فصل: باب المرتد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار ***


باب المرتد

شروع في بيان أحكام الكفر الطارئ بعد بيان الأصلي أي الذي لم يسبقه إيمان ‏(‏قوله وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان‏)‏ هذا بالنسبة إلى الظاهر الذي يحكم به الحاكم، وإلا فقد تكون بدونه كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوى أن يكفر بعد حين أفاده ‏(‏قوله بعد الإيمان‏)‏ خرج به الكافر إذا تلفظ بمكفر، فلا يعطى حكم المرتد نعم قد يقتل الكافر، ولو امرأة إذا أعلن بشتمه صلى الله عليه وسلم كما مر في الفصل السابق ‏(‏قوله هو تصديق إلخ‏)‏ معنى التصديق قبول القلب، وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء، ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها‏.‏ ا هـ‏.‏ ح عن شرح المسايرة ‏(‏قوله وهل هو فقط‏)‏ أي وهل الإيمان التصديق فقط، وهو المختار عند جمهور الأشاعرة وبه قال الماتريدي عن شرح المسايرة ‏(‏قوله أو هو مع الإقرار‏)‏ قال في المسايرة‏:‏ وهو منقول عن أبي حنيفة، ومشهور عن أصحابه وبعض المحققين من الأشاعرة وقال الخوارج‏:‏ هو التصديق مع الطاعة، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية وقال الكرامية‏:‏ هو التصديق باللسان فقط فإن طابق تصديق القلب، فهو مؤمن ناج وإلا فهو مؤمن مخلد في النار‏.‏ ا هـ‏.‏ ح قلت‏:‏ وقد حقق في المسايرة أنه لا بد في حقيقة الإيمان من عدم ما يدل على الاستخفاف من قول أو فعل ويأتي بيانه‏.‏ ‏(‏قوله والإقرار شرط‏)‏ هو من تتمة القول الأول أما على القول الثاني فهو شطر لأنه جزء من ماهية الإيمان، فلا يكون بدونه مؤمنا لا عند الله تعالى، ولا في أحكام الدنيا لكن بشرط أن يدرك زمنا يتمكن فيه من الإقرار وإلا فيكفيه التصديق اتفاقا كما ذكره التفتازاني في شرح العقائد ‏(‏قوله لإجراء الأحكام الدنيوية‏)‏ أي من الصلاة عليه، وخلفه والدفن في مقابر المسلمين والمطالبة بالعشور، والزكوات ونحو ذلك ولا يخفى أن الإقرار لهذا الغرض لا بد أن يكون على وجه الإعلان، والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام، بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم، وإن لم يظهر على غيره كذا في شرح المقاصد ‏(‏قوله بعد الاتفاق‏)‏ أي بعد اتفاق القائلين بعدم اعتبار الإقرار قال في شرح المسايرة‏:‏ واتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار، على أنه يلزم المصدق أن يعتقد أنه متى طولب به أتى به فإن طولب به فلم يقر به فهو أي كفه عن الإقرار كفر عناد، وهذا ما قالوا إن ترك العناد شرط وفسروه به أي فسروا ترك العناد بأن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به ا هـ‏.‏ بقي ما لو لم يعتقد ذلك بأن كان خالي الذهن، أو اعتقد أنه متى طولب به لا يأتي به لكنه عند ما طولب به أتى به فهل يكفي نظرا لحصول المقصود أو لا يكفي نظرا لاشتراطهم الاعتقاد السابق فليحرر‏.‏ ا هـ‏.‏ ح‏.