فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد السبعون بعد السبعمائة

الطويل

بعد ما متأملي

وهو قطعة من بيت من معلقة امرئ القيس، وهو‏:‏

فعدت له وصحبتي بين ضارج *** وبين العذيب بعد ما متأملي

على أن بعد فيه للمدح والتعجب، وأصله بعد بفتح الباء وضم العين أصالة، ألحق بفعل المدح‏.‏

ويجوز في بائه وجهان‏:‏ فتحها وتسكين عينها بحذف حركتها، وضمها بنقل حركة عينها إليها، كما يجوز في كل فعل المراد به المدح والتعجب، كما قال الشارح المحقق في آخر الفصل وصوره بهذا البيت‏.‏

وقد روي أيضاً بالوجهين‏.‏ قال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ رواه أبو إسحاق الزيادي عن الأصمعي بعد مضمومة الباء، ومعناه يا بعد ما تأملت، على التعجب، أي‏:‏ تثبت في النظر أين يسقي‏.‏

ورواه أبو حاتم‏:‏ بَعْدَ بفتح الباء، وقال‏:‏ خفف بعد فأسكن العين، وبقيت الباء مفتوحة، مثل كَرُمَ وكَرْمَ‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه رد على ابن مالك في التسهيل في اشتراط نقل ضم العين إلى الفاء بكون الفاء حرفاً حلقياً كحب وحسن‏.‏

وما بعد بُعْدَ إما زائدة، ومتأملي فاعل بعد وهو مضاف إلى الياء، والرفع فيه مقدر، والمخصوص بالمدح محذوف‏.‏

وإما اسم نكرة منصوبة المحل على التمييز للضمير المستتر في بعد، ومتأملي هو المخصوص بالمدح والتعجب، فتكون ما كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنعما هي ‏.‏

وقبل هذا البيت‏:‏

أصاح ترى برقاً أريك وميضه *** كلمع اليدين في حبي مكلل

يضيء سناه ومصابيح راهب *** أهان السليط بالذبال المفتل

قعدت له وصحبتي ***‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

قوله‏:‏ أصاح ترى إلخ ، الهمزة لنداء القريب‏.‏ وصاح‏:‏ مرخم صاحب، وحذف همزة الاستفهام بعده للضرورة‏.‏ والوميض والإيماض‏:‏ اللمعان‏.‏ يقال‏:‏ ومض البرق يمض وأومض، إذا لمع وتلألأ‏.‏ واللمع‏:‏ التحرك والتحريك جميعاً‏.‏

والحبي، بالحاء المهملة وكسر الموحدة، وهو السحاب المتراكم، سمي به لأنه حبا بعض إلى بعض، أي‏:‏ تراكم‏.‏ وجعله مكللاً، لأنه صار أعلاه كالإكليل لأسفله‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ كللت الرجل، إذا توجته‏.‏ ويروى‏:‏ مكلل بكسر اللام‏:‏ اسم فاعل من كلل تكليلاً، إذا تبسم‏.‏

يقول‏:‏ يا صاحبي هل ترى برقاً أيك لمعانه وتلألؤه وتألقه في سحاب متراكم صار أعلاه كالإكليل لأسفله، وفي سحاب متبسم بالبرق، يشبه برقه تحريك اليدين‏.‏ أراد يتحرك تحركهما‏.‏

وتقدير البيت‏:‏ أريك وميضه في حبي مكلل كلمع اليدين‏.‏ شبه لمعان البرق وتحريكه بتحرك اليدين‏.‏

وقوله‏:‏ يضيء سناه إلخ ، السنا بالقصر‏:‏ الضوء، يقال‏:‏ سنا يسنو‏.‏ والسليط‏:‏ الزيت، وقيل‏:‏ الشيرج، وسمي سليطاً لإضاءته السراج، ومنه السلطان لوضوح أمره‏.‏

والذبال‏:‏ جمع ذبالة، وهي الفتيلة‏.‏ ومعنى أهان السليط أنه لم يعزه وأكثر الإيقاد به‏.‏

وروى‏:‏ أما السليط، فقيل من المقلوب، وتقديره أمال الذبال بالسليط، إذا صبه عليه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ تقديره‏:‏ أمال السليط مع الذبال، يريد أنه يميل المصباح إلى جانب، فيكون أشد إضاءة لتلك الناحية من غيرها‏.‏

يقول‏:‏ هذا البرق يتلألأ ضوءه، فهو يشبه في تحريكه لمع اليدين ومصابيح الرهبان التي أميلت فتائلها بصب الزيت عليها في الإضاءة، يريد أن تحركه يحكي تحرك اليدين، وضوءه يحكي ضوء مصابيح الرهبان‏.‏ هذا ما نقلته من شرح الزوزني‏.‏

ومصابيح بالجر معطوف على لمع‏.‏

وقوله‏:‏ قعدت له إلخ ، قال الخطيب التبريزي‏:‏ صحبة بالضم‏:‏ اسم جمع صاحب‏.‏ وضارج والعذيب‏:‏ مكانان، أي‏:‏ قعدت لذلك البرق أنظر من أين يجيء بالمطر‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ بعد ما متأملي‏:‏ ما أبعد ما تأملت‏.‏ وحقيقته أنه نداء مضاف‏.‏

وهي تحتمل معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن المعنى بَعُد، ثم حذف الضمة‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى بعد ما تأملت‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقال الزوزني‏:‏ يقول قعدت للنظر إلى السحاب وأصحابي بين هذين الموضعين وكنت معهم، فبعد متأملي وهو المنظور إليه، أي‏:‏ بعد السحاب الذي كنت أنظر إليه، وأرقب مطره، وأشيم برقه‏.‏ يريد أنه نظر إلى هذا السحاب من مكان بعيد فتعجب من بعد نظره‏.‏ انتهى‏.‏

وحاصله أن بَعْدَ بالفتح فعل ماض مسكن العين، وما زائدة، ومتأملي اسم مفعول واقع على السحاب مضاف إلى ياء المتكلم، كما سبق من تقرير كلام الشارح المحقق، من أنه مصدر مضاف إلى الياء‏.‏

ثم قال الزوزني‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ إن ما في البيت بمعنى الذي، وتقديره‏:‏ بَعُدَ ما هو متأملي، فحذف المبتدأ الذي هو هو، وتقديره على هذا القول‏:‏ بعد السحاب الذي هو متأملي‏.‏ انتهى‏.‏

وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والسبعون بعد السبعمائة

الطويل

وحب بها مقتولة حين تقتل

على أن حب فيه للمدح والعجب، وأصلها حبب بضم العين للتحويل المذكور‏.‏ فإن نقلنا حركة العين إلى الفاء بعد حذف حركتها صار حب بضم الأول‏.‏ وإن حذفنا ضمة العين صار حب بفتح الأول والإدغام في الصورتين واجب لاجتماع المثلين، والأول منهما ساكن‏.‏ وفاعلها الضمير المؤنث المجرور بالباء، لأن هذه الصيغة تعجبية لكونها بمعنى أحبب بها‏.‏

قال ابن الحاجب في أمالي المفصل‏:‏ مقتولة نصب على الحال من الضمير في بها، وبها فاعل حب، زيدت فيه الباء على غير قياس كقوله‏:‏ كفى بالله شهيدا ‏.‏ وقال صاحب التخمير‏:‏ الباء في بها هاهنا للتعجب، ونظيره قولهم‏:‏ كفاك بزيد رجلاً‏.‏

