فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الأصوات

أنشد فيه‏:‏

باسم الماء

وهو قطعة من بيت، وهو‏:‏

لا ينعش الطرف إلا ما تخونه *** داعٍ يناديه باسم الماء مبغوم

وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السابع بعد الثلثمائة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والسبعون بعد الأربعمائة

كما رعت بالجوت

وهو قطعة من بيت‏:‏

دعاهن ردفي فارعوين لصوته *** كما رعت بالجوت الظماء الصواديا

على أن بعض الأصوات قد يدخله أداة التعريف‏.‏ قال الزمخشري في المفصل بعد ما أنشده‏:‏ هو بالفتح محكياً مع الألف واللام‏.‏ وقال ثعلب في أماليه‏:‏ يقال للبعير جوت جوت، إذا دعوته إلى الماء؛ وإذا أدخلوا الألف واللام تركوها على حالها‏.‏ وكان أبا عمرٍو يكسر التاء، ويقول‏:‏ إذا أدخلت عليه الألف واللام ذهبت منه الحكاية‏.‏ وجوز ابن الناظم في شرح الألفية الوجهين‏:‏ الجر على الإعراب، والفتح على الحكاية‏.‏ قال الصغاني في العباب‏:‏ يقال إلى الإبل‏:‏ جوت بفتح الجيم والتاء المثناة، إذا دعيت إلى الماء‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ جوت بفتح الأول، وكسر الآخر وضمه أيضاً‏.‏ فالجيم مفتوحة لا غير‏.‏ والتاء ورد فيها الحركات الثلاث‏.‏ قال صاحب القاموس‏:‏ جوت جوت، مثلثة الآخر مبنية‏:‏ دعاءٌ للإبل إلى الماء‏.‏ وقد جأوتها وجأيتها‏.‏ وزجرٌ لها‏.‏ والاسم الجوات‏.‏ وأما حوب بفتح الهاء المهملة وآخره باء موحدة، فهو زجرٌ للإبل وليس بمرادٍ هنا، وباؤه مثلثة الحركات، وقد أخذ منه فعلٌ، فقيل‏:‏ حوب فلان بالإبل، إذا قال في زجرها‏:‏ حوب‏.‏ والبيت وقع في شعري شاعرين‏:‏ أحدهما‏:‏ في شعر عويف القوافي، وهو المشهور‏.‏ واختلف في معناه، فقيل‏:‏ أراد بالردف تابعه من الجن، فإن القوافي إذا تزاحمت في خاطره، ووسوسته، يقولون‏:‏ إن له شيطاناً يوسوسه‏.‏ فضمير دعاهن للقوافي، أي‏:‏ دعا شيطاني القوافي، فأجبنه، وانثلن عليه‏.‏ يعني أن الشعر أطاعه‏.‏ والردف بالكسر في الأصل‏:‏ المرتدف، وهو الذي يركب خلف الراكب‏.‏ والارعواء‏:‏ النزوع عن الجهل، وحسن الرجوع عنه‏.‏ ورعت بالخطاب، هو من قولهم‏:‏ هذه شربةٌ راع بها فؤادي، أي‏:‏ برد بها غلة روعي بالضم، وهو القلب، وموضع الفزع منه، وسواده‏.‏ وقيل‏:‏ هو من راعه بمعنى أعجبه‏.‏ والظماء‏:‏ جمع ظمآن وظمآنةٍ، من ظمئ كفرح، أي‏:‏ عطش، واشتد عطشه‏.‏ والصوادي‏:‏ جمع صادية، من الصدى، وهو العطش، وفعله من باب رضي‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وهذا هو المشهور‏:‏ أن رديفه لما دعا النساء اجتمعن، ورجعن عما كن عليه من الشغل، كما لو دعوت إلى الشرب الإبل فالتففن وتضاممن للشرب‏.‏ فضمير دعاهن راجع للنساء‏.‏ ولم أقف على ما قبل البيت حتى أتحققه‏.‏ والثاني‏:‏ وقع في شعر سحيم عبد بني الحسحاس، هكذا‏:‏

وأوده ردفي فارعوين لصوته إلخ

وأوده فعل ماض، قال صاحب القاموس‏:‏ أوده بالإبل، أي‏:‏ صاح بها‏.‏ ويوجد في بعض نسخ مجمع الأمثال للميداني عند قوله‏:‏ إلا دهٍ فلا دهٍ، قال أبو السمح‏:‏ أظنه من الإيداء، وهو الإهابة بالإبل‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وقد وقع المصراع الأول صدر بيت من قصيدة لمضرس بن ربعي، وهي قصيدة مختلفة المعاني، وصف فيها الإبل، ثم قال‏:‏

دعاهن ردفي فارعوين لصوته *** وقلن لحاديهن هل أنت ناظره

قال الأصمعي‏:‏ دعاؤه‏:‏ أن يغني ليعرفن صوته وإنشاده، فيحبسن عليه‏.‏ ومثله‏:‏

نادوا الذين تحملوا كي يربعو *** كيما يودع عاشقٌ ويودعوا

وأضيف عويف إلى القوافي، لقوله‏:‏

سأكذب من قد كان يزعم أنني *** إذا قلت قولاً لا أجيد القوافيا

ويشبه أن يكون هذا البيت من قصيدة البيت الشاهد‏.‏ وعويف هو عويف بن معاوية بن عقبة بن ثعلبة بن حصن - وقيل‏:‏ بن عقبة بن عيينة بن حصن - بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة ابن عدي فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار‏.‏ وعويف القوافي شاعر مقلٌّ من شعراء الدولة الأموية، من ساكني الكوفة، وبيته أحد البيوتات المتقدمة الفاخرة في العرب‏.‏ قال أبو عبيدة حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل، بعد بيت هاشم بم عبد مناف في قريش، ثلاثة بيوتات‏.‏ ومنهم من يقول أربعة‏.‏ أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري‏:‏ بيت قيسٍ‏.‏ وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين‏:‏ بيت تميم‏.‏ وبيت آل الجدين بن عبد الله بن همام‏:‏ بيت شيبان‏.‏ وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب‏.‏ بيت اليمن‏.‏ وأما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات، إنما كانوا ملوكاً‏.‏ وروى صاحب الأغاني بسنده أن عويف القوافي وقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسجده، فقال‏:‏

أصب على بجيلة من شقاه *** هجائي حين أدركني المشيب

فقال له جرير‏:‏ ألا أشتري منك أعراض بجيلة‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ قل‏.‏ قال‏:‏ بألف درهم وبرذون‏.‏ فأمر له بما طلب، فقال‏:‏

لولا جريرٌ هلكت بجيله *** نعم الفتى وبئست القبيلة

فقال جرير‏:‏ ما أراهم نجوا منك بعد‏!‏ وروى بسنده أيضاً إلى أبي بردة الأشعري، قال‏:‏ حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة، فلما انصرف انصرفت معه، وعليه عمامةٌ قد سدلها من خلفه، فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به‏:‏

أجبني أبا حفصٍ لقيت محمد *** على حوضه مستبشراً ورآكا

فقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ لبيك‏!‏ ووقف ووقف الناس معه، ثم قال له‏:‏ فمه، فقال‏:‏

فأنت امرؤٌ كلتا يديك مفيدةٌ *** شمالك خيرٌ من يمين سواكا

قال‏:‏ ثم مه‏؟‏ فقال‏:‏

بلغت مدى المجرين قبلك إذا جرو *** ولم يبلغ المجرون بعد مداكا

فجداك لا جدين أكرم منهم *** هناك تناهى المجد ثم هناكا

فقال له عمر‏:‏ أراك شاعراً، ما لك عندي من حق‏.‏ قال‏:‏ ولكني سائلٌ وابن سبيل وذو سهمة‏.‏ فالتفت عمر إلى قهرمانه، فقال‏:‏ أعطه فضل نفقتي‏.‏ فقال‏:‏ وإذا هو عويف القوافي الفزاري‏.‏ وكانت أخت عويف القوافي تحت عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري، فطلقها عيينة فكان عويفٌ مراغماً لعيينة، وقال‏:‏ الحرة لا تطلق لغير ما بأس‏.‏ فلما حبس الحجاج عيينة وقيده، قال عويف‏:‏

