فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد التاسع والأربعون‏:‏

ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد الموثل أمثالي

على أنه ليس من التنازع‏.‏ وقد بينه الشارح المحقق، وأصله من إيضاح ابن الحاجب‏.‏

وقد تكلم عليه ابن هشام أيضاً في مغني اللبيب ، في لو وفي الأشياء التي تحتاج إلى رابط من الباب الرابع، بتحقيق لا مزيد عليه‏.‏

بقي أن ابن خلف قل في شرح أبيات الكتاب عن أبي عبد الله الحسن بن موسى الدينوري أنه قال‏:‏ والذي يقوى في نفسي وما سبقني إليه أحد أن قوله‏:‏ ولم أطلب، معناه ولم أسع، وهو غير متعد فلذلك لم يحفل به ولا أعمل الأول‏.‏ ولا أدري كيف خفي على الأفاضل من أصحابنا ذلك حتى جعلوا البيت شاهداً لجواز إعمال الأول‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا ليس بشيء؛ فإن الطلب معناه الفحص عن وجود الشيء، عيناً كان ذلك الشيء ومعنى‏.‏ والسعي‏:‏ السير السريع دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، وهذا غير معنى الطلب وقد يكون لازماً له، واستعماله في اللازم لا قرينة له، مع أن الأول متعد والثاني لازم، ولم أطلب مسند إلى ضمير المتكلم فكيف يرفع‏.‏ وما في أن ما مصدرية لا موصولة، لاحتياجها إلى العائد المقدر، أي‏:‏ أسعى له‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ المجد‏:‏ الشرف، وأصله الكثرة فكأن معناه كثرة الأفعال الجميلة التي توجب لصاحبها الشرف، وهو الارتفاع‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله في عمدة الحفاظ قال‏:‏ وأصل المجد من مجدت الإبل‏:‏ حصلت في مرعى كثير واسع، وقد أمجدها الراعي‏:‏ جعلها في ذلك‏.‏ وتقول العرب‏:‏ في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار ، ويروى بصيغة الماضي، والمرخ فاعله، بمعنى استكثر النار، وفي القاموس المجد نيل الشرف والكرم، ولا يكون إلا بالآباء وكرم الآباء خاصة ‏.‏ والموثل، قال ابن الأنباري في شرح المفضليات‏:‏ هو المجموع، ومنه قول امرئ القيس‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ الموثل‏:‏ المستمر المثبت؛ يقال قد تأثل فلان بأرض كذا وكذا، ثبت فيها‏.‏ وقال‏:‏ قال أبو عبيدة‏:‏ يقال‏:‏ مجد موثل‏:‏ قديم له أصل، والتأثل‏:‏ اتخاذ أصل مال‏.‏ والأثلة بسكون المثلثة‏:‏ الأصل‏.‏ قال الأعشى‏:‏

ألست منتهياً عن نحت أثلتنا

وهذان البيتان من قصيدة لامرئ القيس مطلعها‏:‏

ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي

وقد شرحنا في الشاهد الثالث من أولها إلى قوله‏:‏

نظرت إليها والنجوم كأنه *** مصابيح رهبان تشب لقفال

عشرين بيتاً وقد أخذ هذين البيتين وبسط معناهما خفاف بن غضين البرجمي، كما رأيته في مختار أشعار القبائل لأبي تمام، وفي المؤتلف والمختلف للآمدي‏:‏

ولو أن ما أسعى لنفسي وحده *** لزاد يسير وثياب على جلد

لأنت على نفسي وبلغت حاجتي *** من المال مال دون بعض الذي عندي

ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وكان أبي نال المكارم عن جدي

وخفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء الأولى‏.‏ وغضين بضم الغين وفتح الضاد المعجمتين‏.‏ وأنت بضم الهمزة فهي ماض، من الأون وهو الدعة والرفق والمشي الهين‏.‏ وبعد هذين البيتين وهو آخر القصيدة‏:‏

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي

أي‏:‏ ولا بمقصر، من ألا يألو بمعنى قصر‏.‏ وقبلهما بيتان، وحكايتهما بين سيف الدولة والمتنبي مشهورة، وهما‏:‏

كأني لم أركب جواداً للذة *** ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل *** لخيلي كري كرة بعد إجفال

أخذهما عبد يغوث الجاهلي وأودعهما في قصيدة قالها بعد أن أسر في يوم الكلاب الثاني، ولم يرد عليه ما ورد على امرئ القيس، وهما‏:‏

كأني لم أركب جواداً ولم أقل *** لخيلي كري نفسي عن رجاليا

ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل *** لأيسار صدق عظموا ضوء ناري

والأيسار‏:‏ جمع ياسر، وهو الجازر، والذي يلي قسمة جزور الميسر‏.‏

ونسب امرئ القيس على ما في المؤتلف والمختلف‏:‏ امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع ابن معاوية بن ثور الأكبر - وهو كندة - بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة ابن أدد، الشاعر المقدم‏.‏

ونسبه لابن الأنباري في شرح المعلقات‏:‏ امرؤ القيس بن حجر بن الحارث ابن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندة بن ثور بن مرتع بن عفير بن الحارث بن مرة بن عدي بن أدد بن عمرو بن هميسع بن عريب بن عمرو بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ ابن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏ ومرتع بسكون الراء وكسر التاء، ذكره ابن ماكولا وابن الكلبي وقال‏:‏ سمي بذلك لأنه كان يقال له أرتعنا فيقول‏:‏ أرتعتكم الأرض كذا‏.‏ والتشديد ذكره أيضاً لغة، انتهى‏.‏ وقال الصاغاني في التكملة‏:‏ إن مرتعاً اسمه عمرو، وذكر بقية نسبه، وهو أددبن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ ويكنى امرؤ القيس أبا زيد، وأبا مهب، وأبا الحارث‏.‏ وذكر بعض اللغويين أن اسمه حندج؛ وامرؤ القيس لقب له لقب به لجماله، وذلك أن الناس قيسوا إليه في زمانه فكان أفضلهم‏.‏ والحندج بضم الحاء المهملة والدال وسكون النون وآخره جيم، وهو في اللغة‏:‏ الرملة الطيبة، وقيل‏:‏ كثيب من الرمل أصغر من النقا‏.‏ ويقال لمرئ القيس ذو القروح أيضاً لقوله‏:‏

وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة

ويقال له الملك الضليل ‏.‏ وحجر في الموضعين بضم الحاء المهملة سكون الجيم، والمرار بضم الميم وتخفيف الراءين المهملتين‏:‏ شجر من أفضل العشب وأضخمه، إذا أكلته الإبل قلصت مشافرها فبدت أسنانها، ولذلك قيل لجد امرئ القيس آكل المرار، لكشر كان به‏.‏

وهذه أحواله على وجه الإجمال‏.‏ قال ابن قتيبة في ترجمته‏:‏ ولما ملك حجر على بني أسد كان يأخذ نهم شيئاً معلوماً؛ فامتنعوا منه، فسار إليهم فأخذ سراوتهم فقتلهم بالعصي - فسموا عبيد العصا - وأسر منهم طائفة فيهم عبيد بن الأبرص، فقام بين يدي الملك وأنشده أبياتاً يرققه بها، منه‏:‏ مجزوء الكامل

أنت المليك عليهم *** وهم العبيد إلى القيامه

فرحمهم الملك وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم؛ حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من تهامة تكهن كاهنهم عوف بن ربيعة الأسدي فقال‏:‏ يا عبادي؛ قالوا‏:‏ لبيك ربنا؛ فسجع لهم على قتل حجر وحرضهم عليه؛ فركبت بنو أسد كل صعب وذلول، فما أشرق لهم الضحى حتى انتهوا إلى حجر فوجدوه نائماً فذبحوه، وشدوا على هجائنه فاستاقوها‏.‏ وكان امرؤ القيس طرده أبوه لما صنع في الشعر بفاطمة ما صنع، وكان لها عاشقاً، فطلبها زماناً فلم يصل إليها، وكان يطلب منها موعداً؛ حتى كان منها يوم الغدير بداره جلجل ما كان ، فقال‏:‏

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

فلما بلغ ذلك حجراً دعا مولى له يقال له ربيعة فقال له‏:‏ اقتل امرأ القيس وائتني بعينيه، فذبح جؤذراً فأتاه بعينيه؛ فندم حجر على ذلك؛ فقال‏:‏ أبيت اللعن، إني لم أقتله‏.‏ قال‏:‏ فائتني به‏:‏ فانطلق، فإذا هو قد قال شعراً في رأس جبل، وهو قوله‏:‏

فلا تسلميني يا ربيع لهذه *** وكنت أراني قبلها بك واثق

فرده إلى أبيه فنهاه عن قول الشعر؛ ثم إنه قال‏:‏ الطويل

ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي

فبلغ ذلك أباه فطرده‏.‏ كذا قال ابن قتيبة‏.‏

وفيه أن امرأ القيس قال هذه القصيدة في طريق الشام عند مسيره إلى قيصر بعد قتل أبيه؛ ولعله شعر آخر‏.‏

ثم قال ابن قتيبة‏:‏ فبلغه مقتل أبيه وهو بدمون، فقال‏:‏ الرجز

تطاول الليل علينا دمون *** دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

