فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السابع والثلاثون بعد الستمائة

الطويل

وما كدت آيباً

هو قطعة من بيت، هو‏:‏

فأبت إلى فهمٍ وما كدت آيب *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

على أن أصل خبر كاد الاسم المفرد كما في البيت‏.‏

قال ابن جني في إعراب الحماسة‏:‏ استعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرعٌ، وذلك أن قولك‏:‏ كدت أقوم، أصله كدت قائماً، ولذلك ارتفع المضارع، أي‏:‏ لوقوعه موقع الاسم، فأخرجه على أصله المرفوض، كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع، نحو صرف ما لا ينصرف، وإظهار التضعيف، وتصحيح المعتل، وما جرى مجرى ذلك‏.‏

ونحوٌ من ذلك ما جاء عنهم من استعمال خبر عسى على أصله‏:‏ الرجز

أكثرت في العذل ملحاً دائم *** لا تكثرن إني عسيت صائما

وهذه هي الرواية الصحيحة في هذا البيت، أعني قوله وما كدت آيباً‏.‏ وكذلك وجدتها في شعر هذا الرجل بالخط القديم، وهو عتيدٌ عندي إلى الآن‏.‏ والمعني عليه البتة‏.‏

ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب، كقولك‏:‏ سلمت وما كدت أسلم‏.‏ وكذلك كل ما يلي هذا الحرف من قبله ومن بعده يدل على ما قلنا‏.‏

وأكثر الناس يروي‏:‏ ولم أك آئباً، ومنهم من يروي‏:‏ وما كنت آئبا‏.‏ والصواب الرواية الأولى، إذ لا معنى هنا لقولك‏:‏ وما كنت، ولا للم أك‏.‏ وهذا واضحٌ‏.‏ انتهى‏.‏

وقال مثله في الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس قال‏:‏ وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ، كاستغنائهم بقولهم‏:‏ ما أجود جوابه عن قولهم‏:‏ ما أجوبه‏.‏ ولأن قياساً آخر، عارضه، فعاق عن استعمالهم إياه، كاستغنائهم بكاد زيد يقوم عن قولهم‏:‏ كاد زيد قائماً، وقياماً‏.‏ وربما خرج ذلك في كلامهم‏.‏

قال تأبط شراً‏:‏

فأبت إلى فهم وما كدت آئباً

هكذا صحة رواية هذا البيت‏.‏ وكذلك هو في شعره‏.‏ فأما رواية من لا يضبطه‏:‏ وما كنت آئباً، ولم أك آئباً فلبعده عن ضبطه‏.‏

ويؤكد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان، أن المعنى عليه‏.‏

ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب‏.‏ فأما ما كنت فلا وجه لها في هذا الموضع‏.‏ انتهى‏.‏

ومراده من هذا التأكيد‏:‏ الرد على أبي عبد الله النمري في شرح الحماسة، وهو أول شارحٍ لها، وقد تحرفت عليه هذه الكلمة، وهذه عبارته‏:‏ أبت‏:‏ رجعت‏.‏ وفهم‏:‏ قبيلة‏.‏ والهاء في قوله‏:‏ وكم مثلها راجعةٌ إلى هذيل‏.‏

وقوله‏:‏ وهي تصفر قيل معناه، أي‏:‏ تتأسف على فوتي‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وقد رد عليه أبو محمد الأعرابي أيضاً فيما كتبه على شرحه قال‏:‏ سألت أبا الندى عنه قال‏:‏ معناه كم مثلها فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت‏.‏ قال‏:‏ والرواية الصحيحة وما كدت آئباً‏.‏

والهاء راجعة في فارقتها إلى فهم‏.‏ قال‏:‏ ورواية من روى‏:‏ ولم أك آئباً خطأٌ‏.‏ وفهمٌ‏:‏ ابن عمرو بن قيس عيلان‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

قال التبريزي‏:‏ قد تكلم المرزوقي على اختيار ابن جني هذه الرواية رداً عليه ولم ينصفه، وقال‏:‏ قوله ولم أك آئباً، أي‏:‏ رجعت إلى قبيلتي فهمٍ، وكدت لا أؤوب لمشارفتي التلف‏.‏

ويجوز أن يريد‏:‏ ولم أك آئباً في تقديرهم وظنهم‏.‏ ويروى‏:‏ ولم آل آئباً بمد الهمزة واللام، أي‏:‏ لم أدع جهدي في الإياب‏.‏ والأول أحسن‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أورد ابن عصفور هذا البيت في كتاب الضرائر، قال‏:‏ ومنه وضع الاسم موضع الفعل الواقع في موضع خبر كاد، وموضع أن والفعل الواقع في موضع خير عسى، نحو قول تأبط شراً‏:‏

فأبت إلى فهمٍ وما كدت آئب ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وقول الآخر‏:‏

لا تكثرن إني عسيت صائما

كان الوجه أن يقول‏:‏ وما كدت أؤوب وإني عسيت أن أصوم، إلا أن الضرورة منعت من ذلك‏.‏ وقولهم في المثل‏:‏ عسى الغوير أبؤساً شاذ، يحفظ ولا يقاس عليه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن المستوفي وغيره‏:‏ قوله إلى فهم، أي‏:‏ إلى عقل‏.‏ وقيل إلى قبيلتي التي هي فهم‏.‏ وهذا أولى‏.‏ انتهى‏.‏

ورجوع الضمير من مثلها إلى فهم غير مناسب، والمناسب رجوعه إلى لحيان، وهي قبيلة من هذيلٍ، في قوله‏:‏

أقول للحيان وقد صفرت لهم *** وطابي ويومي ضيق الحجر معور

ويجوز أن يرجع إلى الحالة التي صدرت منه، حين أحاط به بنو لحيان وأرادوا قتله، فتحيل، ونجا منهم‏.‏

وعبر عنه ابن المستوفي بقوله‏:‏ أي‏:‏ المحنة والخطة والمنة‏.‏ وكم‏:‏ مبتدأ، وجملة‏:‏ فارقتها هو الخبر، وجملة‏:‏ وهي تصفر حالية، ومثلها‏:‏ بالجر‏:‏ مميزكم الخبرية‏.‏

قال ابن المستوفي‏:‏ قرأت على شيخنا أبي الحرم مكي‏:‏ وكم مثلها بجر مثلها ورفعها ونصبها‏.‏ فالجر على الإخبار‏.‏ والرفع على معنى كم مرةً وقع مثلها فارقتها‏.‏

والنصب على أن تكون كم مبهمة بالاستفهامية، ويكون مثلها‏:‏ صفة لنكرة محذوفة تقديرها‏:‏ كم مرة مثلها فارقتها‏.‏ هذا كلامه فتأمله‏.‏

وقد أنت مثلاً لإضافته إلى ضمير المؤنث، بدليل عود الضمير إليه من فارقتها مؤنثاً‏.‏

قال ابن جني‏:‏ أنت المثل حملاً على المعنى لما كان المراد به الحال والصورة التي ذكرها‏.‏ وقد جاء في التنزيل‏:‏ فله عشر أمثالها لما كان المراد عشر حسنات أمثالها، وتأنيث المذكر أغلط من تذكير المؤنث، لأنه مفارقة أصل إلى فرع، وفي ما ورد من تأنيث نحو هذا دليلٌ على قوة إقامة الصفة مقام الموصوف، حتى كأن الموصوف حاضر‏.‏

ولولا أن ذلك كذلك لما جاز تأنيث المثل، لكن دل جواز تأنيثه على قوة إرادة موصوفه‏.‏ فاعرف ذلك فإنه هو غرض هذا الفصل‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ تصفر قال ابن هشام في شرح الشواهد أراد بالصفير النفخ عند الندم‏.‏ ونقل ابن المستوفي عن أبي محمد القاسم بن محمد الديمرتي أن المعنى لما أعجزتها جعلت تصفر خجلاً‏.‏ قال‏:‏ ومن عادة العرب، إذا فاتهم أن يقولوا‏:‏ هو هو‏!‏ ثم يصفروا وراءه، يريدون بعد البعد‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من أبيات لتأبط شراً، تقدم شرحها في الشاهد الثامن والستين بعد الخمسمائة‏.‏

وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا عليه طريق جبل وجدوه فيه يشتار عسلاً، لم يكن له طريق غيره، وقالوا‏:‏ استأسر ونقتلك‏!‏ فكره أن يستأسر، فصب ما معه من العسل على الصخر، ووضع صدره عليه حتى انتهى إلى الأرض من غير طريق، فصار بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام، ونجا منهم‏.‏ فحكى الحكاية في الأبيات‏.‏

وأولها‏:‏

إذا المرء لم يحتل وقد وجد جده *** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر

ولكن أخو الحزم الذي ليس نازل *** به الخطب إلا وهو للقصد مبصر

فذاك قريع الدهر ما عاش حولٌ *** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر

قال ابن هشام في شرح الشواهد‏:‏

ومن محاسن أهل الأدب أن محيي الدين ابن قرناس، قال بحضرة شرف الدين الحلي، ملغزاً في الشبابة‏:‏ الطويل

وناطقةٍ خرساء بادٍ شجونه *** تكنفها عشرٌ ومنهن تخبر

يلذ إلى الأسماء رجع حديثه *** إذا سد منها منخرٌ جاش منخر

فأجابه في الحال‏:‏ الطويل

نهاني النهى والشيب عن وصل مثله *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

وفي الموضعين تضمين‏.‏

تتمة

ما أورده الشارح المحقق على البصريين في قولهم‏:‏ رفع المضارع لوقوعه موقع الاسم، قد أجاب عنه صاحب اللباب، قال فيه‏:‏ وأما مرفوع الفعل، فهو المضارع الواقع بحيث يصح وقوع الاسم، إما مجرد ومع حرف لا يكون عاملاً فيه، في نحو‏:‏ زيد يضرب، وسيضرب، ويضرب الزيدان‏.‏

لأن مبدأ الكلام لا يتعين للفعل دون الاسم، ونحو‏:‏ كاد زيد يقوم، الأصل فيه الاسم، وقد عدل إلى لفظ الفعل لزوماً لغرض‏.‏ وقد استعمل الأصل المرفوض، فيمن روى قوله‏:‏ وما كدت آئباً‏.‏ انتهى‏.‏

واحتزر بقوله لا يكون عاملاً عما إذا كان مع حرف عاملٍ، نحو‏:‏ زيد لم يضرب، ولن يضرب‏.‏

وقوله‏:‏ لأن مبدأ الكلام‏.‏ إلخ، هذا جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يضرب في يضرب الزيدان مرفوع، مع أنه ليس بواقعٍ موقع الاسم، إذ لا يجوز ابتداء ضاربٌ الزيدان من غير اعتمادٍ على شيء‏.‏

فأجاب بأن هذا الكلام من حيث هو كلامٌ، لا يتعين أن يكون فعلاً دون اسم، بل جاز أن يكون ابتداء الكلام اسماً على الجملة، فصدق أنه واقعٌ موقع الاسم على الإطلاق، أي‏:‏ موقعاً كان يصح أن يوقع فيه اسمٌ من الأسماء، وإن لم يقع اسم مخصوص‏.‏

وقوله‏:‏ ونحو كاد زيد يقوم إلخ، هذا أيضاً إيرادٌ وجوابٌ‏.‏ أما لإيراد فهو أن خبر كاد يلزم أن يكون فعلاً، وهو أن كاد موضوع لمقاربة وقوع فعلٍ، فحق خبره أن يكون فعلاً مضارعاً، فلا يكون خبره اسماً، فينبغي أن لا يرتفع، لأن ارتفاعه لوقوعه موقع الاسم، والاسم لا يقع خبراً لكاد‏.‏

وأجاب بأن أصل خبر كاد أن يكون اسماً كما في خبر كان، ولذلك استعمل ذلك الأصل المرفوض في البيت، فالفعل واقعٌ موقع الاسم نظراً إلى الأصل‏.‏

وقد بسط الكلام على مذهب الفريقين ابن الأنباري في مسائل الخلاف فلا بأس بإيراده قال‏:‏ اختلف مذهب الكوفيين في رفع المضارع، فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة‏.‏

وذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله‏.‏ وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه مقام الاسم‏.‏

واحتج الكوفيون بأن المضارع إذا دخل عليه ناصب نصبه، وجازم جزمه، وإذا خلا منهما ارتفع، فعلمنا أنه بدخولهما ينصب ويجزم، وبسقوطهما عنه يرفع‏.‏

قالوا‏:‏ ولا يجوز أن يكون مرفوعاً لقيامه مقام الاسم، لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن ينصب إذا كان الاسم منصوباً، نحو‏:‏ كان زيد يقوم‏.‏

ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم، والاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً‏؟‏ ولو كان كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم، ولوجب أن لا يرتفع في‏:‏ كاد زيد يقوم، لأنه لا يجوز‏:‏ كاد زيد قائماً‏.‏

واحتج البصريون بوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن قيامه مقام الاسم عاملٌ معنويٌّ يشبه الابتداء، والابتداء يوجب الرفع وكذا ما أشبهه‏.‏

وثانيهما‏:‏ أن بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله، فوجب أن يعطى أقوى الإعراب، وهو الرفع‏.‏

وإنما لم يرفع الماضي مع جواز قيامه مقام الاسم لأنه ما استحق أن يكون معرباً بنوع من الإعراب، فصار قيامه بمنزلة عدمه‏.‏

وأما قول الكوفيين إنه يرتفع بالتعري من العوامل الناصبة والجازمة فهو فاسد، لأنه يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم، ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبلهما، وذلك أن الرفع صفة الفاعل، والنصب صفة المفعول، فكما أن الفاعل قبل المفعول ينبغي أن يكون الرفع قبل النصب‏.‏

وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم من طريق الأولى‏.‏ وأما قولهم‏:‏ لو كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم إلخ، فنقول‏:‏ إنما لم يكن منصوب ومجروراً إذا قام مقام الاسم المنصوب والمجرور، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال‏.‏

وأما قولهم وجدنا نصبه وجزم بناصب وجازم، لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم، قلنا‏:‏ وكذلك نقول فإنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم، لأنه ارتفاعه لقيامه مقام الاسم، والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرفع في الاسم‏.‏

وأما قول الكسائي إنه يرتفع بالزائد في أوله، فهو فاسد من وجوه‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه كان ينبغي أن لا يدخل عليه عوامل النصب والجزم لأنهما لا يدخلان على العوامل‏.‏

الثاني‏:‏ كان ينبغي أن لا ينتصب، ولا يجزم بدخولهما، لوجود الزائد في أوله أبداً‏.‏

الثالث‏:‏ أن هذه الزوائد بعض الفعل لا تنفصل منه في لفظ، بل هي من تمام معناه، فلو علمت لزم أن يعمل الشيء في نفسه‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لو كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في كاد زيد يقوم إلخ، قلنا‏:‏ هذا فاسد، لأن الأصل كاد زيد قائماً‏.‏ ولذلك رده الشاعر في الضرورة إلى أصله في قوله‏:‏ وما كدت آئباً، إلا أنه لما كانت كاد موضوعة للتقريب من الحال، واسم الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي، عدلوا عنه إلى يفعل، لأنه أدل على مقتضى كاد، ورفعوه مراعة للأصل‏.‏ فدل على صحة ما ذهبنا إليه‏.‏