‏ أقول‏:‏ الظاهر أن المراد بالاشتراط المذكور نفي اعتقاد عدمه أي لا يعتقد أنه متى طولب به لا يقر، وفي شرح المقاصد وشرح التحرير ما يفيده ونصه‏:‏ ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا، وترك التكلم لا على وجه الإباء إذ العاجز كالأخرس مؤمن اتفاقا والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من أمارات عدم التصديق ولهذا أطبقوا على كفر أبي طالب فظهر أن خالي الذهن لو أتى به عند المطالبة مؤمن لعدم الإصرار على عدم الإقرار، ومن اعتقد عدم الإتيان به عندها ليس مؤمنا فلو أتى به عندها كان ذلك إيمانا مستأنفا هذا ما ظهر لي ‏(‏قوله من هزل بلفظ كفر‏)‏ أي تكلم به باختياره غير قاصد معناه، وهذا لا ينافي ما مر من أن الإيمان هو التصديق فقط أو مع الإقرار لأن التصديق، وإن كان موجودا حقيقة لكنه زائل حكما لأن الشارع جعل بعض المعاصي أمارة على عدم وجوده كالهزل المذكور، وكما لو سجد لصنم أو وضع مصحفا في قاذورة فإنه يكفر، وإن كان مصدقا لأن ذلك في حكم التكذيب، كما أفاده في شرح العقائد، وأشار إلى ذلك بقوله للاستخفاف، فإن فعل ذلك استخفاف واستهانة بالدين فهو أمارة عدم التصديق ولذا قال في المسايرة‏:‏ وبالجملة فقد ضم إلى التصديق بالقلب، أو بالقلب واللسان في تحقيق الإيمان أمور الإخلال بها إخلال بالإيمان اتفاقا، كترك السجود لصنم، وقتل نبي والاستخفاف به، وبالمصحف والكعبة‏.‏ وكذا مخالفة أو إنكار ما أجمع عليه بعد العلم به لأن ذلك دليل على أن التصديق مفقود، ثم حقق أن عدم الإخلال بهذه الأمور أحد أجزاء مفهوم الإيمان فهو حينئذ التصديق والإقرار وعدم الإخلال بما ذكر بدليل أن بعض هذه الأمور، تكون مع تحقق التصديق والإقرار، ثم قال ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفر الحنفية بألفاظ كثيرة، وأفعال تصدر من المنتهكين لدلالتها على الاستخفاف بالدين كالصلاة بلا وضوء عمدا بل بالمواظبة على ترك سنة استخفافا بها بسبب أنه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم زيادة أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه أو إحفاء شاربه ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ ويظهر من هذا أن ما كان دليل الاستخفاف يكفر به، وإن لم يقصد الاستخفاف لأنه لو توقف على قصده لما احتاج إلى زيادة عدم الإخلال بما مر لأن قصد الاستخفاف مناف للتصديق ‏(‏قوله فهو ككفر العناد‏)‏ أي ككفر من صدق بقلبه وامتنع عن الإقرار بالشهادتين عنادا ومخالفة فإنه أمارة عدم التصديق وإن قلنا إن الإقرار ليس ركنا ‏(‏قوله والكفر لغة الستر‏)‏ ومنه سمي الفلاح كافرا لأنه يستر البذر في الأرض ومنه كفر النعمة وهو موجود في المعنى الشرعي لأنه ستر ما وجب إظهاره‏.‏ ‏(‏قوله تكذيبه صلى الله عليه وسلم إلخ‏)‏ المراد بالتكذيب عدم التصديق الذي مر أي عدم الإذعان والقبول، لما علم مجيئه به صلى الله عليه وسلم ضرورة، أي علما ضروريا لا يتوقف على نظر واستدلال، وليس المراد التصريح بأنه كاذب في كذا لأن مجرد نسبة الكذب إليه صلى الله عليه وسلم كفر وظاهر كلامه تخصيص الكفر بجحد الضروري فقط، مع أن الشرط عندنا ثبوته على وجه القطع وإن لم يكن ضروريا، بل قد يكون استخفافا من قول أو فعل كما مر، ولذا ذكر في المسايرة أن ما ينفي الاستسلام أو يوجب التكذيب، فهو كفر فما ينفي الاستسلام كل ما قدمناه عن الحنفية أي مما يدل على الاستخفاف، وما ذكر قبله من قتل نبي إذ الاستخفاف فيه أظهر وما يوجب التكذيب جحد كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ادعاؤه ضرورة، وأما ما لم يبلغ حد الضرورة كاستحقاق بنت الابن السدس مع البنت بإجماع المسلمين، فظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده فإنهم لم يشرطوا سوى القطع في الثبوت ويجب حمله على ما إذ علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير، وهو التكذيب أو الاستخفاف عند ذلك يكون أما إذا لم يعلم فلا إلا أن يذكر له أهل العلم ذلك فيلج ا هـ‏.‏

