اسم مفعول، وكذلك المشمس ونحوه‏:‏ إذا تفلق عن نواه وتجفف، فإن لم يتجفف فهو فلوق، بضم الفاء واللام مع تشديدها‏.‏ وتفلق الشيء‏:‏ تشقق، كذا في المصباح‏.‏

وهذا البيت من أبيات ثمانية للفرزدق، رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني، في كتاب النساء الناشزات، قال‏:‏ زوّج جرير بن الخطفى بنته عضيدة بن عضيدة ابن أخي امرأته وكان منقوص العضد، فخلعها منه، أي‏:‏ طلّقها بفدية فقال الفرزدق‏:‏

ما كان ذنب التي أقبلت نعتله *** حتى اقتحمت بها أسكفة الباب

كلاهما حين جد الجري بينهم *** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

يا ابن المراغة، جهلاً حين تجعله *** دون القولص ودون البكر والناب

وقال الفرزدق أيضاً‏:‏ الطويل

لئن أم غيلان استحل حرامه *** حمار الغضا من ثقل ما كان رنّقا

لما نال راق مثلها من كعابة *** علمناه ممن سار غرباً وشرّقا

حبته بمحلوق كأنّ جبينه *** صلاية ورس نصفها قد تفلقا

إذا بركت لابن الشغور ونوّخت *** على ركبتيها للبروك والحقا

فما من دراك فاعلمن لنادم *** وإن صك عينيه الحمار وصفّقا

وكيف ارتدادي أم غيلان بعدم *** جرى الماء في أرحامها وترقرقا

ستعلم من يخزى ويفضح قومه *** إذا ألصقت عند السفاد وألصقا

أبيلق رقّاء أسيّد رهطه *** إذا هو رجلي أم غيلان فرّقا

فأجابه جرير بن الخطفى‏:‏

هلاّ طلبت بعقر جعثن منقر *** ومجرّها وتركت ذكر الأبلق

سبعون والوصفاء مهر بناتن *** إذ مهر جعثن مثل حزر البندق

كم قد أثير عليكم من خزية *** ليس الفرزدق بعدها بفرزدق

انتهى ما أورده المدائني‏.‏

وقوله‏:‏ أقبلت تعتلها، يقال‏:‏ عتلت الرجل أعتله من بابي نصر وضرب‏:‏ إذا جذبته عنيفاً‏.‏ وضمير المؤنث لأم غيلان بنت جرير‏.‏

وروى أبو زيد في نوادره‏:‏

ما بال لومكما إذ جئت تعتلها

خطاباً لجرير وزوجته، من اللوم وهو التعنيف‏.‏ وروى المبرّد في الاعتنان‏:‏ ما بال لومكما بضمير المؤنث فيكون ضمير بنته عضيدة‏.‏ وقوله‏:‏ حتى اقتحمت بها الخ، أي‏:‏ إلى أن أدخلتها عتبة بابك‏.‏

وقوله‏:‏ كلاهما حين جدّ الجري الخ، ضمير التثنية لابنة جرير عضيدة ولزوجها‏.‏ وزعم العيني وغيره أن الضمير للفرسين‏.‏ وزاد شارح شواهد المغني أن فيه التفاتاً، والأصل كلاكما‏.‏ ورد عليه شارح المغني الحلبي، بأنه يأباه قول الشارحين أن البيت في وصف فرسين تجاريا‏.‏ وهذا لا أصل له، وكأنهم فهموه من ظاهر البيت، وسببه أنهم لم يقفوا على منشأ الشعر‏.‏

وقوله‏:‏ جدّ الجري، أي‏:‏ اشتد العدو‏.‏ وقوله‏:‏ قد أقلعا، يقال‏:‏ أقلع عن الأمر إقلاعاً‏:‏ إذا تركه؛ والصلة هنا محذوفة، أي‏:‏ أقلعا عن الجري‏.‏ وقوله‏:‏ رابي، من الربو وهو النفس العالي المتتابع، يقال‏:‏ ربا يربو‏:‏ إذا أخذه الربو‏.‏ والبهر بضم الباء وهو تتابع النفس‏.‏ وهذا تمثيل وتشبيه؛ يقول‏:‏ إن بنت جرير وزوجها قد افترقا حين حصلت الألفة بينهما، ولم يمضيا على حالهما، فهما كفرسين جدّا في الجري ووقفا قبل الوصول إلى الغاية‏.‏