انتهى كلامه باختصار‏.‏ وفيه مواضع تحتمل المناقشة لا تخفى على المتأمل‏.‏

النواصب

أنشد فيه،

الشاهد الثامن والثلاثون بعد الستمائة

الطويل

وددت وما تغني الودادة أنني *** بما في ضمير الحاجبية عالم

على أن أن المفتوحة يجوز أن تقع بعد فعل غير دالٍ على العلم واليقين كما في البيت‏.‏ خلافاً للزمخشري في مفصله، فإن وددت بمعنى تمنيت‏.‏

قال ابن درستويه في شرح فصيح ثعلب‏:‏ وددته بالكسر أوده بالفتح‏.‏ بمعنى ومقته أمقه‏.‏ وكذلك‏:‏ وددت أنه كذا، إذا تمنيته، لأنه أيضاً من المقة والمحبة‏.‏ انتهى‏.‏

والزمخشري قال في الحروف المشبهة بالفعل، وهذا نصه‏:‏ فصلٌ‏:‏ والفعل الذي يدخل على المفتوحة مشددة ومخففة يجب أن يشاكلها في التحقيق‏.‏ فإن لم يكن كذلك نحو‏:‏ أطمع، وأرجون وأخاف، فليدخل على أن الناصبة للفعل‏.‏ وما فيه وجهان‏:‏ كظننت، وحسبت، وخلت فهو داخلٌ عليهما جميعاً‏.‏ انتهى بحذف الأمثلة‏.‏

وقد جاراه ابن يعيش في شرحه ولم بنتقده بشيءٍ، قال‏:‏ قد تقدم أن أن المفتوحة معمولةٌ لما قبلها، وأن معناها التأكيد والتحقيق، مجراها في ذلك مجرى المكسورة‏.‏ فيجب لذلك أن يكون الفعل الذي تبنى عليه مطابقاً لها في المعنى، بأن يكون من أفعال العلم واليقين ونحوهما بما معناه الثبوت والاستقرار، ليتطابق في المعنى العامل والمعمول ولا يتناقضا‏.‏

وحكم المخففة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة، لأن الحذف إنما يكون لضربٍ من التخفيف، فهي لذلك في حكم الثقيلة، فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلا ما يدخل على المثقلة‏.‏ هذا كلامه‏.‏

والبيت أول أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لكثير عزة‏.‏ وهي بعد الأول‏:‏

فإن كان خيراً سرني وعلمته *** وإن كان شراً لم تلمني اللوائم

وما ذكرتك النفس إلا تفرقت *** فريقين‏:‏ منها عاذرٌ لي ولائم

فريقٌ أبى أن يقبل الضيم عنوةً *** وآخر منها قابل الضيم راغم

وقوله‏:‏ وما تغني الودادة، أي‏:‏ تنفع، جملة معترضة بين وددت وبين معموله وهو أنني‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ‏.‏

والحاجبية‏:‏ هي عزة محبوبة كثير، واشتهر بالإضافة إليها فيقال كثير عزة، بفتح العين المهملة وتشديد الزاي‏.‏ والحاجبية‏:‏ نسبةٌ إلى أحد أجدادها‏.‏

قال ابن الكلبي‏:‏ عزة بنت حميل، بضم المهملة، ابن حفص، بفتحها، من بني حاجب ابن غفار، بكسر المعجمة‏.‏ وتقدم الكلام عليها في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة‏.‏

قال الطبرسي في شرح الحماسة‏:‏ يقول‏:‏ تمنيت أني عالمٌ بما ينطوي عليه قلب هذه المرأة لي‏.‏ والودادة بكسر الواو وفتحها‏.‏

وقوله‏:‏ فإن كان خيراً إلخ، أي‏:‏ فإن كان ما تضمره لي وداً صافياً سرني ذلك، وإن كان ما تضمره إعراضاً وجفاءً، قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات‏.‏ ويريد‏:‏ سلوت، فاسترحت، مما ألام فيه من حب من لا يحبني‏.‏ وهذا الأخير عن البياري‏.‏ وعلمته بمعنى عرفته، ولذلك اكتفى بمفعول واحد‏.‏

وقوله‏:‏ وما ذكرتك النفس إلخ، أي‏:‏ ما ذكرتك إلا تفرقت نفسي فريقين‏:‏ ففريق يعذرني، يقول‏:‏ إن مثلها في جمالها وكمالها يحب‏.‏ وفريق يلومني، يقول‏:‏ لم تحب من لا يحبك، ولا تصل إليه‏؟‏ والضيم‏:‏ الظلم‏.‏ والعنوة، بالفتح، القهر‏.‏ وراغم‏:‏ ذليل ملصق أنفه بالرغام وهو التراب‏.‏

وترجمة كثير قد تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة‏.‏

وكان مشوه الخلق دميماً مفرط القصر، كان يقال له‏:‏ زب الذباب وهجاه بعض الشعراء بقوله‏:‏ الطويل

يعض القراد باسته وهو قائم

روى صاحب الأغاني بسنده، أن عمر بن أبي ربيعة المخزومي قدم المدينة لأمر، فأقام شهراً ثم خرج إلى مكة، وخرج معه الأحوص معتمراً‏.‏ قال السائب راوية كثير‏:‏ فلما مر بالروحاء استتلياني، فخرجت أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج، فخرجنا جميعاً حتى وردنا ودان‏.‏

فحبسهما نصيب، وذبح لهما، وأكرمهما، وخرجنا وخرج معنا نصيب، فلما جئنا إلى منزل كثير، فقيل لنا‏:‏ قد هبط قديداً‏.‏ فجئنا قديداً، فقيل لنا‏:‏ إنه في خيمةٍ من خيامها، فقال لي ابن أبي ربيعة‏:‏ اذهب فادعه لي‏.‏ فقال نصيب‏:‏ هو أحمق أشد كبراً من أن يأتيك‏.‏ فقال لي عمر‏:‏ اذهب كما أقول لك‏.‏

فجئته فهش لي وقال‏:‏ اذكر غائباً تره لقد جئت، وأنا أذكرك‏.‏ فأبلغته رسالة عمر، فحدد لي نظره ثم قال‏:‏ أما كان عندك من المعرفة بي ما كان يردعك عن إتياني بمثل هذا‏؟‏ فقلت‏:‏ بلى، ولكن سترت عليك، فأبى الله إلا أن يهتك سترك‏.‏ قال‏:‏ إنك والله يا ابن ذكوان ما أنت من شكلي، قل لابن أبي ربيعة‏:‏ إن كنت قرشياً فإني قرشي‏!‏ فقلت‏:‏ ألا تترك هذا التلصق‏؟‏‏.‏

فقال‏:‏ والله لأنا أثبت فيهم منك في دوس‏.‏ ثم قال‏:‏ وقل له إن كنت شاعراً فأنا أشعر منك‏.‏ فقلت‏:‏ هذا إذا كان الحكم إليك‏.‏ قال‏:‏ وإلى من هو‏؟‏ ومن أولى به مني‏؟‏ فرجعت إلى القوم فأخبرتهم، فضحكوا ثم نهضوا معي إليه، فدخلنا عليه في خيمةٍ فوجدناه جالساً على جلد كبش فوالله ما أوسع للقرشي، فتحدثوا ملياً، ثم أفضوا في ذكر الشعر‏.‏ فأقبل على عمر، فقال له‏:‏ أنت تبعت امرأة فتنسب بها، ثم تدعها فتنسب بنفسك‏.‏

أخبرني عن قولك‏:‏ المنسرح

قالت تصدي له ليعرفن *** ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها‏:‏ قد غمزته فأبى *** ثم اسبطرت تشتد في أثري

وقولها والدموع تسبقه *** لنفسدن الطوف في عمر

أتراك لو وصفت بهذا الشعر هرة أهلك ألم تكن قد قبحت، وأسأت لها، وقلت الهجر‏!‏ إنما توصف الحرة بالحياء والإباء، والبخل والامتناع، كما قال هذا، وأشار للأحوص‏:‏ الطويل