ثم قال‏:‏ ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً؛ لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر ‏.‏ ثم آلى‏:‏ لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتى يثأر بأبيه‏.‏ فلما كان الليل لاح له برق، فقال‏:‏ المتقارب

أرقت لبرق بليل أهل *** يضيء سناه بأعلى جبل

بقتل بني أسد ربهم *** ألا كل شيء سواه جلل

ثم استجاش بكر بن وائل فسار إليهم وقد لجئوا إلى كنانة فأوقع بهم، ونجت بنو كاهل من بني أسد، فقال‏:‏ الرجز

يا لهف نفسي إذا خطئن كاهل *** القاتلين الملك الحلاحلا

تالله لا يذهب شيخي باطلا

وقد ذكر امرؤ القيس في شعره أنه ظفر بهم فيأبى عليه ذلك الشعراء‏.‏ قال عبيد‏:‏ مجزوء الكامل

يا ذا المخوفنا بقت *** ل أبيه إذلالاً وحينا

أزعمتأنك قد قتل *** ت سراتنا كذباً ومينا

ولم يزل يسير في العرب يطلب النصر حتى خرج إلى قيصر يستمده ‏.‏‏.‏ ونظرت إليه ابنة قيصر فعشقته فكان يأتيها وتأتيه؛ وفطن الطماح بن قيس الأسدي لهما - وكان حجر قتل أباه - فوشى به إلى الملك‏.‏ فخرج امرؤ القيس متسرعاً، فبعث قيصر في طلبه رسولاً، فأدركه دون أنقرة بيوم، ومعه حلة مسمومة، فلبسها في يوم صائف فتناثر لحمه، وتفطر جسده ومات هناك ‏.‏ وكان يحمله جابر بن حني التغلبي، فلذلك قوله‏:‏

فإما تريني في رحالة جابر *** على حرج كالقر تخفق أكفاني

فيا رب مكروب كررت وراءه *** وعان فككت الغل منه فقداني

إذا المرء لم يحزن عليه لسانه *** فليس على شيء سواه بخزان

وقال حين حضرته الوفاة‏:‏ منهوك الكامل

وطعنة مسحنفره *** وجفنة مثعنجره

تبقى غداً بأنقره

قال ابن الكلبي‏:‏ هذا آخر شيء تكلم به ثم مات‏.‏ وجابر بن حني بضم المهملة وفتح النون والياء المشددة‏.‏ والرحالة بالكسر‏:‏ قيل السرج، وقيل السرج من جلود لا خشب فيه يتخذ للركض الشديد‏.‏ والحرج الضيق‏.‏ والقر بفتح القاف‏:‏ مركب للرجال كالهودج‏.‏ والمسحنفر‏:‏ الواسع‏.‏ والمثعنجر‏:‏ السائل المنسكب‏.‏

ثم قال ابن قتيبة‏:‏ قال أبو عبد الله الجمحي‏:‏ كان امرؤ القيس ممن يتعهر في شعره، وذلك قوله‏:‏

ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع

وقال‏:‏ سموت إليها بعد ما نام أهلها وقد سبق امرؤ القيس العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب واتبعته فيها الشعراء‏:‏ من استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار ، ودقة التشبيه، وقرب المأخذ‏.‏

ويستجاد من تشبيهه قوله‏:‏

كأن عيون الوحش حول خبائن *** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

ومما عيب عليه قوله‏:‏

إذا ما الثريا في السماء تعرضت *** تعرض أثناء الوشاح المفصل

قالوا‏:‏ الثريا لا تعرض لها؛ وإنما أراه أراد الجوزاء فذكر الثريا على الغلط، كما قال الآخر‏:‏ كأحمر عاد وإنما هو كأحمر ثمود وهو عاقر النافة‏.‏

وأقبل قوم من اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فضلوا الطريق ومكثوا ثلاثاً لا يقدرون على الماء، إذ أقبل راكب على بعير، وأنشد بعض القوم‏:‏

ولما رأت أن الشريعة همه *** وأن البياض من فرائصها دامي

تيممت العين التي عند ضارج *** يفيء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب‏:‏ من يقول هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ امرؤ القيس؛ فقال‏:‏ والله ما كذب، هذا ضارج عنكم - وأشار إليه - فمشوا على الركب فإذا ماء غدق، وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه، فشربوا وحملوا، ولولا ذلك لهلكوا ‏.‏ انتهى كلام ابن قتيبة‏.‏

تتمة

ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف عشرة من الشعراء ممن اسمهم امرؤ القيس واحد منهم صحابي، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي‏.‏ وزاد صاحب القاموس على ما قال الآمدي اثنين وهما صحابيان‏:‏ أحدهما‏:‏ امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وامرؤ القيس بن الفاخر بن الطماح‏.‏

مفعول ما لم يسم فاعله

أنشد فيه، وهو

الشاهد الخمسون

نبئت عمراً غير شاكر نعمتي

على أن أعلم وأخواتها، مما يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، إذا بنيت للمفعول لا ينوب عن الفاعل إلا المفعول الأول كما في هذا البيت، فإن ضمير المتكلم كان في الأصل مفعولاً أولاً، والتقدير نبأني فلان، فلما بني فعله للمفعول ناب عن الفاعل‏.‏ وقد بينه الشارح المحقق‏.‏ وعمراً هو المفعول الثاني، وغير المفعول الثالث، وأصلهما المبتدأ والخبر‏.‏

وهذا المصراع صدر، وعجزه‏:‏

والكفر مخبثة لنفس المنعم

وهذا البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي‏.‏ والكفر هنا‏:‏ الجحد، يقال‏:‏ كفر النعمة بالنعمة، إذا جحدها‏.‏ ومخبثة بفتح الميم، من الخبث، يقال‏:‏ خبث الشيء خبثاً من باب قرب‏:‏ خلاف طاب، والاسم الخباثة؛ ومفعله صيغة سبب الفعل والحامل عليه والداعي إليه، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الولد مجبنة مبخلة أي‏:‏ سبب يجعل والده جباناً‏:‏ لم يشهد الحروب ليربيه، ويجعله بخيلاً‏:‏ يجمع المال ويتركه لولده من بعده‏.‏ ومثله كثير في العربية‏.‏

ولم يتكلم علماء التصريف على هذه الصيغة، قال الخطيب التبريزي في شرح المعلقة‏:‏ يقال‏:‏ طعام مطيبة للنفس ومخبثة لها، وشراب مبولة انتهى‏.‏ يقول‏:‏ من أنعمت عليه نعمة فلم ينشرها ولم يشكرها فإن ذلك سبب لتغير نفس المنعم من الإنعام على كل أحد‏.‏ وليس المعنى‏:‏ يتغير نفس المنعم على ذلك الجاحد، كما قال شراح المعلقة، فإنه تقصير‏.‏

وهذا المصراع من باب إرسال المثل‏.‏ ولما كان هذا البيت تاما في نفسه لم نضف إليه شيئاً من هذه القصيدة‏.‏

وترجمة عنترة قد تقدمت مع أبيات من هذه المعلقة في الشاهد الثاني عشر‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الحادي والخمسون

ولو ولدت قفيرة جرو كلب *** لسب بذلك الجرو الكلاب

على أن الكوفيين وبعض المتأخرين أجازوا نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح‏.‏

قال ابن جني في الخصائص‏:‏ هذا من أقبح الضرورة، ومثله لا يعتد به أصلاً، بل لا يثبت إلا محتقراً شاذاً ‏.‏ وبعض المتأخرين هو علي بن سليمان الأخفش تلميذ المبرد‏.‏ وقفيرة بتقديم القاف على الفاء وبالراء المهملة مصغراً‏.‏ اسم أم الفرزدق‏.‏ وروي فكيهة أيضاً على وزنه، وهو تحريف‏.‏ والجرو مثلث الجيم‏:‏ ولد السباع، ومنها الكلب‏.‏

ذم الشاعر قفيرة بأنها لو ولدت جرواً لسبت جميع الكلاب بسبب ذلك الجرو، لسوء خلقه وخلقه‏.‏ وقال القالي في شرح اللباب‏:‏ وقيل‏:‏ الكلاب ليست مفعوله، بل مفعول ولدت‏.‏ وجرو نصب على النداء، وعلى الذم‏.‏ وقيل الكلاب نصب على الذم، وجمع لأن قفيرة وجروا وكلبا ثلاثة ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا التخريج نقله ابن الحاجب في أماليه عن أبي جعفر النحاس في كتابه الكافي في النحو عن أبي إسحاق الزجاج وقال‏:‏ معنى قوله لسب‏:‏ لحصل السب بسبب ذلك الجرو ‏.‏ وهذا مستقيم‏.‏

وهذا البيت من قصيدة لجرير يهجو بها الفرزدق، مطلعه‏:‏ الوافر

أقلي اللوم عاذل والعتاب *** وقولي إن أصبت لقد أصابا

وتقدم شرحه مع ترجمة جرير في الشاهد الرابع‏.‏

وقبل البيت الشاهد‏:‏

وهل أم تكون أشد رعي *** وصراً من قفيرة واحتلابا

وقد نقض هذه القصيدة عليه الفرزدق بقصيدة، وكلتاهما مسطورة في النقائض ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني والخمسون‏:‏ أمرتك الخير