وهذا البيت من شواهد مغني اللبيب وغيره من كتب النحو، وأورد شاهداً على أنّ كلا يجوز مراعاة لفظها فيعود الضمير إليها مفرداً، ومراعاة معناها فيعود الضمير عليها مثنّى؛ وقد اجتمعا في هذا البيت‏.‏

وقوله‏:‏ يا ابن المراغة الخ، - المراغة‏:‏ الأتان - والفرزدق يقول لجرير يا ابن المراغة تعبيراً له بأن عشيرته بني كليب أصحاب حمير‏.‏ وقال الغوريّ‏:‏ لأنّ أمه ولدته في مراغة الإبل‏.‏ وقال ابن عباد‏:‏ المراغة الأتان لا تمنع الفحولة؛ وبذلك هجا الفرزدق جريراً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المراغة أم جرير لقبها به الأخطل‏.‏ يريد‏:‏ أنها كانت مراغة للرجال، كذا في العباب للصاغاني‏.‏

وقوله‏:‏ جهلاً حين تجعلها إلخ، يريد‏:‏ إنك جهلت في تزويجك إياها لغير أهل الإبل‏.‏

وقوله‏:‏ لئن أم غيلان الخ، أم غيلان هي بنت جرير، وأراد بحمار الغضا زوجها، وهو فاعل استحل؛ وحرامها مفعوله‏.‏ يقول‏:‏ إن استحلّ بضعها ما كان حراماً عليه قبل العقد‏.‏ ورنّق بالراء المهملة والنون بمعنى أقام؛ في العباب ورنّق القوم بالمكان‏:‏ إذا أقاموا به، ورنّق الطائر‏:‏ إذا خفق بجناحيه ورفرف فوق الشيء ولم يطر‏.‏ أراد من كثرة إقامته مع الإلحاح‏.‏

وقوله‏:‏ لما نال راق الخ، هذا جواب القسم، وجواب الشرط محذوف، وراق بالتنوين، اسم فاعل من رقيت السطح والجبل‏:‏ علوته يتعدى بنفسه‏.‏ ومثلها‏:‏ مفعوله‏.‏ وكعابة بكسر الكاف‏:‏ مصدر كعبت الجارية تكعب كعوباً وكعابة إذا بدا ثديها، فهي كاعب وكعاب بالفتح؛ وفيه مضاف محذوف، أي‏:‏ من ذات كعابة‏.‏ وقوله‏:‏ علمناه الجملة صفة راق‏.‏

وقوله‏:‏ حبته بمحلوق، أي‏:‏ خصّصته بإعطاء فرج محلوق‏.‏ وروي‏:‏ أتته بمحلوق‏.‏ وهذا البيت في صفة الفرج‏.‏

وقوله‏:‏ إذا برت لابن الشغور إلخ، هذه كلمة سب؛ والشغور في الأصل‏:‏ الناقة التي تشغر بقوائمها إذا أخذت لتركب وتحلب‏.‏ وقوله‏:‏ ونوّخت بالنون والخاء المعجمة بالبناء للمفعول، يقال‏:‏ تنوّخ الجمل الناقة‏:‏ أناخها ليسفدها‏.‏ والبروك‏:‏ مصدر برك بروكاً أي‏:‏ استناخ، قال جرير‏:‏

وقد دميت مواقع ركبتيه *** من التّبراك ليس من الصلاة

وقوله‏:‏ ألحفا، من ألحق الشيء بالشيء أي‏:‏ أوصله به، معطوف على بركت‏.‏

وقوله‏:‏فما من دراك الخ، أي‏:‏ لا يقدر أن يلحقهما قادم عليهما، أي‏:‏ لا يتفرقا منه لشدة شبقهما‏.‏ وقوله‏:‏ وإن صك الخ، إن وصلية وصكّه‏:‏ ضربه، والحمار فاعله‏.‏ والتصفيق‏:‏ الردّ والصرف‏.‏

وقوله‏:‏ أبيلق رقّاء، مصغر أبلق وهو اسم زوج بنت جرير؛ ورقّاء مبالغة راق صفة لأبيلق‏.‏ وأسيّد مفعوله مضاف لما بعده‏.‏ قال المبرّد في الاعتنان‏:‏ كان جرير زوّج بنته الأبلق الأسيدي، أسيّد بن عمرو بن تميم فلم يحمده‏.‏ وذكر هجاء جرير إياه ورهطه‏.‏

وقوله‏:‏ هلا طلبت بعقر الخ، العقر بالضم‏:‏ دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها‏.‏ وجعثن بكسر الجيم والمثلثة‏:‏ اسم أخت الفرزدق‏.‏ ومنقر بكسر الميم وفتح القاف‏.‏ أراد أولاد الأشدّ المنقريّ، وكان عمران بن مرّة المنقري أسر جعثن أخت الفرزدق يوم السّيدان، وفيه يقول جرير‏:‏