منع الرقاد فما يحس رقاد *** خبرٌ أتاك ونامت العواد

خبرٌ أتاني من عيينة موجعٌ *** ولمثله تتصدع الأكباد

بلغ النفوس بلاؤها فكأنن *** موتى وفينا الروح والأجساد

ساء الأقارب يوم ذاك وأصبحو *** بهجين قد سرت به الحساد

يرجون عثرة جدنا ولو أنهم *** لا يدفعون بنا المكاره بادوا

لما أتاني عن عيينة أنه *** عانٍ تظاهر فوقه الأقياد

نخلت له نفسي النصيحة إنه *** عند الحفائظ تذهب الأحقاد

وذكرت أي فتًى يسد مكانه *** بالرفد حين تقاصر الأرفاد

ومن يهين لنا كرائم ماله *** ولنا إذا عدنا إليه معاد

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والسبعون بعد الأربعمائة

ترد بحيهلٍ وعاجٍ وإنم *** من العاج والحيهل جن جنونها

على أن اسم الصوت إذا قصد به لفظه أعرب كما في البيت، فإن عاج، وهو زجرٌ للإبل لتسرع، لما قصد لفظه أعرب بالجر والتنوين أولاً، وبالجر والتعريف ثانياً‏.‏ أي‏:‏ أنها ترد بمجرد ذكر هذه الكلمة، وهي اسم فعل كما تقدم‏.‏ وأنشد ثعلب في أماليه بيتاً فيه حيهل معرفاً باللام، ونقله ابن بري في حاشية الصحاح قال‏:‏ قد عرفت العرب حيهل، كقوله‏:‏

وقد غدوت قبل رفع الحيهل *** أسوق نابين وناباً مِ الإبل

قال‏:‏ والنابان‏:‏ العجوزان‏.‏ ومِ الإبل، أصله‏:‏ من الإبل، فحذفت منه النون‏.‏ والبيت الشاهد نسبع الشارح المحقق لجهم بن العباس، ولم أره إلا في شرحه، ولا أعرف جهماً من هو‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

تداعين باسم الشيب في متثلمٍ

تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد الثامن أول الكتاب‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

كما رعت بالجوت الظماء الصواديا

تقدم شرحه قريباً قبل هذا بشاهد واحد‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

إن لواً وإن ليتاً عناء

على أن الكلمة المبنية إذا قصد لفظها أعربت كما أعربت لو وليت‏.‏ وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب العلم‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ *** نجوت وهذا تحملين طليق

على أن عدس فيه زجرٌ للبغل‏.‏ وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والعشرين بعد الأربعمائة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والسبعون بعد الأربعمائة

حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ *** فما يقال له هيدٌ ولا هاد

على أن الشاعر لما أراد لفظ هيد وهاد أعربهما بالرفع على جعل الأول نائب فاعل يقال، والثاني معطوفاً عليه‏.‏ وهذا مأخوذ من صحاح الجوهري، قال فيه‏:‏ وهيد بفتح الهاء وكسرها، وهاد‏:‏ زجر للإبل‏.‏ وأنشد أبو عمرو‏:‏

وقد حدوناها بهيدٍ وهل *** حتى يرى أسفلها صار علا

وقولهم‏:‏ ما له هيد، ولا هاد، أي‏:‏ ما يقال له هيدٌ ولا هاد‏.‏ وأنشد الأحمر‏:‏

حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ البيت

أي‏:‏ لا يحرك، ولا يمنع من شيء، ولا يزجر عنه‏.‏ اه‏.‏ وخطأه ابن بري، في رواية الرفع، قال في أماليه على الصحاح‏:‏ البيت لابن هرمة، وصواب إنشاده بالكسر في هيد وهاد لأنهما مبنيان‏.‏ وأول القصيدة‏:‏

إربع علينا قليلاً أيها الحادي *** قل الثواء إذا نزعت أوتادي

والبيت في شعره بخلاف ما أنشده الجوهري، وهو‏:‏

إني إذا الجار لم تحفظ محارمه *** ولم يقل دونه هيدٍ ولا هاد

لا أخذل الجار بل أحمي مباءته *** وليس جاري كعشٍ بين أعواد

انتهى‏.‏ وتبعه الصلاح الصفدي في كتابه نفوذ السهم، فيما وقع للجوهري من الوهم، ونقل كلامه برمته، وقال‏:‏ فالبيت الذي أورده الجوهري، تغير أكثر ألفاظه مع تغيير القافية؛ لأن هيد وهاد مبنيان على الكسر، وهما بمعنى الزجر عن الشيء وفعله‏.‏ اه‏.‏ وأنا أستبعد أن يكون بيت الجوهري من قصيدة ابن هرمة؛ لاحتمال أن يكون من شعر آخر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ إربع بكسر الهمزة وفتح الموحدة، أي‏:‏ قف وتحبس‏.‏ والثواء‏:‏ الإقامة‏.‏ وقوله‏:‏ إني إذا الجار خبر إني أول البيت الثاني، وهو لا أخذل‏.‏ والمباءة بالفتح والمد‏:‏ منزل القوم في كل موضع‏.‏ وأما البيت الأول وهو‏:‏

وقد حدوناها بهيدٍ وهلا

فلم يكتب ابن بري عليه شيئاً، وقد نسب إلى القتال الكلابي، ولم يوجد في ديوانه‏.‏ ونسبه أبو محمد الأعرابي لغيلان بن حريثٍ الربعي كذا‏:‏

ليس بثانيها بهيدٍ وحلا

وقال الصفدي‏:‏ هلا في هذا الرجز غلط، لأن هيد‏:‏ زجر للإبل، وهلا‏:‏ زجرٌ للخيل، والذي يقرن به هيد، إنما هو حلا، وكذا هو في الرجز‏.‏ وهو لغيلان‏.‏ على أن البيت مغير‏.‏ والصواب‏.‏

ليس بثانيها بهيدٍ وحلا

وترجمة ابن هرمة تقدمت في الشاهد الثامن والستين‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والسبعون بعد الأربعمائة

إلا ده فلا ده

هو مثلٌ، وقع في قطعة من رجز لرؤبة بن العجاج، يورد النحويون منه أربعة أبيات، وهي‏:‏

فاليوم قد نهنهني تنهنهي *** وأول حلم ليس بالمسفه

وقولٌ إلا دهٍ فلا ده *** وحقةٌ ليست بقول التره

وصف قبل هذه الأبيات شبابه، وما كان فيه من مغازلة الغواني، ومواصلة الأماني، إلى أن قال‏:‏ فاليوم قد زجرني عما كنت فيه أربعة أشياء‏:‏ الأول‏:‏ التنهنه، وهو مطاوع نهنهته عن كذا فتنهنه، أي‏:‏ كففته وزجرته عنه فكف، أي‏:‏ زجرني زواجر العقل‏.‏ الثاني‏:‏ أول حلم، أي‏:‏ رجوع العقل، لا ينسب إلى السفه‏.‏ الثالث‏:‏ عذل القائلين‏:‏ إن لم تتب الآن مع الدواعي إلى التوبة، فلا تتوب أبداً‏.‏ فقوله‏:‏ وقولٌ هو على حذف مضاف‏.‏ والرابع‏:‏ حقةٌ، أي‏:‏ خطة حقة‏.‏ فالموصوف محذوف، وأراد بها الموت وقربه‏.‏ يقال‏:‏ حقٌ وحقة، كما يقال‏:‏ أهل وأهلة‏.‏ والتره‏:‏ اسم مفرد بمعنى الباطل، يقال‏:‏ ترهٌ وترهة، وجمع الأول تراريه، وجمع الثاني ترهات‏.‏ وقول الشارح المحقق‏:‏ ده بفتح الدال وسكون الهاء إلى آخر ما ذكره، هذا كلام شارح اللباب إسماعيل الفالي من غير زيادة ولا نقص‏.‏ ولا يخفى أنه إذا كان ده بمعنى اضرب فهو اسم فعل لا صوت، والحق أنها في لغة الفرس زجرٌ لذي الحافر، ليسرع، وليذهب، وليست بمعنى اضرب‏.‏ وهذا أمر ظاهر من استعمالهم إلى الآن، ولكنهم أجمعوا على أنها بمعنى الضرب‏.‏ وحينئذ فيرد عليهم أنها تكون اسم فعل، لا صوتاً‏.‏ قال صاحب اللباب فيما علقه على متنه‏:‏ ذكر جار الله أن ده زجر للإبل، مثل هيد وهاد‏.‏ وذكر في أمثاله أن ده بفتح الدال وكسرها فارسية معناها الضرب، قد استعملها العرب في كلامهم، وأصله أن الموتور يلقي واتره فلا يتعرض له، فيقال له‏:‏ إلا دهٍ فلا ده، أي‏:‏ إنك إن لم تضربه الآن، فإنك لا تضربه أبداً‏.‏ وتقديره‏:‏ إن لم يكن ده فلا يكون ده، أي‏:‏ إن لم يوجد ضربٌ الساعة فلا يوجد ضربٌ أبداً‏.‏ ثم اتسعوا فيه فضربوه مثلاً في كل شيء لا يقدم عليه الرجل وقد حان حينه، من قضاء دين قد حل، وحاجةٍ طلبت، وما أشبه ذلك من الأحوال التي لا يسوغ تأخيرها‏.‏ وأنشد أبو عبيد لرؤبة‏:‏