وهو قطعة من بيت وهو‏:‏ البسيط

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نشب

على أن الجزولي منع نيابة المنصوب بسقوط الجار، مع وجود المفعول به المنصوب من غير حذف الجار، وأصله أمرتك بالخير ؛ لأن أمر يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، وهو الكاف هنا، وبحرف الجر إلى آخر، ف الخير منصوب بنزع الباء بدليل ما أمرت به ‏.‏

قال الأعلم‏:‏ سوغ الحذف والنصب‏:‏ أن الخير اسم فعل يحسن أن وما عملت فيه في موضعه، وأن يحذف معها حرف الجر كثيراً، تقول أمرتك أن تفعل، تريد‏:‏ بأن تفعل، فإذا وقع موقع أن اسم فعل شبه به فحسن الحذف‏.‏ فإن قلت أمرتك بزيد لم يجز أن تقول‏:‏ أمرتك زيدا ‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ابن هشام اللخمي هذا الكلام في شرح أبيات الجمل ، إلا أنه قال‏:‏ الخير مصدر ‏.‏ وهذا ليس بجيد‏.‏ قال المرزوقي في شرح الفصيح ، عند قول الشاعر‏:‏

ومن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

يجوز أن يكون جعل الخير كناية عن كل ما يحمد من إصابة الحق وتعاطي العدل واتباع الرشد، ويكون ومن يغو على الضد منه، ويجوز أن يكون الخير كناية عن الغنى خاصة، والغي كناية عن الفقر‏.‏ وقد علم أن الغنى محمود والفقر مذموم، والعرب تسمي كل مرتضى عندهم خيراً وحقاً، وصواباً وحسناً، وكل مذموم عندهم شراً وخطأ، وسيئة وجهلاً وغياً ‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أورد القاضي هذا البيت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ على أنه بتقدير تؤمرون به كما في البيت‏.‏ ولا يخفى ركاكة قول شارح شواهده الموصلي‏:‏ إن الأمر لا يستعمل إلا بالباء، وقد شاع حذفه في هذا الفعل، وكثر استعمال أمرته كذا، حتى لحقت بالأفعال المتعدية إلى مفعولين ‏.‏ هذا كلامه‏.‏

روى أبو علي الهجري في نوادره‏:‏ أمرتك الرشد بدل الخير، وهو الصلاح وإصابة الصواب، وفعله من بابي تعب وقتل‏.‏ وأمرت بالبناء للمفعول، وضمير به لما الموصولة والموصوفة‏.‏ والفاء الأولى جواب شرط مقدر، أي‏:‏ إن تمتثل فافعل‏.‏ وقال اللخمي‏:‏ جواب لما في الجملة من معنى الأمر، والفاء الثانية جواب الأمر‏.‏ وقال أيض‏:‏ ذا‏:‏ حال من الكاف في تركتك، والعامل فيه ترك، وهو بمعنى صاحب، وهو عند ابن درستويه مفعول ثان لتركت لأنها تتعدى إلى مفعولين والثاني هو الأول‏.‏ وهذا وهم لأن تركت في معنى خليت ، وخليت لا يجيء معها إلا الحال، فكذلك لا يجيء مع تركت إلا الحال ‏.‏ انتهى‏.‏

والصواب أن ترك بتضمن معنى جعل فيتعدى تعديته، وهذا مستفيض لا يخفى على مثله‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ وتركتك‏:‏ إن كان بمعنى صيرتك كان ذا مال مفعولاً ثانياً، كما تقول‏:‏ تركت زيداً فقيه البلد‏:‏ إذا كنت أنت الذي فقهته وعلمته، ومنه قوله سبحانه‏:‏ تركناها آية أي‏:‏ جعلناها وصيرناها‏.‏ وإن كان بمعنى خلفتك كان ذا مال حالا، كما تقول‏:‏ تركت زيداً وهو فقيه البلد ‏.‏ انتهى‏.‏ وقد للتحقيق، وقال اللخمي‏:‏ يجوز أن تكون للتوقع أيضاً‏.‏ والمال قال اللخمي‏:‏ في شرح فصيح ثعلب‏:‏ هو عند العرب الإبل والبقر والغنم، ولا يقال للذهب والفضة مال، وإنما يقال لهما‏:‏ ناض، وأقله ما تجب فيه الزكاة، وما نقص عن ذلك فليس بمال‏.‏ وحكى أبو عمر صاحب الياقوتة‏:‏ المال‏:‏ الصامت والناطق، فالصامت‏:‏ الدنانير والدراهم والجواهر، والناطق‏:‏ البعير والبقرة والشاة، قال‏:‏ ومنه قولهم‏:‏ ماله صامت ولا ناطق‏.‏ ومنهم من أوقع المال على جميع ما يملكه الإنسان وهو الصحيح‏.‏ انتهى‏.‏

ويشهد للقول الأخير قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تؤتوا السفهاء أموالكم‏}‏ وهذا لا يخص شيئاً دون شيء‏.‏ والنشب بالشين المعجمة، قيل‏:‏ بمعنى جميع ما يملك بمعنى المال، وقيل‏:‏ المال الأصيل الثابت بمعنى العقار كالدور والضياع، مأخوذ من نشب الشيء‏:‏ إذا ثبت في موضع لزومه‏.‏ فعلى الأول يكون من عطف المترادفين للتوكيد، وعلى الثاني يكون من عطف الخاص على العام‏.‏ وإن فسر المال بغير القول الأخير كان من عطف المتقابلين‏.‏ وقال الأعلم‏:‏ قد قيل‏:‏ إن النشب هنا جميع المال، فيكون عطفه على الأول مبالغة وتوكيداً، وسوغ ذلك اختلاف اللفظين ‏.‏ وهذا كلامه فتأمله‏!‏ وهذه رواية سيبويه في كتابه ولم يختلفوا فيه ‏.‏

ورواه الهجري في نوادره‏:‏ ذا نسب بالسين المهملة‏.‏ قال اللخمي وأبو الوليد الوقشي فيما كتبه على كامل المبرد‏:‏ هذا هو الصحيح، لأنه لا معنى لإعادة ذكر المال، وإنما يقول‏:‏ تركتك غنياً حسيباً‏.‏ يخاطب ابنه‏.‏ وقد نسب السيوطي في شرح أبيات المغني هذا الكلام لابن السيد البطليوسي فيما كتبه على الكامل‏.‏ وهذا لا أصل له، فإنه لم يكتب عليه هنا شيئاً، وإنما كتب ما يقارب هذا في أبيات الجمل‏.‏

وقد ورد هذا البيت في شعرين‏:‏ أحدهما في شعر أعشى طرود، والثاني في شعر اختلف في قائله‏.‏ أما الأول فقد نقله الآمدي في المؤتلف والمختلف وأبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب ، وهو‏:‏ البسيط

يا دار أسماء بين السفح فالرحب *** أقوت وعفا عليها ذاهب العقب

فما تبين منها غير منتضد *** وراسيات ثلاث حول منتصب

وعرصة الدار تستن الرياح به *** تحن فيها حنين الوله السلب

دار لأسماء، إذ قلبي بها كلف *** وإذ أقرب منها غير مقترب

إن الحبيب الذي أمسيت أهجره *** من غير مقلية مني ولا غضب

أصد عنه ارتقاباً أن ألم به *** ومن يخف قالة الواشين يرتقب

إني حويت على الأقوام مكرمة *** قدماً، وحذروني ما يتقون أبي

وقال لي، قول ذي علم وتجربة *** بسالفات أمور الدهر والحقب

أمرتك الرشد فافعل ما أمرت به ***‏.‏‏.‏ البيت انتهى‏.‏

وقال اللخمي‏:‏ من قال إن البيت لأعشى طرود قال بعده‏:‏

لا تبخلن بمال عن مذاهبه *** في غير زلة إسراف ولا تغب

فإن وراثه لن يحمدوك به *** إذا أجنوك بين اللبن والخشب

وقد لأورد الهجري أيضاً في نوادره هذين البيتين بعد البيت الشاهد، وأما الثاني فهو هذ‏:‏ البسيط

فقال لي، قول ذي رأي ومقدرة *** مجرب عاقل نزه عن الريب‏:‏

قد نلت مجداً، فحاذر أن تدنسه‏:‏ *** أب كريم وجد غير مؤتشب

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به *** فقد تركتك ذا مال وذا نشب

واترك خلائق قوم لا خلاق لهم *** واعمد لأخلاق أهل الفضل والأدب

وإن دعيت لغدر وأمرت به *** فاهرب بنفسك عند آبد الهرب

وهذا الشعر قد نسب إلى عمرو بن معد يكرب، وللعباس بن مرداس، ولزرعة ابن السائب، ولخفاف بن ندبة‏.‏