غمز ابن مرة يا فرزدق كينه *** غمز الطبيب نغانغ المعذور

خزي الفرزدق بعد وقعة سبعة *** كالحصنمن ولد الأشدّ ذكور

وقال أيضاً‏:‏

على حفر السيدان لاقيت خزية *** ويوم الرحا لم ينق ثوبك غاسله

وقد نوّختها منقر قد علمتم *** لمعتلج الدأيات شعر كلاكله

يفرج عمران بن مرة كينه *** وينزو نزاء العير أعلق حائله

والغمز‏:‏ شبه الطعن والدفع‏.‏ والكين‏:‏ لحم الفرج‏.‏ والنغانغ‏:‏ أورام تحدث في الحلق‏.‏ والمعذور‏:‏ الذي أصابته العذرة، وهو وجع الحلق‏.‏ يريد أن اخته نكحها، حين أسرت، سبعة من ولد الأشد المنقري‏.‏ ويقال‏:‏ علقت الأنثى من الذكر وأعلقت‏:‏ إذا حملت‏.‏ والحائل‏:‏ التي يضربها الفحل فلا تحمل‏.‏ وهذا افتراء من جرير على جعثن، فإنها كانت من النساء الصالحات؛ وقد اعترف جرير بقذفه إياها وندم عليه، وكان يستغفر الله مما قذفها به، كما مر‏.‏

والأبلق‏:‏ زوج بنت جرير‏.‏ وقوله‏:‏ سبعون والوصفاء، هو جمع وصيف‏.‏ يريد‏:‏ أن مهر بناتنا سبعون من الإبل مع الوصفاء‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثاني والسبعون بعد المائة الطويل

ألا قالت الخنساء يوم لقيته *** أراك حديثاً ناعم البال أفرعا

على ان صفة الزمان القائمة مقام الموصوف يلزمها الظرفية عند سيبويه، كما في هذا البيت‏.‏ أي‏:‏ زماناً حديثاً‏.‏

وهذا البيت أول أبيات ثلاثة مذكورة في الحماسة، ثانيها‏:‏

فقلت لها‏:‏ لا تنكريني فقلّم *** يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا

وللقارح اليعبوب خير علالة *** من الجذع المرخى وأبعد منزعا

الرواية في الحماية وشروحها‏:‏

ألا قالت العصماء لمّا لقيتها

والعصماء‏:‏ امرأة‏.‏ والحديث هنا‏:‏ نقيض القديم، وهو هنا ظرف‏.‏ يقول‏:‏ قالت لي هذه المرأة لما التقيت معها‏:‏ أعلمك عن قريب ناعم الحال أفرع، أي‏:‏ تام شعر الرأس، لم يتسلط صلع، ولا حدث انحسار شعر، فكيف تغيرت، مع قرب الأمد‏!‏ والرؤية بصرية، وناعم البال‏:‏ مفعوله، وأفرعا صفته‏.‏ وناعم‏:‏ من نعم الشيء بالضم‏:‏ أي‏:‏ صار ناعماً ليناً، وكذلك نعم ينعم مثل حذر يحذر، وفيه لغة ثالثة مركبة بينهما‏:‏ نعم ينعم، بكسر الأول وضم الثاني، ولغة رابعة نعم ينعم بكسر عينيهما، وهو شاذ، كذا في الصحاح‏.‏

والبال‏:‏ القلب، وخطر ببالي، أي‏:‏ بقلبي؛ وهو رخيّ البال، أي واسع الحال، وهذا هو المراد‏.‏ قال ابن الأنباريّ في شرح المفضليات‏:‏ والأفرع بالفاء والراء والعين المهملتين، هو الكثير شعر الرأس؛ يقال‏:‏ رجل أفرع وامرأة فرعاء، وقد فرع من باب فرح‏.‏ وضدّ الأفرع الأزعر؛ والمرأة زعراء انتهى‏.‏

وقال صاحب الصحاح‏:‏ الفرع بفتحتين‏:‏ مصدر الأفرع وهو التام الشعر؛ وقال ابن دريد‏:‏ امرأة فرعاء كثيرة الشعر، قال‏:‏ ولا يقال للرجل إذا كان عظيم اللحية والجمّة أفرع، وإنما يقال أفرع لضد الأصلع انتهى‏.‏