أدور ولولا أن أرى أم جعفرٍ *** بأبياتكم ما درت حيث أدور

وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى *** إذا لم يزر لا بد أن سيزور

لقد منعت معروفها أم جعفر *** وإني إلى معروفها لفقير

فدخلت الأحوص الأبهة وعرفت الخيلاء فيه، فلما عرف كثير ذلك منه قال له‏:‏ أبطل أخزاك الله وأذلك‏.‏ أخبرني عن قولك‏:‏ الوافر

فإن تصلي أصلك وإن تبيني *** بصرمك بعد وصلك لا أبالي

ولا ألفى كمن إن سيم خسف *** تعرض كي يرد إلى الوصال

أما والله لو كنت فحلاً لباليت، ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيبٍ‏:‏ الطويل

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب *** وقل إن تملينا فما ملك القلب

فانكسر الأحوص وذخلت نصيباً الأبهة، فلما فهم ذلك منه قال‏:‏ وأنت يا أسود أخبرنا عن قولك‏:‏ الطويل

أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت *** فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي

أهمك من ينيكها بعدك‏.‏ فأبلس نصيب‏.‏ فلما سكت كثير أقبل عليه عمر، فقال‏:‏ قد أنصتنا لك فاستمع، أخبرني عن قولك لنفسك وتخيرك لمن تحب حيث تقول‏:‏ الطويل

ألا ليتنا يا عز من غير ريبةٍ *** بعيران نرعى في الخلا ونعزب

كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله *** علينا فما ننفك نرمى ونضرب

وددت وبيت الله أنك بكرةٌ *** هجانٌ وأني مصعبٌ ثم نهرب

نكون بعيري ذي غنًى فيضيعن *** فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب

ويلك تمنيت لها ولنفسك الرق والجرب، والرمي والطرد والمسخ، فأي مكروهٍ لم تتمن لها ولنفسك‏!‏ ولقد أصابها منك قول الأول‏:‏ معاداة عاقل خير من مودة أحمق ‏.‏ فجعل يختلج جسد كثير كله، ثم أقبل عليه الأحوص، فقال‏:‏ أخبرني عن قولك‏:‏ الطويل

وقلن وقد يكذبن‏:‏ فيك تعففٌ *** وشؤمٌ إذا ما لم تطع صاح ناعقه

فأعييتنا لا وأخياً بكرامةٍ *** ولا تاركاً شكوى الذي أنت صادقه

وأدركت صفو الود منا فلمتن *** وليس لنا ذنبٌ فنحن مواذقه

وألفيتنا سلماً فصدعت بينن *** كما صدعت بين الأديم خوالقه

والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على ما في نفسك‏!‏ ثم أقبل عليه نصيبٌ، فقال‏:‏ أقبل علي يا زب الذباب، فقد تمنيت معرفة غائب عنك علمه حيث تقول‏:‏

وددت وما تغني الودادة أنني *** بما في ضمير الحاجبية عالم

انظر ما في مرآتك، واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك‏!‏ فاضطرب اضطراب العصفور، وقام القوم يضحكون‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والثلاثون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ البسيط

أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل

هذا عجزٌ، وصدره‏:‏

في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا

على أن أن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف، وهالك‏:‏ خبر مقدم، وكل‏:‏ مبتدأ مؤخر، والجملة خبرها‏.‏

وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏، على أن أن مخففة واسمها ضمير شأن كما في البيت‏.‏

قال السيرافي‏:‏ وفي كتاب أبي بكر مبرمان‏:‏ هذا المصراع معمول، أي‏:‏ مصنوع، والثابت المروي‏:‏

أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل

قال‏:‏ والشاهد في كلتا الروايتين واحد، لأنه في إضمار الهاء في أن، وتقديره‏:‏ أنه هالك، وأنه ليس يدفع‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن المستوفي‏:‏ والذي ذكره السيرافي صحيح، ولا شك أن النحويين غيروه ليقع الاسم بعد أن المخففة مرفوعاً، وحكمه أن يقع بعد أن المثقلة منصوباً، فلما تغير اللفظ تغير الحكم‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، وقبله‏:‏

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني *** شاو مشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شول

وغدوت‏:‏ ذهبت غدوة، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقت كان‏.‏ كذا في المصباح‏.‏

والحانوت‏:‏ بيت الخمار، يذكر ويؤنث‏.‏ وجملة‏:‏ يتبعني حالٌ من التاء في غدوت‏.‏ والشاوي‏:‏ الذي يشوي اللحم‏.‏ والمشل، بكسر الميم وفتح الشين‏:‏ المستحث والجيد السوق، وقيل الذي يشل اللحم في السفود، من شللت الثوب، إذا خطته خياطة‏.‏ كذا قال ابن السيرافي‏.‏

والشلول، بفتح الشين، مثل المشل، ويروى‏:‏ نشول بفتح النون، وهو الذي يأخذ اللحم من القدر، يقال منه نشل ينشل‏.‏ والشلشل بضم الشينين كقنفذ‏:‏ الخفيف اليد في العمل، والمتحرك‏.‏ والشول‏:‏ بفتح فكسر، مثل الشلشل، وقيل هو الذي عادته ذلك‏.‏

وقال الخطيب التبريزي في شرح هذه القصيدة‏:‏ الشول هو الذي يحمل الشيء، يقال‏:‏ شلت به وأشلته‏.‏ وقيل هو من قولهم‏:‏ فلانٌ يشول في حاجته، أي‏:‏ يعنى بها، ويتحرك فيها‏.‏ ومن روى‏:‏ شول بضم الشين وفتح الواو فهو بمعناة، إلا أنه للتكثير‏.‏

وروى بدله‏:‏ شمل أيضاً بفتح فكسر، وهو الطيب النفس والرائحة‏.‏ يقول‏:‏ بكرت إلى بيت الخمار، ومعي غلامٌ شواءٌ طباخ، خفيف في الخدمة‏.‏

ويشبه هذا البيت قول أبي الطيب المتنبي، وهو‏:‏ الطويل

فقلقلت بالهم الذي قلقل الحش *** قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل

قلقلت‏:‏ حركت‏.‏ والقلاقل‏:‏ جمع قلقل‏.‏ كجعفر‏:‏ الناقة الخفيفة‏.‏

وقوله‏:‏ في فتية إلخ، متعلق بغدوت في البيت المتقدم‏.‏ وفي بمعنى مع‏.‏ وقال العيني‏:‏ حالٌ من شأوٍ، وحالٌ من الياء في يتبعني‏.‏ والفتية‏:‏ جمع فتًى، وهو الشاب‏.‏

وقوله‏:‏ كسيوف الهند في محل الصفة لفتية، وكذلك جملة‏:‏ قد علموا، يريد أنهم كالسيوف في المضاء والعزم، وفي صباحة الوجه تبرق كالسيوف‏.‏ وخصها بالهند لحسن صقالتها‏.‏ وجملة المصراع الثاني في محل نصب على أنه سادٌّ مسد مفعولي علموا‏.‏

ويحفى بالحاء المهملة من الحفاء، وهو المشي بلا نعل ولا خفٍّ‏.‏ وأراد به الفقير‏.‏ وينتعل‏:‏ يلبس النعل، وأراد به الغني‏.‏

يريد قد علم هؤلاء الفتيان أن الموت يعم فقيرهم وغنيهم، فهم يبادرون إلى اللذات قبل أن يحول الموت بينها وبينهم، كما قيل‏:‏ الطويل

خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ *** فكلٌّ وإن طال المدى يتصرم

والبيتان من قصيدة جيدة للأعشى، وهي أحسن شعره، وقد ألحقت بالمعلقات السبع‏.‏

وقد شرحها الخطيب التبريزي مع المعلقات، وأولها‏:‏

ودع هريرة إن الركب مرتحل *** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