وقولٌ إلا دهٍ فلا ده

وذكر هشام بن محمد الكلابي في حكاية طويلة أن هذا من قول الكاهن الذي سافر إليه عبد المطلب، وحرب بن أمية، وقد خبؤوا له رأس جرادة في خرز مزادة، وجعلوه في قلادة كلبٍ، يقال له سوار، فقال‏:‏ خبأتم لي شيئاً طار فسطع، فتصوب فوقع، في الأرض منه بقع‏:‏ جمع باقعة وهي الداهية‏.‏ فقالوا‏:‏ لا دهٍ، أي بينة‏.‏ قال‏:‏ هو شيءٌ طار، فاستطار - أي‏:‏ تفرق وفشا - ذو ذنب جرار، وساق كالمنشار، ورأس كالمسمار، فقالوا‏:‏ لا دهٍ‏.‏ فقال‏:‏ إلا دهٍ فلا ده‏.‏ هو راس جرادة، في خزر مزادة، في عنق سوارٍ ذي القلادة‏.‏ قالوا‏:‏ صدقت‏.‏ وفي أمثال الميداني‏:‏ إلا ده فلا ده، رواه ابن الأعرابي ساكن الهاء‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يضربه الرجل، يقول‏:‏ أريد كذا وكذا‏.‏ فإن قيل له‏:‏ ليس يمكن ذا‏.‏ قال فكذا وكذا‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ معناه إن لم يكن هذا الآن، فلا يكون بعد الآن‏.‏ وقال‏:‏ لا أدري ما أصله‏.‏ ويروى أيضاً‏:‏ إلا دو فلا ده، أي‏:‏ إن لم تعط الاثنين، فلا تعط العشرة‏.‏ انتهى‏.‏ وهذه رواية غريبة شاذة، وبها يخرج ده مما نحن فيه، فإن لفظ دو بالفارسية الاثنان من العدد بدال مضمومة بعدها واو ساكنة، ولفظ ده بمعنى العشرة في لغتهم بدال مفتوحة وهاء ساكنة‏.‏ ثم قال الميداني‏:‏ وقال المنذر‏:‏ قالوا معناه‏:‏ إلا هذه فلا هذه، يعني أن الأصل إلا ذه فلا ذه، بالذال المعجمة، فعربت بالدال غير المعجمة، كما في يهودا مبدلة من يهوذا‏.‏ انتهى‏.‏ أقول‏:‏ هذا يقتضي أن تكون الكلمة عربية، أبدلت ذالها المعجمة دالاً مهملة، لا أنها كانت أعجمية فعربت بما ذكر‏.‏ فتأمل‏.‏ والحاصل أن قولهم‏:‏ إلا ده فلا ده، قد اختلف في ضبط لفظه، وشرح معناه، وجميع الأقوال على أنها كلمة فارسية معربة‏.‏ وقد أبى أبو محمد عبد الله الشهير بابن بر المقدسي أن تكون هذه الكلمة في هذا المثل غير عربية، وذهب إلى أنها صفة مشبهة، من الدهاء، وهو الفطنة، ورد على ملك النحاة في زعمه أنها أعجمية في الأصل بمعنى اسم الفعل‏.‏ ولقد أجاد فيما أفاد، وحقق مدعاه فوق المراد، فلا بأس بنقل كلاميهما‏.‏ قال أبو نزار الملقب بملك النحاة في مسائله التي سماها المسائل العشر، المنبوذة بإتعاب الفكر إلى الحشر وتحدى بها في قصة يطول ذكرها‏:‏ المسألة السابعة، وهي مسألة سئلت عنها بغزنة لما دخلتها، فبينت مشكلها للجماعة وأوضحتها‏.‏ وذلك أني سئلت عن قول الراجز‏:‏

وقولٌ إلا دهٍ فلا ده

فذكرت أن هذه من باب كلماتٍ نابت عن الفعل فعملت عمله‏.‏ وده في كلام العرب بمعنى صح ويصح‏.‏ ألا ترى أن قوماً جاؤوا إلى سطيحٍ الكاهن، وخبؤوا له خبيئة، وسألوه فلم يصرح، فقالوا‏:‏ لا ده‏.‏ أي‏:‏ لا يصح ما قلت‏.‏ فقال لهم‏:‏ إلا ده فلا ده، حبة برٍّ، في إحليل مهر، فأصاب‏.‏ فكأنه قال‏:‏ إلا يصح فلا يصح أبداً، لكني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة‏.‏ فكان كما قال‏.‏ إلا أن التنوين في هذه الكلمة ليس كتنوين رجل وفرس، ولكنه تنوين تنكير‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وحذفت منه ما لا حاجة لنا إليه‏.‏ وأجاب ابن بري‏:‏ إن قولك ده اسمٌ من أسماء الفعل ليس بصحيح على مذهب الجماعة، ومن له حذق في هذه الصناعة‏.‏ والصحيح أنها اسم الفاعل من دهي فهو داه ودهٍ، والمصدر منه الدهي والدهاء‏.‏ فيكون المراد بدهٍ فطن، لأن الدهاء الفطنة، وجودة الذهن، فكأنه قال‏:‏ إلا أكن دهياً، أي‏:‏ فطناً فلا أدهى أبداً، أي‏:‏ فلا أفطن‏.‏ فهذا أصله، ثم أجريت هذه اللفظة مثلاً إلى أن صارت يعبر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله‏.‏ مثل ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنته الفرصة في طلب ثأر‏:‏ إلا ده فلا ده، أي‏:‏ إلا تطلب الآن ثأراً فلا تطلبه أبداً وهذا الرجز لرؤبة‏.‏ وقبله‏:‏

فاليوم قد نهنهني تنهنهي *** وأول حلمٍ ليس بالمسفه

وقولٌ‏:‏ إلا دهٍ فلا ده

ومعناه‏:‏ إن لا تفلح اليوم، فلا تفلح أبداً، أي‏:‏ إن لا تنته اليوم، فلا تنته أبداً هذا معنى ده في هذا المثل‏.‏ وأما إعرابه فإنه في موضع نصب على خبر كان المحذوفة، تقديره‏:‏ إلا أكن دهياً فلا أدهى‏.‏ وإنما أسكن الياء وكان حقها أن تكون منصوبة، من قبل أن الأمثال تنزل منزلة المنظوم‏.‏ وهذه الياء قد حسن إسكانها في الشعر، وهو عندهم من الضرورات المستحسنة، كقول الشاعر‏:‏

يا دار هندٍ عفت إلا أثافيها

وكقول الآخر‏:‏

كفى بالنأي من أسماء كافي

فقد ثبت بهذا أن ده اسم فاعل لا اسمٌ للفعل‏.‏ وهي معربة لا مبنية، وتنوينها تنوين الصرف لا تنوين التنكير‏.‏ ويدل على أنها ليست من أسماء الأفعال أنها لا تقع بعد حرف الشرط‏.‏ ألا ترى أنه لا يحسن‏:‏ إلا صهٍ فلا صهٍ، ولا‏:‏ إلا مهٍ فلا مه، ولا هيهات‏.‏ اه‏.‏ وقد نقل السخاوي في سفر السعادة هذا عن ملك النحاة وهذا الجواب أيضاً، لكنه لم يعزه إلى ابن بري‏.‏ وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس‏.‏ وفي هذه الأرجوزة بيتان من أولها، وهما‏:‏