مطلب في منكر الإجماع

وهذا موافق لما قدمناه عنه من أنه يكفر بإنكار ما أجمع عليه بعد العلم به، ومثله ما في نور العين عن شرح العمدة أطلق بعضهم، أن مخالف الإجماع يكفر والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها فالأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع‏.‏ ا هـ‏.‏ ثم نقل في نور العين عن رسالة الفاضل الشهير حسام جلبي من عظماء علماء السلطان سليم بن بايزيدخان ما نصه إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة أو لم يكن الخبر متواترا، أو كان قطعيا لكن فيه شبهة أو لم يكن الإجماع إجماع الجميع أو كان ولم يكن إجماع الصحابة أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة أو كان إجماع جميع الصحابة ولم يكن قطعيا بأن لم يثبت بطريق التواتر أو كان قطعيا لكن كان إجماعا سكوتيا ففي كل من هذه الصور لا يكون الجحود كفرا يظهر ذلك لمن نظر في كتب الأصول فاحفظ هذا الأصل فإنه ينفعك في استخراج فروعه حتى تعرف منه صحة ما قيل، إنه يلزم الكفر في موضع كذا، ولا يلزم في موضع آخر‏.‏ ا هـ‏.‏

‏[‏تنبيه‏]‏

في البحر والأصل أن من اعتقد الحرام حلالا فإن كان حراما لغيره كمال الغير لا يكفر وإن كان لعينه فإن كان دليله قطعيا كفر، وإلا فلا وقيل التفصيل في العالم أما الجاهل فلا يفرق بين الحرام لعينه ولغيره وإنما الفرق في حقه أن ما كان قطعيا كفر به وإلا فلا فيكفر إذا قال الخمر ليس بحرام وتمامه فيه ‏(‏قوله بل أفردت بالتآليف‏)‏ من أحسن ما ألف فيها ما ذكره في آخر نور العين، وهو تأليف مستقل ومن ذلك كتاب الإعلام في قواطع الإسلام لابن حجر المكي ذكر فيه المكفرات عند الحنفية والشافعية وحقق فيه المقام، وقد ذكر في البحر جملة من المكفرات‏.‏

مطلب ما يشك في أنه ردة لا يحكم بها

‏(‏قوله قال في البحر إلخ‏)‏ سبب ذلك ما ذكره قبله بقوله وفي جامع الفصولين، روى الطحاوي عن أصحابنا لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها وما يشك أنه ردة لا يحكم بها إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المكره‏.‏ أقول‏:‏ قدمت هذا ليصير ميزانا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها إنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة فليتأمل ا هـ‏.‏ ما في جامع الفصولين وفي الفتاوى الصغرى‏:‏ الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر ا هـ‏.‏ وفي الخلاصة وغيرها‏:‏ إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم زاد في البزازية إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل ح وفي التتارخانية‏:‏ لا يكفر بالمحتمل، لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ومع الاحتمال لا نهاية ا هـ‏.‏ والذي تحرر أنه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير فيها ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها ا هـ‏.‏ كلام البحر باختصار‏.‏