نقل الخطيب عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ هريرة‏:‏ قينةٌ كانت لرجل، من آل عمرو بن مرثد، أهداها إلى قيس بن حسان بن ثعلبة بن عمرو بن مرثد، فولدت له خليداً‏.‏

وقد قال في هذه القصيدة‏:‏

جهلاً بأم خليدٍ حبل من تصل

انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ إن هريرة وخليدة أختان، كانتا قينتين لبشر بن عمرو، وكانتا تغنيانه، وقدم بهما إلى اليمامة، لما هرب من النعمان بن المنذر‏.‏ وقيل‏:‏ إن أم هريرة كانت أمةً سوداء لحسان بن عمرو، كان الأعشى يشبب بها‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأعشى سئل عن هريرة، فقال‏:‏ لا أعرفها، وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي‏.‏

ونقل صاحب الأغاني عن الشعبي أنه قال‏:‏ الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، والكل من هذه القصيدة‏.‏

أما الأول فقوله‏:‏

غراء فرعاء مصقولٌ عوارضه *** تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل

وأما الثاني فقوله‏:‏

قالت هريرة لما جئت زائره *** ويلي عليك وويلي منك يا رجل

وأما الثالث فقوله‏:‏

قالوا الطراد فقلنا تلك عادتن *** وتنزلون فإنا معشرٌ نزل

والغراء‏:‏ البيضاء الواسعة الجبين‏.‏ والفرعاء‏:‏ الطويلة الفرع، أي‏:‏ الشعر‏.‏

والعوارض‏:‏ الرباعيات والأنياب‏.‏ والوجي، بكسر الجيم‏:‏ الذي يشتكي حافره، ولم يحف‏.‏ والوحل، بكسر الحاء المهملة‏:‏ الذي يتوحل في الطين‏.‏

وقوله‏:‏ قالوا الطراد يقول‏:‏ إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا، وإن نزلتم، تجالدون بالسيوف، نزلنا‏.‏

وروى صاحب الأغاني بسنده قال‏:‏ حدث جرير بن عبد الله البجلي الصحابي، قال‏:‏ سافرت في الجاهلية، فأقبلت ليلةً على بعيري، أريد أن أسقيه ماءً، فلما قربته من الماء، تأخر، فعقلته، ودنوت من الماء، فإذا قومٌ مشوهون عند الماء فقعدت، فبينا أنا عندهم، إذ أتاهم رجلٌ أشد تشويهاً منهم، فقالوا‏:‏ هذا شاعر‏.‏ ثم قالوا‏:‏ يا أبا فلان أنشد هذا، فإنه ضيف‏.‏

فأنشد‏:‏

ودع هريرة إن الركب مرتحل

فوالله ما خرم منها بيتاً حتى أتى على آخرها، فقلت‏:‏ من يقول هذه القصيدة‏؟‏ قال‏:‏ أنا أقولها‏.‏ قلت‏:‏ لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران‏.‏

قال‏:‏ إنك صادق‏.‏ أنا الذي ألقيتها على لسانه‏.‏ وأنا مسحلٌ صاحبه، ما ضاع شعر شاعرٍ وضعه عند ميمون بن قيس‏.‏

وروى صاحب الأغاني عن الأعشى، قال‏:‏ حدث الأعشى عن نفسه قال‏:‏ خرجت أريد قيس بن معديكرب بحضرموت، فضللت في أوائل أرض اليمن، لأني لم أكن سلكت ذلك الطريق قبل، فأصابني مطرٌ، فرميت ببصري، أطلب مكاناً، ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شعر، فقصدت نحوه، وإذا أنا بشيخ على باب الخباء فسلمت عليه، فرد علي السلام، وأدخل ناقتي خباءً آخر، كان بجانب البيت، فحططت رحلي، وجلست‏.‏

فقال‏:‏ من أنت‏؟‏ وأين تقصد‏؟‏ قلت‏:‏ أنا الأعشى، أقصد قيس بن معديكرب‏.‏ فقال‏:‏ حياك الله، أظنك امتدحته بشعر‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأنشدنيه‏.‏ فابتدأت مطلع القصيدة‏:‏ الكامل

رحلت سمية غدوةً أجماله *** غضباً عليك فما تقول بدا لها

فلما أنشدته هذا المطلع منها، قال‏:‏ حسبك، أهذه القصيدة لك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ من سمية التي تنسب بها‏؟‏ قلت‏:‏ لا أعرفها، وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي‏.‏ فنادى‏:‏ يا سمية اخرجي‏.‏ وإذا جاريةٌ حماسية قد خرجت، فوقفت وقالت‏:‏ ما تريد يا أبت‏؟‏ قال‏:‏ أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معديكرب ونسب بك في أولها‏.‏

فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفاً، فلما أتمتها قال‏:‏ انصرفي‏.‏

ثم قال‏:‏ هل قلت شيئاً غير ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، كان بيني وبين ابن عمٍّ لي، يقال له‏:‏ يزيد بن مسهر، ويكنى أبا ثابت، ما يكون بين بني العم، فهجاني، وهجوته فأفحمته‏.‏ قال‏:‏ ماذا قلت فيه‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏

ودع هريرة إن الركب مرتحل

فلما أنشدته البيت الأول، قال‏:‏ حسبك، من هريرة هذه التي نسبت فيها‏؟‏ قلت‏:‏ لا أعرفها، وسبيلها سبيل التي قبلها‏.‏ فنادى‏:‏ يا هريرة‏.‏ فإذا جاريةٌ قريبة السن من الأولى خرجت، فقال‏:‏ أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر‏.‏

فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً‏.‏ فسقط في يدي وتحيرت، وتغشتني رعدة‏.‏

فلما رأى ما نزل بي قال‏:‏ ليفرج روعك يا أبا بصير أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر‏.‏ فسكنت نفسي ورجعت إلي، وسكن المطر، فدلني على الطريق، وأراني سمت مقصدي، وقال‏:‏ لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس‏.‏

وروى صاحب الأغاني أيضاً أن الأعشى قال هذه القصيدة ليزيد بن مسهر أبي ثابت الشيباني‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وكان من حديث هذه القصيدة أن رجلاً من بني كهف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، يقال له ضبيع، قتل رجلاً من بني همام، يقال له زاهر بن سيار بن أسعد بن همام، وكان ضبيع مطروقاً، ضعيف العقل، فنهاهم يزيد بن مسهر، وهو من بني ثعلبة بن أسعد بن همام، أن يقتلوا ضبيعاً بزاهر، وقال‏:‏ اقتلوا به سيداً من بني سعد بن مالك بن ضبيعة‏.‏

فحض بني سيار بن أسعد على ذلك وأمرهم به، فبلغ بني قيس ما قاله، فقال الأعشى هذه القصيدة في ذلك، يأمره أن يدع بني سيار وبني كهف، ولا يعين بني سيار، فإنه إن أعانهم، أعانت قبائل بني قيس بني كهف‏.‏ وحذره أن يلقى بنو سيارٍ منهم ما لقوا يوم العين عين محلم بهجر‏.‏

وكان من حديث ذلك اليوم، كما زعم عمر بن هلال، أحد بني سعد بن قيس ابن ثعلبة، أن يزيد بن مسهر كان خالع أصرم بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة، فلما خلع يزيد بن مسهر أصرم من ماله خالعه على أن يرهنه ابنيه‏:‏ أقلب وشهاباً ابني أصرم، وأمهما فطيمة بنت شرحبيل بن عوسجة بن ثعلبة بن سعد بن قيس‏.‏

وأن يزيد قمر أصرم، فطلب إليه أن يدفع إليه ابنيه رهينة، فأبت أمهما ذلك، فنادت قومها، فحضر الناس، واشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها، ودافع قومها عنهما وعنها‏.‏