وهذا المصراع الثاني قد وقع في قصيدة متمم بن نويرة التي رثى بها أخاه مالك بن نويرة، وهو‏:‏

تقول ابنة العمريّ مالك بعدم *** أراك حديثاً ناعم البال أفرعا

وقوله‏:‏ فقلت لها الخ؛ يقول‏:‏ قلت لها‏:‏ لا تستنكري ما رأيت من شحوب لوني وانحسار شعر رأسي، فما ينال الفتى السيادة حتى يستبدل بشبيبته شبيباً، وبوفور شعر رأسه صلعاً‏.‏

وقوله‏:‏ وللقارح اليعبوب الخ، القارح من الخيل بمنزلة البازل من الإبل، وهو الذي تمت واستحكمت قوته‏.‏ والقروح‏:‏ انتهاء السنّ، واليعبوب‏:‏ الفرس الكثير الجري، والجذع‏:‏ ماله سنتان‏.‏ والعلالة بالضم‏:‏ بقية الجري، ويريد به هنا الجري‏.‏ والمرخى‏:‏ الذي يرخى في سيره قليلاً قليلاً، لا يكلف أكثر من ذلك‏.‏ ويروى‏:‏ المرخي بكسر الخاء، والإرخاء‏:‏ لين في العدو‏.‏ ويروى بفتح الخاء وهو المرسل المهمل‏.‏ والمنزع‏:‏ النزوع إلى الغاية‏.‏ وانتصاب منزعاً وعلالة على التمييز، وهذا مثل ضربه في تفضيل نفسه، مع شيخوخته وقد أدّبه الدهر، على الأحداث الذين لم يجربوا الأمور فيقول‏:‏ للفرس المتناهي في القوة والسن، الذي يجري جرية الماء، سهولة ونفاذاً، خير بقاء وأبعد غاية من ابن سنتين وهو مهمل لم يؤدب بإسراج ولا إلجام‏.‏

وهذا الشعر لم يذكر قائله أحد من شراح الحماسة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائة‏:‏ الكامل

باكرت حاجتها الدجاج بسحرة

عجزه‏:‏

لأعل منها حين هب نيامها

على أن الدجاج منصوب على الظرف بتقدير مضافين، أي‏:‏ وقت صياح الدجاج، إذا كانت باكرت بمعنى بكرت، لا غالبت بالبكور‏.‏

أقول‏:‏ باكر متعد بنفسه إلى مفعول واحد، قال في المصباح‏:‏ وباكرت بمعنى بكرت إليه‏.‏ وحاجتها‏:‏ مفعول باكرت‏.‏ وبكر بالتخفيف، من باب قعد، فعل لازم يتعدى بإلى؛ يقال‏:‏ بكر إلى الشيء بمعنى بادر إليه أيّ وقت كان‏.‏

وقال أبو زيد في كتاب المصادر‏:‏ بكر بكوراً وغدا غدوّاً، هذان من أول النهار‏.‏ فإذا نقل إلى فاعل للمغالبة، تعدّى إلى مفعول واحد‏.‏ تعدى إلى مفعول واحد‏.‏ ومعنى المغالبة أن يغلب الفاعل المفعول في معنى المصدر‏.‏ فضمير المتكلم - الذي هو التاء - فاعل، وقد غالب الدجاج - وهو المفعول - في البكور فغلبه فيه‏.‏ فيكون حاجتها‏:‏ منصوباً بنزع الخافض، وهو إلى، لأن أصل باكر يتعدى به كما ذكرنا‏.‏ فإذا كان باكر من باب المغالبة، كان للتكثير في البكور إلى الحاجة، نحو ضاعفت الشيء بمعنى كثرت أضعافه، فيكون قوله‏:‏ حاجتها، مفعوله، ويكون الدجاج منصوباً على الظرف بتقدير مصدر مضاف، والتقدير صياح الدجاج؛ وهذا المصدر نائب عن اسم الزمن الواقع ظرفاً، أي‏:‏ وقت صياحه‏.‏

وقد ذكر ابن قتيبة هذا البيت في أبيات المعاني، وحمله على المغالبة مع تقديره المضاف، فقال‏:‏ أي‏:‏ بادرت بحاجتي إلى شربها أصوات الدّيكة، لأشرب منها مرة بعد مرة‏:‏ وهو العلل انتهى‏.‏

ومعنى بادرت سبقت‏.‏ وكذا قال شراح المعلقات‏:‏ وهذا البيت من معلقة لبيد بن ربيعة المشهورة وقبله‏:‏