قال اللخمي‏:‏ من نسب البيت لأحد الثلاثة الأول قال قبله‏:‏

فقال لي قول رأي ومقدرة‏.‏‏.‏ البيت

ونسب قوله‏:‏

فاترك خلائق قوم لا خلاق لهم

وقوله‏:‏

قد نلت مجداً فحاذر أن تدنسه

البيتين، إلى أعشى طرود لا غير، وقال‏:‏ بعد هذا البيت الشاهد‏.‏ وقد نسب البيت، في كتاب سيبويه، لعمرو بن معد يكرب‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأعشى طرود قال الآمدي في المؤتلف والمختلف‏:‏ لم يذكر اسمه ولا عرف نسبه إلى القبيل‏.‏ وبنو طرود، من فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان، وهم حلفاء بن سليم ثم في بني خفاف ‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل الصاغاني في العباب هذا الكلام ولم يزد عليه‏.‏

وقال أبو الوليد الوقشي نقلاً عن نوادر الهجري، واللخمي نقلاً عن أبي مروان عبد الملك بن سراج‏:‏ إن أعشى طرود اسمه إياس بن موسى، بكسر الهمزة بعدها مثناة تحتية؛ ولم يزيدا على هذا‏.‏

قال المرزباني‏:‏ حضر هوذة بن الحارث، المعروف بابن حملة، في أيام عمر، العطاء فدعا قبله إياس بن موسى هذا، فقال هوذة‏:‏

لقد دار هذا الأمر في غير أهله *** فأبصر، أمين الله، كيف تذود

أيدعى جشيم والسويد أمامن *** ويدعى إياس قبلنا وطرود‏!‏

فإن كان هذا في كتاب فهم إذ *** ملوك سوى حرب ونحن عبيد

انتهى‏.‏ وفهم من هذا أن أعشى طرود إسلامي، لكن لو يعلم ما هو‏:‏ صحابي أم تابعي‏؟‏ والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ يا دار أسماء بين السفح إلخ ، قال ياقوت في معجم البلدان السفح لفظ سفح الجبل، وهو أسفله حيث يسفح فيه الماء‏.‏ وهو موضع كانت به وقعة بين بكر بن وائل وتميم ‏.‏ ولم يذكر أبو عبيد هذه الكلمة في المعجم‏.‏ والرحب بضم الراء وفتح الحاء المهملتين‏:‏ موضع، ولم يذكرها أبو عبيد ولا ياقوت‏.‏ وأقوت‏:‏ خلت من الأنيس، كأنه ذهب قوتها‏.‏ وعفى عليها، بالتشديد كعفاها‏:‏ أي‏:‏ طمسها ومحا علاماتها‏.‏ والحقب بضمتين‏:‏ الدهر، وبكسر ففتح‏:‏ جمع حقبة، وهي السنة؛ أي‏:‏ طمسها الدهر الذاهب، والسنون الماضية‏.‏ وتبين‏:‏ ظهر‏.‏ والمنتضد‏:‏ الحجارة المصفوفة بعضها فوق بعض‏.‏ وأراد بقوله‏:‏ راسيات ثلاث‏:‏ حجارة القدر الثلاثة؛ وهو معطوف على منتضد، وكذلك عرصة‏.‏ واستنت الرياح‏:‏ هبت عليها من هنا ومن هنا‏.‏ والوله‏:‏ المرأة التي فقدت ولدها‏.‏ والسلب بضمتين‏:‏ اللابسة الثياب السود‏.‏ وتحن‏:‏ من الحنين بمعنى الأنين‏.‏

وقوله‏:‏ وإذ أقرب منها‏.‏‏.‏ إلخ ‏.‏ أي‏:‏ أمني نفسي منها ما لا يكون‏.‏ والمقلية بتخفيف الياء‏:‏ مصدر بمعنى القلى، وهو البغض والكراهية‏.‏ والارتقاب‏:‏ الانتظار‏.‏ وأن ألم‏:‏ أي‏:‏ لأن أنزل وأحل به‏.‏ والتغب‏:‏ بمثناة فوقية فغين معجمة، قال اللخمي‏:‏ هو جمع تغبة وهي السقطة، وما يعاب به ابنه‏.‏ والتغب أيضاً‏:‏ الهلاك؛ وقال في الصحاح‏:‏ تغب بالكسر تغباً‏:‏ هلك ‏.‏ ونزه بفتح وسكون الزاي‏:‏ البعيد؛ سكن الزاي، وهي مكسورة للضرورة‏.‏ والمؤتشب‏:‏ المختلط يقال‏:‏ أشبت القوم، إذا خلطت بعضهم ببعض‏.‏

المبتدأ والخبر

أنشد فيه، وهو

الشاهد الثالث والخمسون

غير مأسوف على زمن *** ينقضي بالهم والحزن

أورده مثالاُ لإجراء غير قائم الزيدان، مجرى ما قائم الزيدان، لكونه بمعناه‏.‏

وتخريج البيت على هذا أحد أقوال ثلاثة هو أحسنها؛ وإليه ذهب ملك النحاة الحسن بن أبي نزار، وابن الشجري أيضاً في أماليه‏.‏ ومأسوف اسم مفعول من الأسف وهو أشد الحزن، وباب فعله فرح‏.‏ وعلى زمن متعلق به على أنه نائب الفاعل‏.‏ وجملة ينقضي صفة لزمن‏.‏ وبالهم حال من ضميره، أي‏:‏ مشوباً بالهم‏.‏

فلما كانت غير للمخالفة في الوصف وجرت لذلك مجرى حرف النفي، وأضيفت إلى اسم المفعول المسند إلى الجار والمجرور - والمتضايفان بمنزلة الاسم الواحد - سد ذلك مسد الجملة؛ كأنه قيل‏:‏ ما يؤسف على زمن هذه صفته‏.‏

قال أبو حيان في تذكرته‏:‏ ولم أر لهذا البيت نظيراً في الإعراب إلا بيتاً في قصيدة المتنبي يمدح بها بدر بن عمار الطبرستاني يقول فيه‏:‏ الرمل

ليس بالمنكر أن برزت سبق *** غير مدفوع عن السبق العراب

ف العراب مرفوع بمدفوع، ومن جعله مبتدأ فقد أخطأ لأنه يصير التقدير‏:‏ العراب غير مدفوع عن السبق؛ والعراب جم فلا أقل من أن يقول غير مدفوعة، لأن خبر المبتدأ لا يتغير تذكيره وتأنيثه بتقديمه وتأخيره‏.‏

والقول الثاني لابن جني، وتبعه ابن الحاجب، وهو‏:‏ أن غير خبر مقدم، والأصل‏:‏ زمن ينقضي بالهم والحزن غير مأسوف عليه، ثم قدمت عليه وما بعدها، ثم حذف زمن دون صفته فعاد الضمير المجرور بعلى على غير مذكور، فأتى بالاسم الظاهر مكانه وحذف الموصوف، بدون شرطه المعروف، ضرورة‏.‏ والثالث وهو لابن الخشاب‏:‏ أن غير خبر لأنا محذوفاً، ومأسوف‏:‏ مصدر كالمعسور والميسور أريد به اسم الفاعل؛ والتقدير‏:‏ أنا غير آسف على زمن هذه صفته‏.‏

وهذا البيت لأبي نواس، وهو ليس ممن يستشهد بكلامه، وإنما أورده الشارح مثالاً للمسألة، ولهذا لم يقل كقوله‏.‏ وبعده بيت ثان وهو‏:‏

إنما يرجو الحياة فتى *** عاش في أمن من المحن

وأبو نواس هو أبو علي الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح الحكمي، بفتح الحاء والكاف، نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة، وهي قبيلة كبيرة منها الجراح ابن عبد الله الحكمي أمير خراسان، وكان جد أبي نواس من مواليه‏.‏ وإنما قيل له‏:‏ أبو نواس، لذؤابتين كانتا له تنوسان على عاتقه‏.‏

والذؤابة بهمزة بعد الذال المضمومة‏:‏ الضفيرة من الشعر إذا كانت غير ملوية، فإن كانت ملوية فهي عقيصة؛ والذؤابة أيضاً‏:‏ طرف العمامة‏.‏ وناس ينوس، إذا تدلى وتحرك‏.‏ والعاتق‏:‏ ما بين المنكب والعنق، وهو موضع الرداء‏.‏

وقيل‏:‏ إن خلفا الأحمر كان له ولاء في اليمن، وكان أميل الناس إلى أبي نواس فقال له يوماً‏:‏ أنت من اليمن فتكن باسم ملك من ملوكهم الأذواء‏!‏ فاختار ذا نواس فكناه أبا نواس، بحذف صدره، وغلبت عليه‏.‏

ومولده بالبصرة سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل ست وثلاثين ومائة‏.‏ ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة، وقيل سنة ست وقيل سنة ثمان‏.‏

ونشأ بالبصرة ثم خرج إلى الكوفة‏.‏ وقيل بل ولد بالأهواز‏.‏ وقيل بكورة من كور خوزستان سنة إحدى وأربعين ومائة‏.‏ ونقل منها وعمره سنتان إلى البصرة‏.‏

وأمه أهوازية اسمها جلبان‏.‏ وكان أبوه من أله دمشق من جند مروان الحمار، انتقل إلى الأهواز للرباط فتزوجها‏.‏