فذلك قول الأعشى‏:‏ البسيط

نحن الفوارس يوم العين ضاحيةً *** جنبي فطيمة لا ميلٌ ولا عزل

قال‏:‏ فانهزم بنو سيار‏.‏

فحذر الأعشى يزيد بن مسهر مثل تلك الحالة‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وذكر عامرٌ ومسمع، عن قتادة الفقيه أن رجلين من بني مروان، تنازعا في هذا الحديث، فجردوا رسولاً في ذلك إلى العراق حتى قدم الكوفة، فسأل، فأخبر أن فطيمة من بني سعد بن قيس، وأنها كانت عند رجل من بني سيار وله امرأة غيرها من قومه‏.‏

فتغايرتا فعمدت السيارية فحلقت ذوائب فطيمة، فاهتاج الحيان فاقتتلوا، فهزمت بنو سيارٍ يومئذ‏.‏ انتهى‏.‏

وإنما نقلت هذا الفصل لأن شراح القصيدة أخلوا في شروحهم بهذه الأمور‏.‏ والله أعلم‏.‏

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الأربعون بعد الستمائة

الطويل

ولا تدفنني في الفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

على أن مخففة لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين، واسمها ضمير شأن محذوف، وضمير متكلم‏.‏ وجملة‏:‏ لا أذوقها في محل رفع خبرها‏.‏

وقبله‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ *** تروي عظامي بعد موتي عروقها

وأصل الخوف الفزع وانقباض النفس عن احتمال ضرر، وإذا اشتد الخوف التحق بالمتيقن كما قال الشارح المحقق‏.‏

قال ابن خطيب الدهشة وهو ابن مؤلف المصباح في كتاب التقريب، في علم الغريب‏:‏ يقال خاف الشيء‏:‏ علمه وتيقنه‏.‏ انتهى‏.‏

وذلك لأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من التعبير بالمسبب عن السبب، وليس إطلاقه عليه لأنه من لوازم اليقين كما قال الشمني، فكم من يقينٍ لا خوف منه‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص، وبين الظن والعلم مشابهةٌ في أمور كثيرة، فلذلك صح إطلاق كل منهما على الآخر‏.‏

وفي تخصيصه التولد بالظن نظر، لأن الخوف، كما يتولد عن الظن، يتولد عن العلم أيضاً‏.‏

وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن خاف من موص‏}‏ فمن توقع، وعلم‏.‏ وهذا في كلامهم شائع، يقال‏:‏ أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع، والظن الغالب، الجاري مجرى العلم‏.‏

وقال الدماميني في الحاشية الهندية عند قول ابن هشام في المغني‏:‏ الخوف في هذا البيت يقين‏:‏ قد يقال لا يلزم من تعقل العقلاء أنه لا يذوقها بعد الموت، حمل الخوف على اليقين عند هذا الشاعر، لأن استهتاره بشربها، ومغالاته في محبتها، أمرٌ مشهور، فلعل ذلك حمله على أنه خاف ولم يقطع بما تيقنه غيره، ولذلك أمر بدفنه إلى جنب الكرمة، رجاء أنه ينال منها بعد الموت‏.‏ ومن ثم قيل إن هذا أحمق بيت قالته العرب‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن الملا أحمد الحلبي في شرحه بعد نقل هذا الكلام‏:‏ وهذا مبنيٌّ كما قال شيخنا على أنه كان إذ ذاك متردداً بين ذوقها بعد الموت، بتقدير دفنه إلى جنب الكرمة، أو‏:‏ لا، بتقدير دفنه في الفلاة‏.‏ فلا علم ولا ظن‏.‏ قال‏:‏ وهذا احتمال، لأن التعليل بقوله‏:‏ فإنني أخاف‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إن كان لمجموع الأمر والنهي على معنى‏:‏ فإنني أخاف أن لا أذوقها غداً، فلا علم ولا ظن، فهي الناصبة أهملت‏.‏

ففي شرح الكافية للحديثي أن الخفيفة بعد فعل الخوف والرجاء ناصبة، لأنه يحتمل أن يقع، وأن لا يقع، وبعد الظن تحتملها والمخففة، نظراً إلى الرجحان وعدمه، وعلى معنى فإنني أخاف الآن، بتقدير‏:‏ أن لا تدفني إلى جنبها، بل في الفلاة‏:‏ أن لا أذوقها إذا ما مت، أو‏:‏ فإنني أخاف إذا ما مت، بهذا التقدير‏:‏ أن لا أذوقها‏.‏ فالخوف هنا علمٌ ويقين، فهي المخففة‏.‏

وكذا إن جعل تعليلاً للنهي وحده، لأنه الذي قارنه في هذا البيت، على معنى فإنني أخاف الآن وإذا ما مت، بتقدير أن تدفنني في الفلاة لا إلى جانبها، أن لا أذوقها‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن الملا‏:‏ وها هنا بحثٌ، وهو أن الشاعر وإن كان من المغرمين بالصهباء، المتهتكين بها، لكنه من ذوي العقول الكاملة، والأنظار الصائبة، فكيف يظن به أنه غير قاطع، بما يتيقنه غيره من عدم الذوق بعد الموت‏!‏ بل هو أمرٌ مركوز في الأذهاب، غنيٌّ عن البيان‏.‏

وإنما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخييلاتهم، ورام سلوك جادة تمويهاتهم، فإنهم سحرة الكلام، ومخترعو صور الإيهام‏.‏ فأمر أولاً بدفنه بعد الموت بجانب كرمة، وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله‏:‏ الطويل

تروي عظامي بعد موتي عروقها

ليستفاد من ذلك علة الأمر بالدفن المذكور، إشارة إلى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وإذا تعذرت التروية الحقيقية فلا أقل من حصول التروية المجازية‏.‏

ثم نهى ثانياً تأكيداً للأمر الأول عن دفنه لا بجنب كرمة، وعلل ذلك بأنه يتيقن أنه لا يذوقها إذا مات فلا يتروى بها حقيقة‏.‏ فدفنه لا إلى جانبها مفوت للتروية المجازية‏.‏ ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إيهاماً، لأنه مع ذلك لا يقطع بعدم الذوق‏.‏

وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلاً على ما قصده معنى‏.‏ وإنما قلناك إن تروية العظام مجازية لأن الروى حقيقةً لذوات الأكباد عن عطش، وليست العظام منها‏.‏

على أنه لا عطش بعد الموت‏.‏ ولما ليست له قوة نامية‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ روي النبات من الماء‏.‏ والعظام جماد‏.‏ انتهى كلامه، ومن خطه نقلت‏.‏

ويؤيد هذا رواية ابن السكيت‏.‏

ولا تدفنني في الفلاة فإنني *** يقيناً إذا ما مت لست أذوقها

وعليها لا شاهد في البيت‏.‏

والبيتان أولا قصيدةٍ لأبي محجنٍ الثقفي‏:‏ رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه، وبعدهما‏:‏

أباكرها عند الشروق وتارةً *** يعاجلني عند المساء غبوقها

وللكأس والصهباء حقٌّ معظمٌ *** فمن حقها أن لا تضاع حقوقها

أقومها زقاً بحقٍّ بذاكم *** يساق إلينا فجرها وفسوقها

وعندي على شرب المدام حفيظةٌ *** إذا ما نساء الحي ضاقت حلوقها

وأعجلن عن شد المآزر وله *** مفجعة الأصوات قد جف ريقها

وأمنع جار البيت مما ينوبه *** وأكرم أضيافاً قراها طروقها

قال ابن السكيت‏:‏ قوله‏:‏ إذا مت فادفني هذا خطابٌ مع ابنه يأمره بذلك، وفيه مبالغة على حبه للخمر، وتعطشه إليها، إذ أظهر الرغبة إليها، وهو ميت‏.‏