أغلي السباء بكل أدكن عاتق *** وجونة قدحت وفضّ ختامها

بصبوح صافية وجذب كرينة *** بموتر تأتاله إبهامها

باكرت حاجتها الدجاج بسحرة

قوله‏:‏ أغلى، بضم الهمزة، أي‏:‏ أشتري غالياً‏.‏ والسباء‏:‏ بالكسر والمد‏:‏ اشتراء الخمر، ولا يستعمل في غيرها، يقال‏:‏ سبأت الخمر بالهمز أسبؤها بالضم سبئاً، بسكون الباء، ومسبأ‏:‏ إذا اشتريتها لتشربها‏.‏ قال ابن هرمة‏:‏

كأساً بفيها صهباء مغرقة *** يغلو بأيدي التجار مسبؤها

أي‏:‏ غنها من جودتها يغلو اشتراؤها؛ واستبأتها مثله؛ والاسم السباء على فعال بكسر الفاء؛ ومنه سميت الخمر سبيئة على وزن فعيلة، وخمارها سبّاء على فعّال بالتشديد‏.‏ وأما إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر، قلت سبيت الخمر، بلا همز، كذا في الصحاح والباء بمعنى مع‏.‏ والأدكن‏:‏ الزق الأغبر‏.‏ والعاتق‏:‏ قيل هي الخالصة - يقال لكل ما خلص‏:‏ عاتق - وقيل‏:‏ التي عتقت، وقيل‏:‏ التي لم تفتح‏.‏ فهو من صفة الخمر، وهو الصحيح، لأنه يقال‏:‏ اشترى زق خمر، وإنما اشترى الخمر‏:‏ ف عاتق مضاف إليه‏.‏ وقيل‏:‏ العاتق من صفات الزقّ، فهو وصف لأدكن‏.‏ والجونة بفتح الجيم‏:‏ الخابية‏.‏

وقدحت بالبناء للمفعول بمعنى غرفت، والمقدحة بالكسر‏:‏ المغرفة؛ وقيل‏:‏ قدحت‏:‏ مزجت؛ وقيل‏:‏ معناه بزلت، يقال‏:‏ بزلت الشيء بزلاً، بالموحدة والزاي المعجمة إذا ثقبته واستخرجت ما فيه‏.‏ وفضّ كسر؛ وختامها‏:‏ طينها‏.‏ وفيه تقديم وتأخير، أي‏:‏ فض ختامها وقدحت؛ لأنه ما لم يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها‏.‏ يقول‏:‏ أشتري الخمر غالية السعر‏:‏ باشتراء كل زق أدكن وخابية سوداء قد فض ختامها واغترف منها‏.‏ وتحرير المعنى‏:‏ أشتري الخمر للندماء عند غلاء السعر‏.‏ وأشتري كل زق مقير وخابية مقيّرة‏.‏ وإنما قيّرا لئلا يرشحا بما فيهما‏.‏

وقوله‏:‏ بصبوح صافية الخ، والصبوح‏:‏ شرب الغداة، ويريد‏:‏ بالصافية الخمر، والكرينة بفتح الكاف وكسر الراء المهملة‏:‏ المغنية بالعود، والكران بكسر الكاف، هو العود‏.‏ والموتر‏:‏ العود الذي له أوتار‏.‏ وتأتاله بفتح اللام الجارّة‏:‏ من قولك تأتيت له؛ كأنها تفعل ذلك على مهل وترسل‏.‏ ويروى‏:‏ تأتاله بضم اللام‏:‏ من قولك ألت الأمر‏:‏ إذا أصلحته، كذا في شروح المعلقات‏.‏ وروي‏:‏ وصبوح صافية بواو ربّ، والمعنى‏:‏ كم صبوح من خمر صافية، استمتعت باصطباحها، وجذب عوّادة عوداً موتّراً يعالجه إبهام العوّادة، استمتعت بالإصغاء إلى غنائها‏.‏

وقوله‏:‏ باكرت حاجتها الخ باكرت متعالق قوله‏:‏ بصبوح صافية، على رواية الباء، وهو جواب واو ربّ على رواية الواو‏.‏ وروي‏:‏ بادرت موضع باكرت‏.‏ وضمير حاجتها راجع إلى الصافية المارد منها الخمر، ومعناه‏:‏ حاجتي في الخمر، فأضاف الحاجة إلى ضمير الخمر اتساعاً وجعله الشارح المحقق - فيما يأتي قريباً - من باب إضافة المصدر إلى ظرفه وقال‏:‏ إلا أنه كالمضاف إلى المفعول به المنصوب بنزع الخافض، أي‏:‏ حاجتي إليها وهو في الحقيقة بمعنى الللام‏.‏ وروي في ديوانه‏:‏ باكرت لدّتها الدجاج وهو جمع دجاجة، بفتح الدال وكسرها، يطلق على الذكر والأنثى، والهاء للواحد من الجنس، والمراد هنا الديوك‏.‏ والمعنى‏:‏ باكرت بشربها صياح الديكة‏.‏