‏(‏قوله والطوع‏)‏ أي الاختيار احترازا عن الإكراه ودخل فيه الهازل كما مر لأنه يعد مستخفا لتعمده التلفظ به، وإن لم يقصد معناه وفي البحر عن الجامع الأصغر‏:‏ إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمدا، لكنه لم يعتقد الكفر قال بعض أصحابنا‏:‏ لا يكفر لأن الكفر يتعلق بالضمير ولم يعقد الضمير على الكفر، وقال بعضهم‏:‏ يكفر وهو الصحيح عندي لأنه استخف بدينه‏.‏ ا هـ‏.‏ ثم قال في البحر والحاصل‏:‏ أن من تكلم بكلمة للكفر هازلا أو لاعبا كفر عند الكل ولا اعتبار باعتقاده كما صرح به في الخانية ومن تكلم بها مخطئا أو مكرها لا يكفر عند الكل، ومن تكلم بها عامدا عالما كفر عند الكل ومن تكلم بها اختيارا جاهلا بأنها كفر ففيه اختلاف‏.‏ ا هـ‏.‏ ‏(‏قوله ومعتوه‏)‏ عزاه في النهر إلى السراج، وهو الناقص العقل وقيل المدهوش من غير جنون كذا في المغرب، وفي إحكامات الأشباه أن حكمه حكم الصبي العاقل فتصح العبادات منه ولا تجب، وقيل‏:‏ هو كالمجنون وقيل كالبالغ العاقل‏.‏ ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ والأول هو الذي صرح به الأصوليون ومقتضاه أن تصح ردته لكنه لا يقتل كما هو حكم الصبي العاقل تأمل‏.‏ ثم رأيت في الخانية قال‏:‏ وأما ردة المعتوه فلم تذكر في الكتب المعروفة قال مشايخنا هو في حكم الردة بمنزلة الصبي‏.‏ ا هـ‏.‏ ‏(‏قوله وموسوس‏)‏ بالكسر ولا يقال بالفتح ولكن موسوس له أو إليه أي تلقى إليه الوسوسة، وقال الليث‏:‏ الوسوسة حديث النفس، وإنما قيل موسوس لأنه يحدث بما في ضميره وعن الليث لا يجوز طلاق الموسوس قال‏:‏ يعني المغلوب في عقله، وعن الحاكم هو المصاب في عقله إذا تكلم يتكلم بغير نظام كذا في المغرب ‏(‏قوله وصبي لا يعقل‏)‏ قدر عقله في فتاوى قارئ الهداية بأن يبلغ سبع سنين نهر وسيأتي آخر الباب ‏(‏قوله وسكران‏)‏ أي ولو من محرم لما في إحكامات الأشباه أن السكران من محرم كالصاحي إلا في ثلاث‏:‏ الردة، والإقرار بالحدود الخالصة، والإشهاد على شهادة نفسه إلخ ‏(‏قوله ومكره عليها‏)‏ أي على الردة والمراد الإكراه بملجئ من قتل أو قطع عضو أو ضرب مبرح فإنه يرخص له أن يظهر ما أمر به على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين زوجته استحسانا كما سيجيء في بابه ‏(‏قوله فليسا بشرط‏)‏ هذا في الذكورة بالاتفاق وأما في البلوغ فعندهما خلافا لأبي يوسف كما يأتي آخر الباب ‏(‏قوله فإنه يقتل ولا يعفى عنه‏)‏ قيده في البحر بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره مختارا بلا إكراه وإلا فهو كالمجنون‏.‏ ا هـ‏.‏ ح‏.‏ قلت‏:‏ وما جزم به الشارح من أنه لا يعفى عنه أي إن تاب سيأتي ما يخالفه

