فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الستون بعد الستمائة

الطويل

تريدين كيما تجمعيني وخالد *** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

على أن كي جاءت من غير سببية بعد فعل الإرادة‏.‏ وما بعدها زائدة، والفعل منصوب بحذف النون، والنون الموجودة للوقاية‏.‏

قال التبريزي في شرح الكافية‏:‏ فجوز الفصل بين كي وبين الفعل بلا النافية بالاتفاق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيلا يكون دولةً وبلا الزائدة، كقول قيس بن سعد ابن عبادة‏:‏

أردت لكيلا يعلم الناس أنه *** سراويل قيسٍ والوفود شهود

وقد فصل بينهما بما الزائدة ولا النافية، كقول الآخر‏:‏

أرادت لكيما لا تراني عشيرتي *** ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل

ولا يجوز الفصل بينهما بغير ما ذكر‏.‏

والبيت أول أبياتٍ خمسةٍ لأبي ذؤيب الهذلي‏.‏

وبعده‏:‏

أخالد ما راعيت من ذي قرابةٍ *** فتحفظني بالغيب وبعض ما تبدي

دعاك إليها مقلتاها وجيده *** فملت كما مال المحب على عمد

فكنت كرقراق السراب إذا جرى *** لقومٍ وقد بات المطي بهم تخدي

فآليت لا أنفك أحدو قصيدةً *** تكون وإياها بها مثلاً بعدي

وسبب هذه الأبيات أن أبا ذؤيب كان يعشق امرأةً اسمها أم عمرو، وكان رسوله إليها خالداً، وهو ابن أختٍ له وقيل ابن عمٍّ له، وكان جميلاً، فعشقته أم عمرو، فلما أيقن أبو ذؤيب بغدر خالد صرمها، فأرسلت تترضاه فلم يفعل، وقال هذه الأبيات‏.‏

وكان أبو ذؤيب فعل كذلك برجل يقال له مالك بن عويمرٍ، وكان رسوله إليها‏.‏

وتقدم شرح هذه القصة مبسوطاً بأبسط من هذا في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة‏.‏

وجرى بين أبي ذؤيب وبين خالدٍ أشعارٌ مذكورةٌ في أشعار الهذليين، منها قول خالدٍ يجيبه، قصيدةً على هذا الروي والوزن‏:‏ الطويل

فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرته *** فأول راضٍ سنةً من يسيرها

وقوله‏:‏ تريدين كيما تجمعيني وخالداً هكذا رواه السكري وغيره‏.‏ ورواه ابن السكيت في إصلاح المنطق وصاحب الصحاح‏:‏

تريدين كيما تضمديني وخالداً

وقال‏:‏ الضمد‏:‏ أن تتخذ المرأة خليلين، وفعله من باب ضرب‏.‏

وهل‏:‏ للاستفهام الإنكاري‏.‏ والغمد بالكسر‏:‏ قراب السيف‏.‏ وفي أمثال العرب‏:‏ لا يجمع سيفان في غمد، ولا فحلان في ذود ‏.‏

وقد استعمل هذا المصراع مثلاً‏.‏ قال الزمخشري في أمثاله‏:‏ هو من قول أبي ذؤيب‏.‏ يضرب في قلة الاتفاق‏.‏

ومنه قول يزيد بن خذاق الشني، من قصيدةٍ مذكورةٍ في المفضليات‏:‏

لن تجمعوا ودي ومعتبتي *** ويجمع السيفان في غمد

وقول العديل بن الفرخ العجلي، من قصيدة مذكورة في الحماسة‏:‏ الطويل

وعل النوى بالدار تجمع بينن *** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد

وقوله‏:‏ أخالد ما راعيت إلخ، الهمزة للنداء‏.‏

قال السكري‏:‏ أراد‏:‏ فتحفظني بالغيب، وفي بعض ما تظهر لي من الإخاء والمودة‏.‏ والغيب‏:‏ السر‏.‏

وقوله‏:‏ فكنت كرقراق إلخ، قال السكري‏:‏ يقول‏:‏ ظننت أن لك أمانةً، فكنت كالسراب الذي يكذب من رآه، يظن أنه ماءٌ وليس بماءٍ، وكذلك أنت‏.‏

وقوله‏:‏ فآليت إلخ، هذا البيت من شواهد النحويين في باب المفعول معه‏.‏ وآليت‏:‏ حلفت‏.‏ ولا أنفك‏:‏ لا أزال‏.‏ وأحذو، رواه السكري بالذال المعجمة لا غير‏.‏ بمعنى أطابق‏.‏

قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل‏:‏ ومعنى أحذو‏:‏ أصنع وأهيىء كما تحذى النعل على المثال، إذا سويت عليه‏.‏ ومن روى‏:‏ أحدو بدال غير معجمة فهو من قولهم‏:‏ حدوت البعير إذا سقته، وأنت تتغنى في أثره، لينشط في السير‏.‏

ونقل العيني عن ابن يسعون أنه قال على هذه الرواية‏:‏ عندي في أحدو ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ أن يريد أحدو قصيدةً إليك، أي‏:‏ أسوقها حادياً، كما يفعل الحادي بالإبل عند سوقها، لأنه يتغنى، وإنما أراد بذلك الشهرة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يريد أحدو غدرتك لي قصيدةً أبلغ بتخليدها فيك أملي‏.‏ فحذف المفعول للحال الدالة عليه، ونصب قصيدةً نصب المصدر، أي‏:‏ حدو قصيدةٍ، فلما حذف المضاف، أقام المضاف إليه مقامه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يريد‏:‏ أتحدى لها، وأتبعها ناظماً لها، حتى كأنه قال‏:‏ أوالي قصيدة‏.‏

ثم قال العيني‏:‏ وقال السكري‏:‏ أحدو معناه‏:‏ أغني، فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله قصيدة مفعولاً بإسقاط حرف الجر، وهو الباء‏.‏

أقول‏:‏ إن السكري لم يرو أحدو، بدال مهملة، فكيف يفسرها بما ذكر‏.‏ وإنما أحدو معناه أسوق، فلا حذف‏.‏

وقوله‏:‏ تكون وإياها إلخ، قال ابن السيد‏:‏ تكون في موضع الصفة لقصيدة، وهي صفةٌ جرت على غير من هي له، ولو جعلتها صفةً محضة لبرز الضمير الفاعل المستتر فيها، وكنت تقول‏:‏ كائناً بها أنت وإياها‏.‏

والضمير في قوله‏:‏ وإياها يعود على المرأة، كأنه قال‏:‏ حلفت لا أزال أصنع قصيدةً تكون مع هذه المرأة مثلاً بعدي، أي‏:‏ إنها تبقى ما بقي الدهر‏.‏

قال العيني‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف يكون مثلاً خبراً، والتطابق شرط‏؟‏ قلت‏:‏ هو مفرد وقع موقع التثنية‏.‏ وكذلك قد يقع موقع الجمع لما فيه من العموم المتقضي للكثرة‏.‏ هذا كلامه‏.‏ فتأمله‏.‏

قال أبو علي‏:‏ نصب وإياها على المفعول معه بتوسط الواو لما لم يمكنه العطف، فيقول‏:‏ تكون وهي، لأمرين‏:‏ أحدهما‏:‏ كسر البيت لو فعل ذلك‏.‏

والثاني‏:‏ قبح العطف على الضمير المرفوع وهو غير مؤكد‏.‏

وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي‏:‏ لما لم يمكنه العطف على الضمير في تكون من غير تأكيد نصب على معنى مع‏.‏ وكان أبو الحسن يذهب إلى انتصابه على الظرف كما كانت مع، فلما حذفت وقامت الواو مقامها انتصب الاسم على ذلك المعنى، ودخلت مهيئة لعمل الفعل فيه ونصبه على الظرف‏.‏