وقوله‏:‏ ولا تدفنني في الفلاة إلخ، قال ابن السكيت‏:‏ الفلاة‏:‏ الأرض المهلكة التي لا علم بها ولا ماء‏.‏ والمعنى أن الفلاة لا يعرش فيها كرم فلا تدفنني إلا بمكان ينبت فيه العنب حتى أكون قريباً منه، فألتذ بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ أباكرها عند الشروق إلخ‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ أي‏:‏ إنني أصبحها عند شروق الشمس، ومرةً أشربها عشاءً، إلا أنني أقدم شربها على العشاء، فيعاجلني الغبوق‏.‏

والصبوح‏:‏ شرب الغدو‏.‏ والغبوق‏:‏ شرب آخر النهار‏.‏ وأباكرها‏:‏ أبادر إليها في بكرة النهار‏.‏

وقوله‏:‏ وللكأس والصهباء إلخ‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ حقها‏:‏ كونها تسر القلب‏.‏ وتذهب الهم، وتسخي البخيل، وتشجع الجبان، إلى غير ذلك من فعلها، وهذا حقٌّ لها‏.‏ وإذا كان هذا دأبها، فمن حقها أن تعظم، ولا تضيع حقوقها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الملا‏:‏ فإن قلت‏:‏ حق الكلام أن يقول‏:‏ ومن حقهما أن لا يضاع حقوقهما، لادعائه أن الحق المعظم للكأس والصهباء، قلت‏:‏ نعم، إلا أنه ذهب إلى أن الكأس والصهباء، وإن كانا شيئين، فهما بمثابة الشيء الواحد‏.‏ واستلمح قول القائل‏:‏

رق الزجاج وراقت الخمر *** وتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمرٌ ولا قدحٌ *** وكأنما قدحٌ ولا خمر

انتهى‏.‏

وفيه أن هذين البيتين لأبي إسحاق الصابي، وهو متأخر عن أبي محجن بأكثر من ثلاثمائة سنة‏.‏ وكان ينبغي أن يعكس‏.‏

وقوله‏:‏ أقومهما زقاً إلخ‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ الزق بالكسر‏:‏ ظرف الخمر‏.‏

والحق بالكسر من الإبل‏:‏ ابن ثلاث سنين، وكذلك الحقة، وسميا بهذا الاسم لأنهما استحقا أن يركبا‏.‏

وفجرها‏:‏ فجورها‏.‏ والفاجر‏:‏ المائل عن الطاعة‏.‏ والطاعة‏:‏ الوقوف على الأوامر‏.‏ والفسوق توسيع ما ضيقه الله من أمر الدين‏.‏

وقوله‏:‏ وعندي على شرب إلخ‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ الحفيظة كل شيءٍّ يغضب لأجله‏.‏ يعني وإن كنت سكران، لا أهمل الحفاظ إذا استغاثت بي نساء الحي، وصحن لنازلةٍ نزلت بهن‏.‏

وقوله‏:‏ وأعجلن عن شد إلخ، قال ابن السكيت‏:‏ أي دهمهن من البلاء ما أعجلهن عن شد المآزر في أوساطهن‏.‏ ولهاً‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ للوله الذي نزل بهن‏.‏ والواله‏:‏ الذاهب العقل‏.‏ والمفجعة‏:‏ التي نزل بها ما أخافها وأفزعها‏.‏ وجف ريقها، أي‏:‏ يبس‏.‏ انتهى‏.‏

والصواب أن ولهاً حال لا مفعول من أجله‏.‏

وقوله‏:‏ وأمنع جار البيت إلخ‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ قراها‏:‏ أطعمها‏.‏ يقول‏:‏ إذا طرقتنا الضيفان ليلاً أعجلنا لها القرى، فكأن طروقها هو الذي قراها‏.‏ انتهى‏.‏

وأبو محجن شاعر صحابي، له سماعٌ ورواية‏.‏ كذا في الاستيعاب كما يأتي‏.‏

وإنما أثبت له السيوطي في شرح أبيات المغني رواية، ولم يذكر أن له سماعاً‏.‏ ونفاها أيضاً الذهبي في تاريخ الإسلام‏.‏ وقال في التجريد‏:‏ أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب، وقيل‏:‏ مالك بن حبيب، وقيل‏:‏ عبد الله‏.‏ كان فارساً شاعراً من الأبطال، لكن جلده عمر رضي الله عنه في الخمر مرات، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فهرب، ولحق بسعد، وهو يحارب الفرس فحبسه‏.‏ وله أخبارٌ‏.‏ روى عنه أبو سعدٍ البقال‏.‏ انتهى‏.‏

ورواية أبي سعد البقال عن أبي محجن إنما هو بتدليس، لأنه لم يدرك عصره‏.‏ وقد ذكروه في الضعفاء‏.‏

وقيل إن اسمه أبو محجن، وهي كنيته أيضاً‏.‏ وهو بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم‏.‏

وهذه ترجمته من الاستيعاب، تأليف أبي عمر يوسف الشهير بابن عبد البر قال‏:‏ أبو محجن الثقفي اختلف في اسمه، فقيل‏:‏ مالك بن حبيب، وقيل‏:‏ عبد الله ابن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عميرة بن عوف بن قسي، وهو ثقيف، الثقفي‏.‏ وقيل اسمه كنيته‏.‏

أسلم حين أسلمت ثقيف‏.‏ وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه‏.‏ حدث عنه أبو سعدٍ البقال، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول‏:‏ أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي ثلاث‏:‏ إيمانٌ بالنجوم، وتكذيبٌ بالقدر، وحيف الأئمة ‏.‏

وكان أبو محجن هذا من الشجعان الأبطال في الجاهلية والإسلام، من أولي البأس والنجدة، ومن الفرسان البهم‏.‏ وكان شاعراً مطبوعاً كريماً، إلا أنه كان منهمكاً بالشراب، لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حدٌّ ولا لوم لائم‏.‏ وكان أبو بكر الصديق يستعين به‏.‏

وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً، ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه، ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية‏.‏ وهو محاربٌ للفرس‏.‏ وكان قد هم بقتل الرجل الذي بعثه عمر معه، فأحس الرجل بذلك، وخرج فاراً، ولحق بعمر، وأخبره خبره، فكتب عمر إلى سعد بحبس أبي محجن، فحبسه‏.‏

حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ بلغني أن عمر بن الخطاب حد أبا محجن الثقفي سبع مرات‏.‏ ذكر ذلك عبد الرزاق في باب من حد من الصحابة في الخمر‏.‏

قال‏:‏ وأخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين‏:‏ قال‏:‏ كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر، فلما كثر عليهم سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل إلى أم ولد سعد، وإلى امرأة سعد، يقول لها‏:‏ إن أبا محجن يقول لك‏:‏ إن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت إليه سلاحاً ليكونن أول من يرجع إليك، إلا أن يقتل‏.‏

وأنشد يقول‏:‏ الطويل

كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقن *** وأترك مشدوداً علي وثاقيا

إذا قمت غناني الحديد وغلقت *** مصارع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ *** فقد تركوني واحداً لا أخا ليا

وقد شف نفسي أنني كل شارقٍ *** أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا

فلله دري يوم أترك موثق *** وتذهل عني أسرتي ورجاليا

حبست عن الحرب العوان وقد بدت *** وإعمال غيري يوم ذاك العواليا

ولله عهدٌ لا أخيس بعهده *** لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا

فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد، فحلت عنه قيوده، وحمل على فرس كان في الدار، وأعطي سلاحاً، ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم، فجعل لا يزال يحمل على رجل فيقتله، ويدق صلبه‏.‏

فنظر إليه سعدٌ فجعل يتعجب ويقول‏:‏ من ذلك الفارس‏؟‏ قال‏:‏ فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله، ورجع أبو محجن، ورد السلاح، وجعل رجليه في القيود كما كان‏.‏