والسحرة بالضم‏:‏ أول السّحر‏.‏ وقوله‏:‏ لأعلّ متعلق بباكرت وبالبناء للمفعول، من الغلل وهو الشرب الثاني؛ وقد يقال للثالث والرابع‏:‏ علل من قولهم‏:‏ تعلّلت به، أي‏:‏ انتفعت به مرة بعد مرة؛ والنهل محركة‏:‏ الشرب الأوّل‏.‏ أي‏:‏ تعاطيت شربها قبل صدح الديك، لأسقى منها مرة بعد أخرى؛ أي‏:‏ حين استيقظ نيام السحر‏.‏ وهبّ من نومه‏:‏ استيقظ‏.‏ ونيام‏:‏ جمع نائم‏.‏

ومثله للنابغة الجعديذ‏:‏

سبقت صياح فراريجه *** وصوت نواقيس لم تضرب

قال الأصمعي‏:‏ الفراريج‏:‏ الديكة‏.‏

وقال جرير مثله‏:‏

لما تذكرت بالديرين أرّقني *** صوت الدجاج وضرب بالنواقيس

وترجمة لبيد بن ربيعة تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة

يا سارق الليلة أهل الدار

على أنه قد يتوسع في الظروف المنصرفة فيضاف إليها المصدر والصفة المشتقة منه، فإن الليل ظرف متصرّف، وقد أضيف إليه سارق وهو وصف‏.‏

وقد وقع هذا في كتاب سيبويه‏.‏ وأورده الفرّاء أيضاً في تفسيره، عند قوله تعالى فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وقال‏:‏ أضاف سارق إلى الليلة ونصب أهل‏.‏ وكان بعض النحوييين ينصب الليلة ويخفض أهل، فيقول‏:‏ يا سارق الليلة أهل الدار هذا كلامه‏.‏

قال ابن خروف في شرح الكتاب‏:‏ أهل الدار منصوب بإسقاط الجار، ومفعوله الأول محذوف والمعنى‏:‏ يا سارق الليلة لأهل الدار متاعاً، فسارق متعد لثلاثة، أحدهما الليلة على السعة، والثاني بعد إسقاط حرف الجر، والثالث مفعول حقيقي‏.‏ وجميع الأفعال متعديها ولازمها يتعدى إلى الأزمنة والأمكنة‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر، فإن أهل اللغة نقلوا‏:‏ أن سرق يتعدى بنفسه إلى مفعولين، قال صاحب المصباح وغيره‏:‏ سرقه مالاً يسرقه من باب ضرب، وسرق منه مالاً، يتعدى إلى الأول بنفسه وبالحرف على الزيادة‏.‏ انتهى‏.‏

فجعل من في المثال الثاني زائدة‏.‏ فالصواب أن الليلة هو المفعول الأول، وأهل الدار بدل منها، فيقتضي أن يكون منصوباً بسارق آخر، لأن البدل على نية تكرار العامل، والمفعول الثاني حذف لإرادة التعميم، أي‏:‏ متاعاً ونحوه‏.‏

قال السيد في شرح الكشاف‏:‏ وأهل الدار منصوب بسارق لاعتماه على حرف النداء، كقولك‏:‏ يا ضارباً زيداً، ويا طالعاً جبلاً‏.‏ وتحقيقه‏:‏ أن النداء يناسب الذات، فاقتضى تقدير الموصوف، أي‏:‏ يا شخصاً ضارباً‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يجر للمفعول الثاني ذكراً، وكأنه لوضوحه تركه‏.‏

وقول الفناري في حاشية المطول‏:‏ الظاهر أن انتصاب أهل الدار بمقدر، أي‏:‏ احذر أهل الدار، خلاف المعنى المقصود‏.‏ قال السيد‏:‏ والاتساع في الظرف أن لا يقدر معه في توسعاً، فينصب نصب المفعول به، كقوله‏:‏ ويوماً شهدناه، ويضاف إليه على وتيرته ك مالك يوم الدين وسارق الليلة حيث جعل اليوم مملوكاً والليلة مسروقة وأما مكر الليل والنهار فإن جعلا ممكوراً بهما - كما يقتضيه سياق كلامه في المفصل - كان مثالاً لما نحن فيه‏:‏ من إجراء الظرف مجرى المفعول به، وإن جعلا ماكرين كانا مشبهين به في إعطاء الظرف حكم غيره‏.‏ والإضافة في الكل بمعنى اللام‏.‏