ومعنى العطف قائمٌ فيها وجائزٌ فيها، ولذلك لم تعمل الجر كما لا تعمله حروف العطف، بخلاف واو القسم لأن معنى العطف معدومٌ فيها‏.‏

والصواب مذهب الجمهور لأن وجود معنى العطف فيه ينافي الظرفية، لأن العطف في التقدير من جملة أخرى، والظرف من الجملة الأولى، ولأن تقديره بفي بعيدٌ، إذ لا يجوز تقديرها قبل الواو لفصلها بين الجار والمجرور، ولا بعدها لفصلها بين الفعل، وما تعلق به‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال السكري‏:‏ روى الباهلي‏:‏ أدعك وإياها، ويروى‏:‏ أذرك وإياها فجزم لكثرة الحركات‏.‏

وروى أيضاً‏:‏

تكونان فيها للملا مثلاً بعدي

وعلى هذه الروايات الثلاث لا شاهد فيه‏.‏

وترجمة أبي ذؤيب، وهو شاعرٌ إسلامي، تقدمت في الشاهد السابع والستين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الواحد والستون بعد الستمائة

الطويل

ولا صلح حتى تضبعون ونضبعا

على أن حتى فيه ابتدائية والفعل بعدها مرفوع بثبوت النون، ونصب نضبع بالعطف على توهم نصب ما قبله‏.‏

وهذا على رواية ثعلب في أماليه عن ابن الأعرابي، قال‏:‏ والمعنى تمدون أيديكم إلينا بالسيوف، ونمد أيدينا‏.‏

وكذا قال ابن السكيت في إصلاح المنطق‏:‏ أي‏:‏ تمدون إلينا أضباعكم بالسيوف، ونمد إليكم أضباعنا بالسيوف‏.‏ قال‏:‏ وقد ضبعت الخيل والإبل تضبع، بفتح الباء فيهما، ضبعاً بسكونها، إذا مدت أضباعها في عدوها، وهي أعضادها‏.‏ ومنه هذا البيت‏.‏ لكنه رواه بالنصب‏.‏

وتبعه صاحب الصحاح هكذا‏:‏

ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا

فحتى فيه جارة، وتضبعونا منصوب بأن على حذف النون، ونا ضمير المتكلم مع الغير مفعوله، والفعل مستقبل، ولا حاجة لتأويله بالحال، ويكون نصب نضبع بالعطف عليه ظاهراً من غير ادعاء توهم‏.‏

وفسره أبو عمرو بن العلاء، كما نقله صاحب الصحاح، بقوله‏:‏ أي حتى تضبعون للصلح والمصافحة‏.‏

وقد جاء نظائره بالنصب منها ما أنشده صاحب العباب، قال‏:‏ وضبعت الرجل مددت إليه ضبعي للضرب، قال عمرو بن الأسود، أحد بني سبيع، وكانت امرأة اسمها غضوب هجت مربع بن سبيع، فقتلها مربع، فعرض قوم مربع الدية فأبى قومها‏:‏ الطويل

كذبتم وبيت الله نرفع عقله *** عن الحق حتى تضبعوا ثم نضبعا

أي‏:‏ حتى تمدوا إلينا أضباعكم بالسيوف، ونمد أضباعنا إليكم‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ أي‏:‏ حتى تضبعوا للصلح والمصافحة‏.‏ انتهى‏.‏

والضبع، بسكون الموحدة وفتح الضاد المعجمة‏:‏ العضد، وقيل من العضد‏:‏ وسطه بلحمه، يقال‏:‏ أخذت بضبعي فلانٍ، فلم أفارقه‏.‏ ومددت بضبعيه، إذا قبضت وسط عضديه‏.‏

ومنها قول عمرو بن شأسٍ الجاهلي من قصيدة‏:‏ الطويل

بني أسدٍ هل تعلمون بلاءن *** إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا

إذا كانت الحو الطوال كأنم *** كساها السلاح الأرجوان المضلعا

نذود الملوك عنكم وتذودن *** إلى الموت حتى يضبعوا ثم نضبعا

والبيت الأول من الثلاثة استشهد به سيبويه على أنه أراد الشاعر إذا كان اليوم يوماً‏.‏ وأضمر لعلم المخاطب، ومعناه إذا كان اليوم الذي يقع فيه القتال‏.‏ قال سيبويه‏:‏ وبعض العرب ينشده‏:‏

إذا كان يومٌ ذو كواكب أشنعا

ومعنى كان في الوجهين معنى وقع، ويوماً منصوب على الحال، وأشنعا حال أيضاً مؤكدة على الرواية الثانية‏.‏ وزعم المبرد أنه خبر كان، وردوا عليه بأنه لا فائدة في هذا الإخبار‏.‏

والحو‏:‏ جمع أحوى، أراد به أن الخيل السود قد صبغت بدم الأعداء حتى صارت كالأرجوان‏.‏

وتضبعون هنا ظاهرٌ فيما فسره أبو عمرو بن العلاء‏.‏

والبيت الشاهد لم أقف على تتمته، ولا على قائله‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والستون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الوافر

سأترك منزلي لبني تميمٍ *** وألحق بالحجاز فأستريحا

على أن أستريح جاء منصوباً بعد الفاء في ضرورة الشعر، فيما ليس فيه معنى النفي أصلاً‏.‏

قال سيبويه‏:‏ وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر، ونصبه في الإضطرار من حيث انتصب في غير الواجب، وذلك لأنك تجعل أن العاملة‏.‏ فمما نصب في الشعر اضطراراً قوله‏:‏

سأترك منزلي لبني تميم ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وهو ضعيفٌ في الكلام‏.‏ انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ ويروى‏:‏ لأستريحا‏:‏ ولا ضرورة فيه على هذا‏.‏

وقال ابن السراج في الأصول‏:‏ جعل لحاقه بالحجاز سبباً لاستراحته، فتقديره لما نصب كأنه قال‏:‏ يكون لحاقٌ فاستراحة‏.‏

وقد جاء مثله في الشعر لقومٍ فصحاء، إلا أنه قبح النصب في العطف على الواجب الذي على غير شرطه، لأنه قد جعل لهذا المعنى آلاتٌ، وكان حق الكلام أن يقول‏:‏ لو كان في غير شعر‏:‏ وألحق بالحجاز فإذا لحقت استرحت، أو‏:‏ وإن ألحق أسترح‏.‏

ومع ذلك فإن الإيجاب على غير شرط أصل الكلام، وإزالة اللفظ عن جهته في الفروع أحسن منها في الأصول، لأنها أدل على المعاني‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل أبو علي هذه العبارة بعينها في التذكرة‏.‏

وأورد ابن عصفور في كتاب الضرائر لهذا البيت نظائر ثم قال‏:‏ لما اضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع، حكم لها حكم الأفعال الواقعة بعد الفاء، في الأجوبة الثمانية، فنصب بإضمار أن، وتؤولت الأفعال التي قبلها تأويلاً يوجب النصب، فحكم لقوله وألحق بالحجاز بحكم‏:‏ ويكون مني لحاقٌ بالحجاز فاستراحة، فعطفت بالفاء على المصدر المتوهم‏.‏ انتهى‏.‏

فقول الدماميني في الحاشية الهندية‏:‏ النصب على حد‏:‏

ولبس عباءةٍ وتقر عيني

غير جيد‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ لقائلٍ أن يقول‏:‏ لا نسلم أن أستريح منصوب، بل هو مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة، موقوفاً عليها بالألف، وتأكيد مثل هذا جائز في الضرورة‏.‏