وقدم أبو النواس بغداد مع والبة بن الحباب الشاعر، وبه تخرج‏.‏ وعرض القرآن على يعقوب الحضرمي‏.‏ وأخذ اللغة عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة، ومدح الخلفاء والوزراء‏.‏ وكان في الشعر من الطبقة الأولى من المولدين‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين، وشعره عشرة أنواع، وهو مجيد في الكل؛ وما زال العلماء والأشراف يروون شعره ويتفكهون به، ويفضلونه على أشعار القدماء‏.‏

وقال أبو عمر الشيباني‏:‏ لولا أن أبا نواس أفسد بهذه الأقذار - يعني الخمور - لاحتججنا به؛ لأنه كان محكم القول لا يخطئ‏.‏

وديوان شعره مختلف لاختلاف جامعيه، فإنه اعتنى بجمعه جماعة‏:‏ منهم أبو بكر الصولي، وهو صغير‏.‏ ومنهم علي بن حمزة الأصبهاني، وهو كبير جداً‏.‏ وكلاهما عندي، ولله الحمد على نعمه‏.‏ ومنهم إبراهيم بن أحمد الطبري المعروف بتوزون ولم أره إلى الآن‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والخمسون

على مثلها من أربع وملاعب *** تذال مصونات الدموع السواكب

على أنه لما أنشد المصراع الأول عارضه شخص فقال‏:‏ لعنة الله والملائكة والناس أجمعون‏.‏ فانخزل منه وترك الإنشاد، لأن تقديم الخبر في مثله يوهم الدعاء باللعنة‏.‏ وسمى ابن أبي الإصبع هذا النوع في تحرير التحبير التوليد وقال‏:‏ التوليد على ضربين‏:‏ من الألفاظ، ومن المعاني‏:‏ فالذي من الألفاظ هو أن يزوج المتكلم كلمة من لفظه إلى كلمة من غيره فيتولد بينهما كلام يناقض غرض صاحب الكلمة الأجنبية، وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة، ومثاله ما حكي أن مصعب بن الزبير وسم خيله بلفظة عدة فلما قتل وصارت إلى العراق رآها الحجاج فوسم بعد لفظة عدة لفظة الفرار فتولد بين اللفظتين غير ما أراده مصعب‏.‏ ومن توليد الألفاظ توليد المعنى من تزويج الجمل المفيدة، ومن لطيف التوليد قول بعض العجم‏:‏ الوافر

كأن عذاره في الخد لام *** ومبسمه الشهي الطعم صاد

وطرة شعره ليل بهيم *** فلا عجب إذا سرق الرقاد

فإن هذا الشاعر ولد من تشبيهه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص ، وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم ، فجعل في هذا البيت توليداً وإدماجاً‏.‏ وهذا من أغرب ما سمعت‏.‏

ومثاله ما حكي أن أبا تمام أنشد أبا دلف‏:‏

على مثلها من أربع وملاعب

فقال بعض من أراد نكتة‏:‏ لعنة الله والملائكة والناس أجمعون ، فولد من الكلامين كلاماً ينافي غرض أبي تمام ممن وجهين‏:‏ أحدهما خروج الكلام عن التشبيب إلى الهجاء بسبب ما انضم إليه من الدعاء‏.‏

والثاني خروج الكلام عن أن يكون بيتاً من شعر إلى أن صار قطعة من نثر‏.‏ ومن هذا الضرب قول الشاعر‏:‏

ألوم زياداً في ركاكة عقله *** وفي قوله أي الرجال المهذب

وهل يحسن التهذيب منك خلائق *** أرق من الماء الزلال وأطيب‏!‏

تكلم والنعمان شمس سمائه *** وكل مليك عند نعمان كوكب

ولو أبصرت عيناه شخصك مرة *** لأبصر منه شمسه وهي غيهب

فإن هذا الشاعر زوج مدح ممدوحه بتهذيب الأخلاق إلى قول النايغة‏:‏ أي‏:‏ الرجال المهذب ، فتولد بين الكلامين ما ينافي غرض النابغة، حيث أخرج الشاعر كلامه مخرج المنكر على النابغة ذلك الاستفهام؛ وأوضح مناقضته للنابغة ببيته الثاني وهو قوله‏:‏ وهل يحسن التهذيب‏.‏‏.‏ البيت ‏.‏ وزوج قوله في عجز البيت الثالث‏:‏ وكل مليك عند نعمان كوكب إلى قول النابغة‏:‏ بأنك شمس والملوك كواكب بدليل قول الشاعر، يعني النابغة‏:‏ تكلم والنعمان شمس سمائه‏.‏‏.‏ البيت فتولد بين الكلامين قوله‏:‏

ولو أبصرت عيناه شخصك مرة *** لأبصر منه شمسه وهي غيهب

وأما الضرب الثاني وهو ما تولد من المعاني، كقول القطامي‏:‏ البسيط

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

فقال من بعده‏:‏ البسيط

عليك بالقصد فيما أنت فاعله *** إن التخلق يأتي دونه الخلق

فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله؛ ومعنى عجز البيت مولد بينهما، وهو قوله‏:‏

إن التخلق يأتي دونه الخلق

والقطامي أخذ معناه من عدي بن زيد العبادي حيث قال‏:‏ السريع

قد يدرك المبطئ من حظه *** والخير قد يسبق جهد الحريص

وعدي نظر إلى قول جمانة الجعفي‏:‏

ومستعجل والمكث أدنى لرشده *** ولم يدر في استعجاله ما يبادر

ومن التوليد توليد بديع من بديع، كقول أبي تمام‏:‏

لها منظر قيد النواظر، لم يزل *** يروح ويغدو في خفارته الحب

فإنه ولد قوله قيد النواظر من قول امرئ القيس‏:‏ قيد الأوابد لأن هذه اللفظة التي هي قيد انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد‏.‏ وتناول اللفظ المفرد لا يعد سرقة‏.‏

وإنما سقنا هذا الفصل برمته لغرابته، وقلما يوجد في موضع آخر‏.‏

وقول أبي تمام على مثلها من أربع ضمير مثلها مفسر بالتمييز المجرور بمن؛ والأكثر أن يكون التمييز مفسراً لضمير نعم وبئس ورب‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ والزمخشري يفسر الضمير بالتمييز في غير بابي نعم ورب، وذلك أنه قال في‏:‏ فسواهن سبع سموات‏:‏ الضمير في فسواهن ضمير مبهم، وسبع سموات تفسيره، كقولهم ربه رجلاً؛ ولولا تشبيهه بربه رجلاً لحمل على البدل‏.‏ والأربع جمع ربع بالفتح، وهو محلة القوم ومنزلهم والملاعب‏:‏ جمع ملعب وهو موضع اللعب‏.‏ وتذال‏:‏ مبني للمجهول، مضارع أذله بمعنى أهانه، وهو متعدي ذال الشيء ذيلاً‏:‏ هان‏.‏ والثابت في نسخ ديوانه وشروحه أذيلت ‏.‏ والمصونات‏:‏ من الصون وهو خلاف الابتذال‏.‏ والسواكب‏:‏ المنصبة، فإن سكباً يأتي لازماً، يقال سكب الماء سكباً وسكوباً انصب؛ ويأتي متعدياً، يقال سكب زيد الماء‏.‏

قال الإمام أبو بكر بن يحيى الصولي في شرحه‏:‏ قد أنكر بعضهم مصونات الدموع السواكب وقال‏:‏ كيف يكون من السواكب ما هو مصون‏!‏ وإنما أراد أبو تمام‏:‏ أذيلت مصونات الدموع التي هي الآن سواكب‏.‏

ثم قوله‏:‏ أذيلت بمعنى صبت صباً سائلاًحتى يصير لها ذيل، ليس بجيد، فإن معنى البيت أهينت الدموع الغزيرة يسكبها على مثل هذه المنازل؛ لخلوها من الحبائب‏.‏

وهذا البيت مطلع قصيدة مدح بها أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي، وبعده‏:‏

أقول لقرحان من البين لم يجد *** رسيس الهوى بين الحشا والترائب

أعني أفرق شمل دمعي فإنني *** أرى الشمل منهم ليس بالمتقارب

إلى أن قال‏:‏

إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد *** تقطع ما بيني وبين النوائب

هنالك تلقى الجود حيث تقطعت *** تمائمه والمجد مرخى الذوائب

تكاد عطاياه يجن جنونه *** إذا لم يعوذها بنغمة طالب

قال الإمام المرزوقي في شرح ديوانه‏:‏ القرحان أصله‏:‏ الذي لم يصبه الجدري، واستعاره هنا لمن لم يمتحن بالنوى، ولم يدخل في إسار الهوى‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ رس الحمى ورسيسها‏:‏ أول مسها ‏.‏ وقوله‏:‏ أعني أفرق‏.‏‏.‏ البيت ، قال الصولي‏:‏ أي‏:‏ لا أرى شملهم مجتمعاً بالرجوع إليها، يقول‏:‏ قد أجتمع دمعي؛ لأني لم أبكي حتى رأيت منازلهم، فأعني بوقفة ثم معي، حتى أبكيهم فأستريح‏.‏ وقوله‏:‏ إذا العيس لاقت بي‏.‏‏.‏ البيت، يقول‏:‏ إذا أقدمتني الإبل إليه انقطعت الأسباب بيني وبين النوائب، أي‏:‏ لم يبق لها سبيل علي‏.‏ وقوله‏:‏ هنالك تلقى الجود‏.‏‏.‏ البيت، قال الصولي‏:‏ يقال‏:‏ تقطعت تمائم فلان في بني فلان‏:‏ إذا تربى ونشأ فيهم؛ وأراد‏:‏ أن المجد كالآمن فيهم أن يتحول إلى غيرهم، فيكون قد أحاط به الشرف من كل جانب‏.‏ ويروى وافي الذوائب ‏.‏