له در الغانيات المدة *** سبحن واسترجعن من تألهي

أورد هذا بعض المفسرين في بيان اشتقاق لفظ الجلالة، فقال‏:‏ هو من أله يأله إلاهةً، كعبد يعبد عبادة، وزناً ومعنى‏.‏ والتأله‏:‏ التعبد كما هنا‏.‏ قال‏:‏ فمعنى الإله المعبود‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والسبعون بعد الأربعمائة

رمى الله في عيني بثينة بالقذى *** وفي الغر من أنيابها بالقوادح

على أن الشيء إذا بلغ غايته يدعى عليه، صوناً عن عين الكمال كما هنا‏.‏ قال ابن الأنباري في الزاهر‏:‏ معنى قوله‏:‏ رمى الله في عيني بثينة إلخ، سبحان الله، ما أحسن عينيها‏.‏ من ذلك قولهم‏:‏ قاتل الله فلاناً ما أشجعه‏!‏ وأنياب القوم‏:‏ ساداتهم، أي‏:‏ رمى الله الفساد والهلاك في سادات قومها، لأنهم حالوا بينها وبين زيارتي‏.‏ انتهى‏.‏ وقال المرزوقي في شرح الفصيح‏:‏ قيل أنه لم يدع عليها بذلك، وإنما هو كما يقال‏:‏ قاتله الله ما أفرسه‏!‏ على وجه التعجب‏.‏ وحكى بعض أهل اللغة أن مما يشهد لطريق التعجب في مثل هذا أن بعضهم عدل عن لفظ قاتل إلى قاتع، فقال‏:‏ قاتعه الله ما أشجعه‏!‏ ليزول المكروه من اللفظ، كما لم يكن في المعنى‏.‏ وأحسن مما ذكرناه أن يقال‏:‏ أراد بالعينين رقيبيها، وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها‏.‏ والمعنى‏:‏ أفناهم الله وأراهم المنكرات‏.‏ فهو في الظاهر يشتمها، وفي النية يشتم من يتأذى به فيها‏.‏ ويقال‏:‏ هم أنياب الخلافة، للمدافعين عنها‏.‏ وقيل أراد‏:‏ بلغها الله أقصى غايات العمر، حتى تبطل عواملها وحواسها‏.‏ فالدعاء على هذا لها لا عليها‏.‏ انتهى‏.‏ وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ قد تأوله قوم على أنه أراد بالعينين الرقيبين، وبالأنياب سادة قومها الذين يحجبونها عنه ويمنعونه منها‏.‏ انتهى‏.‏ وبثينة بالتصغير‏:‏ محبوبة جميل العذري‏.‏ والباء في بالقذى زائدة‏.‏ قاله أبو حيان في تذكرته‏.‏ والقذى‏:‏ كل ما وقع في العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوهما‏.‏ قال ثعلب في الفصيح‏:‏ تقول‏:‏ قذت عينه تقذي قذياً، إذا ألقت القذى؛ وقذيت تقذى قذًى، إذا صار فيها القذى‏.‏ وأقذيتها إقذاء، إذا ألقيت فيها القذى‏.‏ وقذيتها تقذيةً، إذا أخرجت منها القذى‏.‏ انتهى‏.‏ وقوله‏:‏ وفي الغر إلخ، معطوف على قوله‏:‏ في عيني، وهو جمع أغر وغراء، أراد‏:‏ ورمى الله في أنيابها الحسان النقية البياض القوادح‏.‏ فالباء زائدة أيضاً‏.‏ وأنياب‏:‏ جمع ناب، وهو السن‏.‏ وللإنسان أربعٌ وثلاثون سناً‏:‏ أربع ثنايا، وهي مقدم الأسنان اثنتان من فوق واثنتان من تحت‏.‏ وأربع رباعيات‏.‏ وأربعة نواجذ تكون بينها الأنياب‏.‏ وأربع ضواحك تكون بينها النواجذ‏.‏ واثنتا عشرة رحًى تكون بينها الضواحك‏.‏ والقوادح‏:‏ جمع قادح، قال صاحب الصحاح‏:‏ القادح‏:‏ السواد الذي يظهر في الأسنان‏.‏ وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات‏:‏ يقال‏:‏ قدح في سنه، أي‏:‏ بالبناء لمفعول، إذا وقع فيها الأكل ووقع في أسنانه القادح، وإذا عرض شيء من جميع ما ذكرنا من آفات العود، قيل‏:‏ قدح العود يقدح قدحاً فهو مقدوح وهي القوادح‏.‏ وبعضهم يقول‏:‏ قدح في العود، إذا عرض له القادح فأتكل يأتكل ائتكالاً‏.‏ وقال الباهلي‏:‏ يقال‏:‏ عود قد قدح فيه، ولا يقال‏:‏ مقدوح‏.‏ وكذلك قدح في سنه، إذا وقع الأكل، ووقع في أسنانه القادح‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ وهذه التأويلات يدفع في صدرها ما رواه الأصفهاني في الأغاني‏:‏ قال‏:‏ حدثني علي بن صالح، قال‏:‏ حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال‏:‏ لقي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ بينهما طالت مدته، فتعاتبا طويلاً، فقالت له‏:‏ ويحك يا جميل‏!‏ أتزعم أنك تهواني، وأنت الذي تقول‏:‏

رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت

فأطرق جميلٌ طويلاً يبكي، ثم قال‏:‏ بل أنا القائل‏:‏

ألا ليتني أعمى أصم تقودني *** بثينة لا يخفى علي كلامها

فقالت له‏:‏ ويحك‏!‏ وما حملك على هذا المنى‏!‏ وليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً‏!‏ وروى بسنده أيضاً أن جميلاً لما ودع بثينة، وذهب إلى الشام لكثرة اللغط فيهما، واصلت بعده حجبة الهلالي‏.‏ ولما رجع من الشام، بعد حين قال حجبة لبثينة، وكان ابن سرية‏:‏ لا أرضى إلا أن تعلمي جميلاً أنك استبدلت به‏!‏ فقالت لجميل‏:‏

ألم ترى أن الماء غير بعدكم *** وأن شعاب القلب بعدك حلت

فقال جميل‏:‏

فإن تك حلت فالشعاب كثيرةٌ *** وقد نهلت منها قلوصي وعلت

فقالت لحجبة‏:‏ عرضتني لجميل يجعلني حديثاً‏.‏ وقالت لجميل‏:‏ إنه استزلني، وقد ناشدتك الله أن تسترني فإنها كانت هفوة‏.‏ فقال جميلٌ من أبيات‏:‏

فيا بثن إن واصلت حجبة فاصرمي *** حبالي وإن صارمته فصليني

ولا تجعليني أسوة العبد واجعلي *** مع العبد عبداً مثله وذريني

وانصرف عنها‏.‏ وهجرها، وقال‏:‏

رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت

وقال في ذلك أيضاً‏:‏

وإني لأستحي من الناس أن أرى *** رديفاً لوصلٍ وعلي رديف

وإني للماء المخالط للقذى *** إذا كثرت وراده لعيوف

وقال أيضاً‏:‏

بينا حبالي ذات عقدٍ لبثنةٍ *** أتيح لها بعض الغواة فحلها

فعدنا كأنا لم يكن بيننا هوًى *** وصار الذي حل الحبال هوًى لها

وروى أيضاً بسنده عن كثير، ونقله القالي في أماليه، والمرزباني في الموشح أيضاً‏:‏ أن كثيراً حدث، وقال‏:‏ وقفت على جماعةٍ يفيضون في، وفي جميلٍ‏:‏ أينا أصدق عشقاً، ولم يكونوا يعرفونني، ففضلوا جميلاً، فقلن لهم‏:‏ ظلمتم كثيراً، كيف يكون جميلٌ أصدق منه، وحين أتاه من بثينة ما يكره، قال‏:‏

رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت

وكثير حين أتاه من عزة ما يكره، قال‏:‏

هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ *** لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما انصرفوا إلا على تفضيلي‏.‏ اه‏.‏ وهذا كله يدل على أن جميلاً دعا عليها حقيقة، ويدل أيضا على أن البيت لجميل لا لغيره‏.‏ ومن الغرائب أن الصاغاني قال في مادة ترب من العباب‏:‏ إن هذا البيت لأخي شمجى، يخاطب أذينة بنت عم صعب بن كلثوم، والرواية كذا‏:‏