ولم يقيد المصنف - يعني الزمخشري - الإضافة بمعنى في، وإن كانت رافعة مؤنة الاتساع وما يتبعه من الإشكال، إما لأن إجراء الظرف مجرى المفعول به قد تحقق في الضمائر بلا خلاف، وصورة الإضافة لما احتملت وجهين كانت محمولة على ما تحقق، فلا إضافة عندهم بمعنى في‏.‏ وإما لأن الاتساع يستلزم فخامة في المعنى، فكان عند أرباب البيان بالاعتبار أولى‏.‏ ومن أثبتها من النحاة فلنظرة في تصحيح العبارة على ظاهرها‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ وما يتبعه من الإشكال هو وصف المعرفة بالنكرة، لأن الإضافة على الاتساع لفظية، فيشكل كونه صفة للاسم الكريم؛ فلو كانت الإضافة بمعنى في لكانت معنوية وصح الوصف به، لحصول التعريف للمضاف، بناء على أن الإضافة اللفظية لا تكون على تقدير حرف‏.‏

واعلم أن صاحب الكشاف قال في مالك يوم الدين‏:‏ معنى الإضافة على الظرفية - بعد أن قال‏:‏ إن يوم الدين أضيف إليه مالك على الاتساع - فظاهره التنافي بينهما، لأن الإضافة على الاتساع لفظية، وكون المعنى على الظرفيى يقتضي أن الإضافة معنوية‏.‏ فدفعه السيد بقوله‏:‏ يعني أن الظرف - وإن قطع في الصورة عن تقدير في، وأوقع موقع المفعول به - إلا أن المعنى المقصود الذي سيق الكلام لأجله، على الظرفية؛ لأن كونه مالكاً ليوم الدين كناية عن كونه مالكاً فيه للأمر كله؛ فإن تملّك الزمان كتملك المكان يستلزم تملّك جميع ما فيه انتهى‏.‏

وإضافة الوصف إلى الظرف المذكور، من قبيل المجاز اللغوي عند السيد، ومن باب المجاز الحكمي عند التفتازاني‏.‏

ورده السيد بقوله‏:‏ ومن قال‏:‏ الإضافة في مالك يوم الدين مجاز حكمي، ثم زعم أن المفعول به محذوف عامّ يشهد لعمومه الحذف بلا قرينة؛ ورد عليه أن مثل هذا المحذوف مقدر في حكم الملفوظ، فلا مجاز حكمياً كما في واسأل القرية، إذ كان الأهل مقدراً انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة وهو من شواهد‏:‏

أستغفر الله ذنباً

هو قطعة من بيت، وهو‏:‏

أستغفر الله ذنباً لست محصيه *** رب العباد إليه الوجه والعمل

على أن الأصل استغفر الله من ذنب؛ فحذف من لأن استغفر يتعدى إلى المفعول الثاني بمن‏.‏

ومعناه طلب المغفرة، أي‏:‏ الستر على ذنوبه‏.‏ وأراد بالذنب جميع ذنوبه؛ فإن النكرة قد تعم في الإثبات‏.‏ ويدل عليه قوله‏:‏ لست محصيه ، أي‏:‏ انا لا أحصي عدد ذنوبي التي أذنبتها، وأنا أستغفر الله من جميعها‏.‏ ورب العباد صفة للاسم الكريم‏.‏ قال الأعلم‏:‏ والوجه هنا‏:‏ القصد والمراد، وهو بمعنى التوجه، أي‏:‏ إليه التوجه في الدعاء والطلب والمسألة، والعبادة والعمل له‏.‏ يريد‏:‏ هو المستحق للطاعة‏.‏ وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة وهو من شواهد المفصل‏:‏

كوكب الخرقاء

وهو قطعة من بيت، وهو‏:‏

إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة *** سهيل أذاعت غزلها في القرائب