قال سيبويه‏:‏ يجوز للمضطر‏:‏ أنت تفعلن‏.‏ ولا شك أن التخريج على هذا متجه، بخلاف التخريج على النصب مع فقد شرطه‏.‏

هذا كلامه‏.‏

وهو من باب غسل الدم بالدم، لأنه تفصى من ضرورة، ولجأ إلى ضرورة، وشرط كلٍّ من النصب والتأكيد مفقود‏.‏

ونقل الدماميني أن بعضهم رام تخريجه على النصب في جواب النفي المعنوي المستفاد من قوله‏:‏ سأترك منزلي، إذ معناه‏:‏ لا أقيم به‏.‏ ثم تعقبه بأنه غير متجه، لأن جواب النفي منفيٌّ لا ثابت، نحو‏:‏ ما جاء زيد فأكرمه، بالنصب، والاستراحة ثابتة لا منفية‏.‏

والبيت لم يعزه أحدٌ من خدمه كتاب سيبويه إلى قائلٍ معين‏.‏

ونسبه العيني وتبعه السيوطي في أبيات المغني إلى المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة الحنظلي التميمي‏.‏ وقد رجعت إلى ديوانه وهو صغير فلم أجده فيه‏.‏

والمغيرة شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وغالب شعره هجوٌ في أخيه صخر‏.‏

وقال صاحب الأغاني‏:‏ وحبناء‏:‏ لقبٌ على أمه غلب على أبيه، واسمه حبين‏.‏ هاجى زياداً الأعجم‏.‏ وحبناء، بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها نون وألف ممدودة‏.‏ وحبين بضم المهملة وفتح الموحدة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والستون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

ألم تسأل الربع القواء فينطق

هذا صدرٌ، وعجزه‏:‏

وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

على أن ما بعد فاء السببية قد يبقى على رفعه قليلاً، وهو مستأنف‏.‏

وأنشد سيبويه هذا البيت، وقال‏:‏ لم يجعل الأول سبب الآخر، ولكنه جعله ينطق على كل حال، كأنه قال‏:‏ وهو مما ينطق، كما قال‏:‏ ائتني وأحدثك، فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال‏.‏

وزعم يونس أنه سمع هذا البيت بألم‏.‏ وإنما كتبت ذا لئلاً يقول إنسانٌ فلعل الشاعر، قال‏:‏ ألا‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو جعفر النحاس عن أبي إسحاق، قال‏:‏ إنه تقريرٌ، معناه‏:‏ إنك سألته‏.‏ فيقبح النصب لأن المعنى يكون‏:‏ إنك إن تسأله ينطق‏.‏

ويمنع سيبويه أن يروى‏:‏ ألا تسأل الربع لأنه لو رواه كذا حسن النصب، لأن معناه فإنك إن تسأله ينطق‏.‏

قال أبو الحسن‏:‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة ‏.‏ والقواء‏:‏ التي لا تنبت‏.‏ والسملق‏:‏ الخالية‏.‏ انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع، على معنى فهو ينطق، وإيجاب ذلك له‏.‏ ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن‏.‏ والربع‏:‏ المنزل‏.‏ والقواء‏:‏ القفر‏.‏ وجعله ناطقاً للاعتبار بدروسه وتغيره‏.‏ ثم حقق أنه لا يجيب ولا يخبر سائله، لعدم القاطنين به‏.‏ والبيداء‏:‏ القفر‏.‏ والسملق‏:‏ التي لا شيء بها‏.‏ انتهى‏.‏

وأورده الفراء عند هذه الآية من تفسيره قال‏:‏ رفعت فتصبح لأن المعنى في ألم تر، معناه خبر، كأنك قلت في الكلام‏:‏ أعلم أن الله ينزل من السماء ماءً، فتصبح الأرض‏.‏

وهو مثل قول الشاعر‏:‏

ألم تسال الربع القديم فينطق

أي‏:‏ قد سألته فنطق‏.‏ ولو جعلته استفهاماً وجعلت الفاء شرطاً لنصبت، كما قال الآخر‏:‏ الوافر

ألم تسأل فتخبرك الديار *** عن الحي المضلل حيث سارا

والجزم في هذا البيت جائز، كما قال‏:‏ الطويل

فقلت له صوب ولا تجهدنه *** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق

فجعل الجواب بالفاء كالمنسوق على ما قبله‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن المستوفي‏:‏ قصد الشاعر نفي السؤال فرفع‏.‏ وقد جوزوا فيه النصب والجزم لولا أن الروي مرفوع‏.‏

وهذا هو ما نقلناه عن الفراء‏.‏

وأما قول ابن هشام في المغني‏:‏ الفاء فيه للاستئناف، أي‏:‏ فهو ينطق، لأنها لو كانت للعطف لجزم ما بعدها، ولو كانت للسببية لنصب، فقد قال شراحه‏:‏ الملازمة الثانية ممنوعة، فقد تتحقق السببية مع رفع الفعل، كما قيل في قوله‏:‏ تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤذن لهم فيعتذرون ‏.‏ نعم الأكثر مع السببية النصب، اللهم إلا أن يقال إن الملازمة إلى الأكثر‏.‏

وهذا الاعتراض إنما هو من كلام الشارح المحقق هنا‏.‏

والبيت مطلع قصيدةٍ لجميل بن معمرٍ العذري‏.‏

وبعده‏:‏

بمختلف الأرواح بين سويقةٍ *** وأحدب كادت بعد عهدك تخلق

أضرت بها النكباء كل عشيةٍ *** ونفح الصبا والوابل المتبعق

وقفت بها حتى تجلت عمايتي *** ومل الوقوف الأرحبي المنوق

وقال خليلي إن ذا لصبابةٌ *** ألا تزجر القلب اللجوج فيلحق

تعز وإن كانت عليك كريمةً *** لعلك من أسباب بثنة تعتق

فقلت له إن البعاد يشوقني *** وبعض بعاد البين والنأي أشوق

روى صاحب الأغاني عن الهيثم أن جميلاً طال مقامه بالشام، ثم قدم وبلغ بثينة خبره، فراسلته مع بعض نساء الحي، تذكر شوقها إليه، ووجدها به، وواعدته لموضعٍ، يلتقيان فيه، فصار إليها، وحادثها طويلاً وأخبرها بحاله بعدها، وقد كان أهلها رصدوها، فلما فقدوها، تبعها أبوها وأخوها، حتى هجما عليها، فوثب جميلٌ، فسل سيفه، وشد عليهما، فاتقياه بالهرب، وناشدته بثينة بالانصراف، وقالت له‏:‏ إن أقمت فضحتني، ولعل الحي أن يلحقوك‏!‏ فأبى وقال‏:‏ أنا مقيمٌ، وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا‏!‏ فلم تزل به تناشده حتى انصرف‏.‏ وقال في ذلك وقد هجوته مدةً طويلة ولم تلقه، هذه القصيدة وهي طويلة‏.‏

قوله‏:‏ ألم تسأل الربع إلخ، قال اللخمي في شرح أبيات الجمل، الربع‏:‏ الدار بعينها حيثما كانت‏.‏ والمربع‏:‏ المنزل في الربيع خاصة‏.‏ والقواء‏:‏ القفر‏.‏ يقال‏:‏ ربعٌ قواءٌ ودار قواء، أي‏:‏ خالية‏.‏

والبيداء‏:‏ القفر الذي يبيد من سلكه، أي‏:‏ يهلكه‏.‏ والسملق‏:‏ الأرض التي لا تنبت شيئاً‏.‏ وقيل‏:‏ هي السهلة المستوية‏.‏ ومفعول تسأل الثاني محذوف، والتقدير‏:‏ ألم تسأل الربع عن أهله فينطق‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن السيد‏:‏ ومعنى نطق الربع ما يتبين من آثاره‏.‏ والعرب تسمي كل دليل نطقاً وقولاً وكلاماً‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ‏.‏ ومنه قول زهير‏:‏

أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم

أي‏:‏ لم يكن بها أثر يستبان لقدم عهدها بالنزول فيها ونحوه‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ وهل تخبرنك اليوم إلخ، رد على نفسه بأن مثله لا ينطق فيجيب‏.‏ وهذا رجوعٌ إلى الحقيقة بعد المجاز‏.‏

ومثله ما أنشده أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني لمحمد بن عبد الله بن مسلم بن المولى، مولى الأنصار، من مخضرمي الدولتين، يمدح المهدي‏:‏ الطويل

سلا دار ليلى هل تبين فتنطق *** وأنى ترد القول بيداء سملق

وأنى ترد القول دارٌ كأنه *** لطول بلاها والتقادم مهرق

وقوله‏:‏ فينطق الفاء للاستئناف، وجملة‏:‏ ينطق خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ فهو ينطق‏.‏

قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم‏:‏ يعلم‏:‏ جملة مستأنفة، أي‏:‏ هو يعلم سركم‏.‏

قال التفتازاني‏:‏ جرت عادته في مثل هذا، بتقدير مبتدأ، ولا يظهر له وجهٌ يعتد به‏.‏ وقال في التلويح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به ‏.‏

هكذا قال جار الله في الكشاف والمفصل، فيقدر المبتدأ في جميع ما هو من هذا القبيل‏.‏ وفيه نظر لأن الجملة الفعلية صالحة للابتداء من غير احتياج إلى تقدير مبتدأ‏.‏

وفي شرح التسهيل للدماميني‏:‏ النحويون يقدرون في الاستئناف مبتدأ، وذلك إما لقصد إيضاح الاستئناف، وإما لأنه لا يستأنف إلى على هاذ التقدير‏.‏ وإلا لزم العطف الذي هو مقتضى الظاهر‏.‏ انتهى‏.‏

قال شيخنا الشهاب الخفاجي في بعض رسائله‏:‏ حاصله أن الجملة المضارعية المستأنفة يقتضى كلام المفسرين والنحاة، أنه لا بد فيها من تقدير ضمير مبتدأ‏.‏ واستشكله المتأخرون بأنه لا ضرورة تدعو إليه، فإنه يجوز الاستئناف بدونه‏.‏ ولم يدفعه أحد، فظنوا أنه واردٌ غير مندفع‏.‏

ولما تأملت ما قالوه حق التأمل ظهر لي أن الحق ما قالوه، وأنه لا بد من هذا التقدير، لأنك إذا وقفت على قوله‏:‏ في الأرض من غير تقدير لم يقع موقعه، إذ لم يفد ما يحسن السكوت عليه‏.‏ والضمير المستتر خفيٌّ لا يظهر بادي الرأي‏.‏ فإذا قلت يعلم لم يعلم من العالم‏.‏ فإذا كان المبتدأ ظاهر وفي حكمه علم المراد‏.‏

ونظيره النعت المقطوع إذا رفع، يقدر قبله ضمير، لأنه مفرد لا يفيد إلا على ذلك التقدير‏.‏

وبهذا تبين أن الاعتراض من الغفول، عما قصده هؤلاء الفحول‏.‏ وهو معنى قوله في شرح التسهيل‏:‏ وإلا لزم العطف، أي بطل الاستئناف، وكان خبراً ثانياً‏.‏ وكيف يتردد في مثله بعد اتفاق النحاة عليه‏.‏

إلا أنهم لم يبينوا أن هذا الحذف واجب ولا‏.‏ والظاهر أنه واجب‏.‏ وهذا من مهمات المقاصد‏.‏ انتهى كلام شيخنا‏.‏

وما ذكره بحثاً هو كلام الشارح المحقق عند كلامه على قول الشاعر‏:‏

غير أنا لم تأتنا بيقين *** فنرجي ونكثر التأميلا

بعد نحو ورقة من هذا الموضع‏.‏

وقول شيخنا‏:‏ أي‏:‏ بطل الاستئناف، وكان خبراً ثانياً‏.‏ فيه أن الخبر المتعدد يجوز فيه العطف، ولم يجب كما بين في محله‏.‏

وقوله‏:‏ بمختلف الأرواح إلخ، الباء السببية‏.‏ والمختلف‏:‏ الموضع الذي تهب فيه الرياح من كل وجه‏.‏ وسويقة بالتصغير، وأحدب بالحاء المهملة والباء الموحدة لا بالمثلثة‏.‏ موضعان‏.‏

وتخلق‏:‏ تبلى، يقال‏:‏ خلق الثوب بالضم، إذا بلي، فهو خلق بفتحتين‏.‏ وأخلق الثوب بالألف لغة‏.‏

وقوله‏:‏ أضرت بها النكباء إلخ‏.‏ النكباء‏:‏ كل ريح تهب بين مهب ريحين، لأنها نكبت عن مهبها، أي‏:‏ عدلت‏.‏ ونفحت الريح بالحاء المهملة، أي‏:‏ هبت، من باب نفع‏.‏

والوابل‏:‏ المطر العظيم القطر‏.‏ والمتبعق، بتشديد العين المهملة المكسورة‏:‏ الشديد المطر‏.‏ يقال‏:‏ تعبق المزن، إذا سال بشدة‏.‏

والعماية، بفتح المهملة بعدها ميم‏:‏ الضلالة، وهي من عمى القلب‏.‏ وروى‏:‏ غيابتي بالغين المعجمة‏.‏ والغيابة‏:‏ الظلمة، وقعر البئر ونحوها‏.‏ والأرحبي‏:‏ الجمل النجيب، منسوبٌ إلى أرحب بالحاء المهملة‏:‏ قبيلة، وقيل‏:‏ فحل، وقيل‏:‏ موضع‏.‏

وروى بدله‏:‏ العنتريس، وهو الجمل الشديد الصلب‏.‏ والمنوق‏:‏ المذلل كالناقة‏.‏

وقوله‏:‏ لعلك من أسباب بثنة روى بدله‏:‏ لعلك من رقٍّ لبثنة‏.‏

وجميل بن معمر شاعرٌ إسلامي، تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والستون بعد الستمائة

الكامل

لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع

لما تقدم قبله‏.‏

وهو عجز، وصدره‏:‏

ولقد تركت صبيةً مرحومة

قال ابن هشام في المغني‏:‏ وللاستئناف وجه آخر، وهو أن يكون على معنى السببية، وانتفاء الثاني لانتفاء الأول، وهو أحد وجهي النصب وهو قليل، وعليه قوله‏:‏

ولقد تركت صبيةً مرحومةً *** لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع

أي‏:‏ لو عرفت الجزع، لجزعت، ولكنها لم تعرفه، فلم تجزع‏.‏ إلى آخر ما ذكره من نظائره من الآيات القرآنية‏.‏

وقد تكلم ابن جني على هذا البيت في إعراب الحماسة فلا بأس بإيراده، قال‏:‏ هذا البيت طريفٌ غريب الحديث، وذلك أنه ليس بجواب، لأنه مرفوع، كما ترى، ولو كان منصوباً جواباً، لكان أوفق معنى، وأسلب طريقاً، ولا قبله أيضاً فعلٌ مرفوع فيعطف عليه، كما عطف في قوله‏:‏ البسيط

فما تحل على قومٍ فترتحل

فلهذا كان غريباً‏.‏ غير أن وجهه عندي أن يكون قوله‏:‏ فتجزع صفةً لقوله‏:‏ مرحومة وصغيرة، ويكون معطوفاً على جملة قوله‏:‏ لم تدر ما جزعٌ عليك، لأن هذه الجملة صفة لقوله‏:‏ صغيرة ومرحومة، فكأنه قال‏:‏ فلقد تركت صغيرةً جاهلة بالجزع، فجازعةً مع ذلك‏.‏

فلما وقع تجزع موقع الاسم، ارتفع، فجرى مجرى قولك‏:‏ مررت برجل من أهل العلم ويقرىء الناس‏.‏ فتعطف يقرىء على من أهل العلم، حتى كأنك قلت‏:‏ عالم ومقرىء‏.‏ وإن شئت جعلت الفاء زائدة في جميع ذلك فكان‏.‏ فلا أمٌّ تبكيه ولا أخت تفقده‏.‏

و‏:‏ فما تحل على قوم ترتحل، أي‏:‏ معتقدة للارتحال، ولم يكن بيننا شر نصطلح من أجله، ولم تدر ما جزعٌ عليك جازعة، أي‏:‏ تركت صبية جازعةً، وإن لم تعرف الجزع، أي‏:‏ صورتها صورة الجازعة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهل هناك أمٌّ غير باكية، وأخت غير مفتقدة‏؟‏ قيل‏:‏ ليس نفي الشيء عندنا إثباتاً لضده‏.‏ ألا ترى لو قلت‏:‏ إن زيداً لم يعزني‏؟‏ لم يكن في هذا دليل على أنه قد أهانك‏.‏

وقال أبو الحسن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ‏.‏ قال‏:‏ هو في اللفظ معطوفٌ، وفي المعنى جواب، قال‏:‏ وذلك أنهم إذا تمنوا الرد ولم يتمنوا ترك التكذيب ولا الإيمان، بل أوجبوه، على أنفسهم عند الرد، فكان يجب النصب، أي‏:‏ إن رددنا آمنا ولم نكذب‏.‏

قال‏:‏ ولكنه جرى في اللفظ معطوفاً، والمعنى معنى الجواب‏.‏ وشبهه في الحمل على اللفظ والمعنى مخالفٌ لقراءة من قر‏:‏ وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم بالجر‏.‏ فهذا يقتضي مسح الرجلين‏.‏ وإنما المفروض فيهما الغسل ولكنه جرى في اللفظ على الجر، والمعنى معنى النصب‏.‏

وهذا لعمري متوجه في قوله‏:‏

فما تحل على قومٍ فترتحل

لأن هناك مرفوعاً قبله‏.‏ فأما قوله‏:‏

لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع

فليس في قوله قبله مرفوع فيعطف عليه‏.‏ وقد يجوز أن يكون أراد فهي تبكيه، وهي تفتقده على أنه وضع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر موضع الفعل المنصوب على الجواب‏.‏

ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ، أي‏:‏ فتستووا‏.‏ ومثله‏:‏ أعنده علم الغيب فهو يرى ، أي‏:‏ فيرى‏.‏ فاعرف تفصيل ذلك‏.‏

هذا كلام ابن جني‏.‏

وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الحسن ويزيد النحوي‏:‏ يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً بالرفع‏.‏

قال روح‏:‏ لم يجعل لليت جواباً‏.‏ أقول‏:‏ محصوله أنه يتمنى الفوز، فكأنه قال‏:‏ يا ليتني أفوز فوزاً عظيماً‏.‏ ولو جعله جواباً لنصبه، أي‏:‏ إن أكن معهم أفز‏.‏ هذا إذا صرحت بالشرط، إلا أن الفاء إذا دخلت جواباً للتمني نصب الفعل بعدها بإضمار أن، وعطف أفوز على كنت معهم، لأنهما جميعاً متمنيان، إلا أنه عطف جملة على جملة، لا الفعل على انفراده على الفعل، إذ كان الأول ماضياً والثاني مستقبلاً‏.‏

وعليه قول الآخر‏:‏

لن تدر ما جزعٌ عليك فتجزع

والقوافي مرفوعة، أي‏:‏ هي تجزع‏.‏ ولو كان جواباً لقال‏:‏ فتجزعا‏.‏ وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا تفسير مشكل أبيات الحماسة‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت لم يعرفه شراح مغني اللبيب، وهو من أبياتٍ أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة لمويلكٍ المزموم، في امرأته أم العلاء‏.‏ وأوردها الأعلم الشنتمري أيضاً في حماسته، وهي‏:‏

امرر على الجدث الذي حلت به *** أم العلاء فنادها لو تسمع

أنى حالمت وكنت جد فروقةٍ *** بلداً يمر به الشجاع فيفزع

صلى عليك الله من مفقودةٍ *** إذ لا يلائمك المكان البلقع

فلقد تركت صغيرةً مرحومة ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

فقدت شمائل من لزامك حلوةً *** فتبيت تسهر ليلها وتفجع

فإذا سمعت أنينها في ليله *** طفقت عليك شؤون عيني تدمع

وزاد الأعلم في حماسته بعد هذا ستة أبيات أخر‏.‏

وقوله‏:‏ امرر على الجدث إلخ، هو بفتح الجيم‏:‏ القبر‏.‏ وروي‏:‏ فحيها بدل فنادها‏.‏ وهل بدل لو‏.‏

قال الطبرسي في شرحه‏:‏ يقول‏:‏ امرر على القبر الذي دفنت فيه، وسلم عليها، إن كانت تسمع‏.‏ وهذا توجعٌ وتلهف‏.‏ وروى‏:‏ هل تسمع‏.‏ والفرق أن لو فائدته الشرط، وهل من حيث كان استفهاماً كلام راجٍ لسماعها، فكأنه قال‏:‏ وانظر هل تسمع‏.‏

وقوله‏:‏ أنى حللت إلخ، قال ابن جني‏:‏ الهاء في فروقةٍ مع المؤنث مثلها مع المذكر، لا فرق بينهما في الحال‏.‏

وإن المراد فيهما معنى الغاية والمبالغة‏.‏ وكذلك رجلٌ راوية وامرأة راوية، وكذا علامة ونسابه، لم تدخل هذه الهاء على المؤنث، لأنها لو كانت كذلك لما لحقت المذكر‏.‏ وهذا قاطع‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ جد فروقة، أي‏:‏ كنت فروقةً جداً لا هزلاً، وحقاً لا باطلاً‏.‏ والبلد‏:‏ القطعة من الأرض‏.‏

يقول‏:‏ كيف أقمت في بلد قفر إذا مر به الرجل الشجاع استولى عليه الفزع، وعهدي بك أنك كنت أشد الناس خوفاً، وأضعفهم قلباً‏.‏

وقوله‏:‏ صلى عليك الله إلخ، الصلاة من الله‏:‏ الرحمة، ومن العبد‏:‏ الدعاء‏.‏ ولا يلائمك‏:‏ لا يوافقك‏.‏ والبلقع‏:‏ الخالي‏.‏ ومن مفقودة‏:‏ تمييز‏.‏

وقوله‏:‏ فلقد تركت صغيرةً إلخ، قد تقدم أن ابن جني جوز وجهين‏:‏ أن يكون فتجزع صفة لصغيرة، وأن يكون استئنافاً، واختار المرزوقي الاستئناف، وقال‏:‏ أراد أنها من صغرها لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها، فهي على حالها تجزع، لأن ما تأتيه من الضجر والبكاء وتتركه من النوم والقرار فعل الجازعين‏.‏

وقوله‏:‏ فقدت شمائل إلخ، جمع الشمال بالكسر، وهي الطبيعة‏.‏ يقول‏:‏ كانت قد اعتادت منك أخلاقاً جميلة ففقدتها، فبقيت لا تنام ولا تنيم بل تفجع وتوجع، فإذا سمعت شكواها وبكاءها، أقبلت شؤون رأسي، تسح بالبكاء ولها عليك‏.‏

وطفقت‏:‏ شرعت‏.‏ والشؤون‏:‏ جمع شأن، وهو الشعب الذي يجمع بين القبيلتين من قبائل الرأس، وهي القطعة المشعوب بعضها إلى بعض‏.‏ ويقال‏:‏ إن الدمع يجري من الشأن‏.‏

ومويلكٌ‏:‏ مصغر مالك‏.‏ والمزموم‏:‏ اسم مفعول من زممت الناقة، أي‏:‏ وضعت عليها الزمام‏.‏

والظاهر أنه شاعرٌ إسلامي‏.‏ ولم أقف على نسبه حتى أكشف عنه في الجمهرة، ولا على ترجمته‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والستون بعد الستمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الخفيف

غير أنا لم يأتنا بيقينٍ *** فنرجي ونكثر التأميلا

على أن ما بعد الفاء هنا على القطع والاستئناف، أي‏:‏ فنحن نرجي‏.‏

قال سيبويه عند توجيه النصب في‏:‏ ما تأتينا فتحدثنا‏:‏ وإن شئت رفعت على وجهٍ آخر، كأنك قلت‏:‏ فأنت تحدثنا‏.‏

ومثل ذلك قول بعض الحارثيين‏:‏

غير أنا لم تأتنا بيقين ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

كأنه قال‏:‏ فنحن نرجي‏.‏ فهذا في موضع مبني على المبتدأ‏.‏ انتهى‏.‏

فالإتيان منفيٌّ وحده، والرجاء مثبت، وهو المراد، ولا يجوز نصب نرجي، لأنه يقتضي نفيه، إما مع نفي الإتيان وإما مع إثباته، كما هو مقتضى النصب، وكلاهما عكس المراد‏.‏

ويدل لهذا قول أبي علي في التذكرة‏:‏ هو بالرفع، وكذلك الصواب، لأنهم إنما رجوا، وأملوا ما لم يأتهم بيقين، ولو أتاهم بيقين، ولو أتاهم بيقين لآل إلى الترجي والتأميل بيقينه‏.‏

ومثل لابن هشام في المغني، قال‏:‏ المعنى أنه لم يأت باليقين، فنحن نرجو خلاف ما أتى به، لانتفاء اليقين عما أتى به‏.‏ ولو جزمه ونصبه لفسد معناه، لأنه يصير منتفياً على حدته كالأول إذا جزم، ومنفياً على الجمع إذا نصب‏.‏ وإنما المراد إثباته‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ومنفياً على الجمع إذا نصب أراد بالجمع نفي الإتيان والرجاء كليهما‏.‏ ولم يذكر الشق الثاني من النصب، لأنه لم يتصور نفي الرجاء مع ثبوت الإتيان بيقين‏.‏

ومنه يظهر لك فساد تجويز الأعلم نصبه بمرتبتين‏:‏ وقوله‏:‏ ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن‏.‏

وتبعه ابن يعيش في شرح المفصل ولم يتنبه لفساده‏.‏

ومقتضى كلام أبي علي وابن هشام أن قوله‏:‏ لم يأتنا بالمثناة التحتية لا الفوقية، فيكون فاعله مستتراً فيه‏.‏ والمشهور بالفوقية على الخطاب‏.‏

ومشى على الأول شارح شواهد المفصل أيضاً، فقال‏:‏ المعنى أتانا آت بخير إخوتنا، غير أنا، أي‏:‏ لكنا لم يأتنا الآتي بخبر يقين يوجب اليأس، فنحن نرجي خلاف ما أتى به، لانتفاء اليقين عما أتى به، فكثر التأميل لخلاف خبره، ونقول‏:‏ لعله يكون كذباً‏.‏ ولا يجوز في قوله فنرجي إلا الرفع‏.‏

وكون اليقين هو خبر الإخوة، إنما هو حدس وتخمين، فإن البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها ولا تتمتها‏.‏ والله أعلم به‏.‏

فيقين‏:‏ صفة موصوف محذوف، أي‏:‏ بخبر يقين‏.‏ ونكثر بالرفع عطفٌ على نرجي‏.‏ والتأميل‏:‏ مصدر أملته، إذا رجوته‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والستون بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

وما قام منا قائمٌ في ندين *** فينطق إلا بالتي هي أعرف

على أن النفي بالمعنى الثاني، وهو أن يرجع النفي لما بعد الفاء، كثير الاستعمال كما في البيت، فإن النفي منصبٌ على ينطق في المعنى، وقام مثبتٌ في تأويل المستقبل، لمناسبة المعطوف‏.‏

ولهذا قال الشارح المحقق‏:‏ أي يقوم، ولا يقوم إلا بالتي هي أعرف‏.‏ وإنما جعل النفي هنا بالمعنى الثاني لأجل الاستثناء، فإن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي، فلما اعتبر في ينطق صح التفريغ‏.‏

وجوز صاحب اللباب أن يكون النفي في البيت على ظاهره من القسم الأول‏.‏ قال في باب الاستثناء‏:‏ والمفرغ لا يكون إلا في الإثبات‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ويجوز فيما هو جواب النفي‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

قال الفالي في شرحه‏:‏ لا يقال ينبغي أن لا يجوز، لأن قولك فينطق مثبت، ولا يصح المفرغ في المثبت، لأن قوله‏:‏ فينطق بالنصب بأن المضمرة، والتقدير‏:‏ فأن ينطق، وهذا المصدر معطوفٌ على مصدر منتزع من الأول، وهو قام، أي‏:‏ ما يكون قيام فنطقٌ‏.‏ فحكم النفي منسحبٌ على القيام والنطق‏.‏

فالنطق في المعنى منفيٌّ فيصح الاستثناء المفرغ فيه‏.‏ ونظيره‏:‏ ما تأتينا فتحدثنا، بالنصب، أي‏:‏ ما يكون منك إتيان فتحديث على نفي المركب، أي‏:‏ ما يكون منك إتيانٌ كثير، ولا تحديثٌ عقيبه‏.‏

وهذا نص سيبويه في باب الفاء، قال‏:‏ وتقول ما أتيتنا فتحدثنا، والنصب فيه كالنصب في الأول، وإن شئت رفعت على معنى فأنت تحدثنا الساعة‏.‏ والرفع فيه يجوز على ما‏.‏

وإنما اختير النصب لأن الوجه ها هنا، وحد الكلام أن تقول‏:‏ ما أتيتنا فحدثتنا، فلما صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت، فحملوه على الاسم، كما لم يجز أن يضموا إلى الاسم في قولهم‏:‏ ما أنت منا فتنصرنا يعني أنت ونحوه‏.‏

وأما الذين رفعوه، فحملوه على موضع أتيتنا، لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع، وتحدثنا ها هنا في موضع حدثتنا‏.‏ وتقول‏:‏ ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل‏.‏ فالمعنى‏:‏ إنك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل‏.‏ ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن‏.‏ وإن شئت رفعت على الشركة، كأنه قال‏:‏ وما تكلم إلا بالجميل‏.‏

ومثل النصب قول الفرزدق‏:‏

وما قام منا قائمٌ في ندين *** فينطق إلا بالتي هي أعرف

وتقول‏:‏ لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة، فالنصب ها هنا كالنصب في ما تأتيني فتحدثني، إذا أردت معنى ما تأتيني محدثاً، وإنما أراد معنى ما أتيتني محدثاً، إلا ازددت فيك رغبة‏.‏

ومثل ذلك قول اللعين‏:‏ الطويل

وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ *** فينسب إلا الزبرقان له أب

وتقول‏:‏ لا يسعني شيءٌ فيعجز عنك، أي‏:‏ لا يسعني شيءٌ فيكون عاجزاً عنك، ولا يسعني شيءٌ، إلا لم يعجز عنك‏.‏ هذا معنى الكلام‏.‏ فإن حملته على الأول قبح المعنى، لأنك لا تريد أن تقول إن الأشياء لا تسعني، ولا تعجز عنك‏.‏ فهذا لا ينويه أحد‏.‏ انتهى كلام سيبويه‏.‏

ومنه تعرف وجه جعل الشارح المحقق هذا المثال من النفي بالمعنى الثاني، وأن الرواية بنصب فينطق‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد في نصب ما بعد الفاء على الجواب مع دخول إلا بعده للإيجاب، لأنها عرضت بعد اتصال الجواب بالنفي‏.‏ ونصبه على ما يجب له، فلم بغيره‏.‏

والندي‏:‏ المجلس، أي‏:‏ إذا نطق منا ناطق في مجلس جماعةٍ، عرف صواب قوله، فلم ترد مقالته‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله لابن السراج، قال في الأصول‏:‏ وتقول ما قام زيدٌ فيحسن إلا حمد، وما قام زيد فيأكل إلا طعامه بالنصب‏.‏

قال الشاعر‏:‏

وما قام منا قائمٌ في ندينا

ويجوز رفع فينطق كما جاز في‏:‏ ما أتينا فتكلم إلا بالجميل، فتكون الفاء للعطف‏.‏

وبه استشهد ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية‏.‏ قال العيني‏:‏ الشاهد فيه رفع ينطق لأن من شرط النصب بعد النفي أن يكون النفي خالصاً، وها هنا ليس كذلك‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدةٍ طويلة للفرزدق، يفتخر بها على جرير، وعدتها مائة بيت وخمسة عشر بيتاً، تقدم منها بيتان، أحدهما في باب النعت، وهو‏:‏ الطويل

فأصبح في حيث التقينا شريدهم ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وثانيهما في باب العطف، وهو‏:‏

وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وهي قصيدة جيدة من غرر قصائده‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ *** فينسب إلا الزبرقان له أب

لما تقدم قبله، أي‏:‏ يحل ولا ينسب‏.‏

والكلام فيه كما تقدم قبله‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه نصب ما بعد الفاء على الجواب‏.‏ والرفع جائز، والقول فيه كالقول في الذي قبله‏.‏ يقول‏:‏ الزبرقان سيد قومه وأشهرهم، فإذا تغرب رجلٌ من سعد، وهم رهط الزبرقان، فسئل عن نسبه، انتسب إليه لشرفه وشهرته‏.‏ انتهى‏.‏

وقد تقدم الكلام على هذا البيت مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة من باب الحال‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والستون بعد الستمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الطويل

نحاول ملك ونموت

وهو قطعةٌ من بيت، وهو‏:‏

فقلت له لا تبك عينك إنم *** نحاول ملك ونموت فنعذرا

على أن سيبويه جوز الرفع في قوله‏:‏ نموت إما بالعطف على نحاول، وعلى القطع، أي‏:‏ نحن نموت‏.‏

وهذا نص سيبويه‏:‏ واعلم أن معنى ما انتصب بعد وعلى إلا أن، كما كان معنى ما انتصب بعد الفاء‏.‏ تقول‏:‏ لألزمنك، وتقضيني حقي، ولأضربنك وتسبقني‏.‏ فالمعنى لألزمنك إلا أن تقضيني، ولأضربنك إلا أن تسبقني‏.‏ هذا معنى النصب‏.‏

قال امرؤ القيس‏:‏

فقلت له لا تبك عينك ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

والقوافي منصوبة، فالتمثيل على ما ذكرت لك، والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا‏.‏ ولو رفعت لكان عربياً جيداً على وجهين‏:‏ على أن تشرك بين الأول والآخر، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأول، يعني ونحن ممن يموت‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم ويسلمون ، إن شئت كان على الإشراك، وإن شئت كان على‏:‏ ووهم يسلمون‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال صاحب التكميل‏:‏ ويحتمل أن يكون وهنا للغاية، أي‏:‏ نحاول الملك إلى أن نموت‏.‏

وأما نصب قوله‏:‏ فنعذرا فبالعطف على نموت على رواية النصب، وأما على رواية الرفع فخفيٌّ‏.‏ ولهذا حذفه الشارح المحقق من المصراع‏.‏

ووجه نصبه الكرماني في شرح أبيات الموشح بأن الفاء للسببية، وبعدها أن مضمرة في جواب النفي الضمني، بتأويل نموت بلا نبقى‏.‏ فتأمل‏.‏

ونعذرا بالبناء للمفعول، وروى‏:‏ نعذر من أعذر الرجل، إذا أتى بعذر‏.‏

وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل‏:‏ وروى‏:‏ فنعذر، بكسر الذال، أي‏:‏ نبلغ العذر‏.‏

والبيت من قصيدةٍ لامرىء القيس مشتملةٍ على جملٍ من يواقيت الفصاحة، وجواهر البلاغة، قالها لما دخل بلاد الروم مستجيراً بقيصر، لأن أباه كان قد ولي بني أسد فظلمهم، فتعاونوا على قتله، كما تقدم في ترجمته، فخرج امرؤ القيس إلى قيصر يستمده‏.‏

قال أبو القاسم السعدي في كتاب مساوي الخمر‏:‏ وممن بلغ به إفشاء سره حتفه امرؤ القيس بن حجر الكندي‏.‏ وذلك أن المنذر بن ماء السماء عند ما ملك على الحيرة عندما ولاه أنوشروان ذلك بعد مقتل حجر، وزوال ملك بني آكل المرار، أرسل جيشاً من بكر وتغلب في طلب بني آكل المرار، فجيء إليه منهم بستة عشر رجلاً، فضرب أعناقهم في بيوت بني مرينا‏.‏

وفي ذلك يقول امرؤ القيس‏:‏ الوافر

ألا يا عين بكي لي شنين *** وبكي لي الملوك الذاهبينا

ملوكاً من بني حجر بن عمرو *** يساقون العشية يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبو *** ولكن في بيوت بني مرينا

وفي ذلك أيضاً يقول عمرو بن كلثوم في معلقته‏:‏

فآبوا بالنهاب مع السباي *** وأبنا بالملوك مصفدينا

فهرب منه امرؤ القيس‏:‏ قيل‏:‏ كان معهم فأفلت، وقيل‏:‏ سمع بخبرهم، فذهب على وجهه يستجير بالعرب، فبعضٌ يقبله، وبعضٌ يرده‏.‏ فخرج إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، المعروف بابن مارية، وحال الحارث يومئذٍ بالشام كحال المنذر بن ماء السماء بالعراق، فسأله الجوار والنصرة، وتوسل إليه الخؤولة‏.‏

وذلك أن مارية ذات القرطين اللذين يضرب العرب بهما المثل هي أخت هندٍ امرأةٍ جحر، والد امرىء القيس‏.‏ فأكرمه، وسأله النصرة على المنذر فاعتذر إليه، وقال له‏:‏ إني لست أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت، ولكني أسير معك إلى الملك قيصر فهو أقوى مني على ما سألت‏.‏

وكانت للحارث وفادةٌ على الملك، فأوفده معه‏.‏ وهذا قبل أن يغزو المنذر بن ماء السماء إلى الحارث بن أبي شمر وقبل أن يقتله‏.‏

وقيل أن سبب ما هيج ما بين المنذر والحارث هذا الحرب إنما هو إجارة الحارث لامرىء القيس، فتوجه معه امرؤ القيس إلى بلد الروم‏.‏ وفي ذلك قال هذه القصيدة، ذكر فيها استجارته وخلوصه إلى التوجه إلى بلد الروم‏:‏ الطويل

سما لك شوقٌ بعدما كان أقصر *** وحلت سليمى بطن ظبيٍ فعرعرا

فدعها وسل الهم عنها بجسرةٍ *** ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا

عليها فتًى لم تحمل الأرض مثله *** أبر بميثاقٍ وأوفى وأصبرا

إذا قلت هذا صاحبٌ قد رضيته *** وقرت به العينان بدلت آخرا

كذلك جدي لا أصاحب صاحب *** من الناس إلا خانني وتغيرا

تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت *** على جملٍ بنا الركاب وأعفرا

ولما بدت حوران والآل دونه *** نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا

تقطع أسباب اللبانات والهوى *** عشية جاوزنا حماة وشيزرا

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه *** وأيقن أنا لاحقان بقيصرا

فقلت له‏:‏ لا تبك عينك إنم *** نحاول ملك ونموت فنعذرا

وبعد هذا سبعة أبيات في وصف فرسه وفي بعض ما مر له في بعض المنازل‏.‏

وصاحبه الذي بكى هو عمرو بن قميئة الضبعي الشاعر المشهور، وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع عشر بعد الثلثمائة‏.‏ كان صحب امرأ القيس لما مر ببكر ابن وائل يطلب منهم النصرة، فسألهم عن شاعرٍ محسن فيهم، فأتوه به وقد أسن، فاستنشده فأعجبه، ثم شكا إليه حاله، فقال له‏:‏ اصحبني‏.‏ فصحبه وكان معه حتى سلك الطريق إلى بلد الروم، فلما توسط الدرب بكى عمرو بن قميئة، وقال‏:‏ غررت بنا‏.‏

والدرب‏:‏ كل مدخل إلى الروم، والنافذ منه، وباب السكة الواسع، والباب الأكبر‏.‏ كذا في القاموس‏.‏

ثم إن عمراً مات في الطريق، فكان يسمى عمراً الضائع‏.‏ فلما وصل امرؤ القيس إلى بلد الروم أمر ملك الروم، بإدخاله عليه، وكان لا يدخل على قيصرٍ أحدٌ إلا سجد له‏.‏ فقيل له إن امرأ القيس لا يسجد لك‏.‏

وكان لقيصر بابان أحدهما صغير والآخر كبير، فقال‏:‏ أدخلوه من الباب الصغير ليضع رأسه لي‏.‏

فلما رأى امرؤ القيس صغر الباب ولى ظهره فدخل مولياً حتى قام بين يديه‏.‏ قالوا‏:‏ فنظر إليه قيصر فأعجبه، وكان وسيماً جميلاً، وأعلمه أنه جاءه يستمده على العرب‏.‏ فرحب به، وألطفه‏.‏ وقال له‏:‏ أيما أحب إليك‏:‏ ستمائةٍ من أولاد الملوك وستة آلاف من الجند‏؟‏ فاختار ستمائة من أبناء الملوك‏.‏ وخف على قلب قيصر حتى نادمه، ففي ذلك يقول‏:‏ المتقارب

ونادمت قيصر في ملكه *** فأوجهني وركبت البريدا

إذا ما ازدحمنا على سكةٍ *** سبقت الفرانق سبقاً بعيدا

والفرانق بضم الفاء وكسر النون‏:‏ الذي يدل صاحب البريد على الطريق‏.‏ والبريد‏:‏ دابة الرسول المستعجل‏.‏

ثم إن امرأ القيس لطف محله من قيصر، فأدخله الحمام معه، فرأى غلفة قيصر، فقال‏:‏ البسيط

لقد حلفت يميناً غير كاذبةٍ *** إنك أغلف إلا ما جنى القمر

وختانة القمر مثلٌ تضربه العرب للأغلف، لأن القمر لا يختن أحداً‏.‏

وفي مدة منادمته لقيصر رأته ابنة قيصر، فعشقته، وراسلته، وصار إليها، وفيها يقول من قصيدة‏:‏ الطويل

سموت إليها بعدما نام أهله *** سمو حباب الماء حالاً على حال

فقالت سباك الله إنك فاضحي *** ألست ترى السمار والناس أحوالي

فقلت لها بالله أبرح قاعد *** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

وسيأتي شرح هذا إن شاء الله في حروف القسم وغيرها‏.‏

قالوا‏:‏ ولم يزل يصير إليها، ثم أخبر بذلك أصحابه، وفيهم الطماح بن قيسٍ الأسدي، فقال له‏:‏ ائتنا بأمارةٍ‏.‏ فأتاه بقارورة من طيب الملك، وذلك كان عند سكره‏.‏

وكان أبو امرىء القيس قد قتل قيساً أبا الطماح أيام أوقع ببني أسد، فتحيل الطماح، حتى أخذها فأنفذها إلى قيصر، وأخبره بالحديث، فعرفه وعلم صحته‏.‏ ففي ذلك يقول من قصيدة‏:‏ الطويل

لقد طمح الطماح من بعد أرضه *** ليلبسني من دائه ما تلبسا

وقال أيضاً من قصيدة‏:‏ الطويل

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس على شيءٍ سواه بخزان

فلما نفد امرؤ القيس بالجيش، أتى الطماح ملك الروم، فقال له‏:‏ أيها الملك أهلكت جيشاً بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه، وأهل بيته، وما تريد من نصره، وكلما قتل بعض العرب بعضاً كان خيراً لك‏!‏ قال‏:‏ فما الرأي‏؟‏ قال‏:‏ أن تتدارك جيشك وترده، وتبعث إلى امرىء القيس بحلةٍ مسمومة‏.‏

ففعل وعزم على امرىء القيس أن يلبسها، فدخل امرؤ القيس الحمام فاطلى، ولبسها، وقد رق جلده لقروح كانت به، فتساقط لحمه‏.‏ ورد قيصر جيشه‏.‏ وقدم امرؤا لقيس أنقرة، وهي التي يقال لها الآن أنكورية، فأقام بها مدنفاً يعالج قروحه، ونزل إلى جنب جبلٍ يقال له عسيب، وإلى جنبه قبرٌ لابنة بعض الروم، فسأل عن القبر فأخبر به، فقال‏:‏ الطويل

أجارتنا إن الخطوب تنوب *** وإني مقيمٌ ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان ها هن *** وكل غريبٍ للغريب نسيب

فلما أيقن بالموت، قال‏:‏ الرجز

كم طعنةٍ مثعنجره *** وخطبةٍ مسحنفره

وجفنةٍ مدعثره *** قد غودرت بأنقره

وكان هذا آخر ما تكلم به، ومات‏.‏

هذا ما نقلته من كتاب مساوي الخمر‏.‏

والمثعنجرة‏:‏ السائلة‏.‏ والمسحنفرة‏:‏ الواسعة، في الصحاح، يقال‏:‏ اسحنفر في خطبته، إذا مضى واتسع في كلامه‏.‏ والجفنة، بفتح الجيم‏:‏ القصعة‏.‏ والمدعثرة‏:‏ المتثلمة والمتكسرة‏.‏

وقوله‏:‏ بطن ظبي وعرعرا هما موضعان‏.‏

وترجمة امرىء القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