فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

لا تشتم الناس كما لا تشتم

على أن كما أصلها كاف التشبيه المكفوفة بما، قد تغير معناها بالتركيب، فصارت بمعنى لعل، أي‏:‏ لعلك لا تشتم‏.‏ وهي مهملة لا تعمل شيئاً، ولا يلزم من كونها بمعنى لعل أن تعمل عملها‏.‏

وتقدم نقل كلام سيبويه وغيره في الشاهد السابع والخمسين بعد الستمائة‏.‏

وفي الارتشاف لأبي حيان‏:‏ وذهب الفراء إلى أن قولهم‏:‏ انتظرني كما آتيك، ولا تشتم الناس كما لا تشتم، الكاف فيهما للتشبيه، والكاف صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ انتظرني انتظاراً مثل إتياني لك، أي‏:‏ ف لي بالانتظار، كما أفي لك بالإتيان، وانته عن شتم الناس، كانتهائهم عن شتمك‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ لا تشتم، لا‏:‏ ناهية‏.‏ وقوله‏:‏ كما لا تشتم بالبناء للمفعول ورفع الفعل‏.‏

وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج، وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً *** على رأسه تلقي اللسان من الفم

على أن من الجارة لما كفت بما، تغير معناها، وصارت بمعنى ربما، مفيدة للتكثير وللتقليل، على خلاف في مدلولها‏.‏

قال سيبويه في باب من أبواب أن التي تكون والفعل بمنزلة مصدره ما نصه‏:‏ وتقول‏:‏ إني مما أن أفعل ذاك، كأنه قال‏:‏ أني من الأمر، ومن الشأن أن أفعل ذاك‏.‏ فوقعت ما في هذا الموضع، كما تقول العرب‏:‏ بئسما، يريدون بئس الشيء‏.‏ إلى أن قال‏:‏ وإن شئت قلت‏:‏ إني مما أفعل، فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة، نحو‏:‏ ربما‏.‏ قال أبو حية النميري‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد في قوله‏:‏ لمما، ومعناه لربما، وهي من زيدت إليها ما، وجعلت معها على معنى ربما، فركبت تركيبها‏.‏ انتهى‏.‏

وفي البغداديات لأبي علي‏:‏ قال أبو العباس‏:‏ إن أراد سيبويه أن ما كافة لمن أنها كافة لرب، فهو كما قال سيبويه‏.‏ وإن أراد أنه للتقليل، كما أن ربما للتقليل كان ذلك مسوغاً، إذا ثبت مسموعاً‏.‏ ويبعد ذلك في البيت، فإنه ينبغي أن يكون غير مقلل لضربه للكبش على رأسه انتهى‏.‏ وإنما قال هذا، لأن رب وربما عنده لا تفيد إلا القلة‏.‏ وكأن أبا حيان لم يقف على ما قدمناه‏.‏

قال في الارتشاف‏:‏ وزعم السيرافي، والأعلم، وابن طاهر، وابن خروف، أن من إذا كان بعدها ما كانت بمعنى ربما، وزعموا أن سيبويه يشير إلى هذا المعنى في كلامه‏.‏

وأنكر الأستاذ أبو علي وأصحابه ذلك وردوه، وتأولوا ما زعموه من ذلك‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وتبعه ابن هشام في موضعين من المغني أحدهما‏:‏ في من، قال عند معانيها‏:‏ العاشر مرادفة ربما، وذلك إذا اتصلت بما، كقوله‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش البيت

قاله السيرافي، وابن خروف، وابن طاهر، والأعلم، وخرجوا عليه قول سيبويه‏:‏ إنهم مما يحذفون كذا‏.‏ والظاهر أن من فيهما ابتدائية وما مصدرية، وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف، مثل‏:‏ خلق الإنسان من عجل ‏.‏ انتهى‏.‏

وثانيهما‏:‏ في ما الكافة، قال‏:‏ إنها تتصل بأحرف فتكفها من عمل الجر‏.‏ الرابع‏:‏ من، كقول أبي حية‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش البيت

قاله ابن الشجري‏.‏ والظاهر أن ما مصدرية، وأن المعنى مثله في‏:‏ خلق الإنسان من عجل ، وقوله‏:‏

وضنت علينا والضنين من البخل

فجعل الإنسان والبخيل مخلوقين من العجل والبخل مبالغة‏.‏ انتهى‏.‏

وسياق الكلام منهما ظاهر في أن المعنى الأول، لم يقل به سيبويه، وإنما هو شيء استنبطه خدمة كتابه من كلامه، وليس كذلك‏.‏

وتخريج ابن هشام فاسد، وذلك أن فعل الصلة في المثالين الأولين مسند إلى ضمير المحدث عنه، فيلزم عند السبك إضافة المصدر إلى ذلك الضمير، فيؤول الأمر إلى جعلهم، كأنهم خلقوا من ضربهم، ومن حذفهم‏.‏ وذلك غير متصور البتة‏.‏ ولا يلزم هذا في الآية والبيت الأخير‏.‏

والكبش هنا‏:‏ الرئيس وسيد القوم، لأنه يقارع دونهم ويحميهم‏.‏ قال ابن النحاس‏:‏ وإن شئت جعلت ما بمعنى الذي، ورفعت الكبش‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ هذا لا يصح‏.‏ فتأمل‏.‏ ومثل هذا البيت قول الفرزدق‏:‏

وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً *** على رأسه والحرب قد لاح نارها

والظاهر أن أبا حية، ألم ببيت الفرزدق، فإنه قبل أبي حية، وأبو حية توفي في بضع وثمانين ومائة‏.‏

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ وكان يروي عن الفرزدق‏.‏ وهو بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية‏.‏ وصحفه ابن الملا بالموحدة، قال‏:‏ ورأيت من صحفه بمثناة تحتية‏.‏ انتهى‏.‏

واسمه الهيثم بن الربيع، وينتهي نسبه إلى نمير بن عامر بن صعصعة‏.‏

قال صاحب الأغاني‏:‏ وهو شاعر مجيد متقدم، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية‏.‏ وقد مدح الخلفاء فيهما جميعاً‏.‏ وكان فصيحاً مقصداً راجزاً، من ساكني البصرة‏.‏ وكان أهوج جباناً، بخيلاً كذاباً، معروفاً بذلك أجمع‏.‏ وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه كان يصرع‏.‏ وكان من أكذب الناس‏:‏ حدث يوماً أنه يخرج إلى الصحراء، فيدعو الغربان فتقع حوله، فيأخذ منها ما شاء‏.‏ فقيل‏:‏ يا أبا حية، أفرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء، فدعوتها، فلم تأتك، فماذا تصنع بك‏؟‏ قال‏:‏ أبعدها الله إذن‏!‏ وحدث يوماً، قال‏:‏ عن لي ظبي يوماً، فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ فعارضه، فما زال، والله يروغ، ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات‏.‏

وإلى هذا السهم لمح ابن نباتة المصري، بقوله‏:‏

وبديع الجمال لم ير طرفي *** مثل أعطافه ولا طرف غيري

كلما حدت عن هواه أتاني *** سهم ألحاظه كسهم النميري

وقال يوماً‏:‏ رميت والله ظبية، فلما نفذ سهمي عن القوس، ذكرت بالظبية حبيبة لي، فعدوت خلف السهم، حتى قبضت على قذذة قبل أن يدركها‏.‏

وكان لأبي حية سيف يسميه‏:‏ لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق‏.‏ وكان أجبن الناس، حدث جار له قال‏:‏ دخل ليلة إلى بيته كلب، فظنه لصاً، فأشرفت عليه، وقد انتضى سيفه لعاب المنية، وهو واقف في وسط الدار وهو يقول‏:‏ أيها المغتر بنا والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك‏:‏ خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهور ضربته، لا تخاف نبوته، اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك‏.‏ إني والله إن أدع قيساً إليك لا تقم لها، وما قيس‏؟‏‏!‏ تملأ والله الفضاء خيلاً ورجلاً، سبحان الله، ما أكثرها وأطيبها‏.‏

فبينا هو كذلك إذ الكلب قد خرج، فقال‏:‏ الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفاني حرباً‏!‏ ونظير هذه الحكاية ما رواه أبو إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب في كتاب الجواهر، في الملح والنوادر قال‏:‏ نزل أعرابي من بني نهشل يكنى أبا الأغر على بني أخت له من قريش بالبصرة وذلك في شهر رمضان، فخرج الرجال إلى ضياعهم، وخرج النساء يصلين في المسجد، ولم يبق في الدار إلا الإماء، فدخل كلب، فرأى بيتاً، فدخله وانصفق الباب فسمع الإماء حركة فظنن أن لصاً قد دخل الدار، فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته، فأخذ عصا، وجاء حتى وقف على باب البيت، فقال‏:‏ أيها اللص، والله أما إني بك لعارف، فهل أنت من لصوص بني مازن، شربت نبيذاً حامضاً خبيثاً، حتى إذا دارت الأقداح في رأسك، منتك نفسك الأماني‏.‏ فقلت‏:‏ أطرق دور بني عمرو والرجال خلوف، والنساء يصلين في مسجدهن، فأسرقهن‏!‏ سوءة لك، والله ما يفعل هذا الأحرار، بئسما منتك نفسك فاخرج بالعفو عنك، وإلا دخلت بالعقوبة عليك‏!‏ وايم الله لتخرجن، ولأهتفن هتفة يلتقي فيها الحيان‏:‏ عمرو وحنظلة، وتسيل عليك الرجال من هنا وهناك‏.‏

ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود في بني تميم‏!‏ فلما رأى أنه لا يجيبه، أخذه باللين، فقال‏:‏ اخرج، بأبي أنت، مصوناً مستوراً، إني والله ما أراك تعرفني، ولئن عرفتني، لقد وثقت بقولي واطمأننت إلي‏.‏ أنا أبو الأغر النهشلي، وأنا خال القوم، وجلدة ما بين أعينهم، لا يعصون لي رأياً، وأنا كفيل خفير، أجعلك بين شحمة أذني وعاتقي، فاخرج فأنت في ذمتي، وإلا فعندي قوصرتان، أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله‏.‏

فكان الكلب إذا سمع هذا الكلام أطرق، وإذا سكت وثب ويروم الخروج‏.‏ فتهاتف أبو الأغر ثم قال‏:‏ يا ألأم الناس وأوضعهم، أراني لك الليلة في واد وأنت في آخر، والله لتخرجن ولألجن‏!‏ فلما طال وقوفه جاءت جارية، وقالت‏:‏ أعرابي مجنون، والله ما أرى في البيت أحداً‏.‏ ودفعت الباب، فخرج الكلب مبادراً، ووقع أبو الأغر مستلقياً، فقلن له‏:‏ قم ويحك فإنه كلب‏!‏ فقال‏:‏ الحمد لله الذي مسخه كلباً، وكفى العرب حرباً‏.‏ انتهى‏.‏

تتمة

قال الشارح المحقق‏:‏ وقال بعضهم‏:‏ إن بما تجيء أيضاً بمعنى ربما، نحو‏:‏ إني بما أفعل، أي‏:‏ ربما‏.‏ هذا قول ابن مالك، قال‏:‏ إن ما الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل بالقاف، كما أحدثت في الكاف معنى التعليل بالعين، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروه كما هداكم ‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ والظاهر أن الباء والكاف للتعليل، وأن ما معهما مصدرية‏:‏ وقد سلم أن كلاً من الكاف والباء يأتي للتعليل مع عدم ما، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات ‏.‏ وقرئ‏:‏ وي كأنه لا يفلح الكافرون ‏.‏

وقال‏:‏ التقدير‏:‏ أعجب لعدم فلاح الكافرين‏.‏ ثم المناسب في البيت معنى التكثير لا التقليل‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا مأخوذ من شرح التسهيل لأبي حيان‏.‏ ومثاله ما أنشده ابن مالك والمرادي فيشرح الألفية، وابن هشام في المغني‏:‏

فلئن صرت لا تحير جواب *** لبما قد ترى وأنت خطيب

تحير‏:‏ مضارع أحار بالحاء المهملة، أي‏:‏ أجاب‏.‏ يقال‏:‏ كلمته فلم يحر جواباً، أي‏:‏ لم يرده‏.‏ واللام في لئن موطئة للقسم، لا للتأكيد، كما وهم العيني‏.‏

وقوله‏:‏ لبما، اللام في جواب القسم، وما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط، كما وهم العيني أيضاً‏.‏

وقد ترى بالبناء للمفعول‏.‏ والرؤية بصرية، لا ظنية كما زعم العيني‏.‏ وجملة وأنت خطيب‏:‏ حالية‏.‏

والبيت في رثاء ميت، يقول‏:‏ إن صرت الآن لا ترد جواباً لمن يكلمك، فكثيراً ما ترى، وأنت خطيب بلسان الحال، فإن من نظر إلى قبرك، وتذكر ما كنت عليه، وما ألت الآن إليه، اتعظ بذلك‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد كثيراً، ما رئيت في حال الحياة خطيباً‏.‏ إلا أنه عبر بالمضارع، لاستحضار تلك الحالة‏.‏ قال العيني‏:‏ وقائل البيت مجهول‏.‏

أقول‏:‏ قال صاحب تهذيب الطبع لما مات الاسكندر ندبه أرسطاليس، فقال‏:‏ طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من موعظة اليوم بسكوته، فأخذه صالح بن عبد القدوس، فقال‏:‏

وينادونه وقد صم عنهم *** ثم قالوا وللنساء نحيب

ما الذي عاق أن ترد جواب *** أيها المقول الخطيب الأريب

إن تكن لا تطيق رجع جواب *** فبما قد ترى وأنت خطيب

ذو عظات وما وعظت بشيء *** مثل وعظ السكوت إذ لا تجيب

واختصره أبو العتاهية في بيت، فقال‏:‏

وكانت في حياتك لي عظات *** فأنت اليوم خير منك أمس

انتهى‏.‏ ورأيت في أمالي القالي‏:‏ أنشدنا أبو عبد الله نفطويه، أنشدنا ثعلب لمطيع بن إياس الكوفي، يرثي يحيى بن زياد الحارثي‏:‏

وينادونه وقد صم عنهم *** ثم قالوا وللنساء نحيب

ما الذي غال أن تحير جواب *** أيها المصقع الخطيب الأديب

في مقال وما وعظت بشيء *** مثل وعظ بالصمت إذ لا تجيب

هذا ما أورده، ولم يذكر البيت الشاهد‏.‏

وأورده أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي كصاحب تهذيب الطبع، وقال‏:‏ مطيع بن إياس بن أبي قزعة سلم بن نوفل من بني الدول ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة‏.‏

وقيل‏:‏ من بني ليث بن بكر بن عبد مناة‏.‏ والدؤل وليث أخوان لأم وأب، وأم أمهما أم خارجة، وهي التي يضرب بها المثل، فيقال‏:‏ أسرع من نكاح أم خارجة‏.‏ ويكنى مطيع أبا سليم‏.‏ أدرك الدولتين‏.‏ وكان شاعراً ظريفاً، حلو العشرة، مليح النادرة‏.‏ وكان متهماً بالزندقة‏.‏

وكان يحيى بن زياد الحارثي، وحماد الراوية، وحماد عجرد، وابن المقفع، ووالية ابن الحباب لا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال، ولا ملك شيء، قل وكثر‏.‏ وكانوا جميعاً مطعونين في دينهم‏.‏ انتهى باختصار‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

لا تظلموا الناس كما لا تظلموا

على أن الكوفيين استدلوا به على أن كما تنصب الفعل كما هنا، وأن أصلها كيما‏.‏

وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السابع والخمسين بعد الستمائة‏.‏

وقد نقل ابن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف اختلاف أهل البلدين في هذه المسألة، فلا بأس بإيراده هنا، قال‏:‏ ذهب الكوفيون إلى أن كما تأتي بمعنى كيما، وينصبون بها ما بعدها، ولا يمنعون جواز الرفع‏.‏ واستحسنه أبو العباس المبرد من البصريين‏.‏ وذهب البصريون إلى أن كما لا تأتي بمعنى كيما، ولا يجوز نصب ما بعدها‏.‏

أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا‏:‏ الدليل على أن الفعل ينصب بها، أنه قد جاء ذلك كثيراً في كلامهم، قال صخر الغي‏:‏

جاءت كبير كما أخفره *** والقوم صيد كأنهم رمدوا

أراد‏:‏ كيما أخفرها، ولهذا انتصب أخفرها‏.‏

وقال الآخر‏:‏

وطرفك إما جئتنا فاصرفنه *** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر

أراد‏:‏ كيما يحسبوا‏.‏ وقال رؤبة‏:‏

لا تظلموا الناس كما لا تظلموا

راد‏:‏ كيما لا تظلموا‏.‏ وقال عدي بن زيد العبادي‏:‏

اسمع حديثاً كما يوماً تحدثه *** عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا

وقال آخر‏:‏

يقلب عينيه كما لأخافه *** تشاوس رويداً إنني من تأمل

أراد‏:‏ كيما أخافه، إلا انه أدخل اللام توكيداً، ولهذا المعنى كان الفعل منصوباً‏.‏ فهذه الأبيات كلها تدل على صحة ما ذهبنا إليه‏.‏ وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا‏:‏ إنما قلنا‏:‏ إنه لا يجوز النصب بها لأن الكاف في كما كاف التشبيه، أدخلت عليها ما، وجعلا بمنزلة حرف واحد، كما أدخلت ما على رب وجعلا بمنزلة حرف واحد، ويليها الفعل كربما‏.‏ وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك هاهنا‏.‏

وأما الجواب عن كلمات الكوفيين‏:‏ أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه، لأنه روي‏:‏ كما أخفرها بالفرع، لأن المعنى جاءت، كما أجيئها‏.‏

وكذلك رواه الفراء من أصحابكم، واختار الرفع في هذا البيت‏.‏ وهذه الرواية الصحيحة‏.‏

وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضاً؛ لأن الرواية‏:‏ لكي يحسبوا‏.‏

وأما البيت الثالث فلا حجة لهم فيه أيضاً؛ لأن الرواية فيه بالتوحيد‏:‏

لا تظلم الناس كما لا تظلم

كالرواية الأخرى‏:‏

لا تشتم الناس كما لا تشتم

وأما البيت الرابع فليس فيه أيضاً حجة؛ لأن الرواة اتفقوا على أن الرواية كما يوماً تحدثه، بالرفع، كقول أبي النجم‏:‏

قلت لشيبان ادن من لقائه *** كما تغدي القوم من شوائه

ولم يروه أحد كما يوماً تحدثه بالنصب إلا المفضل الضبي وحده، فإنه كان يرويه منصوباً، وإجماع الرواة من نحويي البصرة والكوفة على خلافه، والمخالف له أقوم منه بعلم العربية‏.‏ وأما البيت الخامس ففيه تكلف قبيح، والأظهر فيه‏:‏

يقلب عينيه لكيما أخافه

على أنه لو صح ما رووه من هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج ذلك عن حد الشذوذ والقلة، فلا يكون فيه حجة‏.‏ والله أعلم‏.‏ هذا ما أورده الأنباري‏.‏

وأنشده بعده‏:‏

الشاهد الأربعون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏

صددت وأطولت الصدود وقلم *** وصال على طول الصدود يدوم

على أن ما في قلما عند بعضهم زائدة، ووصال‏:‏ فاعل قلما‏.‏ وهي عند سيبويه كافة، ووصال‏:‏ مبتدأ‏.‏ أورده سيبويه في بابين من كتابه الأول في باب ما يحتمل الشعر، قال‏:‏ إنما الكلام‏:‏ وقلما يدوم وصال‏.‏ والثاني في باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل ولا تغير الفعل عن حاله‏.‏

قال‏:‏ ومن تلك الحروف ربما وقلما وأشبههما، جعلوا رب مع ما بمنزلة كلمة واحدة، وهيؤوها ليذكر بعدها الفعل، لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى رب يقول، ولا إلى قل يقول، فألحقوهما وأخلصوهما للفعل‏.‏

ومثل ذلك‏:‏ هلا، ولولا، وألا، ألزموهن لا وجعلوا كل واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد، وأخلصوهن للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض‏.‏ وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم، قال‏:‏

صددت وأطولت الصدود ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏البيت

انتهى‏.‏

قال النحاس‏:‏ أخبرنا علي بن سليمان، عن محمد بن يزيد المبرد، أنه خالف سيبويه في هذا، وجعل ما زائدة، وقدره‏:‏ وقل وصال يدوم على طول الصدود‏.‏ قال‏:‏ والصواب عندي ما ذهب إليه سيبويه، لأنه إنما أراد تقليل الدوام، وقلما نقيضه كثر ما‏.‏ وجعل سيبويه ما كافة‏.‏ انتهى‏.‏

وقول الشارح المحقق‏:‏ ووصال مبتدأ ظاهره أنه عند سيبويه مبتدأ‏.‏ وليس كذلك، وقصد به رد خمسة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ ما قدمه من أن بعضهم ذهب إلى أن ما في الأفعال الثلاثة مصدرية، والمصدر فاعل الفعل‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ لا يجوز أن تكون ما مصدرية لأنها معرفة، وقل تطلب النكرة، تقول‏:‏ قل رجل يفعل ذلك، فلذلك حكمت على من في قولهم‏:‏ قل من يفعل ذلك، أنها نكرة موصوفة‏.‏

وأيضاً لو كانت مصدرية لجاز أن تدخل على الماضي والمستقبل، وهي هاهنا، لا تدخل إلا على المستقبل‏.‏ انتهى‏.‏

ثانيها‏:‏ قول المبرد، وهو أن ما‏:‏ زائدة، ووصال‏:‏ فاعل قل‏.‏ قال الأعلم‏:‏ وهو ضعيف، لأن ما إنما تزاد في قل، ورب، لتليهما الأفعال، ويصيرا من الحروف المخترعة لها‏.‏

ثالثها ورابعها‏:‏ ما ذهب إليه الأعلم، قال‏:‏ أراد‏:‏ وقلما يدوم وصال، فقدم وأخر مضطراً لإقامة الوزن، والوصال على هذا التقدير فاعل مقدم، والفاعل لا يتقدم في الكلام، إلا أن يبتدأ به، وهو من وضع الشيء غير موضعه‏.‏

ونظيره قول الزباء‏:‏

ما للجمال مشيها وئيدا

أي‏:‏ وئيداً مشيها، فقدمت وأخرت ضرورة‏.‏ وفيه تقدير آخر وهو أن يرتفع بفعل مضمر يدل عليه الظاهر، فكأنه قال‏:‏ وقلما يدوم وصال يدوم‏.‏ وهذا أسهل في الضرورة، والأول أصح معنى، وإن كان أبعد في اللفظ‏.‏ انتهى‏.‏

وإلى الأول منهما ذهب ابن عصفور في الضرائر، قال‏:‏ يريد‏:‏ وقلما يدوم وصال على طول الصدود‏.‏ ففصل بين قلما، والفعل بالاسم المرفوع وبالمجرور‏.‏

خامسها‏:‏ ما ذهب إليه ابن السراج، قال في فصل الضرائر من الأصول‏:‏ ليس يجوز أن ترفع وصالاً يدوم، ولكن يجوز عندي على إضمار يكون، كأنه قال‏:‏ قلما يكون وصال يدوم على طول الصدود‏.‏

ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع حذف كان‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ فاعل ليثبت ويبقى، ونحوه مما يفسره يدوم‏.‏

وقد رد أبو علي وابن يعيش ما اختاره الشارح قال في البغداديات‏:‏ ولا يصلح ارتفاع وصال بالابتداء لأنه موضع فعل، كما لا يصلح أن يرتفع الاسم عند سيبويه يعد هلا التي للتحضيض، وإن التي للجزاء، وإذا الدالة على الزمان بالابتداء، ولكن يكون العامل في الاسم الواقع بعد هذه الحروف، فعلاً يفسروه ما يظهر بعدها من الأفعال‏.‏

وقد لخص ابن هشام في المغني هذه الأقوال، فقال‏:‏ وأما قوله‏:‏

صددت فأطولت الصدود وقلما البيت

فقال سيبويه‏:‏ ضرورة‏.‏ فقيل وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحاً، والشاعر أولاها فعلاً مقدراً، فإن وصال مرتفع بيدوم محذوفاً مفسراً بالمذكور‏.‏ وقيل‏:‏ وجهها أنه قدم الفاعل‏.‏

ورده ابن السيد بأن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في شعر ولا نثر‏.‏ وقيل‏:‏ وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية، كقوله‏:‏

فهلا نفس ليلى شفيعها

وزعم المبرد أن ما زائدة، ووصال فاعل ى مبتدأ‏.‏ وزعم بعضهم أن ما مع هذه الأفعال مصدرية لا كافة‏.‏ انتهى‏.‏

وأورد على ابن السيد بأن نص سيبويه ظاهر بأن وجه الضرورة تقديم الاسم على رافعه‏.‏ وإليه ذهب ابن عصفور‏.‏

وليس هذا معنى كلام سيبويه، فإن معناه لما اضطر الشاعر، قدم الاسم بعد قلما، وأضمر الفعل، لأن قلما من أدوات الفعل، فإنها بمنزلة حرف النفي‏.‏ كذا قرره خلف وغيره‏.‏

وقول ابن هشام‏:‏ ووصال فاعل لا مبتدأ، غير جيد، فإن المبرد مراده أن وصالاً فاعل قل، لا أنه فاعل يدوم، ولا غيره من الأوجه المذكورة‏.‏

واختار أبو علي على مذهبه، وأيده، فقال‏:‏ ولو قال قائل إن ما في البيت صلة، ووصال‏:‏ فاعل قل، ومرتفع به، ويدوم‏:‏ صفة لوصال، فلا يكون التأويل على ما ذكره سيبويه، لأن الفعل يبقى بلا فاعل، ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل‏.‏

وأيضاً فإن الفعل على تأويله يصير داخلاً على فعل، وهذا أيضاً غير موجود، لكان عندي أثبت‏.‏

ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه عليه، تجده دالاً على ما كان يدل عليه قبل دخول هذا الحرف من الحدث والزمان، فحكمه أن يقتضي الفاعل، ولا يخلو منه، كما لا يخل منه قبل‏.‏

ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل، من انتصابه بالظرف، وتعلقه بالفعل‏.‏ فقوله‏:‏

أعلاقة أم الوليد بعدم *** أفنان رأسك كالثغام المخلس

بعد منتصب بما نصب به المصدر الذي هو علاقة، فكذلك ينبغي أن يكون الفعل على ما كان عليه قبل دخول هذا الحرف، من اقتضائه للفاعل وإسناده إليه‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وقوله‏:‏ ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل يرد عليه زيادة كان في نحو‏:‏ ما كان أحسن زيداً‏.‏

وفيه أيضاً دخول فعل على فعل‏.‏ فقوله‏:‏ غير موجود ممنوع‏.‏

وقوله‏:‏ ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه تجده دالاً إلى آخره، يرد عليه أن الحرف المكفوف عن عمله باق على معناه، ولا ينكر أن يكف الفعل عن عمله في الفاعل، مع بقائه على معناه‏.‏

وقوله‏:‏ ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل انتصابه بالظرف وتعلقه بالفعل‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هذا يشهد عليه لا له، فإن الكلام في طلب المعمول لا في طلب العامل، والمعمول لبعد بالإضافة مفقود لوجود المانع، وهو الكف‏.‏ وهذا هو المدعى‏.‏ فلا يرد على سيبويه شيء مما ذكره‏.‏ والله أعلم‏.‏

وروى أبو محمد الأعرابي‏:‏

صددت فأطولت الصدود ولا أرى *** وصالاً على طول الصدود يدوم

وعليه لا شاهد فيه‏.‏ والبيت من أبيات للمرار الفقعسي، أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب، وفي فرحة الأديب، وهي‏:‏

صرمت ولم تصرم وأنت صروم *** وكيف تصابى من يقال حليم

صددت فأطولت الصدود وقلم *** وصال على طول الصدود يدوم

وليس الغواني للجفاء ولا الذي *** له عن تقاضي دينهن هموم

ولنما يستنجز الوعد تابع *** هواهن حلاف لهن أثيم

الصرم‏:‏ القطع، صرمه صرماً من باب ضرب، والاسم الصرم بالضم‏.‏ وكيف استفهام إنكاري‏.‏

وتصابي‏:‏ مصدر تصابى‏:‏ تكلف الصبوة، وهو الميل إلى الجهل والفتوة‏.‏ يقال‏:‏ صبا يصبو صبوة‏.‏ والحليم‏:‏ الرزين الوقور‏.‏ يعني‏:‏ أيجوز أن يتصابى من يقال هو حليم‏.‏

والصدود كالإعراض‏.‏ وأطولت كان القياس فيه أطلت، لكنه جاء مصححا على الأصل كاستحوذ‏.‏

والغواني‏:‏ جمع غانية، الجارية التي غنيت بزوجها، وقد تكون التي غنيت بحسنها وجمالها عن الزينة‏.‏ والجفاء‏:‏ خلاف البر، وجفوته أجفوه، إذا أعرضت عنه‏.‏ والتقاضي والاقتضاء‏:‏ طلب الدين، بفتح الدال‏.‏ وهموم‏:‏ جمع هم، مبتدأ وله خبر مقدم‏.‏ ويستنجز‏:‏ يطلب النجاز، وهو الوفاء‏.‏ ويروى‏:‏ مناهن بدل هواهن‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ يقول‏:‏ صرمت، ولم تصرم صرم بتات، ولك صرم دلال‏.‏ يخاطب نفسه ويلومها على طول الصدود، أي‏:‏ لا يدوم وصال الغواني إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن‏.‏ وفسر ذلك بالبيتين بعدهما‏.‏ انتهى‏.‏ ولما كان العاشق لا يحصل منه صرم، وإنما الصرم يكون من المعشوق، أجاب بأنه صرم دلالاً‏.‏ وأجاب غيره بأنه صرم تجلد لا إعراض‏.‏

وظن ابن هشام أن الخطاب مع الحبيبة لا مع النفس، فقال في بعض تعاليقه‏:‏ إن الصواب في البيت أن يقال‏:‏ وقلما وداد عوض وصال، وإن كان سيبويه وغيره أورده كذلك‏.‏

ونقله الدماميني عنه في الحاشية الهندية، وقال‏:‏ يعني أن تسليط النفي على دوام الوصال يقتضي ودود أصله، وليس كذلك، فإنه لا وصال أصلاً مع الصدود طال ولم يطل‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أنه إذا كان خطاباً مع النفس فلا يرد هذا، إذ من الجائز أن يبقى الوصال من المحبوبة مع صدود المحب‏.‏

ولما لم يقف الدماميني على الأبيات ظنه وارداً، فأجاب عنه بقوله‏:‏ قد يقال عبر بالوصال عن إرادته وتوقعه، وعلى حذف مضاف للقرينة، فإن المحب قد ييأس، من الوصل بطول الصدود واستمرار الإعراض، فينقطع رجاؤه منه، وتوقعه له، فيكون ذلك سبباً لسلوه، وعدم إرادته للوصال‏.‏ وكثيراً ما يقع ذلك لبعض الناس‏.‏ انتهى‏.‏

وأجاب غيره أيضاً بأنه إن أراد لا وصال مع الصدود في زمنه فمسلم، لكن من أين أن ذلك مراد الشاعر‏.‏

وإن أريد أنه لا وصال منه مطلقاً فممنوع، لجواز تقدم الوصال على الصدود، وتأخره عنه‏.‏ هذا كلامه‏.‏ ولو وقفوا على الأبيات لما فتحوا باب الإيراد والجواب‏.‏

وترجمة المرار الفقعسي تقدمت في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

يجرح في عراقيبها نصلي

هو قطعة من بيت، وهو‏:‏

وإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعه *** إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

فاعل تعتذر ضمير الإبل‏.‏ والمحل‏:‏ انقطاع المطر، ويبس الأرض‏.‏ والمراد بذي ضروعها‏:‏ اللبن‏.‏ والنصل‏:‏ حديدة السيف‏.‏ ومعنى اعتذارها للضيف أن لا يرى في ضروعها لبن‏.‏

يريد إن عدم لبنها عرقبتها بالسيف، وأطعمت لحمها للضيوف بدل لبنها‏.‏ وتقدم شرحه في الشاهد الثالث بعد المائة‏.‏

الحروف المشبهة بالفعل

أنشد فيها،

الشاهد الحادي والأربعون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

يا ليت أيام الصبا رواجعا

على أن الفراء استشهد به على نصب المبتدأ، والخبر بليت‏.‏

وقدر الكسائي رواجع خبراً لكان المحذوفة، لأن كان تستعمل كثيراً هنا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا ليتها كانت القاضية ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت معهم وقال الشاعر‏:‏

يا ليتها كانت لأهلي إبلاً

وقد بين الشارح المحقق ضعفه‏.‏ ومثله في مغني اللبيب، واعترض عليه، بأن تقدم إن ولو الشرطيتين شرط لكثرة حذف كان مع اسمها، وبقاء خبرها‏.‏ ولا محذور في كون البيت من القليل‏.‏ والبصريون يقدرون خبر ليت محذوفاً، ورواجع‏:‏ حال من ضميره، والتقدير‏:‏ يا ليت لنا أيام الصبا رواجع، ويا ليتها أقبلت رواجع‏.‏

قال سيبيويه في باب ما يحسن عليه السكوت، في هذه الأحرف الخمسة يعني إن وأخواتها، نحو‏:‏ إن مالاً، وإن ولداً‏.‏

إلى أن قال‏:‏ ومثل ذلك قول الشاعر‏:‏

يا ليت أيام الصبا رواجعا

فهذا كقولك‏:‏ ألا ماء بارداً، كأنه قال‏:‏ ألا ماء لنا بارداً‏.‏ وكأنه قال‏:‏ يا ليت لنا أيام الصبا رواجع، أي‏:‏ يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ المشهور رفع أخبار هذه الحروف‏.‏ وذهب ابن سلام في طبقات الشعراء وجماعة من المتأخرين إلى جوار نصبه، والكسائي إلى جوازه في ليت‏.‏

وكذا في نقل عن الفراء، وعنه أيضاً في ليت وكأن ولعل‏.‏ وزعم ابن سلام أنها لغة رؤبة وقومه، وحكي عن تميم أنهم ينصبون بلعل، وسمع ذلك في خبر غن، وكأن، ولعل، وكثر في خبر ليت حتى عمل عليه المولدون‏.‏

قال ابن المعتز‏:‏

مرت بنا سحراً طير فقلت له *** طوباك يا ليتني إياك طوباك

ولم يحفظ في خبر أن، ولا في خبر لكن‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ ويصح بيت ابن المعتز على إنابة ضمير النصب عن ضمير الرفع‏.‏ انتهى‏.‏

وزعم أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات أن نصب الجزأين بليت لغة بني تميم‏.‏ قال عند ذكر أسماء القوس، وأورد مثلاً من أمثالهم، ما هذا نصه‏:‏ وزعم أبو زياد أن يد القوس السية اليمنى‏.‏ قال‏:‏ واليمنى ما يكون عن يمينك حين تقبض عليها، وترمي، ورجلها عن يسارك حين ترمي‏.‏ وقال‏:‏ رجل القوس أتم من يدها‏.‏ قال‏:‏ ومن أمثال العرب‏:‏ ليت القياس كلها أرجلاً‏.‏

كذا قالها نصباً، وهي لغة لبني تميم‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ أرجل القسي إذا أوترت‏:‏ أعاليها؛ وأيديها‏:‏ أسافلها؛ وأرجلها أشد من أيديها‏.‏

وأنشد‏:‏

ليت القسي كلها من أرجل

والقول ما قال أبو زياد‏.‏ انتهى‏.‏

وظهر من كلام ابن الأعرابي أن المثل المذكور بيت، وأن خبر ليت فيه الجار والمجرور، لا كما رواه أبو زياد؛ فإنه مغير من هذا‏.‏ والله أعلم‏.‏

والبيت الشاهد من الأبيات الخمسين التي ما عرف قائلوها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وبيت ابن المعتز من أبيات قالها حين ما سلم لمؤنس للقتل، وهي‏:‏

يا نفس صبراً لعل الخير عقباك *** خانتك من بعد طول الأمن دنياك

مرت بنا سحراً طير فقلت له *** طوباك يا ليتني إياك طوباك

إن كان قصدك شوقاً بالسلام على *** شاطي الفرات ابلغي إن كان مثواك

من موثق بالمنايا لا فكاك له *** يبكي الدماء على إلف له باكي

إلى أن قال‏:‏

أظنه آخر الأيام من عمري *** وأوشك اليوم أن يبكي له الباكي

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والأربعون بعد الثمانمائة

كأن أذنيه إذا تشوف *** قادمةً وقلما محرفا

على أن أصحاب الفراء جوزوا نصب الجزأين بالخمسة الباقية أيضاً، ومنها كأن، وقد نصب الشاعر بها الجزأين‏:‏ الأول أذنيه، والثاني قادمة‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف أخبر عن الاثنين بالواحد‏؟‏ قلت‏:‏ إن العضوين المشتركين في فعل واحد مع اتفاقهما في التسمية، يجوز إفراد خبرهما، لأن حكمهما واحد‏.‏

وقد ذكرناه مفصلاً في باب المثنى‏.‏ وقد أجيب عن نصب الخبر بأجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ ما قاله الشارح المحقق، أنه لحن، وقد خطئ قائله وقت إنشاده، وأصلح له بما ذكر‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ حدثت أن العماني الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس‏:‏

كأن أذنيه إذا تشوف *** قادمةً وقلما محرفا

فعلم القوم كلهم أنه قد لحن، ولم يهتد أحد منهم لإصلاح البيت إلا الرشيد، فإنه قال له‏:‏ قل‏:‏

تخال أذنيه إذا تشوفا

والراجز، وإن كان قد لحن فقد أحسن التشبيه‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد، وكذا روى الصولي في كتاب الأوراق عن الطيب بن محمد الباهلي، عن موسى بن سعيد بن مسلم، أنه قال‏:‏ كان أبي يقول‏:‏ كان فهم الرشيد فهم العلماء، أنشده العماني في صفة فرس‏:‏

كأن أذنيه البيت

فقال له‏:‏ دع كأن وقل‏:‏ تخال أذنيه، حتى يستوي الشعر‏.‏

وقال ابن هشام في المغني‏:‏ وقيل أخطأ قائله، وقد أنشده بحضرة الرشيد فلحنه أبو عمرو والأصمعي‏.‏ وهذا وهم، فإن أبا عمرو توفي قبل الرشيد‏.‏ وتعقبه شراحه بأن هذا لا يصلح تعليلاً للوهم؛ فإن سبق وفاة أبي عمرو الرشيد لا ينافي حضور مجلسه، ولو غير خليفة، إلا أن يراد وهو خليفة، لأن أبا عمرو توفي سنة أربع وخمسين ومائة، والرشيد إنما ولي الخلافة سنة سبعين ومائة‏.‏

واعترض ابن السيد البطليوسي في حاشية الكامل على المبرد بأن هذا لا يعد لحناً، لأنه قد حكي أن من العرب من ينصب خبر كأن، ويشبهها بظننت‏.‏ وعلى هذا أنشد قول ذي الرمة‏:‏

كأن جلودهن مموهات *** على أبشارها ذهباً زلالا

وعليه قول النابغة الذبياني‏:‏

كأن التاج معصوباً عليه *** لأذواد أصبن بذي أبان

في أحد التأويلين‏.‏ انتهى‏.‏

ويمنع الأول بجعل مموهات حالاً من جلودهن، لأنه مفعول في المعنى، والخبر هو قوله‏:‏ على أبشارها‏.‏ والرواية مموهات على الخبرية‏.‏ يصف النساء‏.‏ والمموهات‏:‏ المطليات‏.‏

والأبشار‏:‏ جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد‏.‏ وذهباً‏:‏ المفعول الثاني لمموهات‏.‏ يقال‏:‏ موهه ذهباً‏.‏ والزلال‏:‏ الصافي من كل شيء‏.‏

ويمنع الثاني أيضاً بجعل عليه هو الخبر، ومعصوباً حالاً من التاج‏.‏ وذو أبان‏:‏ موضع‏.‏ يريد أنه أغار على قوم فأخذ منهم أذواد إبل، فيظن نفسه ملكاً‏.‏ يهزأ به‏.‏

والجواب الثاني أن خبر كأن محذوف، وقادمة مفعوله، والتقدير‏:‏ يحكيان قادمة‏.‏

والثالث‏:‏ أن الرواية‏:‏

قادمت وقلما محرفا

بألفات من غير تنوين، على أن الأصل قادمتان وقلمان محرفان، فحذفت النون لضرورة الشعر‏.‏ وعليه اقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر، وقال‏:‏ هكذا أنشده الكوفيون، ونظروا به قول أبي حناء‏:‏

قد سالم الحيات منه القدما

بنصب الحيات وحذف النون من القدمان‏.‏

والرابع‏:‏ أن الرواية‏:‏

تخال أذنيه لا‏:‏ كأن أذنيه‏.‏

حكى هذه الأجوبة ابن هشام في المغني‏.‏ والعامل في إذا ما في كأن من معنى التشبيه‏.‏ وتشوف‏:‏ تطلع‏.‏ والمراد نصب الأذن للاستماع‏.‏ ويجوز أن تكون ضمير الأذنين، وأن تكون للإطلاق‏.‏

والقادمة‏:‏ إحدى قوادم الطير، وهي مقاديم ريشه، في كل جناح عشرة‏.‏ والقلم‏:‏ آلة الكتابة‏.‏

والمحرف‏:‏ المقطوط لا على جهة الاستواء، بل يكون الشق الوحشي أطول من الشق الإنسي‏.‏ وهذا المعنى أصله لعدي بن زيد العبادي، وهو‏:‏

يخرجن من مستطير النقع داميةً *** كأن آذانها أطراف أقلام

والعماني من مخضرمي الدولتين، عاش مائة وثلاثين سنة‏.‏ قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ العماني الفقيمي‏:‏ هو محمد بن ذؤيب، ولم يكن من أهل عمان، ولكن نظر إليه دكين الراجز، فقال‏:‏ من هذا العماني‏.‏ وذلك أنه كان مصفراً مطحولاً، وكذلك أهل عمان‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ومن يسكن البحرين يعظم طحاله *** ويغبط بما في بطنه وهو جائع

ودخل على الرشيد لينشده، وعليه قلنسوة وخف ساذج، فقال‏:‏ إياك وأن تدخل إلي إلا وعليك خفان دمالقان وعمامة عظيمة الكور‏.‏ فدخل عليه، وقد تزيا بزي الأعراب، فأنشده وقبل يده، وقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، قد والله أنشدت مروان، ورأيت وجهه، وقبلت يده، وأخذت جائزته‏.‏ ثم يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ثم السفاح، ثم المنصور، ثم المهدي؛ كل هؤلاء رأيت وجههم، وقبلت أيديهم، وأخذت جوائزهم، لا والله ما رأيت فيهم يا أمير المؤمنين أندى كفاً، ولا أبهى منظراً، ولا أحسن وجهاً منك‏.‏ فأجزل له الرشيد الجائزة، وأضعفها له على كلامه، وأقبل عليه فبسطه، حتى تمنى جميع من حضر أنه قام ذلك المقام‏.‏ انتهى‏.‏

وعزا بعضهم هذا الشعر لأبي نخيلة، وتقدمت ترجمته في الشاهد العشرين من أول الكتاب‏.‏

وزعم ابن الملا في شرح المغني أن العماني كنيته أبو نخيلة‏.‏ وهو خلاف الواقع، بل هما راجزان‏.‏

وعمان بضم العين وتخفيف الميم‏:‏ بلد على شاطئ البحرين، بين البصرة وعدن، وإليه يضاف الأزد، فيقال‏:‏ أزد عمان‏.‏ كذا بخط مغلطاي على هامش معجم ما استعجم للبكري‏.‏

وقال البكري‏:‏ عمان‏:‏ مدينة معروفة إليها ينسب العماني الراجز، سميت بعمان بن سنان بن إبراهيم عليه السلام، كان أول من اختطها، ذكر ذلك الشرقي بن القطامي‏.‏ وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم، فهي قرية من عمل دمشق، سميت بعمان بن لوط عليه السلام‏.‏ انتهى‏.‏

تتمة

قول الشارح المحقق‏:‏ ويجوز عند بعض أصحاب الفراء نصب الجزأين بالخمسة الباقية أيضاً، تقدم عن أبي حيان، أنه لم يرد نصب خبر أن المفتوحة الهمزة وخبر لكن، فالوارد عندهم، إنما هو في أربعة منها‏:‏ في ليت، وفي كأن، وتقدما‏.‏

الثالث‏:‏ إن المكسورة‏.‏

وأنشدوا‏:‏

إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن *** خطاك خفافاً إن حراسنا أسدا

وخرج على حذف الخبر، ونصب أسداً على الحالية، أي‏:‏ تلقاهم أسداً‏.‏

وأما الحديث فقد أورده ابن هشام في المغني كذا‏:‏ إن قعر جهنم سبعين خريفاً بلا لام، وقال‏:‏ خرج الحديث على أن القعر مصدر قعرت البئر، إذا بلغت قعرها‏.‏ وسبعين‏:‏ ظرف، أي‏:‏ إن بلوغ قعرها يكون في سبعين عاماً‏.‏ وهذا التخريج والرواية غير ما ذكره الشارح‏.‏

والرابع‏:‏ لعل‏.‏ قال ابن هشام في المغني‏:‏ قال بعض أصحاب الفراء‏:‏ وقد تنصبهما‏.‏

وزعم يونس أن ذلك لغة لبعض العرب، وحكى لعل أباك منطلقاً، وتأويله عندنا على إضمار يوجد، وعند الكسائي على إضمار يكون‏.‏ انتهى‏.‏

وذاك الحديث هو كلام أبي هريرة، لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والمروي‏:‏ لسبعين باللام‏.‏

والحديث رواه مسلم في أحاديث الشفاعة في أواخر كتاب الإيمان من أول صحيحه عن أبي هريرة وحذيفة، قالا‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون‏:‏ يا أبانا استفتح لنا الجنة‏.‏ فيقول‏:‏ وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ‏.‏

وذكر الحديث بطوله، وآخره‏:‏ والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً ‏.‏

قال النووي‏:‏ وقع في بعض الأصول لسبعون بالواو، وهو ظاهر، وفيه حذف تقديره‏:‏ إن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة‏.‏ ووقع في معظم الأصول والروايات‏:‏ لسبعين بالياء، وهو صحيح أيضاً، إما على مذهب من يحذف المضاف، ويبقي المضاف إليه على جره فيكون التقدير‏:‏ سير سبعين‏.‏

وإما على أن قعر جهنم مصدر، يقال‏:‏ قعرت الشيء، إذا بلغت قعره، ويكون سبعين ظرف زمان، وفيه خبر غن، والتقدير‏:‏ إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ الأجود رفع لسبعون على الخبر، وبعضهم يرويه‏:‏ لسبعين، يتأول فيه الظرف‏.‏ وفيه بعد‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والأربعون بعد الثمانمانة

يا ليت أني وسبيعاً في غنم *** والخرج منها فوق كراز أجم

على أن أن مع اسمها وخبرها مغنية عن المعمولين، وهذا مما انفردت به ليت‏.‏ قال أبو حيان في الارتشاف‏:‏ ولا يجوز دخول لعل، على أن، فتقول‏:‏ لعل أن زيداً قائم، ولا كأن فتقول‏:‏ كأن أنك ذاهب، ولا لكن فتقول‏:‏ لكن أنك منطلق، خلافاً للأخفش في هذه الثلاثة‏.‏ ولا دخول إن على أن، فتقول‏:‏ إن أن زيداً منطلق حق، وإن أنك قائم يعجبني‏.‏ خلافاً للفراء وهشام‏.‏

ومذهب سيبويه أنه لايجوز شيء من هذا إلا بفصل أخبار بينها وبين أن، إلا ما جاء في ليت‏.‏ فتقول‏:‏ إن عندي أنك فاضل، وكأن في نفسك أنك عالم، وكذا ما قبلها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الخباز في النهاية‏:‏ يجوز إدخال إن وأن على أن المصدرية من غير فعل، نحو‏:‏ إن أن تزورنا خير لك، وعلمت أن أن تطيع الله خير لك‏.‏ انتهى‏.‏

واعلم أنه قد تزاد الباء في أن بعد ليت، نحو قوله‏:‏

فليت بأنه في جوف عكم

كما نبه عليه الشارح المحقق في خبر ما ولا، وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والسبعين بعد المائتين‏.‏

والبيت أنشده ابن السكيت في إصلاح المنطق قال فيه‏:‏ يقال‏:‏ جعل متاعه في خرجه وكرزه، والكرز والخرج سواء‏.‏ ويقال للكبش الذي يحمل خرج الراعي‏:‏ كراز‏.‏ قال الراجز‏:‏

يا ليت أني وسبيعاً إلخ

قال شارحه اللبلي‏:‏ الخرج‏:‏ الوعاء من صوف وأدم وكتان، والجمع أخراج وخرجة‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ الكرز‏:‏ الجوالق الصغير، وإنما سمي الكبش كرازاً، لأنه يحمل خرج الراعي بزاده وبأداة كنفه، وحجارته وزناده‏.‏

وقوله‏:‏ إن الخرج والكرز واحد هو الصحيح، لأن الكبش لا يحمل الجوالق، إنما يحمل الخرج‏.‏ وقوله‏:‏

يا ليت أني البيت

يقول‏:‏ يا ليتني وهذا الرجل في غنم نسوقها، وقد علقت على كبش منها خرجاً فيه زادي‏.‏ انتهى‏.‏ وقال شارح أبياته يوسف بن السيرافي‏:‏ الأجم، بالجيم‏:‏ الذي لا قرن له‏.‏ وإنما تمنى أن يكون الخرج على كبش أجم، لأنه لا ينطح، ولا يؤذي‏.‏ وسبيع‏:‏ اسم رجل‏.‏ يجوز أن يكون ابنه، وصاحبه‏.‏ انتهى‏.‏

وأورده الجوهري في موضعين من الصحاح أولهما في كرز قال فيه‏:‏ ابن السكيت‏:‏ الكرز‏:‏ الخرج‏.‏ قال‏:‏ والجمع الكرزة مثل جحر وجحرة‏.‏

والكراز‏:‏ الكبش الذي يحمل كرز الراعي ولا يكون إلا أجم، لأن الأقرن يشتغل بالنطاح‏.‏ وأنشد‏:‏

يا ليت أني وسبيعاً إلخ

والموضع الثاني أورده في مادة سبع قال‏:‏ سبيع بالتصغير‏:‏ اسم رجل‏.‏

ولم يكتب ابن بري في حاشيته عليه هنا شيئاً‏.‏ وكذلك الصفدي‏.‏ وحذا حذوه الصاغاني في العباب، ولم أر منهم من ذكر قائله‏.‏

وقوله‏:‏ والخرج‏:‏ مبتدأ، وفوق‏:‏ ظرف خبره، ومنه حال من الضمير المستتر في أجم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

على أن جملة هل رأيت‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، في موضع الصفة لمذق، بتأويل، وهو أن تكون محكية بقول محذوف، هو الوصف، والتقدير‏:‏ جاؤوا بمذق مقول فيه‏:‏ هل رأيت إلخ‏.‏

وتقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والأربعون بعد الثمانمائة

ولو أرادت لقالت وهي صادقة *** إن الرياضة لا تنصبك للشيب

على أن الجملة الطلبية يجوز أن تقع خبراً لإن كما هنا، فإن جملة النهي، وهي جملة‏:‏ لا تنصبك، خبر إن‏.‏ وكذا قال أبو علي في كتاب الشعر، وأنشد هذا البيت‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ذكريني *** ودلي دل ما جدة صناع

وفي الارتشاف‏:‏ وفي دخول إن على ما خبره نهي خلاف، صحح ابن عصفور جوازه في شرحه الصغير للجمل، وتأول ذلك في شرحه الكبير في قوله‏:‏

إن الرياضة لا تنصبك للشيب

وعلى المنع نصوص شيوخنا‏.‏

وقال في شرحه الصغير لكتاب الجمل‏:‏ أما الجملة غير المحتملة للصدق والكذب ففي وقوعها خبراً لهذه الحروف خلاف، والصحيح أنها تقع في موضع خبرها‏.‏ انتهى‏.‏

فأطلق‏.‏ ولا يصح أن يكون في ليت، ولعل، ولا كأن‏.‏ وإن ألحق لكن بإن فيمكن‏.‏ انتهى‏.‏

وكان عليه أن يضم إلى هذه الثلاثة أن المفتوحة الهمزة، كما بينه الشارح المحقق‏.‏ فظهر أن وقوع الطلبية في إن المكسورة فيه خلاف‏:‏ منهم من أجاز، ومنهم من منع‏.‏

ولم يصب ابن هشام في النقل عن النحويين، أنهم منعوا وقوع الطلبية خبراً لها، وأضمر القول في قوله‏:‏

إن الذين قتلتم أمس سيدهم *** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

وقول الآخر‏:‏

إني إذا ما القوم كانوا أنجيه *** واضطرب القوم اضطراب الأرشيه

هناك أوصيني ولا توصي بيه

والبيت من قصيدة عدتها اثنا عشر بيتاً، للجميح الأسدي، ذكر فيها نشوز امرأته لقلة ماله، أوردها المفضل الضبي في المفضليات، وأولها‏:‏

أمست أمامة صمتاً ما تكلمن *** مجنونة أم أحست أهل خروب

مرت براكب ملهوز فقال له *** ضري الجميح ومسيه بتعذيب

ولو أصابت لقالت وهي صادقة *** إن الرياضة لا تنصبك للشيب

أمامة‏:‏ زوج الجميح‏.‏ وصمتاً‏:‏ مصدر وقع حالاً‏.‏ وأهل خروب بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء‏:‏ قومها‏.‏

قال ابن الأنباري في شرحه‏:‏ يقول‏:‏ ما لها أمست صامتة، أي‏:‏ ساكنة، لا تكلمنا، أخالطها جنون، أم لقيت أهل خروب، وهم قومها، فأفسدوها فغضبت‏.‏

وقوله‏:‏ مرت براكب‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، يقول‏:‏ مرت براكب جمل ملهوز فأفسدها على زوجها‏.‏ والملهوز‏:‏ الموسوم في أصل لحييه، أي‏:‏ أمرها بمضارة زوجها ليطلقها، فيتزوجها‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ ملهوز‏:‏ موسوم بغير ميسمه‏.‏ يقول‏:‏ مرت برجل من أعدائه، ومن ميسمه غير ميسمي، فأمرها بمضارتي‏.‏

ويقال‏:‏ مرت برجل من قومها، فأفسدها عليه ليتزوجها‏.‏ وضري، بضم الضاد‏:‏ أمر بالضر‏.‏

ومسيه، بفتح الميم، أي‏:‏ أوصلي إليه العذاب‏.‏ في المصباح‏:‏ مسسته من باب تعب، وفي لغة مسسته مساً، من باب قتل‏:‏ أفضيت إليه من غير حائل‏.‏ هكذا قيدوه‏.‏

وقوله‏:‏ ولو أرادت لقالت رواية ابن الأنباري‏:‏ ولو أصابت لقالت‏.‏ والرياضة‏:‏ تهذيب الأخلاق النفسية‏.‏

وتنصبك‏:‏ مضارع أنصبه إنصاباً، أي‏:‏ أتعبه، متعدي نصب نصباً من باب فرح، إذا تعب وأعيا‏.‏ وللشيب متعلق برياضة، وهو جمع أشيب‏.‏

في المصباح‏:‏ شاب يشيب شيباً وشيبة، والرجل أشيب على غير قياس، والجمع شيب‏.‏ ولا يقال‏:‏ امرأة شيباء، وإن قيل‏:‏ شاب رأسها‏.‏

والمشيب‏:‏ الدخول في حد الشيب‏.‏ وقد يستعمل المشيب بمعنى الشيب، وهو ابيضاض الشعر المسود‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ يقول‏:‏ أنا شيخ مجرب لا أحفل بمضارتها، لعلمي بإرادتها‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ قوله‏:‏ لا تنصبك للشيب، نهاه عن رياضة المسان‏.‏

يقول‏:‏ ولو أصابت الصواب، ووفقت له، لقالت للرجل الذي أمرها بمضارتي‏:‏ لا جعلك الله ممن ينصب برياضة المسان، فإن رياضتك إياهم عناء عليك، وتعب لا يجدي عليك شيئاً، لأنهم قد يئسوا عن ذلك وجربوا، فلا يسمعون ما يؤمرون به، لما معهم من التجربة‏.‏ وهذا دعاء في صورة النهي‏.‏

قال بعض المحدثين‏:‏

كبر الكبير عن الأدب *** أدب الكبير من التعب

والجميح، بضم الجيم وفتح الميم مصغر، قال ابن الأنباري‏:‏ هو لقب، واسمه منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعين بن طريف بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان‏.‏

قال أحمد‏:‏ والطماح بن منقذ هو صاحب امرئ القيس الذي دخل معه بلاد الروم، ووشى به إلى قيصر، فصار سبباً لهلاكه‏.‏

وإياه عنى امرؤ القيس بقوله‏:‏

لقد طمح الطماح من بعد أرضه *** ليلبسني من دائه ما تلبسا

انتهى‏.‏

وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ الجميح لقبه، واسمه منقذ بن الطماح بن قيس الأسدي‏.‏ وهو فارس شاعر جاهلي، قتل يوم جبلة‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت الذي أورده ابن هشام، وهو‏:‏

إن الذين قتلتم أمس سيدهم إلخ

لم يعرفه شراح المغني‏.‏

وقد أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب من جملة أبيات‏.‏ قال‏:‏ خرج غلام من بني سعد بن ثعلبة، وغلام من بني مالك بن مالك، في إبل لهما، ومع السعدي سيف له، فقال المالكي‏:‏ والله ما في سيفك هذا خير، لو ضربت به عنقي ما قطعه‏.‏

قال‏:‏ فمد عنقك‏.‏ ففعل فضرب السعدي عنقه، فقطعه‏.‏ فخرجت بنو مالك بن مالك، وأخذوا السعدي، فقتلوه، فاحتربت بنو سعد بن ثعلبة، وبنو مالك بن مالك، فمشت السفراء بينهم، فقالت بنو يعد بن ثعلبة‏:‏ لا نرضى حتى نعطى مائة من صاحبنا، وتعطى بنو مالك سبعين‏.‏ فغضب لهم بنو سعد بن مالك، فقال أبو مكعت، أخو بني سعد بن مالك‏:‏

إن الذين قتلتم أمس سيدهم *** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

من يولهم صالحاً نمسك بجانبه *** ومن يضمهم فإيانا إذن ضاما

أدوا الذي نقضت سبعين من مائة *** وابعثوا حكماً بالحق علاما

أي‏:‏ أدونا مائة كاملة، فإذا وضعت سبعين من مائة، بقيت ثلاثون، فكأنه قال‏:‏ أدوا الدية التي التزمتم منها سبعين من مائة‏.‏

وآذنونا بحرب تأتكم سمر *** حرب تغادر تحت النقع أقواما

أبلغ بني مالك عني مغلغلةً *** أن السنان إذا ما أكره اعتاما

وأبو مكعت هو الذي كان يحيض في الجاهلية‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