على أن الشيء قد يضاف إلى الشيء لأدنى ملابسة‏.‏

بيانه‏:‏ أن الخرقاء هي المرأة التي لا تحسن عملاً، والأخرق‏:‏ الرجل الذي لا يحسن صنعة وعملاً - يقال‏:‏ خرق بالشيء من باب قرب‏:‏ إذا لم يعرف عمله‏.‏ وذلك إما من تنعم وترفه، ومن عدم استعداد وقابلية‏.‏ ومنه الخرقاء صاحبة ذي الرمة؛ فإنه أول ما رآها أراد أن يستطعم كلامها، فقدم إليها دلواً فقال‏:‏ اخرزيها لي؛ فقالت‏:‏ إني خرقاء، أي‏:‏ لا أحسن العمل‏!‏ وليس الخرقاء هنا المرأة الحمقاء كما توهم - فأضاف الكوكب إلى الخرقاء، بملابسة أنها لما فرطت في غزلها في الصيف ولم تستعد للشتاء استغزلت قرائبها عند طلوع سهيل سحراً - وهو زمان مجيء البرد - فبسبب هذه الملابسة سمي سهيل كوكب الخرقاء‏.‏

والإضافة لأدنى ملابسة، من قبيل المجاز اللغوي عند السيد، ومن المجاز العقلي عند التفتازاني‏.‏ قال السيد في شرح المفتاح في بيان الإضافة لأدنى ملابسة‏:‏ الهيئة التركيبية في الإضافة اللامية موضوعة للاختصاص الكامل، المصحح لأن يخبر عن المضاف بأنه للمضاف إليه‏.‏ فإذا استعملت في أدنى ملابسة، كانت مجازاً لغوياً، لا حكمياً، كما توهم‏.‏ لأن المجاز في الحكم إنما يكون بصرف النسبة عن محلها الأصلي إلى محل آخر، لأجل ملابسة بين المحلين‏.‏‏.‏ وظاهر أنه لم يقصد صرف نسبة الكوكب، عن شيء، إلى الخرقاء بواسطة ملابسة بينهما، بل نسب الكوكب إليها لظهور جدها في تهيئة ملابس الشتاء بتفريقها قطنها في قرائبها ليغزل لها في زمان طلوعه، الذي هو ابتداء البرد؛ فجعلت هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الكامل‏.‏ وفيه لطف‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وبه يسقط أيضاً كلام السيد عيسى الصفوي في جعله هذه الإضافة حقيقية وليس من المجاز في شيء، فإنه قال في مناقشته‏:‏ فإن ذلك مما لم يفهم من كلامهم، والأصل الحقيقة‏.‏ مع أنهم صرحوا بأن اللام معناه الحقيقي مطلق الاختصاص بمعنى المناسبة التامة وزيادة الخصوصية‏.‏ فلا مجاز في قولنا كوكب الخرقاء انتهى‏.‏

وكوكب الخرقاء‏:‏ فاعل بفعل محذوف يفسره لاح‏.‏ وسهيل بالرفع‏:‏ عطف بيان لكوكب الخرقاء‏.‏ وجملة أذاعت جواب إذا‏.‏ وأذاعت أي‏:‏ فرقت؛ وفاعله ضمير المضاف إليه، أعني الخرقاء، وروي‏:‏ أشاعت غزلها، أي‏:‏ فرقته؛ متعدي شاع اللبن في الماء‏:‏ إذا تفرق وامتزج به‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ إذا طلع سهيل عند غروب الشمس أول الليل، كان وقت تمام السنة؛ وفي الشتاء يطلع من أول الليل؛ وفي آخر الصيف قبيل الشتاء من آخر الليل‏.‏

وقد أنشد ابن السكيت هذا البيت في أبيات المعاني؛ وأورد بعده‏:‏

وقالت‏:‏ سماء البيت فوقك منهج *** ولما تيسر أحبلاً للركائب

وقال‏:‏ تقول لزوجها - إذا لاح سهيل -‏:‏ سماء البيت فوقك منهج، أي‏:‏ مخلق، واما تيسر لركائبنا أحبلاً؛ فكيف تنتجع على هذه الحالة‏؟‏ انتهى‏.‏

فجملة قالت معطوف على أذاعت‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ البيت عند العرب إنما هو من صوف وشعر؛ فإذا كان من شجر فهو خيمة‏.‏ والسماء‏:‏ السقف، مذكر، وكل عال مظلّ سماء‏.‏ والمنهج‏:‏ اسم فاعل من أنهج الثوب‏:‏ إذا أخذ في البلى‏.‏ وتيسر‏:‏ تسهل وتهيئ، مجزوم بلمّا‏.‏ وأحبل‏:‏ جمع حبل وهو الرسن ونحوه‏.‏ والركائب‏:‏ جمع ركاب؛ والركاب بالكسر‏:‏ الإبل االتي يسار عليها، الواحدة راحلة؛ وليس له واحد من لفظه‏.‏