وقوله‏:‏ تكاد عطاياه ‏.‏‏.‏ البيت، قال الإمام المرزوقي‏:‏ يقول‏:‏ قد تعود هذا الرجل تفريق ماله بالصلات، وتبديده بالعطيات، حتى تقرب عطاياه - لو أمسك يوماً - من أن تجن إن لم يعلق عليها عوذها من نغم الطلاب والزوار‏.‏ وقوله‏:‏ يجن جنونها، إنما يريد‏:‏ يجن صحتها، أي‏:‏ يصير بدل صحتها جنون؛ لكنه سماها بما يؤول إليه، كما يقال خرجت خوارجه؛ وكذلك عطاياه أي‏:‏ أمواله التي تصير عطاياه، فسماه بما يؤول إليه‏.‏

وقال الصولي‏:‏ مما أنكر أبو العباس ابن المعتز من رديء طباقه قوله‏:‏ تكاد عطاياه‏.‏‏.‏ البيت؛ وفيه استعارة فقال‏:‏ ولم يجن جنون عطاياه انتظاراً للطلب، وفي هذا الاعتراض نظر، فإن مراده‏:‏ أنه أغنى الناس فلم يبق طالب إلا نادراً، فإذا أبطأ طالب المعروف جنت عطاياه شوقاً إليه‏.‏ فتأمل‏.‏

ومنها، وهو مما يستجاد‏:‏

يرى أقبح الأشياء أوبة آمل *** كسته يد المأمول حلة خائب

وأحسن من نور يفتحه الندى *** بياض العطايا في سواد المطالب

إذا ألجمت يوماً لجيم وحوله *** بنو الحصن نجل المحصنات النجائب

فإن المنايا والصوارم والقن *** أقاربهم في الروع دون الأقارب

جحافل لا يتركن ذا جبرية *** سليماً ولا يحربن من لم يحارب

يمدون من أيد عواص عواصم *** تصول بأسياف قواض قواضب

ولجيم بالتصغير‏:‏ أبو عجل جد أبي دلف‏.‏ والحصن هو ثعلبة بن عكابة؛ وبنو الحصن أعمامه‏.‏

إذا افتخرت يوم تميم بقوسه *** فخاراً على ما وطدت من مناقب

فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم *** عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

قال الإمام المرزوقي‏:‏ يعني بالقوس قوس حاجب بن زرارة، رهنها عند كسرى‏.‏ وكان السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دعا على مضر وقال‏:‏ اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ‏.‏ فتوالت الجدوبة عليهم سبع سنين‏.‏

فلما رأى حاجب الجهد على قومه جمع بني زرارة‏.‏ وقال‏:‏ إني أزمعت على أني آتي الملك - يعني كسرى - فأطلب أن يأذن لقومنا فيكونوا تحت هذا البحر حتى يحيوا‏.‏ فقالوا‏:‏ رشدت فافعل‏!‏ غير أنا نخاف عليك بكر بن وائل‏.‏ فقال‏:‏ ما منهم وجه إلا ولي عنده يد، إلا ابن الطويلة التيمي، وسأداويه‏.‏ ثم ارتحل، فلم يزل ينتقل في الإتحاف والبر من الناس حتى انتهوا إلى الماء الذي عليه ابن الطويلة، فنزله ليلاً، فلما أضاء الفجر دعا بنطع، ثم أمر فصب عليه التمر، ثم نادى‏:‏ حي على الغداء‏!‏ فنظر ابن الطويلة فإذا هو بحاجب؛ فقال لأهل المجلس‏:‏ أجيبوه‏.‏ وأهدى إليه جزراً، ثم ارتحل، فلما بلغ كسرى شكا إليه الجهد في أموالهم وأنفسهم، وطلب أن يؤذن لهم فيكونوا في حد بلاده فقال‏:‏ أنتم معشر العرب أهل غدر، فإذا أذنت لهم عاثوا في الرعية وأغاروا‏.‏

قال حاجب‏:‏ إني ضامن للملك أن لا يفعلوا‏.‏ قال‏:‏ فمن لي بأن تفي أنت‏؟‏ قال‏:‏ أرهنك قوسي‏!‏ فلما جاء بها ضحك من حوله، فقال الملك‏:‏ ما كان ليلمسها، اقبضوها منه‏.‏‏.‏ ثم جاءت مضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت حاجب فدعا لهم، فخرج أصحابه إلى بلادهم، وارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه‏.‏ فقال‏:‏ ما أنت بالذي وضعتها‏.‏ قال أجل إنه هلك وأنا ابنه وفي للملك‏.‏ قال‏:‏ ردوا عليه‏.‏ وكساه حلة‏.‏ فلما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أهداها إليه فلم يقبلها؛ فباعها من يهودي بأربعة آلاف درهم‏.‏ فصار ذلك فخراً ومنقبة لحاجب وعشيرته‏.‏ فيقول أبو تمام‏:‏ إذا افتخرت تميم بذلك، فأنتم قتلتم الذين كسبوهم هذا المجد مما ارتهنوه وهدمتم عزهم‏.‏ وإنما يعني وقعة ذي قار حين قتلت بنو شيبان العجم ونكلوا فيهم وكان رئيسهم سيار بن حنظلة العجلي‏.‏ وأبو دلف عجلي، فلذلك خاطبه بهذا ‏.‏

وقد لمح بعضهم إلى قوس حاجب بقوله في مليح قلندري قد حلق حاجبه، فقال‏:‏

حبيبي، بحق الله قل لي ما الذي *** دعاك إلى هذا‏؟‏ فقال مجاوبي‏:‏

وعدت بوصل العاشقين تعطف *** فلم يثقوا واسترهنوا قوس حاجبي

ولما أنشد أبو تمام أبا دلف هذه القصيدة استحسنها وأعطاه خمسين ألف درهم وقال‏:‏ والله، إنها لدون شعرك‏.‏ ثم قال له‏:‏ والله ما مثل هذا القوس في الحسن إلا ما رثيت به محمد بن حميد الطوسي‏.‏ فقال‏:‏ وأي‏:‏ ذلك أراد الأمير‏؟‏ قال‏:‏ الرائية التي أولها‏:‏

كذا فليجل الخطب ليفدح الأمر *** وليس لعين لم يفض ماؤها عذر

وددت والله أنها لك في قال‏:‏ بل أفدي الأمير بنفسي وأكون المقدم قبله‏.‏ فقال‏:‏ إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر‏.‏ وأبو تمام الطائي هو حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس بن الأشج بن يحيى ابن مروان بن مر بن سعد بن كاهل بن عمرو بن عدي بن عمرو بن الغوث بن طيء‏.‏

ولد في جاسم بالجيم والسين المهملة، وهي قرية من قرى الجيدور بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية، وهو إقليم من دمشق، وفي آخر خلافة الرشيد سنة تسعين ومائة، وقيل غير ذلك‏.‏ ونشأ بمصر واشتغل إلى أن صار أوحد عصره‏.‏ كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد‏.‏ وله كتاب الحماسة الذي دل على غزارة علمه وكمال فضله وإتقان معرفته، بحسن اختياره‏.‏ وهو في جمعه للحماسة أشعر منه في شعره‏.‏ وله كتاب مختار أشعار القبائل ، وهو دون الحماسة؛ وكلاهما عندي‏.‏

ومات سنة اثنين وثلاثين بعد المائتين؛ وقيل غير هذا‏.‏

وكان شعره غير مرتب؛ فرتبه الصولي على الحروف، ثم رتبه علي بن حمزة الأصفهاني على أنواع الشعر‏.‏ وترجمتها طويلة تركناها لشهرتها‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس والخمسون

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني

على أن التعريف غير مقصود قصده؛ فإن تعريف أل الجنسية لفظي لا يفيد التعيين وإن كان في اللفظ معرفة‏.‏

وقد أورد الشارح هذا البيت في الحال، والإضافة، والنعت، والموصوف، والمعرف بأل أيضاً‏.‏ وجملة يسبني وصف اللئيم في المعنى، وحال منه باعتبار اللفظ؛ والأول أظهر للمقصود، وهو التمدح بالوقار والتحمل، لأن المعنى‏:‏ أمر على اللئيم الذي عادته سبي‏.‏ ولا شك أنه لم يرد كل لئيم، ولا لئيماً معيناً‏.‏ والواو للقسم، ولقد أمر جوابه، والمقسم به محذوف، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية - كما في الخصائص لابن جني - وللاستمرار التجددي‏.‏ ومضيت معطوف على أمر، بمعنى أمضي؛ وعبر به للدلالة على تحقق إعراضه عنه‏.‏ وقوله‏:‏ ثمت هي ثم العاطفة؛ وإذا كانت مع التاء اختصت بعطف الجمل‏.‏ وقوله لا يعنيني أي‏:‏ لا يهمني، وبمعنى لا يقصدني‏.‏ وروى بدل هذا المصراع‏:‏ وأعف ثم أقول ما يعنيني يقال‏:‏ عف عن الشيء من باب ضرب، عفة وعفافاً‏:‏ امتنع‏.‏