‏.‏ ‏(‏قوله من ارتد‏)‏ أي عن الإسلام فلو أن اليهودي تنصر أو تمجس أو النصراني تهود أو تمجس لم يجبر على العود لما كان عليه لأن الكفر كله ملة واحدة كما في البرجندي وغيره در منتقى وسيذكره المصنف ‏(‏قوله الحاكم‏)‏ أي الإمام أو القاضي بحر ‏(‏قوله لبلوغه الدعوة‏)‏ مصدر مضاف للمفعول والدعوة فاعل‏.‏ ا هـ‏.‏ ح‏.‏ قال في البحر‏:‏ وعرض الإسلام هو الدعوة إليه ودعوة من بلغته الدعوى غير واجبة ‏(‏قوله بيان لثمرة العرض‏)‏ الظاهر أن ثمرة العرض الإسلام والنجاة من القتل، وأما هذا فهو ثمرة التأجيل ثلاثة أيام لأن من انتقل عن الإسلام والعياذ بالله تعالى لا بد له غالبا من شبهة فتكشف له إن أبداها في هذه المدة تأمل ‏(‏قوله وقيد ندبا‏)‏ أي وإن استمهل وظاهر الرواية الأول، وهو أنه لا يمهل بدون استمهال كما في البحر ‏(‏قوله إن استمهل‏)‏ أي بعد العرض للتفكر قهستاني ‏(‏قوله وإلا قتله‏)‏ أي بعد عرض الإسلام عليه وكشف شبهته ‏(‏قوله إلا إذا رجي إسلامه‏)‏ أي فإنه يمهل، وهل هو حينئذ واجب أو مستحب‏؟‏ محل تردد والظاهر الثاني تأمل‏.‏ ‏(‏قوله لكنه يضرب إلخ‏)‏ أي إذا ارتد ثانيا ثم تاب ضربه الإمام وخلى سبيله، وإن ارتد ثالثا ثم تاب ضربه ضربا وجيعا وحبسه حتى تظهر عليه آثار التوبة ويرى أنه مخلص ثم خلى سبيله، فإن عاد فعل به هكذا بحر عن التتارخانية‏.‏ وفي الفتح‏:‏ فإن ارتد بعد إسلامه ثانيا قبلنا توبته أيضا وكذا ثالثا ورابعا، إلا أن الكرخي قال‏:‏ فإن عاد بعد الثالثة يقتل إن لم يتب في الحال ولا يؤجل، فإن تاب ضربه ضربا وجيعا ولا يبلغ به الحد ثم يحبسه ولا يخرجه حتى يرى عليه خشوع التوبة وحال المخلص فحينئذ يخلي سبيله، فإن عاد بعد ذلك فعل به كذلك أبدا ما دام يرجع إلى الإسلام‏.‏ قال الكرخي‏:‏ هذا قول أصحابنا جميعا إن المرتد يستتاب أبدا، وما ذكره الكرخي مروي في النوادر‏.‏ قال إذا تكرر ذلك منه يضرب ضربا مبرحا ثم يحبس إلى أن تظهر توبته ورجوعه ا هـ‏.‏ وذلك لإطلاق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ وعن ابن عمر وعلي‏:‏ لا تقبل توبة من تكررت ردته كالزنديق، وهو قول مالك وأحمد والليث‏.‏ وعن أبي يوسف لو فعل ذلك مرارا يقتل غيلة، وفسره بأن ينتظر فإذا أظهر كلمة الكفر قتل قبل أن يستتاب لأنه ظهر منه الاستخفاف ا هـ‏.‏ باختصار‏.‏ وحاصله أن ظاهر قوله وكذا ثالثا ورابعا أنه لو استمهل بعد الرابعة يؤجل ولا يحبس بعد التوبة‏.‏ والذي نقله عن الكرخي أنه لا يؤجل بعد الرابعة بل يقتل إلا إن تاب فإنه يضرب ويحبس كما هو رواية النوادر‏.‏ وعن ابن عمر وغيره يقتل ولا توبة له مثل الزنديق ‏(‏قوله عن آخر حدود الخانية‏)‏ ونصه‏:‏ وحكي أنه كان ببغداد نصرانيان مرتدان إذا أخذا تابا وإذا تركا عادا إلى الردة‏.‏ قال أبو عبد الله البلخي يقتلان ولا تقبل توبتهما‏.‏ ا هـ‏.‏ أقول‏:‏ الظاهر أن البلخي اختار قول ابن عمر، ولا يصح بناؤه على رواية النوادر المارة عن الفتح كما لا يخفى فافهم ‏(‏قوله بلا توبة‏)‏ أي بلا قبول توبة، وليس المراد أنه يقتل إن لم يثبت لأنه لا نزاع فيه ‏(‏قوله وإلا قتل‏)‏ أي ولو عبدا فيقتل وإن تضمن قتله إبطال حق المولى، وهذا بالإجماع لإطلاق الأدلة فتح‏.‏ قال في المنح‏:‏ وأطلق فشمل الإمام وغيره، لكن إن قتله غيره أو قطع عضوا منه بلا إذن الإمام أدبه الإمام‏.‏ ا هـ‏.‏ وسيأتي متنا وشرحا استثناء أربعة عشر لا يقتلون ‏(‏قوله لحديث إلخ‏)‏ رواية أحمد والبخاري وغيرهما زيلعي‏.‏ ‏(‏قوله بعد نطقه بالشهادتين‏)‏ كذا قيده في العناية والنهاية، وعزاه القهستاني إلى المبسوط والإيضاح وغيرهما وقال‏:‏ وإنما لم يذكره لأن ذلك معلوم لكن مقتضى ما في الفتح عدم اعتماده، لأنه عبر عنه بقيل وكأنه تابع ظاهر المتون، وهو مفاد كلام الزيلعي، ويؤيده ما سيذكره في المتن من أن إنكاره الردة توبة ورجوع‏.‏ وقد يوفق بحمل ما هو ظاهر المتون على الإسلام المنجي في الدنيا عن القتل‏.‏ وما في الشروح من اشتراط النطق بالشهادتين أيضا محمول على الإسلام الحقيقي النافع في الدنيا والآخرة تأمل‏.‏ وذكر في الفتح أن الإقرار بالبعث والنشور مستحب ‏(‏قوله على وجه العادة‏)‏ أي بدون التبري‏.‏ قال في البحر‏:‏ وأفاد باشتراط التبري أنه لو أتى بالشهادتين على وجه العادة لم ينفعه ما لم يرجع عما قال إذ لا يرتفع بهما كفره كذا في البزازية وجامع الفصولين‏.‏ ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ وظاهره اشتراط التبري وإن لم ينتحل دينا آخر بأن كان كفره بمجرد كلمة ردة والظاهر خلافه، وأن اشتراط التبري فيمن انتحل دينا آخر إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا عليه، أما بالنسبة لأحكام الآخرة فيكفيه التلفظ بالشهادتين مخلصا كما يدل عليه ما نذكره في إسلام العيسوية