وقال ابن السراج‏:‏ الباء دخلت لأنها دليل التعجب، كما قالوا‏:‏ إنك من رجل عالم، لم تسقط من لأنها دليل التعجب‏.‏ وقيل هي كالباء‏:‏ في كفى بالله‏.‏ ومقتولة حال‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن يعيش‏:‏ حب من المضاعف الذي عينه ولامه من باب أحد، وفيه لغتان حب وأحب، وأحب أكثر في الاستعمال‏.‏ وأما حب فوزنه فعل بفتح العين، قال الشاعر‏:‏ الطويل

فوالله لولا تمره ما حببته *** ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

فإذا أريد به المدح نقل إلى فعل، فتقول‏:‏ حب زيد، أي‏:‏ صار محبوباً ومنه قوله‏:‏

حب بها مقتولة حين تقتل

وكذلك قول الآخر‏:‏ الكامل

هجرت غضوب وحب من يتجنب

وذهب الفراء إلى أن حب أصله حَبُب مضموم العين، واستدل بقولهم‏:‏ حبيب، وفعيل بابه فعل، كظريف وكريم من ظرف وكرم‏.‏ والصواب ما ذكرناه، لأنه قد جاء متعدياً وفعل لا يكون متعدياً‏.‏

فأما قولهم‏:‏ حبيب فلا دليل فيه، لأنه مفعول، فحبيب ومحبوب واحد، فهو كجريح وقتيل‏.‏

وحبيب من حب إن أريد به المدح فاعل كظريف‏.‏ وحب فعل متصرف، تقول منه‏:‏ حبه يحبه بالكسر، وهو من الشاذ لأن فعل إذا كان مضاعفاً متعدياً فمضارعه يفعل بالضم، نحو‏:‏ رده يرده، وشده يشده‏.‏ وقالوا في المفعول محبوب، وقل محب‏.‏ وجاء محب في اسم الفاعل، وقل حاب‏.‏ انتهى‏.‏

هذا والرواية في البيت‏:‏

وأطيب بها مقتولة حين تقتل

بصيغة التعجب من الطيب‏.‏ وقبله‏:‏

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها

وقتل الخمر‏:‏ مزجها وكسر قوتها بالماء‏.‏ جعل مزجها بالماء قتلاً لها‏.‏ ورواه أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات‏.‏

فلذت لمرتاح وطابت لشارب *** وأحبب بها مقتولة حين تقتل

وقال‏:‏ إذا كانت الخمر طيبة فهي لذة، نعت لها‏.‏ وقد لذت لشاربها تلذ لذة، ولذها شاربها يلذها لذاً ولذاذة‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا مركب من بيتين كما يأتي‏.‏

والبيت من قصيدة للأخطل النصراني، مدح بها خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وكان أحد أجواد العرب في الإسلام‏.‏

وهذه القصيدة أول ديوانه، وقبله‏:‏ الطويل

وجاؤوا ببيسانية هي بعدم *** يعل بها الساقي ألذ وأسهل

فتوقف أحياناً فيفصل بينن *** غناء مغن وشواء مرعبل

فلذت لمرتاح وطابت لشارب *** وراجعني منها مراح وأخيل

فما لبثتنا نشوة لحقت بن *** توابعها مما نعل وننهل

تدب دبيباً في العظام كأنه *** دبيب نمال في نقاً يتهيل

فقلت اقتلوها عنكم بمزاجه *** وأطيب بها مقتولة حين تقتل

وبيسان، هي بلدة بغور الشام تنسب إليها الخمر‏.‏ والعلل‏:‏ الشرب الثاني‏.‏ والشواء‏:‏ الكباب‏.‏

والمرعبل‏:‏ المقطع‏.‏ والمراح بالكسر‏:‏ السرور‏.‏ والأخيل‏:‏ الخيلاء والعجب‏.‏

ونشوتها‏:‏ رائحتها‏.‏ والنشوة‏:‏ السكر أيضاً‏.‏ وتوابعها‏:‏ ما لحق من سكرها‏.‏ والنهل‏:‏ الشرب الأول‏.‏ كذا في شرح ديوانه‏.‏

ونمال بالكسر‏:‏ جمع نمل‏.‏ والنقا‏:‏ الكثيب من الرمل‏.‏ ويتهيل‏:‏ يتصبب‏.‏

وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والسبعون بعد السبعمائة

البسيط

لا يمنع الناس مني ما أردت ول *** أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

على أن حسن يه للمدح والتعجب، ويجوز في مثله أن تنقل ضمة العين إلى الفاء، كما فعل الشاعر، وأن تحذف وتبقى الفاء على فتحها‏.‏

والبيت أنشده الجوهري، قال‏:‏ وقد حسن الشيء، وإن شئت خففت الضم، فقلت‏:‏ حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضم إلى الحاء، لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح والذم، لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس، فسكن ثانيهما ونقلت حركته إلى ما قبله‏.‏ وكذلك كل ما كان في معناهما‏.‏

قال الشاعر‏:‏

لم يمنع الناس مني ما أردت ‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

أراد‏:‏ حسن هذا أدباً، فخفف ونقل‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال ابن السيرافي‏:‏ يريد أن يقهر الناس، فيمنعهم ما يريدون منه، ولا يمنعونه مما يريد منهم، لعزه وقهره‏.‏ واستحسن هو هذا وجعله أدباً حسناً‏.‏ وذا‏:‏ فاعل حسن، وأدباً منصوب على التمييز‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب‏:‏ الأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق، وفعل المكارم، مثل ترك السفه، وبذلك المجهود، وحسن اللقاء‏.‏

قال الغنوي‏:‏

لم يمنع الناس مني ما أدرت ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم‏.‏ واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب أديباً، ويسمون هذه العلوم الأدب، وذلك كلام مولد، لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام‏.‏

واشتقاقه من شيئين‏:‏ يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب، ومن الأدب مصدر قولك‏:‏ أدب فلان القوم يأدبهم أدباً، إذا دعاهم قال طرفة‏:‏ الرمل

نحن في المشتاة ندعو الجفلى *** لا ترى الآدب فينا ينتقر

فإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يعجب منه لحسنه، لأن صاحبه الرجل الذي يعجب منه لفضله‏.‏

وإذا كان من الأدب الذي هو الدعاء، فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل، فينهاهم عن المقابح والجهل‏.‏ والفعل منه أدبي آدب أدباً من باب فرح، فأنا أديب‏.‏

والمتأدب‏:‏ الذي قد أخذ من الأدب بحظ، وهو متفعل من الأدب، يقال منه أدب الرجل، يأدب، إذا صار أديباً، مثل كرم، إذا صار كريماً‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدة لسهم بن حنظلة الغنوي، أورد بعضها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل‏.‏ وهذا ما أورده‏:‏

إذا افتقرت نأى واشتد جانبه *** وإن رآك غنياً لان واقتربا

وإن أتاك لمال ولتنصره *** أثنى عليك الذي تهوى وإن كذبا

مدلى القرابة عند النيل يطلبه *** وهو البعيد إذا نال الذي طلبا

حلو اللسان بعيد القلب مشتمل *** على العداوة لابن العم ما اصطحبا

الله مخلف ما أنفقت محتسب *** إذا شكرت ومؤتيك الذي كتبا

لا بل سل الله ما ضنوا عليك به *** ولا يمن عليك الله ما وهبا

يا للرجال لأقوام أجاورهم *** مستقبسين ولما يقبسوا لهبا

يصلون ناري وأحميها لغيرهم *** ولو أشاء لقد كانوا لها حطبا

من الرجال رجال لا أعاتبهم *** ولا تفزع منهم هامتي رعبا

من لا يزل غرضاً أرمي مقاتله *** لا يتقي وهو مني واقف كثبا

ولا أسب امرأ إلا رفعت له *** عاراً يسب به الأقوام ولقبا

قد يعلم الناس أني من خيارهم *** في الدين ديناً وفي أحسابهم حسبا

لا يمنع الناس مني ما أردت ول *** أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

قال التبريزي في شرح إصلاح المنطق لابن السكيت‏:‏ يريد أنه يقهر الناس، فيمنعهم ما يريدون منه، ولا يمنعونه ما يريد منهم، لعزته‏.‏ وجعله أدباً حسناً‏.‏ هذا تفسير أبي محمد‏.‏

وقال أبو العلاء في معنى هذا البيت‏:‏ كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم ويمنعهم‏.‏ وهو الصواب، لأن ما قبله يدل عليه‏.‏ وذا‏:‏ فاعل حسن‏.‏ وأدباً تمييز‏.‏ وأراد حسن فخفف ونقل؛ لأن هذا مذهب التعجب‏.‏

وقال الصفار‏:‏ إن الشاعر أنكر على نفسه بأن الناس يعطونه ويمنعهم، ثم قال‏:‏ حسن ذا أدباً، أي‏:‏ ما أحسن هذا الأدب‏!‏ على سبيل الإنكار والتهكم‏.‏

انتهى‏.‏

وسهم بن حنظلة‏:‏ شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام‏.‏ ذكره ابن حجر في قسم الخضرمين من الإصابة، عن المرزباني‏.‏

وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف‏:‏ سهم بن حنظلة بن جأوان بن خويلد، أحد بني شبيبة بن غني بن أعصر، فارس مشهور، وشاعر محسن، وهو القائل‏:‏ الكامل

كم من عدو قد رماني كاشح *** ونجوت من أمر أغر مشهر

وحذرت من أمر فمر بجانبي *** لم يبكني ولقيت ما لم أحذر

ثم قال‏:‏ ومنهم سهم، صاحب القصيدة المختارة الطوية التي يقول فيها‏:‏

تدني الفتى في الغنى للراغبين إذ *** ليل التمام أهم المقتر العزبا

حتى تمول يوم ويقال فتى *** لاقى التي تشعب الأقوام فانشعبا

انتهى‏.‏

وقد أخطأ في هذا، فإن صاحب القصيدة هو سهم الذي ذكره أولاً، والبيتان من تلك القصيدة، وقد نسبها إليه أبو تمام وغيره‏.‏ وقد اشتبه على الآمدي فظن سهماً اثنين، وأن صاحب القصيدة غير سهم الغنوي، والصواب ما ذكرنا‏.‏ وسهم الذي ذكره ثانياً مجهول، ولهذا لم يرفع نسبه لا إلى أب ولا إلى جد‏.‏ ولم يذكره غير الآمدي أحد‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏

حروف الجر

أنشد فيها،

الشاهد الثالث والسبعون بعد السبعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الرجز

باتت تنوش الحوض نوشاً من علا

على أن علا فيه مبني على الضم، كقولهم‏:‏ من عل بحذف المضاف إليه‏.‏

وبيانه ما قال ابن جني في شرح تصريف المازني نقلاً عن أبي علي‏:‏ إن الألف في علا منقلبة عن الواو، لأنه من علوت، وإن الكلمة في موضع مبني على الضم، نحو‏:‏ قبلُ وبعد، لأنه يريد نوشاً من أعلاه، فلما اقتطع المضاف من المضاف إليه، وجب بناء الكلمة على الضم، نحو‏:‏ قبل وبعد، فلما وقعت الواو مضمومة، وقبلها فتحة قلبت ألفاً‏.‏ وهذا مذهب حسن‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو علي في التذكرة‏:‏ يجوز أن يكون علا مبيناً معرفة، ويجوز أن يكون معرباً نكرة‏.‏ فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة‏.‏ وإن كان معرباً كانت منقلبة عن الواو لتحركها بالجر‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا يكون إلا مبنياً، لأنه معرفة لتقدم الحوض، والمعنى من علا الحوض‏.‏ قيل‏:‏ قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ ، فهما نكرتان، وإن كان ذكر الغلبة قد تقدم، وكان معلوماً أن معنى الكلام من قبل الغلبة ومن بعدها‏.‏ انتهى‏.‏

فعلم من هذا أنه لا يتعين بناؤها على ضمة على الواو المنقلبة ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، لقطعه عن الإضافة ونية معناه، لجواز أن يكون معرباً بالجر والتنوين المقدرين على الواو المنقلبة، ولا ينوى المضاف إليه لا لفظه ولا معناه، ويكون كسائر الأسماء النكرة، كما في قراءة‏:‏ من قبلُ ومن بعد بالجر والتنوين‏.‏

واستشهد به سيبويه في باب ما ذهب لامه من أبواب التحقير‏.‏ قال الأعلم‏:‏ استدل به على أن قولهم من عل محذوف اللام، وإذا صغرته اسماً ردت لامه فقيل علي، لأن أصله من العلو‏.‏ انتهى‏.‏

وكسيبويه أورده ابن السراج في الأصول‏.‏

وروى سيبويه‏:‏ وهي تنوش الحوض بدل‏:‏ باتت تنوش‏.‏

قال الفراء في تفسيره‏:‏ النوش‏:‏ التناول‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الرجز

فهي تنوش الحوض نوشاً من عل *** نوشاً به تقطع أجواز الفلا

قال الأعلم‏:‏ وصف إبلاً وردت الماء في فلاة من الأرض، فعافته، وتناولته من أعلاه، ولم تمعن في شربه‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الجواليقي في شرح أبيات أدب الكاتب‏:‏ يصف إبلاً تشرب من ماء الحوض، وتتناول ما فيه من الماء تناولاً من فوق، تقطع به أرضاً بعيدة، وتستغني به عن المبالغة فيه‏.‏ والأجواز‏:‏ جمع جوز بفتح الجيم، وهو الوسط‏.‏

وقال ابن السيد في شحر أبياته أيضاً‏:‏ لا أعلم هذا الرجز لمن هو‏؟‏ يصف ناقة شربت الماء من الحوض‏.‏ وقد يمكن أن يصف أبلاً، ويريد بقوله‏:‏ به تقطع أجواز الفلا أنهم كانوا إذا حاولوا سفراً سقوا إبلهم الماء على نحو ما يقدرونه من بعد المسافة وقربها، وكانوا يجعلون أظماء إبلهم ثلثاً وربعاً وخمساً إلى العشر، والعشر نهاية الأظماء‏.‏

وكانوا ربما احتاجوا في الفلاة إلى الماء ولا ماء عندهم، فينحرون الإبل، ويستخرجون ما في أجوافها من الماء ويشربونه، وهو معنى قول زيد الخيل الطائي‏:‏ الوافر

نصول بكل أبيض مشرفي *** على اللائي بقى فيهن ماء

عشية نؤثر الغرباء فين *** فلا هم هالكون ولا رواء

انتهى‏.‏

وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعلم قائلها، والله أعلم‏.‏

وأنشده صاحب الصحاح في نوش، وفي علا‏.‏ وقال ابن بري في حاشيته عليه‏:‏ هذا الرجز لغيلان بن حريث الربعي‏.‏ ولم أقف على خبر لغيلان‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والسبعون بعد السبعمائة

الكامل

لمن الديار بقنة الحجر *** أقوين من حجج ومن دهر

على أن الكوفيين أجازوا استعمال من الابتدائية في الزمان أيضاً كما في البيت‏.‏ وسلم الشارح المحقق هذه الدعوى منهم، وطعن في الدليل، قال‏:‏ الإقواء لم يبتدأ من الحجج، بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر‏.‏ فمن فيه تعليلية لا ابتدائية‏.‏

اعلم أن محل النزاع بين أهل البلدين، إنما هو في ورود من لابتداء الغاية في الزمان، فأهل الكوفة يثبتونه، وأهل البصرة يمنعونه‏.‏

وأما ورودها لابتداء الغاية في المكان والأحداث والأشخاص فلا خلاف فيها عندهما‏.‏

واستدل أهل الكوفة لورود من في ابتداء الغاية في الزمان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ‏.‏ وأول يوم من الزمان‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، وبالبيت المذكور‏.‏

وأجاب البصريون عن الآية الأولى بأن فيها مضافاً محذوفاً، والتقدير‏:‏ من تأسيس أول يوم‏.‏ فمجرور من حدث لا زمان‏.‏

وضعفه أبو البقاء بأن التأسيس ليس بمكان‏.‏ ورد عليه السمين بأنهم إنما منعوا من كون من لابتداء الغاية في الزمان، وليس في كلامهم أنها لا تكون إلا في ابتداء الغاية في المكان‏.‏ وهذا رد جيد حق كما ذكرنا‏.‏

ورد الشارح المحقق دليل الكوفيين بأنه ليس التأسيس حدثاً ممتداً ولا أصلاً للمعنى الممتد، وإنما هو حدث واقع فيما بعد من، فتكون ظرفية كما في الآية الثانية‏.‏

فهو يوافقهم في مجيء من لابتداء الغاية في الزمان تبعاً للمبرد وابن درستويه، ولهذا لم يؤول كما أول البصريون في الآية‏.‏ وأجابوا عن الآية الثانية بأن من فيه ظرفية، وإليه ذهب الشارح أيضاً‏.‏

وأجابوا عن البيت بما أجابوا به في الآية الأولى بأن فيه مصدراً محذوفاً، أي‏:‏ من مر حججٍ، فيكون مجرورها حدثاً لا زماناً‏.‏

وأجاب الشارح المحقق بأن من فيه تعليلية مع تقدير المضاف، لا ابتدائية‏.‏ وهو الحق، فإن علة إقواء الديار مرور الدهور عليها، لابتداء مرورها‏.‏

وأجاب بعضهم بأن من هنا على مذهب الأخفش زائدة، والأصل أقوين حججاً ودهراً‏.‏ نقله ابن الأنباري في مسائل الخلاف‏.‏ فيكون منصوباً على الظرفية‏.‏ وأهون من هذا ادعاء من ظرفية كما في الآيتين‏.‏ ولم أر من قوله‏.‏

وأجاب بعضهم بأن الرواية‏:‏ مذ حجج ومذ دهر وأنكر الأولى‏.‏ وهذا ليس بشيء‏.‏ فإن البيت الواحد يأتي على روايات شتى وكلها صحيحة، إذا كان رواتها ثقات‏.‏

قال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ قوله‏:‏

أقوين من حجج ومن دهر

قال الأصمعي‏:‏ أقوين مذ حجج، ومذ دهر‏.‏ ومن روى‏:‏ من حجج‏.‏ قال‏:‏ معناه من مر حجج، ومن مر دهر‏.‏

قال الزجاج‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من أول يوم دخلت من في الزمان، والأصل مذ ومنذ‏.‏ هذا أكثر الاستعمال في الزمان‏.‏ ومن جائز دخولها لأنها أصل في ابتداء الغاية وفي التبعيض‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لمن الديار الظرف خبر مقدم، والديار‏:‏ مبتدأ مؤخر‏.‏ وهذا الاستفهام تعجب من شدة خرابها، حتى كأنها لا تعرف، ولا يعرف سكانها وأصحابها‏.‏

وبعض المصنفين حرفه ففتح اللام وكسر الميم، وقال إن من في البيت شاهد لدخول من الجارة على المكان‏.‏ وهذا مما يتعجب منه‏.‏

والقنة بضم القاف وتشديد النون‏:‏ أعلى الجبل‏.‏ والقلة باللام موضع النون مثله‏.‏ والحجر بكسر الحاء المهملة‏:‏ منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى‏.‏

قال صعوداء في شرح ديوان زهير‏:‏ قال أبو عمرو‏:‏ لا أعرف إلا حجر ثمود، ولا أدري أراده بعينه أم لا‏؟‏ وأما حجر بفتح المهملة فهي اليمامة، ولكن لا يدخلها الألف واللام، فلذلك أنكرها أبو عمرو‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا قال غيره‏.‏ قال ابن السيد‏:‏ هذا هو المروي هنا، وقد أوله جماعة على زيادة آل‏.‏

قال اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ قد يصنعون ذلك في الأعلام، قال الشاعر‏:‏ الرجز

يا ليت أم العمر كانت صاحبي

أراد‏:‏ أم عمرو‏.‏

وقال الآخر‏:‏ الطويل

وجدت الوليد بن اليزيد مباركاً

أراد‏:‏ الوليد بن يزيد‏.‏ هذا ما قالوا‏.‏ والصواب دخول الألف واللام عليه‏.‏ قال عاصم‏:‏ الحجر بالفتح‏:‏ مدينة اليمامة، والحجر بالكسر‏:‏ حجر ثمود‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الحجر، بالفتح‏:‏ قصبة اليمامة، يذكر ويؤنث، ويؤيدهما البيت المتقدم وبيت النابغة‏:‏ الطويل

وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة *** أخا جابر واستنكحوا أم جابر

والباء في قوله‏:‏ بقنة ظرفية متعلقة بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، والعامل فيه الاستقرار المحذوف، والتقدير‏:‏ لمن الديار كائنة بقنة الحجر‏.‏

وأقوين‏:‏ أقفرن؛ يقال‏:‏ أقوت الدار، إذا خلت من سكانها وأقفرت‏.‏ والنون ضمير الديار، وجملة‏:‏ أقوين حال من ذلك الضمير أيضاً‏.‏

والحجج، بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم‏:‏ جمع حجة بكسرها أيضاً، وهي السنة‏.‏ والدهر‏:‏ الأبد الممدود‏.‏ وروى بدله‏:‏ ومن شهر وأراد من شهور، فوضع الواحد موضع الجمع اكتفاء به‏.‏ ونظائره كثيرة‏.‏

قال اللخمي‏:‏ ومن رواه مذ حجج كانت مذ‏:‏ حرف جر، والعامل فيها أقوين، وهي بمنزلة في، لأن المعنى أقوين في حجج‏.‏

والبيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى، مدح بها هرم بن سنان بن أبي حارثة المري، عدتها تسعة عشر بيتاً، وبعده‏:‏ الكامل

لعب الرياح بها وغيره *** بعدي سوافي المور والقطر

قفر بمندفع النحائت من *** ضفوي أولات الضال والسدر

دع ذا وعد القول في هرم *** خير الكهول وسد الحضر

والسوافي‏:‏ جمع ساف، اسم فاعل من سفت الريح التراب تسفيه سفياً، إذا ذرته‏.‏ والمور، بالضم‏:‏ الغبار بالريح‏.‏ والقطر‏:‏ المطر‏.‏

قال صعوداء في شرحه‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ليس للقطر سواف، ولكنه أشركه في الجر‏.‏ انتهى‏.‏

وليس هذا من الجر على الجوار، لأنه لا يكون في النسق‏.‏ ووجهه أن الرياح السوافي تذري التراب من الأرض، وتنزل المطر من السحاب‏.‏