رمى الله في عيني أذينة بالقذى البيت

وليس البيت لجميل ولا الرواية في عيني بثينة كما وقع في بعض كتب اللغة منسوباً إليه‏.‏ اه‏.‏ أقول‏:‏ جميع من تكلم على هذا البيت، وروى فيه خبراً، أثبته لجميل في بثينة‏.‏ ومع كثرة ورود هذه الأخبار في أكثر كتب الأدب كيف يقال أنه وقع في بعض كتب اللغة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وجميلٌ شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين‏.‏ وشمجى بالشين والميم والجيم وألف مقصورة، قال في القاموس‏:‏ وبنو شمجى بن جرم من قضاعة، وهو بفتحات ثلاثة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والسبعون بعد الأربعمائة

وهو من شواهد س‏:‏

وي كأن من يكن له نشبٌ يح *** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر

على أن وي كأن، عند الخليل وسيبويه مركبة من وي التعجبية وكأن المخففة من المثقلة، إلى آخر ما ذكره‏.‏ وهذا نص سيبويه، ونقله ابن السراج في الأصول بحروفه‏:‏ سألت الخليل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكأنه لا يفلح الكافرون‏}‏، وعن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكأن الله‏}‏ فزعم أنها وي مفصولة من كأن، والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم، ونبهوا، فقيل لهم‏:‏ أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا‏!‏ والله أعلم‏.‏ وأما المفسرون فقالوا‏:‏ ألم تر أن الله‏.‏ وقال زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

وي كأن من يكن له نشبٌ البيت

انتهى‏.‏ وقال النحاس‏:‏ يريد أن معنى وي تنبيهٌ، يقولها الإنسان حين يستنكر أمراً، ويستعظمه، فيقول‏:‏ وي‏!‏ فتكون ويكأن مركبة من وي للتنبيه، ومن كأن للتشبيه‏.‏ وكذلك قال الأعلم‏:‏ فقول الشارح المحقق إن وي عند سيبويه بمعنى التعجب خلاف المنقول‏.‏ وهذا نص الفراء في تفسيره قال في آخر سورة القصص‏:‏ ويكأن في كلام العرب تقريرٌ، كقول الرجل‏:‏ أما ترى إلى صنع الله‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وي كأن من يكن له نشبٌ يح *** بب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وأخبرني شيخٌ من أهل البصرة، قال‏:‏ سمعت أعرابيةً تقول لزوجها‏:‏ أين ابنك ويلك‏؟‏ فقال‏:‏ ويكأنه وراء البيت‏.‏ معناه أما ترينه وراء البيت‏.‏ وقد يذهب بعض النحويين إلى أنهما كلمتان يريد‏:‏ ويك أنه، أراد‏:‏ ويلك، فحذف اللام، وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر، كأنه قال‏:‏ ويلك أعلم أنه وراء البيت، فأضمر أعلم‏.‏ ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن؛ وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين، وفي آخر الكلمة، فلما أضمره جرى مجرى الترك‏.‏ ألا ترى أنه لا يجوز في الإبتداء أن تقول‏:‏ يا هذا أنك قائم، ولا يا هذا أن قمت، تريد علمت وأعلم، وظننت وأظن‏.‏ وأما حذف اللام من ويلك حتى تصير ويك فقد تقوله العرب، لكثرتها في الكلام‏.‏ قال عنترة‏:‏

ولقد شفى نفسي وأبرا سقمه *** قول الفوارس ويك عنتر أقدم

وقد قال آخرون‏:‏ إن معنى وي كأن، أن وي منفصلة من كأن، كقولك لرجل‏:‏ وي، أما ترى ما بين يديك‏؟‏ فقال‏:‏ وي، ثم استأنف كأن، يعني‏:‏ كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء‏.‏ وهي تعجب، وكأن في مذهب الظن والعلم‏.‏ فهذا وجه مستقيم‏.‏ ولم تكتبها العرب منفصلة، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة‏.‏ وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام، فوصلت بما ليس منه، كما اجتمعت العرب على كتاب يا ابن أم‏:‏ يبنؤم‏.‏ قال‏:‏ وكذا رأيتها في مصحف عبد الله، وهي في مصاحفنا أيضاً‏.‏ اه‏.‏ فعلم من كلامه أن ويكأن كلمة بسيطة بمعنى ألم تر، والاستفهام للتقرير، لا أنها مركبة من كلمتين إما من ويك ومن أن، كما نقله عن بعض النحويين؛ وإما من وي ومن كأن كما نقله عن بعضٍ آخر‏.‏ فما نقله الشارح المحقق عن الفراء نقلٌ من مركب من قوله الذي صدره ومن القول الأول لبعض النحاة‏.‏ قال النحاس بعد نقل ما نقله الفراء‏:‏ وما أكثر خطأ هذا القول، وذلك لأن المعنى لا يصح عليه، لأن القوم لم يخاطبوا أحداً فيقولوا له‏:‏ ويلك، وكان يجب على قوله أن يكون إنه بالكسر‏.‏ وأجمع المسلمون على الفتح‏.‏ وأيضاً فليس في القرآن لام، فكيف تحذف اللام لغير علة‏.‏ وزعم ابن جني في المحتسب أن وي عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب، كما قال الشارح المحقق، وأن كأن ليست للتشبيه عندهما، خلافاً للشارح‏.‏ قال‏:‏ ومن ذلك قراءة يعقوب‏:‏ ويك يقف عليها ثم يبتدئ فيقول‏:‏ إنه‏.‏ وكذلك الحرف الآخر مثله‏.‏ قال أبو الفتح في ويكأنه ثلاثة أقوال‏:‏ منهم من جعلها كلمةً واحدة فلم يقف على وي ومنهم من يقف على وي ويعقوب يقف على ويك، وهو مذهب أبي الحسن‏.‏ والوجه فيه عندنا قول الخليل وسيبويه، وهو أن وي على قياس مذهبهما اسمٌ سمي به الفعل، فكأنه اسم أعجب، ثم ابتدأ، فقال‏:‏ كأنه لا يفلح الكافرون، ووي كأن الله يبسط الرزق، ووي منفصلة من كأن‏.‏ وعليه بيت الكتاب‏:‏

وي كأن من يكن له نشبٌ يح *** بب‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت مكنته

ومما جاءت فيه كأن عاريةً من معنى التشبيه، قوله‏:‏

كأنني حين أمسي لا تكلمني *** متيمٌ أشتهي ما ليس موجودا

أي‏:‏ أنا حين أمسي متيمٌ، من حالي كذا وكذا‏.‏ اه‏.‏ أقول‏:‏ أما قوله إن وي عندهما اسم أعجب، فقد تقدم عن النحاس والأعلم ما يرده‏.‏ وأما قوله‏:‏ إن كأن عارية عن التشبيه، فقول سيبويه‏:‏ أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا، يكذبه‏.‏ وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله‏:‏ كأنني حين أمسي البيت، فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر كأن مشتقاً لا تكون للتشبيه، لئلا يتحد المشبه والمشبه به‏.‏ وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف، أي‏:‏ كأنني رجل متيم، فهي على الأصل للتشبيه‏.‏ ثم قال ابن جني‏:‏ ومن قال إنها ويك فكأنه قال‏:‏ أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، وهو قول أبي الحسن‏.‏ وينبغي أن تكون الكاف هنا حرف خطاب كما في ذلك، لأن وي ليست مما يضاف‏.‏ ومن وقف على ويك ثم استأنف فينبغي أن يكون أراد أن يعلم أن الكاف من جملة وي، وليست بالتي في صدر كأن، فوقف شيئاً لبيان هذا المعنى‏.‏ ويشهد لهذا المذهب قول عنترة‏:‏