‏.‏ ‏(‏قوله لما مر‏)‏ أي من أن العرض مستحب ويكره تحريما عند من أوجبه أفاده في شرح الملتقى ط ‏(‏قوله قيد بإسلام المرتد‏)‏ أي في قوله وإسلامه‏.‏

مطلب في أن الكفار خمسة أصناف وما يشترط في إسلامهم

‏(‏قوله لأن الكفار‏)‏ أي بكفر أصلي والمرتد كفره عارض ‏(‏قوله كالدهرية‏)‏ بضم الدال نسبة إلى الدهر بفتحها، سموا بذلك لقولهم ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏(‏قوله كالثنوية‏)‏ وهم المجوس القائلون بإلهين أو كالمجوس كما في أنفع الوسائل، ومقتضاه أنهم غيرهم، وهو الذي حققه ابن كمال باشا نقلا عن الآمدي مع مشاركة الكل في اعتقاد أن أصل العالم النور والظلمة‏:‏ أي النور المسمى يزدان، وشأنه خلق الخير‏.‏ والظلمة المسماة أهرمن وشأنها خلق الشر ‏(‏قوله كالفلاسفة‏)‏ أي قوم منهم كما في النهر، وإلا فجمهور الفلاسفة يثبتون الرسل على أبلغ وجه لقولهم بالإيجاب ا هـ‏.‏ ح أي باللزوم والتوليد لا بالاختيار لإنكارهم كونه تعالى مختارا، وينكرون كونها بنزول الملك من السماء وكثيرا مما علم بالضرورة مجيء الأنبياء كحشر الأجساد والجنة والنار‏.‏ والحاصل أنهم وإن أثبتوا الرسل لكن لا على الوجه الذي يثبته أهل الإسلام كما ذكره في شرح المسايرة فصار إثباتهم بمنزلة العدم، وعليه فيصح إطلاق الشارح تأمل ‏(‏قوله كالوثنية‏)‏ فيه أن الوثنية لا ينكرون الصانع تعالى كما لا يخفى‏.‏ قال ففي شرح السير‏:‏ وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏}‏ ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏}‏ ا هـ‏.‏ وهذا زاده في الدرر على ما في البدائع، وتبعه الشارح‏.‏ والظاهر أن صاحب البدائع أدخله في الثنوية لأنهم جعلوا مع الله تعالى معبودا ثانيا وهو أصنامهم فهم منكرون للوحدانية كالمجوس وحكمهم في الإسلام واحد كما تعرفه ‏(‏قوله كالعيسوية‏)‏ هم قوم من اليهود ينسبون إلى عيسى الأصفهاني اليهودي ح‏.‏ قلت‏:‏ وعبارة البدائع‏:‏ وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة لكنهم ينكرون عموم رسالة رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم اليهود والنصارى‏.‏ قال في النهر‏:‏ وليس المراد كل النصارى بل طائفة منهم في العراق يقال لهم العيسوية صرح بذلك في المحيط والخانية‏.‏ ا هـ‏.‏ ‏(‏قوله فيكتفي في الأولين إلخ‏)‏ عبارة البدائع‏:‏ فإن كان من الصنف الأول أو الثاني فقال لا إله إلا الله يحكم بإسلامه، لأن هؤلاء يمتنعون عن الشهادة أصلا، فإذا أقروا بها كان ذلك دليل إيمانهم، وكذلك إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله لأنهم يمتنعون عن كل واحدة من كلمتي الشهادة فكان الإتيان بواحدة منهما أيتهما كانت دلالة الإيمان ا هـ‏.