وهذا البيت أول بيتين لرجل من بني سلول‏.‏ ثانيهما‏:‏

غضبان ممتلئاً علي إهابة *** إني وحقك سخطه يرضيني

وغضبان بالنصب‏:‏ حال من اللئيم، وبالرفع‏:‏ خبر مبتدأ محذوف‏.‏ وممتلئ‏:‏ حال سببية من ضمير غضبان‏.‏ وإهابة‏:‏ فاعل ممتلئاً؛ وهو في الأصل الجلد الذي لم يدبغ، وقد استعير هنا لجلد الإنسان‏.‏ والسخط بالضم‏:‏ اسم مصدر، والمصدر بفتحتين بمعنى الغضب؛ والفعل من باب تعب‏.‏

وروى الأصمعي بيتين في هذا المعنى، وهم‏:‏ السريع

لا يغضب الحر على سفلة *** والحر لا يغضبه النذل

إذا لئيم سبني جهده *** أقول زدني فلي الفضل

وأنشد سيبويه البيت الشاهد، على أن أمر قد وضع موضع مررت؛ وجاز أمر في معنى مررت، لأنه لم يرد ماضياً منقطعاً، وإنما أراد هذا أمره ودأبه، فجعله كالفعل الدائم‏.‏ قيل‏:‏ معنى ولقد أمر‏:‏ ربما أمر، فالفعل على هذا في موضعه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والخمسون

قد أصبحت أم الخيار تدعي *** علي ذنباً كله لم أصنع

على أن الضمير العائد على المبتدأ من جملة الخبر يجوز حذفه قياساً عند الفراء إذا كان منصوباً مفعولاً به، والمبتدأ‏:‏ لفظ كل ‏.‏ نقل الصفار أنه مذهب الكسائي أيضاً‏.‏ وقد نقل ابن مالك في التسهيل الإجماع على جواز ذلك؛ وزاد على كل ما أشبهها في العموم والافتقار‏:‏ من موصول غيره، نحو‏:‏ أيهم يسألني أعطي، ونحو‏:‏ رجل يدعو إلى الخير أجيب، أي‏:‏ أعطيه وأجيبه‏.‏ وقال شارح كلامه‏:‏ لم نر هذا الاجماع، بل منعه البصريون‏.‏ وأما نقله في شبه كل فقد قال أبو حيان‏:‏ لا أعلم له سلفاً في ذلك‏.‏

أقول‏:‏ الصحيح جوازه بقلة، لوروده في المتواتر، قرأ ابن عامر في سورة الحديد فقط‏:‏ وكل وعد الله الحسنى ، وأما في سورة النساء فقد قرأ مثل الجماعة بالنصب‏.‏

وقال ابن جني في المحتسب‏:‏ لحذف هذا الضمير وجه من القياس، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال والصفة؛ وهو إلى الحال أقرب؛ لأنها ضرب من الخبر؛ وهو في الصفة أمثل بشبه الصفة بالصلة‏.‏ وفي حذفه من لم أصنع ما يقوم مقامه ويخلفه، لأنه يعاقبه ولا يجتمع معه، وهو حرف الإطلاق أعني الياء في أصنعي؛ فلما حضر ما يعاقب الهاء صارت لذلك كأنها حاضرة ‏.‏

ومفهوم قول الفراء أن المبتدأ، إذا لم يكون كلا يمتنع حذف العائد‏.‏ والصحيح فيه أيضاً الجواز بقلة في الكلام والشعر، أما الأول فقد قرأ يحيى وإبراهيم والسلمي في الشواذ‏:‏ أفحكم الجاهلية يبغون بالمثناة التحتية‏.‏ وأما الثاني فكثير، منه قول الشاعر‏:‏

فخالد يحمد ساداتنا

أي‏:‏ يحمده ساداتنا‏.‏

واعلم أن الشارح المحقق أورد هذا الشاهد في باب الاشتغال أيضاً وقال‏:‏ يروى برفع كل ونصبه ‏.‏ وكذلك رواهما سيبويه‏.‏ وقد أنكر عليه المبرد رواية الرفع وقال‏:‏ الذي رواه الجرمي وغيره من الرواة النصب فقط، ومنع هذه المسألة نظماً ونثراً‏.‏

قال ابن ولاد‏:‏ س أيضاً رواه بالنصب، وقال‏:‏ إن النصب أكثر وأعرف، فأغنى هذا الاحتجاج عليه بقول الجرمي، ألا ترى قوله إن الرفع ضعيف وهو بمنزلة في غير الشعر لأن النصب لا يكسر، ولا يخل به ترك إضمار الهاء، كأنه قال كله غير مصنوع‏.‏ وقد روى أهل الكوفة والبصرة هذه الشواهد رفعاً كما رواها س‏.‏

وظاهر كلام س أن الضرورة ما ليس للشاعر عنه فسحة‏.‏ وتقدم الكلام عليها في أول شاهد من هذه الشواهد‏.‏

وزعم تقي الدين السبكي في رسالة كل وفي تفسيره‏:‏ أن رواية النصب تساوي رواية الرفع في المعنى‏:‏ كله غير مصنوع‏.‏ وهذا يقتضي أن النصب أيضاً يفيد العموم، وأنه لم يصنع شيئاً منه، لما تقرر من دلالة العموم‏.‏ وقدت تأملت ذلك فوجدت قول س أصح من قول البيانيين، وأن المعنى حضره وغاب عنهم؛ لأنه ابتدأ في اللفظ بكل ومعناها كل فرد، فكان عاملها المتأخر في معنى الخبر، وبه يتم الكلام؛ فكان كله لم أصنع مرفوعاً ومنصوباً سواء في المعنى، وإن اختلفا في الإعراب‏.‏ ويبعد كل البعد أن يحمل كلام سيبويه على أن كله لم أصنع بالرفع والنصب معناه عدم صنع المجموع فيكون قد صنع بعضه؛ لأن معنى الحديث على خلافه في قوله‏:‏ كل ذلك لم يكن ‏.‏ إلى آخر ما ذكره‏.‏

ونقل الدماميني بعض هذا الكلام في الحاشية الهندية وقال‏:‏ وكأن ابن هشام لم يقف على كلام س فنقل تساوي المعنى في الرفع والنصب عن الشلوبين وابن مالك؛ ولو وقف على كلام سيبويه لم ينقل عنهما‏.‏

وقد نقل الشيخ بهاء الدين كلام سيبويه في عروس الأفراح وبينه، تابعاً لوالده السبكي‏.‏

ورواية الرفع عند علماء البيان هي الجيدة، فإنها تفيد عموم السلب، ورواية النصب ساقطة عن الاعتبار بل لا تصح، فإنها تفيد سلب العموم، وهو خلاف المقصود‏.‏ وما ذكره السبكي لم يعرجوا عليه؛ وهو مفصل في التلخيص وشروحه‏.‏

ورأيت للفاضل اليمني على هذا البيت كلاماً أحببت إيراده، وهو قوله‏:‏ معنى هذا البيت أن هذه المرأة أصبحت تدعي علي ذنباً، وهو الشيب والصلع والعجز وغير ذلك من موجبات الشيخوخة‏.‏ ولم يقل ذنوباً بل قال ذنباً، لأن المراد كبر السن المشتمل على كل عيب، ولم أصنع شيئاً من ذلك الذنب‏.‏ ولم ينصب كله، لأنه لو نصبه مع تقدمه على ناصبه لأفاد تخصيص النفي بالكل ويعود دليلاً على أنه فعل بعض ذلك الذنب؛ ومراده تنزيه نفسه عن كل جزء منه، فلذلك رفعه إيذاناً منه بأنه لم يصنع شيئاً منه قط، بل كله بجميع أجزائه غير مصنوع ‏.‏

ثم قال‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ لما كان الضمير في كله عائداً إلى ذنباً وهو نكرة، والنكرة لواحد غير معين، لابد أن يكون المضمر به، فلا يكون نفيه نفياً لجميع الذنوب، فلا يلزم ما ذكره من تنزيه نفسه من جملة الذنوب‏.‏ لا يقال إن الضمير لما كان عبارة عن النكرة المذكورة، ودخول النفي عليها يقتضي العموم، فدخول النفي عليه أيضاً يقتضي ذلك؛ لأنا نقول‏:‏ إن الفرق ظاهر بين قولنا‏:‏ لم أصنع ذنباً، وبين قولنا‏:‏ لم أصنع ذلك الذنب المذكور الذي ليس بمعين، في اقتضاء الأول العموم دون الثاني ‏.‏