وقوله‏:‏ قفر، أي‏:‏ تلك الديار قفر‏.‏ والمندفع بفتح الفاء‏.‏ النحائت، بفتح النون بعدها حاء مهملة، وآخره مثناة فوقية، قال صعوداء‏:‏ هي آبار‏.‏

ومندفعها‏:‏ مندفع مياهها، ولعلها أودية‏.‏ والآبار تفسير أبي عمرو‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ موضع فيه آبار‏.‏

والضفوان، بالضاد المعجمة، بعدها فاء‏:‏ الجانبان، الواحد ضفاً كقفا‏.‏ وأولات الضال والسدر‏:‏ مواضع فيها سدر‏.‏ والضال، هو السدر البري‏.‏ وقوله‏:‏ دع ذا وعد إلخ ، قال صعوداء‏:‏ عد القول‏:‏ اصرفه إليه‏.‏ والحضر، جمع واحده حاضر، مثل صحب وصاحب‏.‏ انتهى‏.‏

والحاضر‏:‏ الحي العظيم‏.‏ والحاضر‏:‏ خلاف البادي‏.‏

والأبيات الثلاثة الأول قد نسبها نقاد الشعر إلى حماد الراوية، وقالوا‏:‏ أول القصيدة إنما هو‏:‏

دع ذا وعد القول ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

روى الأصبهاني بسنده في الأغاني عن جماعة أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباد، وقد اجتمع فيها العلماء بأيام العرب وآدابها، وأشعارها، ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا بالمفضل الضبي الراوية، فدخل فمكث ملياً‏.‏

ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية، فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد والمفضل جميعاً، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج الخادم معهما، فقال‏:‏ يا معشر من حضر من أهل العلم، إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته، لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته‏.‏

فمن أراد أن يسمع شعراً جيداً محدثاً فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل‏.‏

فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمضل لما دعا به وحده‏:‏ إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال‏:‏

دع ذا وعد القول في هرم

ولم يتقدم قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه‏؟‏ فقال له المفضل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما سمعت في هذا شيئاً إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، ويروي في أن يقول شعراً، قال‏:‏ عد إلى مدح هرم، وقال‏:‏ دع ذا، وكان مفكراً في شيء من شأنه فتركه، وقال‏:‏ دع ذا، أي‏:‏ دع ما أنت فيه من الفكر، وعد القول في هرم‏.‏

ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال‏:‏ ليس هكذا قال زهير، يا أمير المؤمنين‏.‏ قال‏:‏ فكيف قال‏؟‏ فأنشده‏:‏

لمن الديار بقنة الحجر

الأبيات الثلاثة‏.‏

دع ذا وعد القول في هرم ‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت

قال‏:‏ فأطرق امهدي ساعة ثم أقبل على حماد، فقال‏:‏ قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه‏.‏ ثم استحلفه بأيمان البيعة ليصدقنه عما يسأل عنه‏.‏ فحلف حماد له، فلما توثق منه قال له‏:‏ اصدقني عن حال هذه الأبيات، ومن أضافها إلى زهير‏.‏

فأقر له حينئذ أنه قالها‏.‏ فأمر فيه، وفي المفضل بما أمر به من شهر أمرهما وكشفه‏.‏ انتهى‏.‏

وحماد قد ترجمه صاحب الأغاني، فلا بأس بإيراد شيء من أخباره، فإنه كان من أعاجيب الدنيا، ولكونه صاحب البيت الشاهد استحق أن نترجمه‏.‏ وهو ممن يصح الاستشهاد بكلامه‏.‏

قال‏:‏ هو حماد بن ميسرة، فيما ذكره الهيثم بن عدي‏.‏ وكان صاحبه وراويته، وأعلم الناس به‏.‏ وزعم أنه مولى بني شيبان‏.‏ وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها، وأشعارها، وأنسابها، ولغاتها، وكانت ملوك بني أمية تقدمه، وتؤثره وتسني بره‏.‏

وقال له الوليد بن يزيد‏:‏ بما استحققت هذا اللقب فقيل لك‏:‏ حماد الراوية‏؟‏ قال‏:‏ لأني أروي لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين، وسمع به، ثم أروي لأكثر منهم ممن لا تعرف بأنك لا تعرفهم، ولا سمعت بهم، ثم لا أنشد شعراً لقديم ومحدث إلا ميزت القديم منه من المحدث‏.‏

قال‏:‏ إن هذا لعلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر‏؟‏ قال‏:‏ كثير، ولكني أنشدك على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة، سوى المقطعات من شعر الجاهلية‏.‏ قال‏:‏ سأمتحنك‏.‏ وأمره الوليد بالإنشاد‏.‏

فأنشده حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه، ويستوفي عليه‏.‏ فأنشده ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم‏.‏

وروى أحمد بن عبيد، عن حماد أنه قال‏:‏ كان انقطاع إلى يزيد بن عبد الملك، فكان هشام يجفوني لذلك، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام جفاني، ومكثت في بيتي سنة، لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً، فلما لم أسمع أحداً يذكرني أمنت، وخرجت فصليت الجمعة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا لي‏:‏ يا حماد، أجب الأمير يوسف بن عمر‏.‏

فقلت في نفسي‏:‏ هذا ما كنت أحذر‏:‏ فصرت إليه، فرمى كتاباً إلي فيه‏:‏ من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروع، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً، يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق‏.‏

فأخذتها وركبته وسرت، حتى وافيت باب هشام، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب ذهب، وحيطانها كذلك، وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خز حمر، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مبثوث في أواني الذهب، يقلبه بيده فتفوح روائحه‏.‏ فسلمت عليه فرد علي السلام، واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما، في أذن كل واحدة منها حلقتان فيهما لؤلؤتان توقدان، فقال لي‏:‏ كيف أنت يا حماد، وكيف حالك‏؟‏ قلت‏:‏ بخير يا أمير المؤمنين‏.‏

قال‏:‏ أدري فيما بعثت إليك‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله‏؟‏ قلت‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ الخفيف

فدعت بالصبوح يوماً فجاءت *** قينة في يمينها إبريق

قلت‏:‏ هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له‏.‏ قال‏:‏ أنشدنيها‏.‏ فأنشدتها‏:‏

بكر العاذلون في فلق الصب‏؟‏ *** ح يقولون لي‏:‏ ألا تستفيق

ويلومون فيك يا ابنة عبد الل‏؟‏ *** ه والقلب عندكم موهوق

لست أدري إذ أكثروا العذل عندي *** أعدو يلومني أم صديق

زانها حسنها وفرع عميم *** وأثيث صلت الجبين أنيق

وثنايا مفلجات عذاب *** لا قصاراً ترى ولا هن روق

فدعت بالصبوح يوماً فجاءت *** قينة في يمنها إبريق

قدمته على عقار كعين ال‏؟‏ *** ديك صفى سلافها الراووق

ثم كان المزاج ماء غمام *** غير ما آجن ولا مطروق

قال‏:‏ فطرب، وقال‏:‏ أحسنت والله يا حماد، سلني حوائجك‏.‏ فقلت‏:‏ كائنة ما كانت‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ إحدى الجاريتين‏.‏ قال‏:‏ هما جميعاً بما عليهما وما لهما لك‏.‏

فوهبهما له، وأنزله في داره، ثم نقله من غد إلى منزل أعده له، فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه‏.‏ فأقام عنده مدة، فوصل إليه منه مائة ألف درهم‏.‏

وروي أيضاً بسنده أن جعفر بن أبي جعفر المنصور،، والمعروف بابن الكردية، كان يستخف مطيع بن أياس ويحبه، وكان منقطعاً إليه، وله منه منزلة حسنة‏.‏ فذكر مطيع حماداً، وكان صديقه، وكان مطرحاً مجفواً في أيامهم، فقال له‏:‏ ائتنا به لنراه‏.‏

فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك، وأمره بالمسير إليه ومعه، فقال له حماد‏:‏ دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية، وما لي مع هؤلاء خير‏.‏ فأبى مطيع إلا الذهاب به، فاستعار حماد سواداً وسيفاً، ثم أتاه فمضى به إلى جعفر، فلما دخل سلم عليه وأثنى عليه، فرد عليه السلام، وأمره بالجلوس، ثم قال له جعفر‏:‏ أنشدني لجرير‏.‏ قال حماد‏:‏ فوالله لقد سلخ شعر جرير كله من قلبي، إلا قوله‏:‏ الكامل

بان الخليط برامتين فودعو *** وكلما اعتزموا لبين تجزع

فاندفع ينشده إياها حتى قال‏:‏ الكامل

وتقول بوزع قد دببت على العص *** هلا هزئت بغيرنا يا بوزع

قال حماد‏:‏ فقال‏:‏ لي جعفر‏:‏ أعد هذا البيت‏.‏ فأعدته‏.‏ فقال‏:‏ بوزع أيش هو‏؟‏ قلت‏:‏ اسم امرأة‏.‏ فقال‏:‏ هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس إن كانت بوزع إلا غولاً من الغيلان‏!‏ تركتني والله يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع‏!‏ يا غلمان، قفاه‏!‏ قال‏:‏ فصغت حتى لم أدر أين أنا‏.‏

ثم قال‏:‏ جروا برجله‏.‏ فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوباً، فنخرق السواد، وانكسر جفن السيف، ولقيت شراً عظيماً‏.‏ وكان أشر من ذلك غرامتي ثمن السواد وجفن السيف‏.‏

وكتب حماد إلى بعض الرؤساء الأشراف‏:‏ الخفيف

إن لي حاجة فرأيك فيه *** لك نفسي فدى من الأوصاب

وهي ليست مما يبلغها غي‏؟‏ *** ري ولا يستطيعها في كتاب

غير إني أقولها حين ألق *** ك رويداً أسرها في حجاب

فكتب إليه الرجل‏:‏ اكتب إلي بحاجتك، ولا تشهرني في شعرك‏.‏ فكتب إليه حماد‏:‏ الخفيف

إنني عاشق لجبتك الدكن‏؟‏ *** اء عشقاً قد حال دون الشراب

فاكسنيها فدتك نفسي وأهلي *** أتباهى بها على الأصحاب

ولك الله والأمانة أن أج‏؟‏ *** علها عمرها أمير ثيابي

فبعث بها إليه‏.‏

قال ابن النطاح‏:‏ كان حماد في أول أمره يتشطر، ويصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل وأخذ ماله، فكان فيه جزء من أشعار الأنصار، فقرأه حماد فاستحلاه وحفظه، ثم طلب الأدب والشعر وأيام العرب ولغاتها بعد ذلك، وترك ما كان عليه، فبلغ في العلم ما بلغ‏.‏

وروى بسنده أيضاً عن ابن الأعرابي أنه قال‏:‏ سمعت المفضل الضبي يقول‏:‏ قد سلط على الشعر حماد الراوية فأفسده‏.‏ فقلت له‏:‏ وكيف، أيخطئ في روايته أم يلحن‏؟‏ فقال‏:‏ ليته كان ذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيها، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل، ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فيختلط بأشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها، إلا عند عالم ناقد، وأين ذاك‏.‏

وروى أيضاً بسنده أن الطرماح، قال‏:‏ أنشدت حماداً الراوية، في مسجد الكوفة، وكان أذكى الناس وأحفظهم، قولي‏:‏ الكامل‏؟‏بان الخليط بسحرة فتبددوا وهي ستون بيتاً، فسكت ساعة ولا أدري ما يريد، ثم أقبل علي، فقال‏:‏ هذه لك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ليس الأمر كذلك‏.‏ ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتاً زاد فيها في وقته، فقلت له‏:‏ ويحك، إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد‏.‏

فقال‏:‏ قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة، وإلا فعلي وعلي‏.‏ فقلت‏:‏ لله علي حجة أحجها حافياً راجلاً إن جالستك بعدها أبداً‏؟‏ فأخذ فبضة من حصى المسجد، ثم قال‏:‏ علي لله بكل حصاة مائة حجة إن كنت أبالي‏.‏ فقلت له‏:‏ أنت رجل ماجن، والكلام معك ضائع‏.‏ ثم انصرفت‏.‏

وروى بسنده أيضاً أنه كان بالكوفة ثلاثة نفر، يقال لهم الحمادون‏:‏ حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة جميعاً‏.‏

وقد هجاه أبو الغول الطهوي بقوله‏:‏ الكامل

نعم الفتى لو كان يعرف ربه *** وحين وقت صلاته حماد

ضمت مشافره الشمول فأنفه *** مثل القدوم يسنها الحداد

وابيض من شرب المدامة وجهه *** فبياضه يوم الحساب سواد

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة

الطويل

فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان

على أن من قد تأتي للبدل‏.‏ أي‏:‏ فليت لنا شربة بدل ماء زمزم‏.‏

وطيهان بفتح الطاء المهملة والهاء والمثناة التحتية‏:‏ جبل‏.‏ ورواه الصاغاني في العباب‏:‏ باتت على الهميان، وقال‏:‏ هكذا الرواية، والنحاة يروونه‏:‏ على طهيان‏.‏ والهميان‏:‏ قوائم من صخر شاخصة في بلاد غطفان‏.‏

وأنشده في مادة برد، قال‏:‏ وبردت الماء تبريداً، ولا يقال‏:‏ أبردته إلا في لغة رديئة‏.‏ ونسب البيت إلى الأحوال الكندي‏.‏ وهذا خلاف ما عليه الرواة فإنهم قالوا‏:‏ إن البيت آخر قصيدة ليعلى الأزدي، تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد الثلثمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والسبعون بعد السبعمائة

البسيط

لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل

على أنه لو صح قول المصنف في توجيه كلام العرب‏:‏ قد كان من مطر بأن أصله‏:‏ قد كان شيء من مطر، فحذف الفاعل الموصوف بالظرف، لجاز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جر، ويكون الفاعل محذوفاً، وقد أقيم الظرف مقامه، فلا يصح الاستدلال بالبيت على أن الكاف اسم مع أنها اسم وجوباً في البيت‏.‏

وقد رد ابن السراج في الأصول ما ذكره المصنف، قال‏:‏ في الكلام والأشعار، ما يوجب للكاف أنها اسم‏.‏

قال الأعمش‏:‏

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط ‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فالكاف هي الفاعلة‏.‏ فإن قال القائل‏:‏ إنما هي نعت لمحذوف، أراد شيء كالطعن، وهي حرف‏.‏ قيل له‏:‏ إنما يخلف الاسم، ويقوم مقامه ما كان اسماً مثله، نحو‏:‏ جاءني عاقل، ومررت بظريف‏.‏ وليس بالحسن إلا فيما يشكل من النعوت، ولو كان غير الاسم يخلفها لصلح أن تقول‏:‏ جاءني يقوم، وكلمت يضرب، تريد إنساناً ورجلاً ونحو ذلك‏.‏ وكذلك يلزمك أن تقول‏:‏ جاءني في الدار، تريد‏:‏ رجل في الدار‏.‏ انتهى‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام عليه في الكاف‏.‏

والبيت من قصيدة للأعشى ميمون، تقدم بعضها في الشاهد التاسع والثلاثني بعد الستمائة‏.‏

وقبله‏:‏ البسيط

إني لعمر الذي حطت مناسمه *** تخدي وسيق إليه الباقر الغيل

لئن قتلتم عميداً لم يكن صدد *** لنقتلن مثله منكم فنمتثل

وإن منيت بنا عن غب معركة *** لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل

لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل

حتى يظل عميد القوم مرتفق *** يدفع بالراح عنه نسوة عجل

أصابه هندواني فأقصده *** أوذابل من رماح الخط معتدل

قوله‏:‏ إني لعمر الذي إلخ ، اللام للتوكيد، وعَمر بالفتح مبتدأ خبره محذوف يقدر بعد تمام البيت، تقديره قسمي‏.‏ وعمر مضاف إلى الذي بتقدير موصوف، أي‏:‏ لعمر الله الذي‏.‏ ومعنى لعمر الله‏:‏ أحلف ببقاء الله ودوامه‏.‏

والبيت الذي بعده جواب القسم، والقسم وجوابه خبر إني‏.‏ وحطت، بالحاء المهملة، بمعنى اعتمدت‏.‏ ومناسمها فاعله، والمناسم‏:‏ جمع منسم كمجلس، وهو طرف خف الإبل‏.‏ والضمير المؤنث ضمير الإبل وإن لم يجر لها ذكر، لأن المناسم تدل عليها‏.‏

والعائد إلى الذي محذوف تقديره إليه، أي‏:‏ إلى بيته؛ ويدل عليه ما بعده‏.‏ وتخدي بالخاء المعجمة والدال المهملة، أي‏:‏ تسير سيراً شديداً، وفاعله ضمير المناسم فيه، والجملة حال من المناسم‏.‏ وإسناد الخدي إلى المناسم مجاز عقلي، وفي الحقيقة إنما هو للإبل‏.‏

وروى أبو عبيدة‏:‏ له بدل تخدي، فالعائد حينئذ مذكور‏.‏

وقوله‏:‏ وسيق عطف على حطت، أي‏:‏ وعمر الذي سيق إليه‏.‏ والباقر نائب فاعل سيق، وهو اسم جمع معناه جماعة البقر‏.‏

والغيل بضمتين‏:‏ جمع غيل، بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية، بمعنى الكثير‏.‏

يريد‏:‏ إني أقسم بالله الذي تسرع الإبل إلى بيته، ويساق إليه الهدي‏.‏

والخطيب التبريزي لم يأت في شرح هذا البيت بشيء، مع أنه اختلفت الرواة فيه، وخطأ العلماء بعضهم بعضاً فيه‏.‏

وقد روى أبو القاسم علي بن حمزة البصري في أول كتابه‏:‏ التنبيهات على أغلاط الرواة‏.‏ ما وقع للأئمة الأعلام من الردود، وتخطئة بعضهم بعضاً، فلا بأس بإيراده، قال‏:‏ ونقل إلينا من غير وجه أن أبا عمرو الشيباني، قال‏:‏ روى أبو عبيدة بيت الأعشى‏:‏ وسيق إليه الباقر العَثلُ، أي‏:‏ بعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحتين، فأرسلت إليه‏:‏ صحفت، إنما هو الغيل، أي‏:‏ الكثير، يقال‏:‏ ماء غيل، إذا كان كثيراً‏.‏

وروى عنه أيضاً أنه قال‏:‏ الغيل‏:‏ السمان، من قولهم‏:‏ ساعد غيلٌ‏.‏ وكان أبو عبيدة يروي هذا البيت‏.‏

إني لعمر الذي حطت مناسمه *** تخدي وسيق إليه الباقر العثل

وحكى ابن قتيبة أن أبا حاتم، قال‏:‏ سألت الأصمعي عنه، فقال‏:‏ لم أسمع بالعثل إلا في هذا البيت‏.‏ ولم يفسره‏.‏ قال‏:‏ وسألت أبا عبيدة عنه، فقال‏:‏ العثل‏:‏ الكثير‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ وخبرنا غيره أن الأصمعي كان يروي‏:‏

وجد عليها النافر العجل

يريد‏:‏ النفار من منى‏.‏ والنافر لفظه لفظ واحد، وهو معنى جمع‏.‏ وقد اختلف عنه في العجل فقال بعض‏:‏ العُجُل بضم العين، وقال بعض العِجِل، أي‏:‏ فتح فكسر، وجعله وصفاً لواحد‏.‏

قال‏:‏ ورواه أبو عبيدة‏:‏ حطت مناسمها بالحاء غير معجمة، وقال‏:‏ يعني حطاطها في السير، وهو الاعتماد‏.‏ ورواه الأصمعي‏:‏ خطت مناسمها بالخاء المعجمة، أي‏:‏ شقت التراب‏.‏

وأنشد للنابعة‏:‏ الكامل

فما خططت غباري

أي‏:‏ شققته‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ حطت خطأ‏.‏

فانظر إلى اختلافهم في هذا البيت‏.‏ ورد بعضهم على بعض، ومراسلة أبي عمرو أبا عبيدة فيه‏.‏

وقد أصاب أبو عمرو في الغيل، وصحف أبو عبيدة، لأن لتفسيري أبي عمرو وجهين صحيحين معروفين، وتفسير أبي عبيدة غير مسموع من غيره ولا معروف‏.‏

ولا تلتفتن إلى قول ابن دريد‏:‏ نعم عَثلٌ وعثِلٌ‏:‏ كثير ولا إلى قوله‏:‏ العَثَل‏:‏ الغلظ والفخامة، عَثِلَ يَعثَل عَثلاً‏.‏ وكل كثير عَثَل‏.‏ فكل هذا عن أبي عبيدة‏.‏

وأصاب أبو عبيدة في حطت، لأنه وجه صحيح، وأخطأ الأصمعي في قوله‏:‏ حطت بالمهملة خطأ‏.‏ ولأن تكون معتمدة في سيرها بمناسمها خير من أن تكون خاطة‏.‏ والحظ بالمهملة‏:‏ الاعتماد، يقال‏:‏ حَطَّ يحُطُّ حطَّاً، إذا اعتمد‏.‏ ولما لم يعرفه الأصمعي رده‏.‏

قال عمرو بن الأهتم‏:‏ الطويل

ذريني فإن الشيخ يا أم هيثم *** لصالح أخلاق الرجال سروق

ذريني وحطي في هواي فإنني *** على الحسب الزاكي الرفيع شفيق

ومن هذا أخذ‏:‏ حط الأديم، وهو صقله ودلكه، وذاك لأن صاقله يعتمد عليه‏.‏ يقال‏:‏ حطه يحطه حطاً، فهو أديم محطوط‏.‏ والخشبة التي يصقل عليها يقال لها‏:‏ المحط‏.‏

قال النمر بن تولب‏:‏ الطويل

كأن محطاً في يدي حارثية *** صناع علت مني به الجلد من عل

شبه برقان بدنه لماء الشباب وترارته، بالأديم المصقول‏.‏ انتهى ما أرده أبو القاسم‏.‏

وقال العسكري في كتاب التصحيف‏:‏ وقد رووا بيتاً من شعر الأعشى على عشرة أوجه، وهو‏:‏

إني لعمر الذي حطت مناسمه ‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وذكرت الأوجه ليعلم قدر عنايتهم بالعلم، وصرف اهتمامهم إليه‏.‏ رواه الأصمعي‏:‏ إني لعمر الذي خطت بالخاء المعجمة‏.‏ ورواية عسل عنه بالحاء غير المعجمة‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ خطت، يعني أنها تشق التراب‏.‏ قال‏:‏ ومثله قول النابغة‏:‏

أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني *** تحت العجاج فما خططت غباري

أي‏:‏ قصرت عنه أن تدركه‏.‏ قال‏:‏ ولا يكون حطت، لأن الحطاط الاعتماد في الزمام‏.‏ ورواها أبو عمرو‏:‏ حطت بالحاء، وقال‏:‏ هو أن يعتمد في أحد شقيه‏.‏ ورواه‏:‏ تخدي بالخاء المعجمة، وقال‏:‏ الباقر العيل بعين غير معجمة بعدها باء تحتها نقطتان‏.‏

وفي رواية الزيادي عن الأصمعي‏:‏ الباقر العثل بعين وثاء فوقها ثلاث نقط، وفسره، فقال‏:‏ العثل والعنج واحد، وهو الجماعة‏.‏

وفي رواية عسل‏:‏ حطت بالحاء غير المعجمة، وقال‏:‏ معناه أسرعت‏.‏ قال‏:‏ والعثل الكبير الثقيل‏:‏ يقال‏:‏ انكسرت يده ثم عثلت تثعل، أي‏:‏ ثقلت عليه‏.‏ هذه رواية الأصمعي‏.‏ ورواه أبو عبيدة‏:‏ حطت بالحاء وهو الاعتماد في أحد شقيها، إذا سارت‏.‏

وروى‏:‏ العثل، وقال‏:‏ هي القطيع والجماعات، يقال‏:‏ ذلك في الناس والإبل‏.‏ وكذلك العثج، ولم يعرف الغيل‏.‏

ورواه أبو عمرو الشيباني‏:‏ الغيل بغين معجمة وتحت الياء نقطتان، وفسره بالكثير، وقال‏:‏ يقال‏:‏ ماء غيل، إذا كان كثيراً‏.‏ والغيل أيضاً السمان‏.‏ يقال‏:‏ ساعد غيل، إذا كان ممتلئاً رياً‏.‏

قال‏:‏ وروى أبو عبيدة‏:‏ العثل بالثاء منقوطة بثلاث، فأرسلت إليه‏:‏ أن قد صحفت، إنما هو الغيل‏.‏

وروى بعضهم عن الأصمعي أنه قال‏:‏ الرواية‏:‏ وجد عليها النافر العجل بالجيم‏.‏ والنافر بالنون والفاء‏.‏ أي‏:‏ خطت مناسمها تخدي ذاهبة، ثم جدت عليها النفار من منى حيث نفروا‏.‏

وقال أبو الحباب‏:‏ قلت له‏:‏ إنما قال النافر، وهو واحد، ثم قال العجل‏؟‏ فقال‏:‏ كقولك‏:‏ يا أيها الرجل، وكلكم ذلك الرجل‏.‏ وكثيراً ما يجيء الواحد في معنى الجميع‏.‏

ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن أصحابه خطت بالخاء المعجمة، وقال‏:‏ يعني أنها تشق التراب‏.‏ قال‏:‏ وكذلك قول النابغة‏:‏

فما خططت غباري

يعني ما شققته، أي‏:‏ قصرت عنه، ولم تدركه‏.‏ وروى بعضهم حطت مناسمها تحدى، بحاء مهملة بدلاً من تخدي‏.‏

فانظر إلى هذا البيت، وكم تعب من الرواة والعلماء واحتملوه، لطلب الفائدة فيه‏.‏ انتهى كلام العسكري‏.‏

وقوله‏:‏ لئن قتلتم إلخ ، اللام هي الموطئة للقسم‏.‏ وقوله‏:‏ لنقتلن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم‏.‏

وقوله‏:‏ وإن منيت بنا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، يأتي إن شاء الله شرحه في الشاهد الثالث والثلاثين بعد التسعمائة، في حروف الشرط‏.‏ والخطاب ليزيد بن مسهر الشيباني، فإنه كان أغوى بني سيار في أن يقتلوا سيداً من رهط الأعشى، على ما تقدم سببه هناك‏.‏

والعميد‏:‏ السيد الذي يعمد، أي‏:‏ يقصد‏.‏ والصدد، بقتحتين‏:‏ المقارب‏.‏

وقوله‏:‏ فنمتثل، أي‏:‏ نقتل الأمثل‏.‏ وأماثل القوم‏:‏ خيارهم‏.‏ يقول‏:‏ والله إن قتلتم منا دون السيد لنقتل أمثلكم‏.‏

وقوله‏:‏ لا تنتهون إلخ ، أي‏:‏ لا تنزجرون‏.‏

وقوله‏:‏ ولن ينهى إلخ البيت‏:‏ جملة معترضة بين لا تنتهون، وبين متعلقه، وهو حتى يظل، البيت الآتي‏.‏ وزعم العيني أن الجملة حالية‏.‏ وعذره أنه لم ينشد البيت الذي بعده‏.‏

ويروى‏:‏ أتنتهون بالاستفهام الإنكاري، ولن ينهى بفتح الهاء، وذوي مفعول مقدم‏.‏ يقال‏:‏ ينهاه، أي‏:‏ يزجره ويمنعه‏.‏

والشطط بفتحتين‏:‏ الجور والظلم‏.‏ في المصباح‏:‏ شط فلان في حكمه شطوطاً وشططاً‏:‏ جار وظلم‏.‏ وشط في القول شططاً وشطوطاً‏:‏ أغلظ فيه‏.‏ وشط في السوم‏:‏ أفرط‏.‏ والجميع من بابي ضرب وقتل‏.‏

والكاف من قوله كالطعن اسم فاعل ينهى، والطعن مضاف إليه، وهو مصدر طعنه بالرمح طعناً، من باب قتل‏.‏

ويهلك بكسر اللام من باب ضرب‏.‏ وجملة‏:‏ يهلك إلخ ، صفة للطعن، لأن اللام فيه للجنس‏.‏ والفتل، بضمتين‏:‏ جمع فتيلة، أراد فتيلة الجراحة‏.‏

والمعنى‏:‏ لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف، أي‏:‏ نافذ إلى الجوف، يغيب فيه الزيت والفتل‏.‏ يريد أنه لا يمنع الجائرين من الجور إلا القتل‏.‏

وقوله‏:‏ حتى يظل إلخ ، حتى جارة بمعنى إلى متعلقة بقوله‏:‏ لا تنتهون‏.‏ ويظل بمعنى يستمر، منصوب بأن مضمرة بعد حتى‏.‏ وعميد القوم، أي‏:‏ سيد القوم منكم‏.‏

والمرتفق‏:‏ الطالب الرفق والإعانة‏.‏ والراح‏:‏ جمع راحة اليد‏.‏ والعجل، بضمتين جمع عجول، وهي الثكلى‏.‏

يقول‏:‏ حتى يظل سيد الحي، تدفع عنه النساء بأكفهن لئلا يقتل، لأن من يدفع عنه من الرجال قتل‏.‏

وقيل المعنى‏:‏ يدفعن لئلا يوطأ بعد القتل‏.‏ وهو المناسب لقوله‏:‏ أصابه هندواني، أي‏:‏ سيف منسوب إلى الهند‏.‏

وأقصده‏:‏ قتله مكانه‏.‏ وذابل، هو الرمح‏.‏ والخط بالفتح‏:‏ موضع باليمامة تنسب إليه الرماح، وهي لا تنبت بالخط، إنما هو ساحل للسفن التي تحمل القنا إليه، وتعمل به‏.‏

وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