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

وقال الكسائي‏:‏ فيما أظن أراد ويلك ثم حذف اللام‏.‏ وهذا يحتاج إلى خبر نبيٍّ ليقبل منه‏.‏ وقول من قال إن ويكأنه كلمة واحدة إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه من بعض‏.‏ اه‏.‏ إحداهما‏:‏ جعل ابن هشام في المغني وي وواهاً لغتين في وبمعنى أعجب‏.‏ وهذا باطل فإن كل واحدة من هذه الثلاثة كلمة مستقلة في نفسها أصلاً ومادة، وليست ياء وي مبدلة من ألف وكما يزعمه ابن قاسم في حواشيه عليه‏.‏ هب أنه كذلك فما يقول في واها‏.‏ ولم يتنبه أحدٌ من شراحه لما ذكرناه‏.‏ واعترض الدماميني في شرح التسهيل على قول ابن مالك إن وي اسم فعل بمعنى أعجب‏.‏ في كلام ابن الحاجب ما يشعر بأن القائل إنها اسم فعل، يقول‏:‏ إنها اسمٌ لا عجب، أمراً لا مضارعاً؛ لأنه قال‏:‏ وي تعجب‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ إنها اسم صوت لا اسم فعل، لأن المتعجب يقوله عند التعجب لا لقصد الإخبار بالتعجب، بل كما يقول المتألم‏.‏ اه‏.‏ وكذلك يقول المتعجب منفرداً، ولو كان اسم فعل لم يقله إلا مخاطباً لغيره‏.‏ انتهى‏.‏ أقول‏:‏ لا إشعار فيه بما زعمه، فإن آه اسم صوت، وهم قالوا‏:‏ إنه بمعنى أتوجع، وليس فيه قصد الإخبار به‏.‏ فتأمل‏.‏ الثانية‏:‏ نقل المرادي في الجنى الداني عن صاحب رصف المباني أنه قال‏:‏ وي حرف تنبيه معناه التنبه على الزجر، كما أن ها معناها التنبيه على الحض، وهي تقال للرجوع عن المكروه والمحذور، وذلك إذا وخد رجل يسب أحداً، ويوقعه في مكروه، ويتلفه، ويأخذ ماله، ويعرض بشيء من ذلك، فيقال لذلك الرجل‏:‏ وي، معناه تنبه وازدجر عن فعلك‏.‏ ويجوز أن يوصل به كاف الخطاب‏.‏ انتهى‏.‏ والبيت الشاهد من أبياتٍ لزيد بن عمرو بن نفيل، وهي‏:‏

تلك عرساي تنطقان على عم *** دٍ إلى اليوم قول زورٍ وهتر

سالتاني الطلاق أن رأتا م *** لي قليلاً قد جئتماني بنكر

فلعلي أن يكثر المال عندي *** ويعرى من المغارم ظهري

وترى أعبدٌ لنا وأواقٍ *** ومناصيف من خوادم عشر

ونجر الأذيال في نعمةٍ زو *** لٍ تقولان‏:‏ ضع عصاك لدهر

وي كأن من يكن له نشبٌ يح *** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر

ويجنب سر النجي ولك *** ن أخا المال محضرٌ كل سر

قوله‏:‏ تلك عرساي مثنى عرس مضاف إلى الياء‏.‏ والعرس، بالكسر‏:‏ الزوجة، أي‏:‏ هما عرساي‏.‏ ويجوز أن يخالف اسم الإشارة المشار إليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عوانٌ بين ذلك‏}‏ أي‏:‏ بين ذينك، والعمد‏:‏ القصد‏.‏ والهتر بفتح الهاء وسكون المثناة الفوقية‏:‏ مصدر هتره يهتره، من باب نصر، إذا مزق عرضه‏.‏ والهتر، بالكسر‏:‏ الكذب والداهية، والأمر العجب، والسقط من الكلام والخطأ فيه‏.‏ وبالضم‏:‏ ذهاب العقل من كبر ومرض وحزن‏.‏ وروى أيضاً‏:‏

تلك عرساي تنطقان بهجر *** وتقولان قول أثرٍ وعتر

والهجر بالضم‏:‏ اسم‏:‏ من الإهجار وهو الإفحاش في المنطق والخنى‏.‏ والأثر بالفتح‏:‏ مصدر أثرت الحديث، إذا ذكرته عن غيره‏.‏ ومنه الحديث المأثور، أي‏:‏ ينقله خلف عن سلف‏.‏ والأثر، بالضم‏:‏ أثر الجراح يبقى بعد البرء‏.‏ والعتر بمثناة فوقية بعد المهملة‏:‏ مصدر عتر الرمح، إذا اضطرب واهتز، من باب صرب‏.‏ والعثر، بالمثلثة‏:‏ الاطلاع على الشيء، مصدر عثر عليه‏.‏ وقوله‏:‏ سالتاني الطلاق إلخ، استشهد به سيبويه على أن الشاعر يبدل الهمزة ألفاً في الضرورة‏.‏ قال‏:‏ وليس هذا من لغة من يقول‏:‏ سلت يسال، كخفت يخاف‏.‏ وبلغنا أنه لغة‏.‏ قال الأعلم‏:‏ هي لغةٌ معروفة، وعليها قراءة من قرأ‏:‏ سال سائلٌ بعذابٍ واقع‏.‏ وروى‏:‏ تسألان الطلاق وحينئذٍ لا شاهد فيه‏.‏ وقوله‏:‏ قد جئتماني بنكر التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ والنكر، بالضم‏:‏ الأمر القبيح المنكر‏.‏ وروى الزجاجي في أماليه بدل نكر مر، من المرارة‏:‏ ضد الحلاوة‏.‏ وروى أيضاً‏:‏

سالتاني الطلاق أن رأتاني *** قل مالي قد‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

فجملة قل مالي في محل نصب مفعول ثان للرؤية، كالرواية السابقة ويجوز أن تكون الرؤية بصرية‏.‏ وجملة قل مالي‏:‏ حال من الياء‏.‏ وقليلاً‏:‏ حال من مالي‏.‏ وقوله‏:‏ ويعرى من المغارم جمع مغرم بالفتح، وهو ما ينوب الإنسان في ماله من ضررٍ لغير جناية، كتحمل الديات، والإطعام في النائبات‏.‏ وقوله‏:‏ وترى أعبدٌ إلخ، بالبناء للمفعول‏.‏ وأعبد‏:‏ جمع عبد‏.‏ وأواق، أي‏:‏ من الذهب والفضة، وهو جمع أوقية، وهي سبعة مثاقيل، وأربعون درهماً‏.‏ وروى بدله‏:‏ وجياد جمع جواد، وهو الكريم من الخيل‏.‏ ومناصيف‏:‏ جمع منصف، وهو الخادم‏.‏ قاله الجاحظ‏.‏ فالياء زائدة لضرورة الشعر‏.‏ ومنصفٌ بفتح الميم وكسرها؛ والأنثى بالهاء‏.‏ وفعله نصفه ينصفه من باب نصر وضرب نصفاً، ونصافاً، ونصافة، بكسرهما وفتحهما، أي‏:‏ خدمة، ويقال أيضاً‏:‏ أنصفه بالألف‏.‏ وخوادم‏:‏ جمع خادم، وهي الجارية، ويقال أيضاً‏:‏ خادمة‏.‏ والخادم يطلق على المذكر‏.‏ وروى بدله‏:‏ من ولائد عشر جمع وليدة بمعنى الخادمة‏.‏ وقوله‏:‏ في نعمةٍ زول بفتح الزاي المعجمة وسكون الواو صفة نعمة، أي‏:‏ حسنة وجيدة‏.‏ قاله الجاحظ‏.‏ وقوله‏:‏ ضع عصاك إلخ، وضع العصا كناية عن الإقامة، لأن المقيم يضعها عن يده، والمسافر يحملها‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قر عيناً بالإياب المسافر

وما أحسن قول الباخرزي‏:‏

حمل العصا للمبتلى *** بالشيب أنواع البلا

وصف المسافر أنه *** ألقى العصا كي ينزلا

فعلى القياس سبيل من *** أخذ العصا أن يرحلا

واللام في لدهر بمعنى إلى، أي‏:‏ إلى انقضاء دهر، وهو الزمان الطويل‏.‏ وقوله‏:‏ وي كأن من يكن إلخ، من‏:‏ شرطية، ونشب‏:‏ اسم كان، وله‏:‏ خبرها، ويحبب‏:‏ بالبناء للمفعول من المحبة جزاء الشرط‏.‏ وكذلك من يفتقر يعش‏.‏ وعيش‏:‏ مفعول مطلق‏.‏ والضر بالضم والفتح‏:‏ سوء الحال من قلة مال وجاه، والنشب بفتح النون والشين‏:‏ المال الأصيل من الناطق والصامت‏.‏ وأورد صاحب الكشاف هذا البيت، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكأنه لا يفلح الكافرون‏}‏ على أن وي مفصولة من كأن‏.‏ وقوله‏:‏ ويجنب سر النجي معطوف على يعش، وهو بالبناء للمفعول من جنبه إياه تجنيباً، أي‏:‏ باعده عنه‏.‏ فهو متعد لمفعولين أولهما نائب الفاعل، وهو ضمير من يفتقر، وثانيهما سر النجي‏.‏ والسر‏:‏ هو الحديث المكتم في النفس‏.‏ والنجي‏:‏ فعيل، هو من يفشى له السر‏.‏ يعني أن الفقير يستحقره صاحبه، فلا يفشي له سره‏.‏ وقوله‏:‏ محضر‏:‏ اسم مفعول من أحضره إياه، أي‏:‏ جعله حاضراً غير غائب، فهو متعدٍّ إلى مفعولين، أولهما نائب الفاعل، وهو ضمير أخي المال، والثاني كل سر‏.‏ وروى أيضاً‏:‏

ويجنب يسر الأمور ولك *** ن ذوي المال حضرٌ كل يسر

واليسر‏:‏ نقيض العسر‏.‏ وحضر‏:‏ جمع حاضر، من حضره، إذا شاهده‏.‏ والرواية الأولى هي رواية الجاحظ في البيان والتبيين، والرواية الثانية هي رواية الزبير بن بكار في أنساب قريش، وتبعه صاحب الأغاني‏.‏ وأبو الحسن المدائني في كتاب المقسات‏.‏ وهي لزيد بن عمرو بن نفيل كما في كتاب سيبويه وخدمته‏.‏ وكذا في أمالي الزجاجي الوسطى، وأثبتها الجاحظ لابنه سعيد بن زيد، ونسبها الزبير بن بكار لنبيه بن الحجاج‏.‏ قال أبو الحسن المدائني‏:‏ قالوا‏:‏ تزوج عمرو بن نفيل امرأة أبيه نفيل بن عبد العزى، فولدت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت ولدت الخطاب أبا عمر بن الخطاب، فكان الخطاب عم زيد وأخاه لأمه‏.‏ وكان زيد يطلب الدين ويخرج من مكة إلى الشام وغيرها يلتمس الدين، فكان الخطاب يعيب عليه خروجه عن مكة وطلب الدين، وخلاف قومه، وكان يؤذيه، وأمر امرأته أن تعاتبه وتأخذه بلسانها، ففعلت، فاعتزم على الخروج، فقال زيد لامرأته صفية بنت الحضرمي‏:‏

لا تحبسيني في الهو *** ن صفي ما دابي ودابه

إني إذا خفت الهو *** ن مشيعُ ذللٌ ركابه

دعموص أبواب الملو *** ك وجانبٌ للخرق بابه

قطاع أسبابٍ تذ *** ل بغير أقرانٍ صعابه

وإنما ألف الهو *** ن العير إذ يهوى إهابه

وأخي ابن أمي ثم عم *** ي لا يواتيني خطابه

وإذا يعاتبني أخ *** ي أقول‏:‏ أعياني جوابه

وإذا أشاء لقلت‏:‏ م *** عندي مفاتحه مبابه

وقال لامرأتيه‏:‏

تلك عرساي تنطقان ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الأبيات

أما الأول فهو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر‏:‏ القرشي العدوي‏.‏ قال صاحب الاستيعاب‏:‏ كان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام، قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم‏.‏ قال ابن حجر في الإصابة‏:‏ ذكر البغوي وبن منده وغيرهما زيداً هذا في الصحابة‏.‏ وفيه نظر، لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين، ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي، وهو أنه من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤيته له بعد البعثة فيؤمن به حين يراه وبعد ذلك، ويكفي كونه مؤمناً به أنه سيبعث، كما في قصة هذا وغيره‏.‏ وقد ذكر ابن إسحاق أن أسماء بنت أبي بكر، قالت‏:‏ لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة، يقول‏:‏ يا معشر قريش، والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري‏.‏ وأخرج الفاكهي بسند له إلى عامر بن ربيعة، قال‏:‏ لقيت زيد بن عمرو وهو خارج من مكة يريد حراء، فقال‏:‏ يا عامر، إني قد فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد إسماعيل من بعده‏:‏ كان يصلي إلى هذه البنية‏.‏ وأنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب، وما أراني أدركه‏.‏ وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي‏.‏ الحديث‏.‏ زاد الواقدي في حديث نحوه‏:‏ فإن طالت بك مدة فأقرئه مني السلام‏.‏ وفيه‏:‏ لما أسلمت أقرأت النبي صلى الله عليه وسلم منه السلام، فرد عليه وترحم عليه، وقال‏:‏ رأيته في الجنة يسحب ذيولاً‏.‏ وروى الواقدي عن ابنه سعيد بن زيد، قال‏:‏ توفي أبي وقريشٌ تبني الكعبة‏.‏ وكان ذلك قبل المبعث بخمس سنين‏.‏ أما سعيد بن زيد المذكور فقد كان من السابقين إلى الإسلام، وهاجر وشهد أحداً والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمان بدر، فلذلك لم يشهدها‏.‏ وهو أحد العشرة المبشرة، وكان إسلامه قديماً قبل عمر، وكان إسلام عمر عنده في بيته، لأنه كان زوج أخته فاطمة‏.‏ قال الواقدي‏:‏ توفي بالعقيق فحمل إلى المدينة، وذلك سنة خمسين من الهجرة، وقيل إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين، وعاش بضعاً وسبعين سنة‏.‏ وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة، وصلى عليه المغيرة بن شعبة‏.‏ قال‏:‏ وعاش ثلاثاً وسبعين سنة وزعم العلامة الدواني في شرح ديباجة العقائد العضدية وتبعه السيد عيسى الصفوي في شرح الفوائد الغياثية أن زيد بن عمر المذكور نبيٌّ أوحي إليه لتكميل نفسه‏.‏ وهذه عبارته‏:‏ النبي‏:‏ إنسانٌ بعثه الله إلى الخلق، لتبليغ ما أوحاه إليه‏.‏ وعلى هذا لا يشمل من أوحى الله ما يحتاج إليه لكماله في نفسه، من غير أن يكون مبعوثاً إلى غيره، كما قيل في زيد بن عمرو بن نفيل، اللهم إلا أن يتكلف‏.‏ أقول‏:‏ هذا غير صحيح، فإنه لم يقل أحدٌ من المؤرخين والمحدثين‏:‏ إنه نبي، وادعى النبوة‏.‏ وأمره مشهور، وكان حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في عصره نبي غيره‏.‏ قال الذهبي‏:‏ زيد بن عمرو بن نفيل هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه يبعث أمةً وحده ، وكان على دين إبراهيم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفي قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان دخل الشام والبلقاء‏.‏ وكان نفرٌ من قريش‏:‏ زيد، وورقة، وعثمان بن الحارث، وعبيد بن جحش، خالفوا قريشاً، وقالوا لهم‏:‏ إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام‏!‏ ولا يأكلون ذبائحهم‏.‏ واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقال له‏:‏ إني شاممت النصرانية واليهودية فلم أر فيها ما أريد، فقصصت ذلك على راهبٍ فقال لي‏:‏ إنك تريد ملة إبراهيم الحنيفية، وهي لا توجد اليوم، فالحق ببلدك فإن الله باعثٌ من قومك من يأتي بها، وهو أكرم الخلق على الله‏.‏ اه‏.‏ ومنه تعلم أن ما قاله الدواني لا يليق بمثله أن يذكره‏.‏ وكذا ما في حواشي الكازروني من أنه يجوز أن يكون زيد مبعوثاً إلى الخلق، بدليل أنه كان يسند ظهره إلى الكعبة، ويقول‏:‏ أيها الناس لم يبق على دين إبراهيم غيري‏.‏ ويعلم من هذا أنه يجوز أن يكون نبياً، فلا ينتقض به التعريف‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا مما يقضي منه التعجب، وكذا جميع ما ذكره هنا أرباب حواشيه‏.‏ وذكره البيضاوي عند تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تجعلوا لله أنداد‏}‏‏:‏ وقال‏:‏ هو موحد الجاهلية‏.‏ وأما الثاني فهو نبيه، بضم النون وفتح

الموحدة بعدها ياء ساكنة فهاء، وكنيته أبو الرزام بتشديد الزاي المعجمة، ابن الحجاج، بتشديد الجيم الأولى، ابن عامر بن حذيفة بن سهم بن عمرو بن هصيص، بالتصغير، ابن كعب بن لؤي بن غالب‏.‏ قال الزبير بن بكار في أنساب قريش‏:‏ كان نبيهٌ وأخوه منبه، على صيغة اسم الفاعل من التنبيه، من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم، وقتلا ببدر كافرين‏.‏ وكانا من المطعمين يوم بدر، ورثاهما الأعشى بن نباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، وكان مداحاً لنبيه بن الحجاج، وله فيه قصيدة يصف ناقته‏:‏دة بعدها ياء ساكنة فهاء، وكنيته أبو الرزام بتشديد الزاي المعجمة، ابن الحجاج، بتشديد الجيم الأولى، ابن عامر بن حذيفة بن سهم بن عمرو بن هصيص، بالتصغير، ابن كعب بن لؤي بن غالب‏.‏ قال الزبير بن بكار في أنساب قريش‏:‏ كان نبيهٌ وأخوه منبه، على صيغة اسم الفاعل من التنبيه، من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم، وقتلا ببدر كافرين‏.‏ وكانا من المطعمين يوم بدر، ورثاهما الأعشى بن نباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار، وكان مداحاً لنبيه بن الحجاج، وله فيه قصيدة يصف ناقته‏:‏

تبلغن رجلاً محضاً ضرائبه *** مؤملاً وأبوه قبل مأمول

إن نبيهاً أبا الرزام أحلمهم *** حلماً وأجودهم والجود تفضيل

وكان نبيهٌ شاعراً، وهو الذي يقول في زوجتيه وقد سألتاه الطلاق‏:‏

تلك عرساي تنطقان بهجرٍ *** وتقولان قول أثرٍ وعثر

إلى آخر الأبيات المقدمة‏.‏ ومن شعره‏:‏

قصر الشيء بي ولو كنت ذا م *** لً كثير لأحلب الناس حولي

ولقالوا أنت الكريم علين *** ولحطوا إلى هواي وميلي

ولكلت المعروف كيلاً هنيئ *** يعجز الناس أن يكيلوا ككيلي

وله أيضاً‏:‏

قالت سليمى يوم جئت أزوره *** لا أبتغي إلا امرأً ذا مال

لا أبتغي إلا امرأً ذا أنضرٍ *** كي ما أسد مفارقي وخلالي

فلأحرصن على اكتساب محببٍ *** ولأكسبن في عفةٍ وجمال

وله شعر كثير‏.‏ اه‏.‏ والأنضر كأحمد‏:‏ لغةٌ في النضر، وهو الذهب‏.‏

وأنشد بعده

الشاهد التاسع والسبعون بعد الأربعمائة

قول الفوارس ويك عنتر أقدم

على أن الفراء قال‏:‏ وي في ويكأنه، كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب، كقوله‏:‏ ويك عنتر، أي‏:‏ ويلك وعجباً منك‏.‏ أقول‏:‏ ليس هذا مذهب الفراء، وإنما هو قولٌ لبعض النحويين نقله الفراء عنه كما مضى‏.‏ زعم أن ويكأن مركب من ويك ومن أن، وأن ويك أصله ويلك، فحذفت منه اللام، كما في بيت عنترة‏.‏ ولا تخفى ركاكة قول الشارح‏:‏ وي كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب مع قوله‏:‏ أي ويلك وعجباً منك‏.‏ قال ابن الشجري في أماليه‏:‏ قال المفسرون في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكأن الله يبسط الرزق‏}‏، معناه ألم تر أن الله‏.‏ ومثل ذلك‏:‏ ويكأنه لا يفلح الكافرون ‏.‏ واختلف فيها اللغويون فقال الخليل‏:‏ إنها وي مفصولة من كأن، والمراد بها التنبيه‏.‏ وإلى هذا ذهب يونس وسيبويه والكسائي‏.‏ وقال السيرافي‏:‏ وي كلمة يقولها المتندم عند إظهار ندامته، ويقولها المندم لغيره والمنبه‏.‏ ومعنى كأن الله يبسط الرزق التحقيق، وإن كان لفظه لفظ التنبيه، فالتقدير‏:‏ تنبه أن الله يبسط الرزق، أي‏:‏ تنبه لبسط الله الرزق‏.‏ وقال الفراء معناه في كلام العرب التقرير، كقولك لمن تقرر‏:‏ ألا ترى إلى صنع الله، فكأنه قيل‏:‏ أما ترى أن الله يبسط الرزق‏.‏ وأقول‏:‏ إن كل واحد من مذهبي الخليل والفراء، وكذلك ما قاله السيرافي من أن التقدير‏:‏ تنبه أن الله يبسط الرزق، معناه ألم تر أن الله يبسط الرزق‏.‏ وشاهد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة‏}‏‏.‏ فهذا تنبيهٌ على قدرته وتقريرٌ بها‏.‏ وقال غير هؤلاء من اللغويين‏:‏ هي ويك بمعنى ويلك، وحذفت اللام لكثرة هذه اللفظة في الكلام‏.‏ وأن من قوله أن الله يبسط الرزق، مفتوحة بإضمار اعلم‏.‏ واحتجوا بقول عنترة‏:‏ ويك عنتر أقدم فالكاف على هذا القول ضمير، فلها موضع من الإعراب‏.‏ وقال آخرون‏:‏ هي وي اسمٌ للفعل، ومعناها أتعجب كما تقول‏:‏ وي لم فعلت هذا‏؟‏ فالكاف في هذا الوجه حرفٌ للخطاب، كالكاف في رويدك، فهي دالة على أن التعجب موجه إلى مخاطب، لا إلى غائب‏.‏ وانفتحت أن بتقدير اللام، أي‏:‏ أتعجب لأن الله يبسط الرزق‏.‏ انتهى كلام ابن الشجري‏.‏ والبيت من معلقة عنترة العبسي‏.‏ قال شراح المعلقة‏:‏ قال بعض النحويين‏:‏ معنى‏:‏ ويك ويحك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه ويلك‏.‏ وكلا القولين خطأ، لأنه كان يجب على هذا أن يقرأ‏:‏ ويك إنه، كما يقال‏:‏ ويلك إنه، وويحك إنه‏.‏ على أنه قد احتج لصاحب هذا القول بأن المعنى‏:‏ ويلك اعلم أنه لا يفلح الكافرون‏.‏ وهذا أيضاً خطأ من جهات، إحداها‏:‏ حذف اللام من ويلك، وحذف اعلم، لأن مثل هذا لا يحذف لأنه لا يعرف معناه‏.‏ وأيضاً فإن المعنى لا يصح، لأنه لا يدرى من خاطبوا بهذا‏.‏ وروي عن بعض أهل التفسير أن معنى ويك ألم تر، وأما ترى‏؟‏ والأحسن في هذا ما روى سيبويه عن الخليل، وهو أن وي منفصلة، وهي كلمة يقولها المتندم إذا ما تنبه على ما كان منه، كأنهم قالوا على الندم‏:‏ وي، كأنه لا يفلح الكافرون‏.‏ انتهى‏.‏ وروي‏:‏ قيل الفوارس‏.‏ والقول والقيل بمعنًى‏.‏ وجمع فارس الوصفي على فوارس نادر‏.‏ وعنتر‏:‏ منادى مرخم، أي‏:‏ يا عنترة‏.‏ وأقدم بفتح الهمزة وكسر الدال بمعنى تقدم، وهو من الإقدام الذي بمعنى الاجتهاد والتصميم‏.‏ وروى بدله‏:‏ قدم، أي‏:‏ قدم الفرس، وبمعنى تقدم‏.‏ جعل أمرهم له بالتقدم شفاء لنفسه، لما ينال في تقدمه من الظفر بأعدائه، ولما يكتسب من ذلك من الرفعة وعلو المنزلة‏.‏ وقد تقدمت ترجمة عنترة وشرح المعلقة في أبيات منها في الشاهد الثاني عشر وغيره‏.‏ وأنشد بعده‏:‏