وقوله‏:‏ ولقائل أن يقول إلخ فيه أنه قال أولاً‏:‏ إن ذنب الشيخوخة يستلزم ثبوته جميع الذنوب‏.‏ وحينئذ نفيه يستلزم نفي جميع الذنوب‏.‏ وقوله‏:‏ والنكرة لواحد غير معين فيه أنه حمل الذنب سابقاً على كبر السن المشتمل على كل عيب‏.‏ فالمراد به معين، وأفاد أن كلا حينئذ لاستغراق أجزاء ذلك الذنب، وإن نصب كل أفاد سلب العموم لجميع الأجزاء واقتضى ثبوت بعض الأجزاء‏.‏ فهذا البحث غير وارد‏.‏ فتأمل‏.‏

وبهذا يسقط قوله بعد هذ‏:‏ ثم نقول‏:‏ فتكون القضية حينئذ شخصية؛ والتقدير‏:‏ كل ذلك الذنب غير مصنوع لي‏.‏ وإنما يكون ذلك إذا كان هنالك ذنب ذو أجزاء يمكن الاتصاف ببعضه دون بعض‏.‏ وعلى هذا إما أن يكون المراد بالكل الكل المجموعي وهو الغالب الظاهر من دخوله في الشخصيات، فلا تفاوت في تقدم السلب عليه وتقديمه على السلب في عدم اقتضاء شمول النفي جميع الأجزاء؛ ويكون المراد كل واحد من الأجزاء كما يستعمل في الكلي باعتبار الجزئيات فقد يظهر الفرق بينهما؛ فإنك إن رفعت كلاً لزم عموم النفي لجميع الأجزاء وإن نصبتها لا يلزم، مع أن الاستعمال على هذا الوجه في الشخصي قليل، فإنه لا يلزم صدق ما ذكره من تبرئة نفسه من جملة أجزاء ذلك الذنب الواحد ‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ وقوله كله لم أصنع يحتمل أمرين‏:‏ أحدهما أنه أراد أنه لم يصنع جميعها ولا شيئاً منها، والوجه الآخر‏:‏ أنه صنع بعضها ولم يصنع جميعها، كما تقول لمن يدعي عليك أشياء ولم تفعل جميعها‏:‏ ما فعلت جميع ما ذكرت، بل فعلت بعضها‏.‏

أقول‏:‏ احتماله لوجهين غير صحيح؛ فإن كلا منها مدلول رواية يعلم وجهها مما تقدم‏.‏ وقوله‏:‏ أراد بقوله ذنباً لكنه استعمل الواحد في موضع الجمع؛ ليس كذلك، كما علم من كلام الفاضل اليمني‏.‏

وهذا البيت مطلع أرجوزة لأبي النجم العجلي‏.‏

وبعده‏:‏ الرجز

من أن رأت رأسي كرأس الأصلع *** ميز عنه قنزعاً عن قنزع

جذب الليالي‏:‏ أبطئي وأسرعي *** قرناً أشيبيه وقرناً فانزعي

أفناه قيل الله للشمس‏:‏ اطلعي‏!‏ *** حتى إذا وارك أفق فارجعي

حتى بدا بعد السخام الأفرع *** يمشي كمشي الأهدأ المكنع

يا ابنة عما، لا تلومي واهجعي *** لا يخرق اللوم حجاب مسمعي

ألم يكن يبيض إن لم يصلع *** إن لم يصبني قبل ذاك مصرعي

أفناه ما أفنى إياداً فاربعي *** وقوم عاد قبلهم وتبع

لا تسمعيني منك لوماً واسمعي *** أيهات أيهات فلا تطلعي

هي المقادير، فلومي ودعي *** لا تطمعي في فرقتي لا تطمعي

ولا تروعيني لا تروعي *** واستشعري اليأس ولا تفجعي

فذاك خير لك من أن تجزعي *** فتحبسي وتشتمي وتوجعي

وأم الخيار هي زوجة أبي النجم‏.‏ وقوله‏:‏ من أن رأت إلخ ، من تعليلية؛ وزعم القونوي في شرح تلخيص المفتاح أنها بيانية، ثم قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف يبين الذنب برؤية أم الخيار، فإن الرؤية قائمة بها والذنب قائم به‏؟‏ قلت‏:‏ أراد المرئي وأطلق عليه الرؤية للملابسة ‏.‏ انتهى‏.‏ والأصلع‏:‏ هو الذي لم يكن شعر على رأسه؛ وصلع الرأس صلعاً من باب تعب؛ والصلع يحدث للمشايخ إذا طعنوا في السن، قال ابن سين‏:‏ ولا يحدث الصلع للنساء لكثرة رطوبتهن، ولا للخصيان لقرب أمزجتهم من أمزجة النساء ‏.‏ والتمييز‏:‏ العزل، وفصل شيء من شيء، والتشديد للكثرة، فإنه يقال مازه ميزاً؛ ويكون في المشتبهات وضمير عنه للرأس‏.‏ والقنزع‏:‏ كقنفذ، والقنزعة بضم الزاي وفتحها؛ وهي الشعر حوالي الرأس، والخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي، وهي ما ارتفع من الشعر وطال‏.‏

وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القنازع فهي أن يؤخذ الشعر ويترك منه مواضع، كذا في القاموس وجعل النون أصلية‏.‏ وعن بمعنى بعد‏.‏ وجذب الليالي‏:‏ فاعل ميز، قال في الصحاح‏:‏ جذب الشهر‏:‏ مضى عامته‏.‏ وقوله‏:‏ أبطئي وأسرعي‏:‏ حال من الليالي على تقدير القول وكون الأمر بمعنى الخبر، وصحت من المضاف إليه لأن المضاف عامل فيهما، وقيل‏:‏ صفة الليالي‏.‏ ويجوز أن يكون منقطعاً، أي‏:‏ اصنعي أيتها الليالي فلا أبالي بعد هذا‏.‏

وقال القونوي‏:‏ وقد يجوز أن يكون استئنافاً، أمراً لأم الخيار، على معنى أن حالي ما قررت لك فعند ذلك أبطئي وأسرعي في قبول العذر فيه، فلا محيص لي عن ذلك‏.‏ وهذا بديع ‏.‏ انتهى‏.‏

وهذه غفلة عما بعده وهو‏:‏ قرناً أشيبيه إلخ، فإنه خطاب لليالي‏.‏ والقرن بفتح القاف‏:‏ الخصلة من الشعر، ونصبه من باب الاشتغال، والقرن الثاني مفعول لما بعده‏.‏ وأشيبيه فعل أمر والياء ضمير الليالي، يقال‏:‏ أشاب الحزن رأسه وبرأسه بمعنى شيبه‏.‏ وقوله‏:‏ وانزعي‏:‏ من النزع بفتحتين وهو انحسار الشعر عن جانبي الجبهة من الرأس، وهو أنزع، وذلك الموضع النزعة محركة‏.‏ وقوله‏:‏ أفناه، قيل الضمير لجذب، وقيل لشعر رأسه، وقيل لأبي النجم، وهو المناسب لما بعده‏.‏ وقيل الله‏:‏ أمره، وهو فاعل أفناه، وهذا يدل على أن الشاعر لا يريد أن المميز هو جذب الليالي الذي هو ظاهر كلامه، بل يريد أن المميز قول الله وأمره‏.‏ وقوله‏:‏ حتى بدا، فاعله المستتر ضمير أبي النجم‏.‏ والسخام بضم السين والخاء المعجمة‏:‏ اللين، يقال ثوب سخام‏:‏ إذا كان لين المس مثل الخز‏.‏ وريش سخام‏:‏ أي‏:‏ لين رقيق‏.‏ والأفرع بالفاء، هو التام الشعر، قال في الصحاح‏:‏ ولا يقال للرجل إذا كان عظيم اللحية والجمة أفرع وإنما يقال أفرع بضد الأصلع ‏.‏ والأهدأ مهموز كجعفر‏:‏ الأحدب‏.‏ والتكنع‏:‏ التقبض، كنع كفرح‏:‏ يبس وتشنج، وشيخ كنع ككتف‏:‏ شنج‏.‏ وكنع كمنع كنوعاً‏:‏ انقبض وانضم‏.‏ يقول‏:‏ يمشي أبو النجم بعد الشباب كما يمشي الأحدب المتقبض الكز من الكبر‏.‏

وقوله‏:‏ يا ابنة عما إلخ، استشهد به شراح الألفية على أن أصله‏:‏ يا ابنة عمي، فأبدلت الياء ألفاً‏.‏ وفاعل يبيض ضمير الرأس‏.‏ وإياد بالكسر‏:‏ حي من معد‏.‏ وقوله‏:‏ فاربعي، في الصحاح ربع الرجل يربع بفتحهما‏:‏ إذا وقف وتحبس، ومنه قولهم اربع على نفسك، أي‏:‏ ارفق بنفسك وكف ‏.‏ وأيهات أيهات‏:‏ لغة في هيهات‏.‏ وتطلعي بتاءين‏:‏ من التطلع للشيء‏.‏ وقوله‏:‏ واستشعري ، يقال‏:‏ استشعر خوفاً، أي‏:‏ أضمره‏.‏ واليأس‏:‏ ضد الرجاء‏.‏

وترجمة أبي النجم تقدمت في الشاهد السابع‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو