فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السادس والعشرون بعد السبعمائة

الطويل

يروح ويغدو داهناً يتكحل

على أن يروح ويغدو ون كانا بمعنى يدخل في الرواح والغداة فهما تامان، والمنصوب حال‏.‏ وإن كانا بمعنى يكون في الرواح والغداة فهما ناقصان‏.‏

وقد تقدم الكلام على يغدو‏.‏ وأما الرواح فقد قال صاحب الصحاح‏:‏ والرواح‏:‏ نقيض الصباح، وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل‏.‏ وقد يكون مصدر قولك‏:‏ راح يروح رواحاً، وهو نقيض قولك‏:‏ غدا يغدوا غدواً‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

قال أبو سهل الهروي‏:‏ الصواب الرواح‏:‏ نقيض الغدو‏.‏

وقال صاحب المصباح‏:‏ راح يروح رواحاً، وتروح مثله، يكون بمعنى الغدو، وبمعنى الرجوع‏.‏ وقد طابق بينهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غدوها شهر ورواحها شهر ، أي‏:‏ ذهابها ورجوعها‏.‏

وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار، وليس كذلك، بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان، من ليل ونهار‏.‏ قاله الأزهري وغيره‏.‏ وعليه قوله عليه السلام‏:‏ من راح إلى الجمعة أول النهار فله كذا ، أي‏:‏ من ذهب‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

فقوله يروح إن كان بمعنى يرجع في الرواح ويرجع مطلقاً، أي‏:‏ في أي وقت كان، من باب استعمال المقيد في المطلق مجازاً، ويدخل في هذا الوقت الذي هو الرواح، فالفعل تام‏.‏

وإن كان بمعنى يكون في الرواح فالفعل ناقص؛ لقوله يروح ويغدو‏.‏ وإنك كانا تامين فداهناً حال من فاعل أحدهما، وهو ضمير مستتر، وتكون حال الآخر محذوفة‏.‏ والأولى أن يكون حالاً من فاعل يغدو‏.‏ ولا يقدر ليروح حال‏.‏

وداهن‏:‏ اسم فاعل من الدهن، يقال‏:‏ دهنت الشعر وغيره دهناً من باب قتل‏.‏ والدهن‏:‏ استعمال الدهن بالضم، وهو ما يدهن به من زيت وطيب‏.‏ وجملة‏:‏ يتكحل حال أيضاً إما من فاعل يغدو، وإما من فاعل داهناً‏.‏ ويجوز أن يكون صفة لداهناً‏.‏

وإن كانا ناقصين فداهناً خبر يغدو، ويكون خبر يروح محذوفاً، وجملة‏:‏ يتكحل إما خبر بعد خبر، وحال من ضمير داهن، وصفة له‏.‏ ويجوز أن يكون داهناً خبر يروح، وجملة‏:‏ يتكحل خبر يغدو، فلا حذف‏.‏ وهذا أولى على تقدير النقص‏.‏

ويجوز أن يكون أحد الفعلين تاماً، والآخر ناقصاً‏.‏ فتأمل‏.‏

وهذا المصراع عجز، وصدره‏:‏‏؟‏ولا خالف دارية متغزل وهذا البيت أيضاً من لامية العرب‏.‏

وقبله‏:‏

ولست بمهياف يعشي سوامه *** مجداعة سقبانها وهي بهل

ولا جبإ أكهى مرب بعرسه *** يطالعها في شأنها كيف يفعل

ولا خرق هيق كن فؤاده *** يظل به المكاء يعلو ويسفل

ولا خالف دارية متغزل *** يروح ويغدو داهناً يتكحل

قوله‏:‏ ولست بمهياف إلخ ، قال التبريزي‏:‏ المهياف الذي يبعد بإبله طلب الرعي على غير علم، فيعطشها ويسيء بها‏.‏

وفي العباب‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ رجل مهياف‏:‏ سريع العطش‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وفيه أيضاً‏:‏ وقال الليث‏:‏ المهياف الذي قد هافت إبله‏.‏ ويعشي سوامه‏:‏ يطعمها عشاءها، والعشاء‏:‏ الطعام بعينه، وهو خلاف الغداء؛ وكلاهما بالفتح والمد‏.‏ والسوام‏:‏ المال الراعي، اسم جمع لسائمة‏.‏

ومجدعة بالجيم والدال المهملة‏:‏ اسم مفعول من جدعت الصبي تجديعاً، إذا أسأت غذاءه‏.‏ ويقال‏:‏ جدعته بالتخفيف من باب منع‏.‏ وفيه لغة أخرى أجدعت الصبي إجداعاً‏.‏ وجدع الصبي من باب فرح، إذا ساء غذاؤه‏.‏ وقيل المجدعة هنا‏:‏ المقطعة أطراف الآذان ليصرف عنها العين‏.‏

وقال التبريزي‏:‏ والمجدع‏:‏ السيئ الغذاء، والأصل فيه، أن يطرح الراعي ولد الناقة على الضرع، لتدر الناقة، فإذا مص شيئاً، واجتمع اللبن، نحاه، وحلب اللبن‏.‏

والسقبان، بالكسر‏:‏ جمع سقب بالفتح‏.‏ في الصحاح‏:‏ السقب‏:‏ الذكر من ولد الناقة، ولا يقال للأنثى سقبة، ولكن حائل‏.‏ والضمير المؤنث يرجع إلى السوام‏.‏

قال التبريزي‏:‏ وروى ثعلب‏:‏ سقباتها بجمع المؤنث السالم‏.‏ والمحفوظ الأول‏.‏

وبهل‏:‏ جمع باهل‏.‏ في العباب‏:‏ وناقة باهل‏:‏ لا صرار عليها‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وقال التبريزي‏:‏ البهل‏:‏ جمع باهلة وباهل، وهي المخلاة لا يتعهدها راعيها‏.‏ ويقال‏:‏ بهل الرجل، إذا مضى لا قيم عليه‏.‏ وأبهلته، إذا تركته مخلى‏.‏ والباهلة أيضاً‏:‏ التي لا صرار عليها، لترضعها أولادها فتكون أسمن وأحسن‏.‏

والباء في قوله‏:‏ بمهياف زائدة في خبر ليس‏.‏ ويعشي صفة له، وسوامه مفعول يعشي، ومجدعة‏:‏ حال سببية لسوامه‏.‏ وسقبانها نائب فاعل مجدعة، وجملة‏:‏ وهي بهل حال من سوامه‏.‏

وصف السنفري نفسه بالجلادة، وحسن التعهد لماله، وجودة القيام عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ولا جبإ أكهى إلخ ، الجبأ، بضم الجيم وفتح الموحدة المشددة بعدها همزة، على وزن سكر‏:‏ هو الجبان، والخائف‏.‏

والأكهى بالقسر، قال التبريزي‏:‏ هو الكدر الأخلاق الذي لا خير فيه‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ هو البليد، مثل الكهام‏.‏ والمرب‏:‏ اسم فاعل من أرب بالمكان، أي‏:‏ لزمه، وأقام فيه، والعرس، بالكسر‏:‏ الزوجة‏.‏

يقول‏:‏ لست أسيء الرعية، ولا أجبن، ولا أقيم مع النساء وأشاورهن في أموري‏.‏ وجبإ بالجر معطوف على مهياف، ولو عطف بالنصب على موضعه لجاز‏.‏ وأكهى ومرب وصفان لجبإ‏.‏

قال المعرب‏:‏ الباء في بعرسه بمعنى في، أي‏:‏ مقيم ي بيت عرسه‏.‏ ويجوز أن تكون بمعنى على، أي‏:‏ مقيم على عرسه‏.‏ وجملة‏:‏ يطالعها حال من الضمير في مرب، وفي شأنه متعلق بيطالعها‏.‏

وقوله‏:‏ ولا خرق هيق إلخ ، هذا أيضاً بالجر معطوف على مهياف‏.‏ والخرق بفتح المعجمة وكسر المهملة بعدها قاف، قال الزمخشري‏:‏ هو المدهوش من الخوف‏.‏ والهيق، بفتح الهاء وسكون المثناة التحتية، هو الظليم، أي‏:‏ النعام في نفاره عند حدوث مروع‏.‏ والمكاء، بالضم والتشديد والمد‏:‏ طائر، أي‏:‏ كأن فؤاده على جناح طائر‏.‏ وهذا تحقيق لجبنه وتحيره‏.‏

وقوله‏:‏ ولا خالف دارية، هذا أيضاً بالجر للعطف على مهياف‏.‏ والخالف، بالخاء المعجمة‏:‏ من لا خير فيه‏.‏ ودارية بالجر صفة لخالف، وهو المقيم في داره لا يفارقه‏.‏ والتاء زائدة للمبالغة‏.‏ والداري أيضاً‏:‏ العطار، منسوب إلى دارين‏:‏ فرضة بالبحرين، فيها سوق كان يحمل إليها مسك من ناحية الهند‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ ويحتملهما كلامه، لأن العطار يكتسب من ريح عطره فيصير بمنزلة المتعطر، فالمعنى لست ممن يتشاغل بتطييب بدنه وثوبه، ويلازم زوجته فيكتسب من طيبها‏.‏ والمتغزل‏:‏ الذي يغازل النساء‏.‏

في الصحاح‏:‏ مغازلة النساء‏:‏ محادثتهن ومراودتهن‏.‏ تقول‏:‏ غازلتها وغازلتني، والاسم الغزل‏.‏ وتغزل، أي‏:‏ تكلف الغزل‏.‏ وجملة‏:‏ يروح صفة متغزل وحال من ضميره‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والعشرون بعد السبعمائة

الطويل

بتيهاء قفر والمطي كأنه *** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها

على أن كان فيه بمعنى صار‏.‏

والتيهاء‏:‏ المفازة التي لا يهتدى فيها، فعلاء من التيه، وهو التحير‏.‏ يقال‏:‏ تاه في الأرض يتيه تيهاً وتيهاناً، أي‏:‏ ذهب متحيراً‏.‏

والقفر‏:‏ المكان الخالي، يصف المطي بسرعة السير، كأنها بمنزلة قطاً تركت بيوضاً صارت أفراخاً، فهي تمشي بسرعة إلى أفراخها‏.‏

ومعنى كانت‏:‏ صارت، لأن البيوض صارت أفراخاً، لا أنها كانت فراخاً‏.‏ والقطا‏:‏ طائر سريع الطيران‏.‏

والحزن، بفتح المهملة وسكون المعجمة‏:‏ ما غلظ من الأرض، وهو ضد السهل، وأضاف القطا إليه لأنه يكون قليل الماء، فتكون قطاه أكثر عطشاً، فإذا أراد الماء كان سريع الطيران‏.‏

قال الأصمعي، ونقله ابن قتيبة في كتاب أبيات المعاني‏:‏ أراد أنها شربت من الغدر في الربيع، فإذا فرخت ودخلت في الصيف، احتاجت إلى طلب الماء على بعد، فيكون أسرع لطيرانها‏.‏ وإنما تفرخ بيضها إذا جاء الحر‏.‏ فأراد أن يخبر عن سرعة طيرانها عند حاجتها إلى الماء‏.‏

ووجب تقدير كان بصار هنا ليصح المعنى، ولو قدر بكان لفسد، لكونه محالاً‏.‏

ومثله قول شمعلة بن أخضر، من شعراء الحماسة‏:‏ الوافر

فخر على الألاءة لم يوسد *** وقد كان الماء له خمارا

قال ابن جني في إعرابه للحماسة‏:‏ كان هنا بمنزلة صار‏.‏ أنشد أبو علي‏:‏

بتيهاء قفر والمطي ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

أي‏:‏ صارت‏.‏

وهذا وجه من وجوه كان خفي‏.‏ اه‏؟‏‏.‏

ومثله قول رؤبة‏:‏ الرجز

والرأس قد كان له قتير

أي‏:‏ صار‏.‏

وبقي وجه آخر، لم يرتضه الشارح المحقق، ولهذا لم يذكره، وهو أن تكون كان على بابها، ويدعى القلب في الكلام، ويكون الأصل‏:‏ قد كانت فراخها بيوضاً، كقول الآخر‏:‏ الكامل ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** كم *** كان الزناء فريضة الرجم

أراد‏:‏ كما كان الرجم فريضة الزنى‏.‏

وما اختاره الشارح المحقق هو مذهب ثعلب، وأبي علي، وابن جني؛ وهو الجيد؛ لأن القلب لا يصار إليه، إذا وجد وجه آخر‏.‏

وأما قوله‏:‏ بيوضها فقد رواه ثعلب بضم الباء‏.‏ ومشى عليه في الإيضاح مستشهداً به على أنه جمع بيض، كبيت وبيوت، وخالفه في التذكرة وجزم بأن بيوضها بفتح الباء بمعنى ذات البيض، واستبعد رواية الضم، وقال‏:‏ فإن قلت ما تنكر أن يكون بيوضها بضم الباء‏؟‏ فالقول في ذلك أنه يبعد وإن كانوا قد قالوا التمور، لاختلاف الجنس، لأن البيض هنا ضرب واحد وليس بمختلف، فلا يجوز أن يجمع‏.‏

وهذا الاستبعاد مبني على أن يكون جمع بيض، والصحيح أنه جمع بيضة، كما أن مؤوناً جمع مأنة، وهي السرة وما حولها، لا أنه جمع بيض لعدم الاختلاف المسوغ للجمع‏.‏ وهذا أولى من الطعن في رواية ثعلب‏.‏

ويؤيد روايته قول بعض بني نمير‏:‏ الطويل‏.‏

يضل القطا الكدري فيها بيوضه *** ويعوي بها من خيفة الهلك ذيبها

وقول الجعدي‏:‏

لهن أداحي به وبيوض

فإن قال قائل‏:‏ هذا جعل بيوضاً جمع بيضة، كما جعل سخالاً جمع سخلة، ومؤوناً جمع مأنة‏.‏

فالجواب أن نقول‏:‏ إنما جعل سخالاً جمع سخلة لا سخل، وإن كان باب كل واحد منهما أن لا يكسر، لأن امتناع التكسر في أسماء الأجناس أقوى‏.‏

ألا ترى أن أسماء الأجناس كلها لا يجوز تكسير شيء منها بقياس‏.‏ وقد نص على ذلك سيبويه في باب جمع الجمع‏.‏ والآحاد المخلوقة كلها يجوز تكسيرها بقياس، فيما عدا هذا الباب، فكان جعل سخال جمع سخلى أولى من جعلها جمع سخل لذلك‏.‏

وأما بيوض فالذي أوجب عليه أن يجعلها جمع بيض لا بيضة أنه رأى أن فعولاً في جمع فعل مقيس، نحو‏:‏ فلس وفلوس؛ وفعول في جمع فعله، نحو‏:‏ بدرة وبدور، غير مقيس، فيرجح عنده جعل بيوض جمع بيض لذلك‏.‏ ومن صخور، وتمور، وأشباهه‏.‏

وليس كذلك فعال فإنه جمع لفعلة وفعل بقياس، نحو‏:‏ جنان وكلاب‏.‏ وجعل مؤوناً جمع مأنة لما لم يسمع مأن‏.‏

وأما على قول أبي علي فلا بد من تقدير مضاف، والتقدير‏:‏ كانت بيوضها ذات أفراخ، ولا قلب في الكلام حينئذ، كما في صورة جعل كان بمعنى صار مع رواية الباء، وإنما يدعى القلب في صورة جعل كان على بابها مع رواية ضم الباء‏.‏

والقطا‏:‏ ضرب من الطير، وهو نوعان‏:‏ كدري، وجوني‏.‏ فالكدري غبر الألوان، رقش الظهور والبطون، صفر الحلوق، قصار الأذناب‏.‏ والجوني سود البطون، سود بطون الأجنحة والقوادم، بيض الصدور، غبر الظهور، وفي عنق كل واحد منها طوقان‏:‏ أصفر وأسود‏.‏

وقوله‏:‏ بتيهاء قفر، الجدار يتعلق بقوله‏:‏ والعيس تجري غروضها، في بيت قبله‏.‏

والبيت من أبات لابن أحمر، وهي‏:‏

لعمري لئن حلت قتيبة بلدة *** شديداً بمال المقحمين عضيضها

فلله عيناً أم فرع وعبرة *** ترقرقها في عينه وتفيضها

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** صحيح السرى والعيس تجري غروضها

بتيهاء قفر والمطي كأنه *** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها

وفي شرحها‏:‏ قتيبة‏:‏ بطن من باهلة‏.‏ والمقحمون‏:‏ الذين أقحمتهم السنة، وهي القحمة بالضم، أي‏:‏ القحط‏.‏

وعضيضها‏:‏ عضها‏.‏ وصحيح السرى، أي‏:‏ غير جائر عن القصد، فيكون أسرع لقصده لصحة سراه‏.‏ فتمنى أن يصح سراه، ويستقيم ليعجل إلى مقصده‏.‏

وغروضها‏:‏ اتساعها‏.‏ أي‏:‏ إنها قد أضمرت حتى قد كانت، أي‏:‏ قد صارت‏.‏ بيوضها‏:‏ جمع البيض‏.‏ انتهى‏.‏

ومعنى البيت أن المطي براها السير، وحملها على المتاعب، حتى صارت كالفراخ في الضعف والهزال، بعد ما كانت قوية سماناً كالدجاج البيوض، بإضافة الفراخ إليها‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا كلام من لم يقف على الرواية‏.‏ والتي في عامة نسخ شعره‏:‏

أريهم سهيلاً والمطي كأنه *** قطا الحزن ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قال شارحه‏:‏ قوله أريهم سهيلاً، يعني أصحابه، وإن لم يجر له ذكرن لدلالة الحال عليه، أي‏:‏ يريهم مطلعه الذي ببلاد أحبابه التي يقصدها، فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده، ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه التي يقصدها، فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده، ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه، وتكون المطي على الحال التي وصفها من قلق غروضها وأتساعها‏.‏ لحثه إياها على السرى الذي أهزلها فقلقت أنساعها‏.‏ وشبهها بسرعة القطا التي فارقت فراخها لتحمل إليها الماء فتسقيها، فهو أسرع لطيرانها‏.‏

ودل كلام الشاعر على أنه أراد‏:‏ يريهم سهيلاً من آخر الليل، لأن القطا إنما تصير، كما ذكر في الصيف‏.‏ وطلوع سهيل بالحجاز يكون عند فتور الحر، في عشري آب من شهور الروم‏.‏

وقوله‏:‏ والمطي كأنها حال من فاعل تجري في البيت المتقدم، على الرواية الأولى، وصاحب الحال في الرواية الثانية ضمير الجمع في أريهم سهيلاً‏.‏ والعامل أرى، كقولك‏:‏ جئتك والشمس طالعة‏.‏

وقوله‏:‏ قد كانت إلخ ، حال من القطا، والعامل ما في كان من معنى التشبيه‏.‏ وفراخاً، خبر مقدم لكان، وبيوضها، اسمها المؤخر‏.‏

وابن أحمر شاعر إسلامي مخضرم، تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثامن والعشرون بعد السبعمائة

الوافر

سراة بني أبي بكر تسامى *** على كان المسومة العراب

على أن كان فيه زائدة بين الجار والمجرور‏.‏

وزيادتها عند الشارح قسمان‏:‏ أحدهما‏:‏ زيادة حقيقية، تزاد غير مفيدة لشيء إلا محض التوكيد، يكون وجودها في الكلام، وعدمها سواء، لا تعمل، ولا تدل على معنى‏.‏

ثانيهما‏:‏ زيادة مجازية، تدل على معنى ولا تعمل‏.‏

ومثل للأول بهذا البيت وبالآية الشريفة، وبقولهم‏:‏ لم يوجد كان مثلهم‏.‏ ومثل للثاني بما كان أحسن زيداً، وبقولهم‏:‏ إن من أفضلهم كان زيداً، وبالبيت أيضاً، فجعله متردداً بينهما‏.‏

وما ذكره أحد مذاهب ثلاثة‏:‏ الأول‏:‏ مذهب ابن السراح، واختاره ابن يعيش، قال‏:‏ والذي أراه أن تكون زائدة دخولها كخروجها، لا عمل لها في اسم، ولا خبر، ولا هي لوقوع شيء‏.‏ وإليه ذهب ابن السراج، قال في أصوله‏:‏ وحق الزائد أن لا يكون عملاً ولا معمولاً، ولا يحدث معنى سوى التأكيد‏.‏

ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبياً أن كان في الآية زائدة، وليست الناقصة، إذ لو كانت الناقصة لأفادت الزمان، ولو أفادت الزمان لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة، لأن الناس كلهم في ذلك سواء، فلو كانت الزائدة تفيد معنى الزمان لكانت كالناقصة، فلم يكن للعدول إلى جعلها زائدة فائدة‏.‏

ومن مواضع زيادتها قولهم‏:‏ إن من أفضلهم كان زيداً، فكان مزيدة لضرب من التأكيد، إذ المعنى أنه في الحال أفضلهم، وليس المراد أنه كان فيما مضى، إذ لا مدح في ذلك‏.‏ ولأنك لو جعلت لها اسماً وخبراً لكان التقدير‏:‏ إن زيداً كان من أفضلها، وكنت قد قدمت الخبر على اسم إن وليس بظرف، وذلك لا يجوز‏.‏

وقول الشاعر‏:‏

على كان المسومة العراب البيت

كان فيه زائدة‏.‏ وعند هذا القائل دلالتها على الزمان يستدعي كونها ناقصة‏.‏

الثاني‏:‏ مذهب السيرافي، قال‏:‏ لسنا نعني أن دخولها كخروجها في كل معنى، وإننا نعني بذلك أنها ليس لها عمل، ولا هي لوقوع شيء مذكور، ولكنها دالة على الزمان الماضي وفاعلها مصدرها، وذلك كقولك‏:‏ زيد كان قائم، تريد كان ذلك الكون، وقد دلت على الزمان الماضي، ولو خلا منها الكلام لوجب أن يكون ذلك في الحال‏.‏

وقول الشاعر‏:‏

على كان المسومة العراب

كان ذلك الكون‏.‏ وإذا قد هذا التقدير كانت كان واقعة لوقوع شيء مذكور، وهو ذلك الكون‏.‏

ثالثها‏:‏ قال ابن يعيش‏:‏ ذهب قوم إلى أن كان زيدت على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن تلغى عن العمل مع بقاء معناها، والآخر‏:‏ أن تلغى عن العمل والمعنى معاً‏.‏ وإنما تدخل لضرب من التأكيد‏.‏

والأول نحو قولهم‏:‏ ما كان أحسن زيداً، المراد أن ذلك كان فيما مضى، مع إلغائها عن العمل، ومعناه ما أحسن زيداً أمس، فهي في ذلك بمنزلة ظننت، إذا ألغيت بطل عملها لا غير، نحو قولك‏:‏ زيد ظننت منطلق‏.‏ ألا ترى أن المراد‏:‏ في ظني‏.‏

وأما الثاني فنحو قوله‏:‏

على كان المسومة العراب

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبياً ‏.‏ ولو أريد فيها المضي لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة، لأنه لا اختصاص له بذلك الحكم دون سائر الناس‏.‏

وقوله‏:‏ سراة بني أبي بكر إلخ ، قيل‏:‏ هو جمع سري، وقيل‏:‏ اسم جمع له، وهو الشريف‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون بالضم، جمع سار كقضاة جمع قاض‏.‏ وتسامى أصله تتسامى بتاءين، من السمو، وهو العلو‏.‏

والمسومة‏:‏ الخيل التي جعلت عليه سومة بالضم، وهي العلامة، وتركت في المرعى‏.‏

والعِراب‏:‏ الخيل العربية، وهي خلاف البراذين‏.‏ والمعنى أن سادات بني أبي بكر يركبون الخيول العربية‏.‏

وروى‏:‏ المطهمة بدل المسومة، وهو التام الخلقة من كل حيوان‏.‏ وروى‏:‏ جياد بني أبي بكر إلخ ، وهو جمع جواد، وهو الفرس السريع العدو‏.‏ والمعنى على هذه الرواية أن خيل هؤلاء تفضل على خيول غيرهم‏.‏

وقال ابن هشام في شرح الشواهد‏:‏ السري‏:‏ ذو السخاء والمروءة، وروى‏:‏ جياد فإن كان جمع جيد، فهما متقاربان، وجواد، فالممدوح خيلهم، والمعنى حينئذ‏:‏ على المسومة العِراب من جياد غيرهم‏.‏

وهذه الرواية وهذا التفسير أظهر، إذ ليس بمعروف تفضيل الناس على الخيل، وكأنه فهم أن تسامى بمعنى التفاضل، وليس كذلك كما ذكرنا‏.‏

ثم قال‏:‏ وتسامى إما مضارع، وماض على حد‏:‏ الركب سار‏.‏ ويؤيده أنه روى‏:‏ تساموا‏.‏ وروى الفراء‏:‏ المطهمة الصلاب، أي‏:‏ ذوات الصلابة، أي‏:‏ الشدة‏.‏

وهذا البيت مع شهرته وتداوله لم أقف على خبر له‏.‏ والله أعلم‏.‏

تتمة

ذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى أن زيادة كان في الشعر، وأنها تكون دالة على المضي دائماً‏.‏ وكلاهما خلاف المرضي‏.‏ قال‏:‏ ومنها زيادة كان للدلالة على الزمان الماضي، نحو قول الفرزدق‏:‏ الكامل

في الجاهلية كان والإسلام

وقول الآخر، أنشده الفارسي‏:‏ البسيط

في غرف الجنة العليا التي وجبت *** لهم هناك بسعيٍ كان مشكور

يريد‏:‏ بسعي مشكور، وقوله الآخر، أنشده الفراء‏:‏

على كان المسومة العِرابِ

وقول غيلان بن حريث‏:‏ الرجز

إلى كناس كان مستعيده

يريد‏:‏ إلى كناس مستعيده‏.‏ وقول امرئ القيس، في الصحيح من القولين‏:‏ الطويل

أرى أم عمرو دمعها قد تحدر *** بكاء على عمرو وما كان أصبرا

يريد‏:‏ وما أصبر، أي‏:‏ وما أصبرها وقد تزاد في سعة الكلام، ومنه قول قيس بن غالب البدري‏:‏ ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة من عبس، لم يوجد كان مثلهم ‏.‏ إلا أن ذلك لا يحسن إلا في الشعر‏.‏

وإنما أوردت زيادتها في فعل دون زيادة الجملة لأنها في حال زيادتها غير مسندة إلى شيء‏.‏ وسبب ذلك أنها لما زيدت للدلالة على الزمان الماضي أشبهت أمس، فحكم لها بحكم أمس‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والعشرون بعد السبعمائة

الكامل

في لجة غمرت أباك بحوره *** في الجاهلية كان والإسلام

على أن كان زائدة بين المتعاطفين لا عمل لها، ولا دلالة على مضي‏.‏

أما الأول فظاهر‏.‏ وأما الثاني فلأن المعنى أن الغمر ثابت في زمن الجاهلية، وفي زمن الإسلام، لا أنه كان في الجاهلية وانقطع؛ لأن المعطوف يأبى هذا المعنى‏.‏

وكذا كان في قولهم‏:‏ لم يوجد كان مثلهم، فإنها لو كانت دالة على المضي، لاقتضى أنه يوجد مثلهم الآن‏.‏ وهذا خلاف المقصود‏.‏

والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً‏.‏ وقبله يخاطبه‏:‏

أشبهت أمك إذ تعارض دارم *** بأدقة متقاعسين لئام

وحسبت بحر بني كليب مصدر *** فغرقت حين وقعت في القمقام

في حومة غمرت أباك بحوره ‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ

قوله‏:‏ أشبهت أمك إلخ ، يريد‏:‏ أشبه عقلك عقل أمك حين تفاخر بكليب دارماً‏.‏ وكليب‏:‏ رهط جرير، ودارم‏:‏ فخذ شريف من قبيلة تميم‏.‏ وأدقة‏:‏ جمع دقيق، يريد به الضعيف الضئيل‏.‏ والمتقاعس‏:‏ المتأخر عن المجد والشرف‏.‏ ولئام‏:‏ جمع لئيم‏.‏

وقوله‏:‏ وحسبت بحر إلخ ، ويروى‏:‏ وحسبت حبل بني كليب يقول‏:‏ ظننت أن بني كليب ينجونك مما قد وقعت فيه حين تعرضت لي‏.‏ ومصدر‏:‏ اسم فاعل من أصدرته، بمعنى رجعته‏.‏ والقمقام‏:‏ البحر‏.‏

وقوله‏:‏ في جلة غمرت إلخ ، اللجة‏:‏ معظم الماء‏.‏ وروى بدله‏:‏ في حومة بمعناه‏.‏

قال شارح المناقضات‏:‏ حومة الماء‏:‏ مجتمعه ومعظمه، وهو بدل من القمقام‏.‏ وغمرت‏:‏ غطت‏.‏ والغمر‏:‏ الماء الكثير‏.‏ وقد غمره الماء يغمره، أي‏:‏ علاه‏.‏

والبحر‏:‏ الماء الكثير، وكل نهر عظيم‏.‏ والجاهلية‏:‏ الزمان الذي كثر فيه الجهال، وهي ما قبل الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ أيام الفترة‏.‏ وقد تطلق على زمن الكفر مطلقاً، وعلى ما قبل الفتح‏.‏

وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثلاثون بعد السبعمائة

الطويل

بدا لك في تلك القلوص بداء

على أن بداء فاعل بدا، وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير‏:‏ بدا لك رأي باد، ولما كان ظاهر هذا الشعر على طبق ثبت الثبوت بجعل المصدر فاعلاً لفعله، وهو مما لا معنى له، أجاب عنه بما ذكره‏.‏

ولا يخفى أنه تكلف‏.‏ والجيد ما قاله أبو علي في كتاب الشعر، قال‏:‏ أضمر البداء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه لأن البداء الذي هو المصدر، قد صار بمنزلة العلم والرأي‏.‏ ألا ترى أن الشاعر قد أظهره في قوله‏:‏

لعلك والموعود حق لقاؤه *** بدا لك في تلك القلوص بداء

وكذلك صنع ابن الشجري في الآية والبيت، وقال‏:‏ ألسن العرب متداولة في قولهم‏:‏ بدا لي في هذا الأمر بداء، أي‏:‏ تغير رأيي عما كان عليه‏.‏ ويقال‏:‏ فلان ذو بدوات، ذا بدا له الرأي بعد الرأي‏.‏ انتهى‏.‏

وقد وقع هذا التركيب في سيرة ابن هشام ونصه‏:‏ قال ابن إسحاق‏:‏ ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه بداء‏.‏

قال السهيلي في الروض‏:‏ أي‏:‏ ظهر له رأي، فسمي بداء، لأنه شيء يبدو بعدما خفى، والمصدر البدو، والاسم البداء‏.‏ ولا يقال في المصدر‏:‏ بدا له بدو، كما لا يقال‏:‏ ظهر له ظهور بالرفع، لأن الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم نحو البداء‏.‏

ومن أجل أن البدو هو الظهور كان البداء في وصف الباري سبحانه محالاً، لأنه لا يبدو له شيء كان غائباً عنه‏.‏ والنسخ للحكم ليس ببدو كما توهمه جماعة من الرافضة واليهود، وإنما هو تبديل حكم بحكم، بقدر قدره، وعلم قديم علمه‏.‏

وقد يجوز أن يقال‏:‏ بدا له أن يفعل كذا، ويكون معناه أراد‏.‏ وهذا من المجاز الذي لا سبيل إلى إطلاقه إلا بإذن من صاحب الشرع‏.‏

وقد صح في ذلك ما خرجه البخاري في حديث الثلاثة‏:‏ الأعمى، والأقرع، والأبرص، وأنه عليه السلام، قال‏:‏ بدا لله أن يبتليهم ‏.‏ فبدا هاهنا بمعنى‏:‏ أراد‏.‏

وابن أعين ومن اتبعه يجيزون البداء على الله، ويجعلونه، والنسخ شيئاً واحداً، واليهود لا تجيز النسخ، يحسبونه بداء‏.‏ ومنهم من أجاز البداء‏.‏

وروى الأصبهاني في الأغاني أن رجلاً وعد محمد بن بشير الخارجي بقلوص، وهي الناقة الشابة، ومطله، فقاله فيه يذمه، ويمدح زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب‏:‏ الطويل‏.‏

لعلك والموعود حق لقاؤه *** بدا لك في تلك القلوص بداء

فإن الذي ألقى إذا قال قائل *** من الناس‏:‏ هل أحسستها لعناء

أول الذي يبدي الشمات وإنه *** علي وإشماتُ العدو سواء

دعوت وقد أخلفتني الوعد دعوة *** بزيد فلم يضلل هناك دعاء

بأبيض مثل البدر عظم حقه *** رجال من آل المصطفى ونساء

فبلغت هذه الأبيات زيد بن الحسن، فبعث إليه بقلوص من جياد إبله، فقال يمدحه‏:‏ الطويل

إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة *** نفى جدبها واخضر بالنبت عودها

وزيد ربيع الناس في كل شتوة *** إذا أخلفت أنواؤها ورعودها

حمول لأشتات الديات كأنه *** سراج الدجى إذا قارنته سعودها

انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لعلك والموعود إلخ ، أورده ابن هشام في المغني في الجملة المعترضة من الباب الثاني، على أن قوله‏:‏ والموعود حق لقاؤه جملة اعتراضية بين ما أصله المبتدأ وبين خبره‏.‏

وأحسستها‏:‏ استفدتها‏.‏ وأحسست الشيء‏:‏ وجدت حسه‏.‏ وقوله‏:‏ لعناء، خبر إن الذي ألقى‏.‏

يقول‏:‏ إن قلت للسائل الشامت إني أفدتها فقد كذبت، وكذبي، وإشمات العود سواء‏.‏

وقوله‏:‏ بزيد الباء زائدة، أي‏:‏ ناديته مرة‏.‏ وجملة‏:‏ وقد أخلفتني الوعد اعتراضية‏.‏

وقائل هذه الأبيات محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل الخارجي، من بني خارجة بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر، ويكنى أبا سليمان‏.‏ وهو شاعر فصيح حجاي من شعراء الدولة الأموية، وكان منقطعاً إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة القرشي، أحد بني أسد بن عبد العزى‏.‏ وله ترجمة طويلة في الأغاني‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والثلاثون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الوافر

فكيف إذا مررت بدار قوم *** وجيران لنا كانوا كرام

على أن كان فيه ناقصة كما ذهب إليه المبرد، الواو اسمها، ولنا‏:‏ خبرها، وليست زائدة، كما قال سيبويه‏:‏ وقال الخليل‏:‏ إن من أفضلهم كان زيداً، على إلغاء كان‏.‏

وشبهه بقول الشاعر‏:‏

فكيف إذا رأيت ديار قوم *** وجيران لنا كانوا كرام

اه‏؟‏‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه إلغاء كان وزيادتها، توكيداً وتبييناً لمعنى المضي، والتقدير‏:‏ وجيران لنا كرام كانوا كذلك‏.‏

وقد رد المبرد هذا التأويل، وجعل قوله‏:‏ لنا خبراً لها، والصحيح ما ذهب إليه الخليل وسيبويه من زيادتها، لأن قوله‏:‏ لنا، من صلة الجيران، ولا يجوز أن تكون خبراً لكان إلا أن تردي معنى الملك، ولا يصح الملك هاهنا، لأنهم لم يكونوا لهم ملكاً، إنما كانوا لهم جيرة‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذا تعسف منه، ولا فرق بين قولك‏:‏ جيران لنا وبين كانوا لنا، فإن الواو في كانوا ضمير الجيران، واللام للاختصاص لا للملك‏.‏

وقد نسب الزجاج في تفسيره زيادة كان في البيت إلى المبرد، ونقل عنه غلطة لم يغلطها أصاغر الطلبة، قال عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان فاحشة ومقتاً ‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ جائز أن تكون كان زائدة، فالمعنى على هذا إنه فاحشة ومقت‏.‏

وأنشد في ذلك قول الشاعر‏:‏

فكيف إذا حللت ديار قوم *** وجيران لنا كانوا كرام

وهذا غلط من أبي العباس، لأن كان لو كانت زائدة لم تنصب خبرها‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا نقل شاذ، وكلهم أجمعوا على أن زيادة كان في البيت إنما قال به سيبويه‏.‏ لكن الزجاج تلميذ المبرد، وهو أدرى بمذهب شيخه‏.‏ والله أعلم‏.‏

وتجويز المبرد زيادة كان في الآية مع نصب خبرها خطأ ظاهر‏.‏

قال ابن السيد في أبيات المعاني‏:‏ وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يمتنع من زيادة كان في البيت، ويقول‏:‏ إنما تلغى إذا كانت مجردة لا اسم لها ولا خبر، وأما في البيت، فالواو اسمها، ولنا‏:‏ الخبر، وكرام‏:‏ صفة لجيران‏.‏

وقد رد الناس هذا، وقالوا‏:‏ يجوز أن تكون الواو حرفاً دالاً على الجمع، يؤكد به الجيران، كالواو في أكلوني البراغيث‏.‏ وهذا مذهب كثير من البصريين، وبعض الكوفيين‏.‏ ولأنه يقدر بلنا التأخير، وهو صفة لجيران، وقد حل محله من حيث تبع الموصوف، ولا حاجة تدعو إلى انتزاعه من موضعه، وتقديره مؤخراً‏.‏ وهذا حجة أبي علي‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ هذا التوجيه ضعيف جداً، فإن القول بحرفية واو الجمع إنما هو إذا كان بعدها جمع مرفوع، كما في المثال، وأما إذا لم يأت بعدها جمع مرفوع فلم يقل أحد إنها تأتي حرفاً دالاً على الجمع‏.‏

والصواب ما وجه به الشارح المحقق، وهو أن كان زيدت مع الفاعل، لأنه كالجزء منها، لأنهم قالوا‏:‏ والفاعل كالجزء من الفعل‏.‏

واستدل صاحب اللباب على أنهما كالكلمة الواحدة باثني عشر وجهاً، منها زيادة الفعل مع الفاعل في نحو هذا البيت‏.‏ قال شارحه الفالي‏:‏ تقريره أنهم حكموا بأن كانوا زائدة، وإن كان الفعل، وهو كان وحده زائداً، ولكن لما كان الفاعل كالجزء لم يفكوه عن الفعل، فحكموا بزيادتهما جميعاً‏.‏ انتهى‏.‏

وأبو علي لم يجعل الواو فاعل كان، وإنما جعلها ضميراً مؤكداً للضمير المستتر في الظرف الواقع صفة لجيران، أعني قوله‏:‏ لنا، قال‏:‏ لنا في موضع الصفة لجيران، وفيه ضميرهم مستتر على ما عهد من حكم الجار والمجرور إذا وقع صفة، والضمير المتصل بكان تأكيد له، ولم يكن بد من اتصاله لأنه لا يقوم بنفسه‏.‏

واستدل على ذلك بقول الشاعر‏:‏ المنسرح

نحن بغرس الودي أعلمن *** منا بطعن الكماة في السدف

قال‏:‏ فنا من أعلمنا لا حاجة إليه، لأن أعلم أفعل، وأفعل إما أن يضاف، وإما أن يتصل بمن ويمنع من إضافته‏.‏ وإذا كان كذلك فلا بد من تخريج، يصح عليه الإعراب، وذلك أنه تأكيد للضمير في منا‏.‏

ولقوة تناوله، قدموه، ليدلوا على شدة اتصاله‏.‏ وإذا جاز ذلك في أعلم مع ما بعده كان في كان، أولى وأحسن‏.‏

هذا كلامه، ونقله عنه اللخمي في شرح أبيات الجمل‏.‏

وقد جمع ابن هشام في شرح الشواهد جميع ما للعلماء من التخاريج في هذا البيت، قال‏:‏ لنا، قيل‏:‏ خبر مقدم، ثم اختلف على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه خبر مبتدأ، والأصل لنا هم، ثم زيدت كان بينهما فصار لنا كان هم، ثم وصل الضمير إصلاحاً للفظ، لأنه لا يصح وقوعه منفصلاً إلى جانب فعل غير مشتغل بمعمول‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خبر لكان، وأنها ناقصة، وهو قول المبرد وجماعة، وعليه فالجملة صفة لجيران، وتقدمت على الصفة المفردة، والأكثر في الكلام تقديم المفردة‏.‏

وقيل‏:‏ لنا صفة لجيران، ثم اختلف على قولين أيضاً‏:‏

أحدهما‏:‏ أن كان تامة، والضمير فاعل، أي‏:‏ وجد‏.‏ ورد بأنه لا فائدة في الكلام على هذا القول‏.‏

والثاني‏:‏ أنها زئدة، ثم اختلف في الاعتذار عن الضمير على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الزيادة، لا تمنع العمل في الضمير، كما لم يمنع إلغاء ظن عملها في الفاعل مطلقاً‏.‏ قاله ابن السيد، وابن مالك‏.‏ وفيه نظر، لأن الفعل الملغى لم ينزل منزلة الحروف حتى لا يليق الإسناد إلى الفاعل، وإنما هو فعل صحيح، وضع لقصد الإسناد‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأصل‏:‏ كان هم، على أن الضمير توكيد للضمير المستتر في لنا، ثم زيدت كان بينهما، ووصل الضمير للإصلاح‏.‏ انتهى‏.‏

وقد لخصه في المغني في بحث لعل‏.‏

وقوله‏:‏ على تقدير كونها تامة مع فاعلها أنه لا فائدة في الكلام ممنوع، فإنها صفة لجيران بمعنى ثبتوا وحصلوا‏.‏ وما أورده أولاً من أن الأصل لنا هم، ثم زيدت كان بينهما، فاتصل بها الضمير، هو قول صاحب الكشاف، قال في قوله تعال‏:‏ وإن كانت لكبيرة‏:‏ وقرأ اليزيدي‏:‏ لكبيرة بالرفع، ووجهها أن تكون كان مزيدة، كما في قوله‏:‏ وجيران لنا كانوا كرام‏.‏ الأصل‏:‏ وإن هي لكبيرة، كقولك‏:‏ إن زيد لمنطلق، ثم وإن كانت لكبيرة‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي في كتاب التنبيه على أغلاط أبي زياد الكلابي في نوادره‏:‏ روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد الجلودي، في أخبار الفرزدق، بإسناد متصل ذكره، أن الفرزدق حضر عند الحسن البصري، فأنشده‏:‏

أقول إذا رأيت ديار قومي *** وجيرن لنا كانوا كرام

فقال له الحسن‏:‏ كراماً يا أبا فراس‏.‏ فقال الفرزدق‏:‏ ما ولدتني إلا ميسانية، إن جاز ما تقول يا أبا سعيد، قال‏:‏ وأم الحسن من ميسان‏.‏ فهذا رد الفرزدق عن نفسه‏.‏ وقد أصاب، وتقدر قوله‏:‏ وجيران كرام كانوا لنا‏.‏ انتهى‏.‏

وميسان‏:‏ قرية من قرى العراق‏.‏ يريد‏:‏ إني لم أكن من العرب العرباء، بل من المولدين إن صح ما لحنتني فيه‏.‏

والبيت من قصيدة للفرزدق، يمدح بها هشام بن عبد الملك ويهجو جريراً، وأولها‏:‏

ألستم عائجين بنا لعن *** نرى العرصات وأثر الخيام

فقالوا إن عرضت فأغن عن *** دموعاً غير راقئة السجام

فكيف إذا مررت بدار قوم *** وجيران لنا كانوا كرام

أكفكف عبرة العينين مني *** وما بعد المدامع من لمام

قوله‏:‏ ألستم عائجين‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، الهمزة للاستفهام التقريري، وروى‏:‏ هل أنتم، بدله‏.‏

وعائجون‏:‏ جمع عائج، اسم فاعل من عدت البعير أعوجه عوجاً‏:‏ إذا عطفت رأسه بالزمام‏.‏

والباء في بنا بمعنى مع‏.‏ وروى العيني فقط‏:‏ عالجون باللام، وقال‏:‏ أي‏:‏ داخلون في عالج، وهو اسم موضع‏.‏ ولم أره لغيره‏.‏ وليس في الصحاح عالج بمعنى دخل في عالج‏.‏

ولعنا، أي‏:‏ لعلنا‏.‏ ولعن لغة في لعل‏.‏ وعرصة الدار‏:‏ ساحتها، وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناء، وسميت عرصة لأن الصبيان يعرصون فيها، أي‏:‏ يلعبون ويمرحون‏.‏

وقوله‏:‏ إن عرضت كذا رواه محمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب‏:‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ وعرض الرجل، إذا أتى الروض، وهي مكة والمدينة، وما حولهما‏.‏

قال‏:‏ الطويل

فيا راكباً إما عرضت فبلغن

وقول الكميت‏:‏ الطويل فأبلغ يزيد إن عرضت ومنذراً يعني إن مررت به‏.‏ انتهى‏.‏

وما هنا يحتمل كلا منهما‏.‏ وروى أيضاً‏:‏ إن فعلت بدله، أي‏:‏ فعلت العوج، وهو عطف رأس الناقة بالزمام‏.‏

وقوله‏:‏ فأغن عنا هو أمر من قولهم‏:‏ أغنيت عنك، أي‏:‏ أجزأت مجزأة‏.‏ يريد أن أصحابه لم يرفقوه على عطف الزمام‏.‏

وقوله‏:‏ دموعاً أصله بدموع، فلما حذفت الباء نصب‏.‏ وراقئة بالهمزة، من رقأ الدمع رقئاً ورقوءاً‏:‏ إذا سكن‏.‏ والسجام‏:‏ مصدر سجم الدمع سجوماً وسجاماً، أي‏:‏ سال‏.‏

وقوله‏:‏ فكيف إذا مررت إلخ ، كيف‏:‏ استفهام، وفيها معنى التعجب، وهي هنا ظرف، والعامل فيها محذوف دل عليه الكلام، وهو أكون، وهو مقدر بعدها، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله‏.‏

والتقدير‏:‏ على أي حال أكون، إذا مررت بدار قوم إلخ، وجواب إذا محذوف لدلالة ما تقدم عليه، وهو العامل فيها‏.‏ كذا قال اللخمي‏.‏

وقال ابن هشام‏:‏ كيف‏:‏ ظرف لأكفكف‏.‏ وفيه نظر‏.‏ والتاء في مررت للمكلم، بدليل لنا، وأكفكف‏.‏ وروى بدله‏:‏ رأيت‏.‏ وقوله‏:‏ أكفكف‏:‏ أحبس‏.‏

والعبرة، بالفتح‏:‏ الدمعة‏.‏ واللمام بكسر اللام بعدها ميم‏.‏ كذا في منتهى الطلب، والمشهور من ملام‏.‏

وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والثلاثون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الوافر

كأن سبئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

على أن أبا البقاء جوز زيادة يكون بلفظ المضارع، وادعى أنها هنا زائدة على رواية رفع مزاجها على المبتدأ، وعسل خبرها‏.‏

وكذلك قال ابن السيد في أبيات المعاني‏:‏ تكون زائدة لا اسم لها ولا خبر، فيكون قوله‏:‏ مزاجها عسل، جملة من مبتدأ وخبر‏.‏ وقد عطف ماء على الخبر فرفع‏.‏

وذهب ابن الناظم أيضاً في شرح الألفية إلى أن زيادتها بلفظ المضارع نادر، كقول أم عقيل رضي الله عنه‏:‏ الرجز

أنت تكون ماجد نبيل *** إذا تهب شمأل بليل

وارتضاه ابن هشام في شرح شواهده، لكنه أنكر زيادتها في المغني، قال‏:‏ ويروى برفعهن، أي‏:‏ برفع مزاجها عسل وماء على إضمار الشأن‏.‏ وأما قول ابن السيد‏:‏ إن كان زائدة، فخطأ؛ لأنها لا تزاد بلفظ المضارع بقياس، ولا ضرورة لدعوى ذلك هنا‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا التخريج مشهور، وذكره ابن خلف وغيره، فيكون اسمها ضمير الشأن والأمر، وجملة‏:‏ مزاجها عسل من المبتدأ والخبر خبرها‏.‏ وذكر ابن هشام اللخمي تخريجاً آخر بعد ذلك، قال‏:‏ اسم يكون ضمير سبيئة، وجملة‏:‏ مزاجها عسل في موضع الخبر، وإن خبرها مقدم عليها، وهو قوله من بيت رأس، وجملة‏:‏ تكون من بيت رأس صفة لسبيئة، وجملة‏:‏ مزاجها عسل صفة ثانية لها‏.‏

قال‏:‏ وعلى هذين القولين، يقال‏:‏ تكون بالتاء‏.‏ والسابق إلى هذا التخريج ابن السيد في أبيات المعاني‏.‏

ثم قال‏:‏ والأحسن أن تقول على هذا الوجه‏:‏ تكون بالتاء؛ لأن السلافة مؤنثة، ولو قلت بالياء جاز، لأن التأنيث غير حقيقي، وليس بالجيد‏.‏

أقول‏:‏ إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث المجازي فالتأنيث واجب إلا في الضرورة، وإنما جواز التأنيث في الإسناد إلى ظاهره‏.‏

وأما بيت أم عقيل فلم أر من خرجه‏.‏ وأقول بعن الله تعالى‏:‏ إن اسم تكون ضمير المخاطب المستتر فيها، وخبرها محذوف، وماجد‏:‏ خبر أنت، والتقدير‏:‏ أنت ماجد نبيل تكونه، وتكون ذاك، والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر‏.‏

وأم عقيل هي أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، واسمها فاطمة بنت أسد ابن هاشم بن عبد مناف‏.‏

وهذا الرجز، كانت ترقص به عقيلاً لما كان طفلاً‏.‏ وقبله‏:‏ الرجز‏؟‏إن عقيلاً كاسمه عقيل وبيبي الملفف المحمول وآخره‏:‏

يعطي رجال الحي وينيل

وعقيل كل شيء‏:‏ أفضله‏.‏ وبيبي‏:‏ بأبي، أي‏:‏ يفدى بأبي ومفدى به‏.‏

ورواه الأزدي في كتاب الترقيص‏:‏ الزجر

أنت تكون السيد النبيل *** إذا تهب الشمأل البليل

ورواية سيبويه في البيت المتقدم بنصب مزاجها، على أنه خبر مقدم، ورفع عسل على أنه اسم مؤخر‏.‏ وإن شاء الله يأتي الكلام عليها في آخر الباب‏.‏

وروى أيضاً برفع مزاجها ونصب عسل على الاسم والخبر، ويكون ارتفاع ماء بفعل محذوف تقديره‏:‏ ومازجها ماء، لأن الشيء إذا خالط شيئاً، فقد خالطه ذلك الشيء أيضاً‏.‏ وهذه رواية أبي عثمان المازني ومختاره، نقله عنه ابن السيد وابن خلف وغيرهما‏.‏

وخبر كأن المشددة في بيت يليه، وهو‏:‏ الوافر

على أنيابه وطعم غض *** من التفاح هصرة اجتناء

فقوله‏:‏ على أنيابها هو الخبر‏.‏ والأنياب أربعة أسنان‏:‏ ثنتان من يمين الثنايا‏:‏ واحدة من فوق، وواحدة من أسفل، وثنتان من شمالها كذلك‏.‏ شبه طعم ريقها بطعم خمر قد مزجت بعسل وماء، وبطعم تفاح غض قد اجتني‏.‏ فطعم، بالنصب، معطوف على سبيئة‏.‏

وهصره‏:‏ أماله‏.‏ والاجتناء‏:‏ أخذ التمر من الشجر‏.‏ ويروى بدله‏:‏ جناء بكسر الجيم، وهو الثمر بعينه‏.‏

والبيت الثاني ثابت في ديوان حسان، وهو عندي نسخة قديمة تاريخ كتابته سنة أربع وثلاثين وثلثمائة‏.‏

وكذا رواه من تكلم في شعره‏.‏ وقد أنكره السهيلي في الروض، وقال‏:‏ قوله‏:‏ كأن سبيئة خبر كأن في هذا البيت محذوف، تقديره‏:‏ كأن في فيها‏.‏ ومثله في النكرات حسن كقوله‏:‏ المنسرح

إن محلاً وإن مرتحلاً

أي‏:‏ إن لنا محلاً‏.‏

وكقول الآخر‏:‏

ولكن زنجياً طويلاً مشافره

وزعم بعضهم أن بعده بيتاً فيه الخبر، وهو على أنيابها البيت‏.‏ وهو مصنوع لا يشبه شعر حسان ولا لفظه‏.‏ انتهى‏.‏

والسبيئة‏:‏ فعيلة بمعنى مفعولة‏.‏ وهي الخمر التي تسبأ، أي‏:‏ تشترى بالهمزة‏.‏

قال المبرد في الكامل وأنشد البيت‏.‏ يقال‏:‏ سبأت الخمر سبئاً، إذا اشتريتها‏.‏ والسابيء‏:‏ الخمار‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ إنما السابيء مبتاع الخمر، لا بائعها‏.‏ وهذا منه غلط‏.‏

وفي القاموس‏:‏ سبأ الخمر كجعل، سبئاً وسباءً ومسبأً‏:‏ شراها كاستبأها وبياعها السباء‏.‏ والسبيئة، ككريمة‏:‏ الخمر‏.‏

ثم قال في المعتل‏:‏ سبى العدو‏:‏ أسره‏.‏ والخمر سبياً وسباء، ووهم الجوهري‏:‏ حملها من بلد إلى بلد‏.‏ انتهى‏.‏

والجوهري قيد السبء بشرائها للشرب‏.‏ قال‏:‏ فأما إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر قلت‏:‏ سبيت الخمر‏.‏ فشراؤها للتجارة يكون عنده بالياء‏.‏

ورد عله الصفدي في نفوذ السهم، فيما وقع للجوهري من الوهم‏.‏ قال‏:‏ هذا تحكم منه، ودعوى بلا بدليل‏.‏

وقول ابن هرمة‏:‏ المنسرح

خود تعاطيك بعد رقدته *** إذا تلاها العيون مهدؤها

كأساً بفيها صهباء معرقة *** يغلو بأيدي التجار مسبؤها

يشهد بخلاف هذا الفرق الذي أبداه‏.‏ ولا يجوز سبيت الخمر بالياء إلا على قول من يرى تحويل الهمزة‏.‏ انتهى‏.‏

وروى‏:‏ كأن سلافة، والسلافة‏:‏ الخمر، وقيل‏:‏ خلاصة الخمر، وقيل‏:‏ ما سال من العنب قبل العصر، وذلك أخلصها‏.‏ واشتقاقها من سلف الشيء، إذا تقدم‏.‏

وروى أيضاً‏:‏ كأن خبيئة، وهي الخمر المخبأة المصونة المضنون بها‏.‏

وقوله‏:‏ من بيت رأس متعلق بمحذوف على أنه صفة أولى لسبيئة، وجملة‏:‏ يكون إلخ، صفة ثانية لها؛ كأنه قال‏:‏ سبيئة مشتراة من بيت رأس ممزوجة بعسل وماء‏.‏

وبيت رأس‏:‏ موضع، قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد‏:‏ قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه‏:‏ بيت رأس‏:‏ اسم قرية بالشام من ناحية الأردن، كانت الخمور تباع فيها، وبه ماتت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك، فمات يزيد بعد بضع عشرة جزعاً عليها‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ بيتُ‏:‏ موضع الخمر، ورأس‏:‏ اسم للخمار‏.‏ وقصد إلى بيت هذا الخمار لأن خمره أطيب الخمر‏.‏ وقيل‏:‏ الرأس هنا بمعنى الرئيس، أي‏:‏ من بيت رئيس‏.‏ قال اللخمي‏:‏ وهذا أحسن الأقوال؛ لأن الرؤساء إنما تشرب الخمر ممزوجة‏.‏

وإنما اشترط أن يمزجها لأنها خمر شامية صليبة، فإن لم تمزج قتلت شاربها‏.‏ وخص العسل والماء، لأن العسل أحلى ما يخالطها، وأنه يذهب بمرارتها، وأما الماء فيبردها ويلينها‏.‏

وقيل‏:‏ إنما عنى شراب الرؤساء والملوك على قول من جعل رأساً‏:‏ بمعنى رئيس، لأنها إذا مزجت لا يشربها إلا الرؤساء، وأشراف الناس، كراهية أن تخرجهم عن عقولهم‏.‏

لا ترى إلى قول عدي بن زيد‏:‏ الرمل

رب ركب قد أناخوا حولن *** يشربون الخمر بالماء الزلال

وقد عابت على جذيمة الأبرش أخته شرب الخمر صرفاً لأمر لحقها من ذلك، فقالت له‏:‏ الخفيف

ذاك من شربك المدامة صرف *** وتماديك في الصبا والمجون

وقد مدح الله خمر الجنة لما لم يكن الشارب يؤوي وجهه لها، فقال عزمن قائل‏:‏ وأنهار من خمر لذة للشاربين ، أي‏:‏ ن الشارب إذا شربها لم يقطب وجهه، ولم تخرجه عن عقله‏.‏

وبيت حسان مع ما بعده مأخوذ من قول امرئ القيس، وإن كان في قول امرئ القيس زيادة أحسن فيها ما شاء، وأتبع دلوه في الإجادة الرشاء، فقال‏:‏ المتقارب

كأن المدام وصوب الغمام *** وريح الخزامى ونشر القطر

يعل به برد أنيابه *** إذا طرب الطائر المستحر

والزيادة التي زادها قوله‏:‏ إذا طرب الطائر المستحر يعني عند تغير الأفواه‏.‏ فشبه حسان ريق هذه المرأة بخمر ممزوجة بعسل وماء، وبطعم غض من التفاح‏.‏

والبيت من قصيدة لحسان بن ثابت، قالها قبل فتح مكة، مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهجا أبا سفيان، وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، وهي هذه‏:‏

عفت ذات الأصابع فالجواء *** إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر *** تعفيها الروامس والسماء

وكانت لا يزال بها أنيس *** خلال مروجها نعم وشاء

فدع هذا ولكن من لطيف *** يؤرقني إذا ذهب العشاء

لشعثاء التي قد تيمته *** فليس لقلبه منها شفاء

كأن خبيئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء

إذا ما الأشربات ذكرن يوم *** فهن لطيب الراح الفداء

نوليها الملامة إن ألمن *** إذا ما كان مغث ولحاء

ونشربها فتتركنا ملوك *** وأسداً ما ينهنهنا اللقاء

عدمنا خيلنا إن لم تروه *** تثير النقع موعدها كداء

يبارين الأسنة مصغيات *** على أكتافها الأسل الظلماء

تظل جيادنا متمطرات *** تلطمهن بالخمر النساء

فإما تعرضوا عنا اعتمرن *** وكان الفتح وانكشف الغطاء

وإلا فاصبروا لجلاد يوم *** يعين الله فيه من يشاء

وقال الله‏:‏ قد يسرت جند *** هم الأنصار عرضتها اللقاء

لنا في كل يوم من معد *** قتال وسباب وهجاء

فنحكم بالقوافي من هجان *** ونضرب حين تختلط الدماء

وقال الله‏:‏ قد أرسلت عبد *** يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به وقومي صدقوه *** فقلتم ما نجيب وما نشاء

وجبريل أمين الله فين *** وروح القدس ليس له كفاء

ألا أبلغ أبا سفيان عني *** مغلغلة فقد برح الخفاء

بأن سيوفنا تركتك عبد *** وعبد الدار سادتها الإماء

هجوت محمداً فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء *** فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركاً براً حنيف *** أمين الله شيمته الوفاء

أمن يهجو رسول الله منكم *** ويمدحه وينصره سواء

فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

لساني صارم لا عيب فيه *** وبحري لا تكدره الدلاء

وهذه رواية ابن هشام في السيرة‏.‏ وفي الديوان ثلاثة أبيات أخر من آخر زيادة على هذا‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ قالها حسان قبل يوم الفتح‏.‏ ويروى‏:‏ لساني صارم لا عتب فيه بالتاء‏.‏ وبلغني عن الزهري أنه قال‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن الخيل بالخمر، تبسم إلى أبي بكر‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ عفت ذات الأصابع إلخ ، عفت‏:‏ بمعنى‏:‏ درست‏.‏ وذات الأصابع‏:‏ موضع بالشام‏.‏ والجواء، بكسر الجيم كذلك‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وبالجواء كان منزل الحارث ابن أبي شمر‏.‏ وكان حسان كثيراً ما يرد على ملوك غسان بالشام، يمدحهم، فلذلك يذكر هذه المنازل‏.‏ وعذراء، قال السكري في شرح ديوانه‏:‏ قرية على بريد من دمشق، وبها قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه‏.‏

وقوله‏:‏ ديار من بني الحسحاس، بمهملات، قال السكري‏:‏ الحسحاس بن مالك بن عدي بن النجار‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ بنو الحسحاس حب من بني أسد‏.‏ قال السكري‏:‏ والروامس‏:‏ الرياح التي ترمس الآثار وتغطيها‏.‏

وقال السهيلي‏:‏ يعني بالسماء المطر‏.‏ والسماء لفظ مشترك يقع على المطر، وعلى السماء التي هي السقف‏.‏ ولم تعلم ذلك من هذا البيت ونحوه ولا من قوله‏:‏ الوافر

إذا سقط السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

لأنه يحتمل أن يريد مطر السماء، فحذف المضاف، ولكن إنما عرفناه من قولهم في جمعه‏:‏ سمي وأسمية، وهم يقولون في جمع السماء سماوات، فعلمنا أنه اسم مشترك بين شيئين‏.‏

وقوله‏:‏ وكانت لا يزال بها‏.‏‏.‏ إلخ، خلال ظرف بمعنى بين، خبر مقدم‏.‏ ونعم‏:‏ مبتدأ مؤخر‏.‏ قال السهيلي‏:‏ النعم‏:‏ الإبل، فإذا قيل‏:‏ الأنعام دخل فيها البقر والغنم‏.‏ والشاء والشوي‏:‏ اسم للجميع كالضأن والضئين، والإبل والأبيل، والمعز والمعيز‏.‏ فأما الشاة فليست من لفظ الشاء، لام الفعل منها تاء‏.‏

وقوله‏:‏ فدع هذ إلخ ، الطيف‏:‏ الخيار‏.‏ ويؤرقني‏:‏ يسهرني‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يسهره الطيف والطيف، حلم في المنام‏؟‏ فالجواب أن الذي يؤرقه لوعة يجدها عند زواله، كما قال الطائي‏:‏ البسيط

ظبي تقنصته لما نصبت له *** من آخر الليل أشراكاً من الحلم

ثم انثنى وبنا من ذكره سقم *** باق وإن كان معسولاً من السقم

وقوله‏:‏ لشعثاء التي إلخ ، شعثاء‏:‏ بنت سلام بن مشكم اليهودي‏.‏ وبيت‏:‏

على أنيابه وطعم غض

إلخ، لم يورده ابن هشام في السيرة، ولهذا أنكره السهيلي‏.‏

وقوله‏:‏ نوليها الملامة إلخ ، يقال‏:‏ ألام، إذا أتى بما يلام عليه‏.‏ يعني إن أتينا بما نلام عليه صرفنا اللوم إلى الخمر، واعتذرنا بالسكر‏.‏ والمغث، بفتح الميم، وسكون الغين المعجمة بعدها مثلثة‏:‏ الضرب باليد‏.‏

واللحاء‏:‏ الملاحاة باللسان، يروى أن حسان مر بفتية يشربون الخمر في الإسلام، فنهاهم، فقالوا‏:‏ والله لقد هممنا بتركها، فزينها لنا قولك‏:‏

ونشربها فتتركنا ملوك ‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فقال‏:‏ والله لقد قلتها في الجاهلية، وما شربتها منذ أسلمت‏.‏

ولذلك قيل‏:‏ إن بعض هذه القصيدة، قالها في الجاهلية، وقال آخرها في الإسلام‏.‏

وقوله‏:‏ عدمنا خيلن إلخ ، النقع‏:‏ الغبار‏.‏ وكداء، بالفتح والمد‏:‏ الثنية التي في أصلها مقبرة مكة، ومنها دخل الزبير يومئذ، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من شعب أذاخر‏.‏

وقوله‏:‏ يبارين الأسنة إلخ ، مباراتها الأسنة‏:‏ أن يضجع الرجل رمحه، فكان الفرس يركض ليسبق السنان‏.‏

والمصغيات‏:‏ الموائل المنحرفات المطعن‏.‏ والأسل‏:‏ الرماح‏.‏ ورواية ابن هشام‏:‏ ينازعن الأعنة مصغيات‏.‏

وقوله‏:‏ تظل جيادن إلخ ، المتمطرات‏:‏ الخوارج من جمهور الخيل‏.‏ قال ابن دريد في الجمهرة‏:‏ كان الخليل يروي‏:‏ يطلمهن بالخمر النساء ، وينكر يلطمهن، ويجعله بمعنى ينفضن النساء بخمرهن ما عليهن من غبار ونحو ذلك‏.‏ قال‏:‏ والظلم‏:‏ ضربك خبزة الملة بيدك لتنفض ما عليها من الرماد‏.‏ والطلمة‏:‏ الخبزة‏.‏

وقوله‏:‏ فنحكم بالقوافي، أحكمه‏:‏ كفه ومنعه‏.‏ ومنه سمي القاضي حاكماً، لأنه يمنع الناس من الظلم‏.‏

قال جرير‏:‏ الكامل

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إني أخاف عليكم أن أغضبا

وقوله‏:‏ ألا أبلغ أبا سفيان عني إلخ ، المغلغلة‏:‏ الرسالة الذاهبة إلى كل بلد، من تغلغل، إذا ذهب‏.‏

وروى غير ابن هشام مصراعه الثاني كذا‏:‏

فأنت مجوف نخب هواء

والنخب، بفتح النون وكسر المعجمة‏:‏ الجبان‏.‏‏.‏‏.‏

وقوله‏:‏ هجوت محمداً، قال اللخمي‏:‏ قال ابن دريد‏:‏ أخبرنا السكن بن سعيد، عن عباد بن عباد، عن أبيه، قال‏:‏ لما انتهى حسان إلى هذا البيت قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ جزاؤك على الله الجنة يا حسان ‏.‏

ولما انتهى إلى قوله‏:‏

أتهجوه ولست له بكفء

قال من حضر‏:‏ هذا أنصف بيت قالته العرب‏.‏

ولما انتهى إلى قوله‏:‏

فإن أبي ووالده وعرضي

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقاك الله يا حسان حر النار ‏.‏

وقوله‏:‏

فشركما لخيركما الفداء

قال السهيلي‏:‏ في ظاهر هذا اللفظ شناعة لأن المعروف أن لا يقال‏:‏ هو شرهما إلا وفي كليهما شر‏.‏ وكذلك شر منك، ولكن سيبويه، قال‏:‏ تقول‏:‏ مررت برجل شر منك، إذا نقص عن أن يكون مثله‏.‏ وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الأول‏.‏

ونحو منه قوله عليه السلام‏:‏ شر صفوف الرجال آخرها ، يريد‏:‏ نقصان حظهم عن حظ الصف الأول، كما قال سيبويه‏.‏ ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشر‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