فجاء سعد، فقالت له امرأته وأم ولده‏:‏ كيف كان قتالكم‏؟‏ فجعل يخبرها ويقول‏:‏ لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرسٍ أبلق، لولا أني تركت أبا محجنٍ في القيود، لظننت أنها بعض شمائل أبي محجن‏؟‏ فقالت‏:‏ والله لأبو محجن كان من أمره كذا وكذا‏.‏ فقصت عليه قصته‏.‏ فدعا به وحل قيوده، وقال‏:‏ لا نجلدك على الخمر أبداً‏.‏ قال أبو محجن‏:‏ وأنا والله لا أشربها أبداً‏.‏ كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم‏.‏ قال‏:‏ فلم يشربها بعد ذلك‏.‏

وروى صاحب الاستيعاب بسنده إلى إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، قال‏:‏ لما كان يوم القادسية أتي سعد بأبي محجن، وهو سكران من الخمر، فأمر به إلى القيد، وكان سعدٌ به جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، ورفع سعدٌ فوق العذيب لينظر إلى الناس، فلما التقى الناس قال أبو محجن‏:‏

كفى حزناً أن تردي الخيل بالقن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏الأبيات السابقة

فقال لابنة خصفة امرأة سعد‏:‏ ويحك خليني ولك علي إن سلمني الله، أن أجيء، حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم مني‏.‏

فخلته فوثب على فرس لسعدٍ يقال لها‏:‏ البلقاء، ثم أخذ الرمح، ثم انطلق حتى أتى الناس، فجعل لا يحمل في ناحيةٍ إلا هزمهم، فجعل الناس يقولون‏:‏ هذا ملكٌ‏:‏ وسعد ينظر، فجعل سعد يقول‏:‏ الضبر ضبر البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد‏!‏ فلما هزم العدو، رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد، فأخبرت ابنة خصفة سعداً بالذي كان من أمره‏.‏ فقال‏:‏ لا والله ما أبلى أحدٌ من المسلمين ما أبلى في هذا اليوم‏!‏ لا أضرب رجلاً أبلى في المسلمين ما أبلى‏!‏ قال‏:‏ فخلى سبيله‏.‏

وقال أبو محجن‏:‏ كنت أشربها، إذ يقام علي الحد، وأطهر منها، فأما إن بهرجتني فوالله لا أشربها أبداً‏.‏

ومن رواية أهل الأخبار أن ابناً لأبي محجن دخل على معاوية، فقال له معاوية‏:‏ أبوك الذي يقول‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏الأبيات المتقدمة

فقال له ابنه‏:‏ لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره‏.‏ قال‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ قوله‏:‏ البسيط

لا تسأل الناس من مالي وكثرته *** وسائل الناس عن حزمي وعن خلقي

قد يعلم الناس أني من سراتهم *** إذا تطيش يد الرعديدة الفرق

قد أركب الهول مسدولاً عساكره *** وأكتم السر فيه ضربة العنق

أعطي السنان غداة الروع حصته *** وعامل الرمح أرويه من العلق

وزاد بعضهم في هذه الأبيات‏:‏ البسيط

وأطعن الطعنة النجلاء قد علمو *** تنفي المسابير بالإزباد والفهق

عف المطالب عما لست نائله *** وإن ظلمت شديد الحقد والحنق

وقد أجود وما مالي بذي فنعٍ *** وقد أكر وراء المجحر البرق

قد يقتر المرء يوماً وهو ذو حسبٍ *** وقد يثوب سوام العاجز الحمق

ويكثر المال يوماً بعد قلته *** ويكتسي العود بعد الجدب بالورق

فقال له معاوية‏:‏ لئن أسأنا لك القول، لنجزل لك العطية‏.‏ ثم أجزل جائزته، وقال‏:‏ إذا ولدت النساء، فلتلد مثلك‏!‏ وزعم الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي محجن الثقفي بأذربيجان، وقال‏:‏ في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهي معرشة على قبره، مكتوب على القبر‏:‏ هذا قبر أبي محجن قال‏:‏ فجعلت أتعجب وأذكر قوله‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

هذا ما اخترته من الاستيعاب‏.‏

وروى ابن الأعرابي في شرح ديوان أبي محجن عن ابن الكلبي أنه قال‏:‏ أخبرنا عوانة قال‏:‏ دخل عبيد بن أبي محجن على عبد الملك، فقال له عبد الملك‏:‏ أبوك الذي يقول من قصيدة‏:‏

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، ولكن أبي الذي يقول‏:‏

لا تسأل القوم عن مالي وكثرته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إلى آخر الأبيات المذكورة

ونقل ابن حجر في الإصابة عن ابن فتحون فيما كتبه على أوهام الاستيعاب أنه عاب أبا عمر على ما ذكر في قصة أبي محجن أنه كان منهكماً في الشراب، فقال‏:‏ كان يكفيه ذكر حده عليه، والسكوت عنه أليق‏.‏

والأولى في أمره ما أخرجه سيف في الفتوح‏:‏ أن امرأة سعدٍ سألته فيما حبس‏؟‏ فقال‏:‏ والله ما حبست على حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، فجرى كثيراً على لساني وصفها، فحبسني بذلك، فأعلمت بذلك سعداً، فقال‏:‏ اذهب، فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله، حتى تفعله‏.‏

قال ابن حجر‏:‏ وسيفٌ ضعيف، والروايات التي ذكروها أقوى وأشهر‏.‏ وأنكر ابن فتحون قول من روى أن سعداً أبطل عنه الحد، وقال‏:‏ لا يظن هذا بسعد‏!‏ ثم قال‏:‏ لكن له وجه حسن، ولم يذكروه‏.‏

وكأنه أراد أن سعداً أراد بقوله لا يخلده في الخمر بشرطٍ أضمره، وهو إن ثبت عليه أنه يشربها‏.‏ فوفقه الله أن تاب توبةً نصوحاً فلم يعد إليها، كما في بقية القصة‏.‏

وقوله في القصة‏:‏ الضب ضبر البلقاء هو بالضاد المعجمة والباء الموحدة‏:‏ عدو الفرس‏.‏ ومن قاله بالصاد المهملة فقد صحف‏.‏ نبه عليه ابن فتحون‏.‏

تتمة

سماه الآمدي في المؤتلف والمختلف على خلاف ما تقدم مع بعض تغيير في أسماء آبائه‏:‏ قال هو حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي‏.‏

وهو شاعرٌ فارس، وهو القائل‏:‏ المنسرح

لما رأينا خيلاً محجلةً *** وقوم بغيٍ في جحفلٍ لجب

طرنا إليهم بكل سلهبةٍ *** وكل صافي الأديم كالذهب

وكل عراصةٍ مثقفةٍ *** فيها سنانٌ كشعلة اللهب

وكل عضبٍ في متنه أثرٌ *** ومشرفي كالملح ذي شطب

وكل فضفاضةٍ مضاعفةٍ *** من نسج داود غير مؤتشب

لما التقينا مات الكلام ود *** ر الموت دور الرحى على القطب

فكلنا يستكيص صاحبه *** عن نفسه والنفوس في كرب

إن حملوا لم نرم مواضعن *** وإن حملنا جثوا على الركب

انتهى‏.‏

وهذا الشعر لم يروه ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه‏.‏

وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة، أورده الآمدي مكبراً اسماً لخمسة شعراء، أحدهم أبو محجن‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما حبيب بالتصغير فهو حبيب بن تميم المجاشعي‏.‏ وأورده له شعراً‏.‏

وبعد أن نقل العيني الخلاف في اسمه هل هو مالكٍ بن حبيب، وعبد الله بن حبيب، قال‏:‏ وضبط عن أبي عمر حبيب مصغراً‏.‏ وتبعه السيوطي في شرح أبيات المغني على هذا الضبط‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