‏ أي ويلزم من الإيمان بإحداهما الإيمان بالأخرى وهذا صريح في أن الثنوية ينكرون الرسالة فهم كالوثنية، فيكتفي في الكل بإحدى الكلمتين، وبه صرح في أنفع الوسائل فقال‏:‏ إن عبدة الأوثان والنيران والمشرك في الربوبية والمنكر للوحدانية كالثنوية إذا قال الواحد منهم لا إله إلا الله يحكم بإسلامه، وكذا لو قال أشهد أن محمدا رسول الله أو قال أسلمنا أو آمنا بالله ا هـ‏.‏ وذكر قبله عن المحيط أن الكافر إذا أقر بخلاف ما اعتقد يحكم بإسلامه ونحوه في شرح السير الكبير‏.‏ وبه علم أن ما في شرح المسايرة لابن أبي شريف الشافعي من أنه يكتفي الثنوي والوثني بالشهادتين بدون تبري فهو على مذهبه، أو المراد به إحداهما فافهم ‏(‏قوله وفي الثالث بقول محمد رسول الله‏)‏ فلو قال لا إله إلا الله لا يحكم بإسلامه لأنه منكر الرسالة ولا يمتنع عن هذه المقالة، ولو قال أشهد أن محمدا رسول الله يحكم بإسلامه لأنه يمتنع عن هذه الشهادة فكان الإقرار بها دليل الإيمان بدائع، ومقتضاه أن الإتيان بالثانية يكفيه لأن المدار على الإقرار بخلاف معتقده ‏(‏قوله وفي الرابع بأحدهما‏)‏ علله في الدرر بأنه منكر للأمرين جميعا، فبأيهما شهد دخل في دين الإسلام ا هـ‏.‏ وهذا التعليل موافق لما قدمناه عن البدائع، وبه صرح أيضا في شرح السير الكبير، وزاد أنه لو قال أنا مسلم فهو مسلم لأن عبدة الأوثان لا يدعون هذا الوصف لأنفسهم بل يبرءون على قصد المغايظة للمسلمين؛ وكذا لو قال أنا على دين محمد أو على الحنفية أو على دين الإسلام، وقد علمت أن هذا الرابع داخل في الأولين، والحكم في الكل واحد وهو الاكتفاء بأحد اللفظين عن الآخر وأن ما مر عن شرح المسايرة لا يدفع المنقول عندنا فافهم‏.‏ مبحث في اشتراط التبري مع الإتيان بالشهادتين‏.‏ ‏(‏قوله وفي الخامس بهما مع التبري إلخ‏)‏ ذكر ابن الهمام في المسايرة، أن اشتراط التبري لإجراء أحكام الإسلام عليه لا لثبوت الإيمان فيما بينه وبين الله تعالى، فإنه لو اعتقد عموم الرسالة وتشهد فقط كان مؤمنا عند الله تعالى‏.‏ ا هـ‏.‏ ثم إن الذي في البدائع‏:‏ لو أتى بالشهادتين لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ عن الدين الذي هو عليه‏.‏ وزاد في المحيط‏:‏ لا يكون مسلما حتى يتبرأ من دينه مع ذلك ويقر أنه دخل في الإسلام لأنه يحتمل أنه تبرأ من اليهودية ودخل في النصرانية، فإذا قال مع ذلك ودخلت في الإسلام يزول هذا الاحتمال‏.‏ وقال بعض مشايخنا‏:‏ إذا قال دخلت‏.‏ في الإسلام يحكم بإسلامه وإن لم يتبرأ مما كان عليه لأنه يدل على دخول حادث منه في الإسلام ا هـ‏.‏ ومثله في شرح السير الكبير‏.‏ قلت‏:‏ اشتراط قوله ودخلت في دين الإسلام ظاهر فيما إذا تبرأ من دينه فقط، أما إذا تبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام فلا يحتاج إليه لعدم الاحتمال المذكور، فلذا لم يذكره الشارح مع صيغة التبري التي ذكرها‏.‏ والظاهر أنه لو أتى بالشهادتين وصرح بتعميم الرسالة إلى بني إسرائيل وغيرهم أو قال أشهد أن محمدا رسول الله إلى كافة الخلق الإنس والجن يكفي عن التبري أيضا كما صرح به الشافعية‏.‏

‏[‏تنبيه‏]‏

قال في الفتح‏:‏ إن اشتراط التبري إنما هو فيمن بين أظهرنا منهم، وأما من في دار الحرب لو حمل عليه مسلم فقال محمد رسول الله فهو مسلم، أو قال دخلت في دين الإسلام أو دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو دليل إسلامه فكيف إذا أتى بالشهادتين لأن في ذلك الوقت ضيقا، وقوله هذا إنما أراد به الإسلام الذي يدفع عنه القتل الحاضر فيحمل عليه ويحكم به بمجرد ذلك‏.‏ ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ وإنما اكتفى عليه الصلاة والسلام بالشهادتين لأن أهل زمنه كانوا منكرين لرسالته أصلا كما يأتي‏.‏ ثم اعلم أنه يؤخذ من مسألة العيسوي أن من كان كفره بإنكار أمر ضروري كحرمة الخمر مثلا أنه لا بد من تبرئه مما كان يعتقده لأنه كان يقر بالشهادتين معه فلا بد من تبرئه منه كما صرح به الشافعية وهو ظاهر ‏(‏قوله فيستفسر من جهل حاله‏)‏ ذكر ذلك في النهر بعد أن ذكر أنه ليس كل اليهود والنصارى كذلك، بل طائفة منهم يقال لهم العيسوية، فقال‏:‏ وعلى هذا فينبغي أن يستفسر الآتي بالشهادتين منهم إن جهل حاله ا هـ‏.‏ أي فإن ادعى أنه عيسوي يعتقد تخصيص الرسالة بغير بني إسرائيل لا يصح إسلامه إلا بالتبري، وإن ادعى أنه ينكرها مطلقا اكتفى بالشهادتين فافهم ‏(‏قوله بل عمم في الدرر إلخ‏)‏ في البحر أول الجهاد عن الذخيرة‏:‏ أما اليهود والنصارى فكان إسلامهم في زمنه عليه الصلاة والسلام بالشهادتين لأنهم كانوا ينكرون رسالته صلى الله عليه وسلم وأما اليوم ببلاد العراق فلا يحكم بإسلامه بهما ما لم يقل تبرأت عن ديني ودخلت في دين الإسلام، لأنهم يقولون إنه رسول إلى العرب والعجم لا إلى بني إسرائيل، كذا صرح به محمد‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي شرح السير للسرخسي‏:‏ وأما اليهود والنصارى اليوم بين ظهراني المسلمين إذا أتى واحد منهم بالشهادتين لا يكون مسلما لأنهم جميعا يقولون هذا ليس من نصراني ولا يهودي عندنا نسأله إلا قال هذه الكلمة، فإذا استفسرته قال رسول الله إليكم لا إلى بني إسرائيل ثم قال‏:‏ ولو قال أنا مسلم لم يكن مسلما بهذا لأن كل فريق يدعي ذلك لنفسه، فالمسلم هو المستسلم للحق، وكل ذي دين يدعي أنه منقاد للحق، وكان شيخنا الإمام يقول إلا المجوس في ديارنا فإن من يقول منهم أنا مسلم يصير مسلما لأنهم يأبون هذه الصفة لأنفسهم ويسبون به أولادهم ويقولون يا مسلمان ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ وما عزاه إلى شيخه يعني الإمام الحلواني جزم به في محل آخر، وقدمنا عنه قريبا في الوثني أنه يصير مسلما بقوله أنا مسلم أو على دين محمد أو الحنيفية أو الإسلام، فعلى هذا يقال كذلك في اليهود والنصارى في بلادنا فإنهم يمتنعون من قول أنا مسلم، حتى إن أحدهم إذا أراد منع نفسه عن أمر يقول إن فعلته أكون مسلما‏.‏ فإذا قال أنا مسلم طائعا فهو دليل إسلامه وإن لم يسمع منه النطق بالشهادتين، كما صرح به في شرح السير فيمن صلى بجماعة فإنه يحكم بإسلامه وبأنه يحكم بالإسلام بمجرد سيما المسلمين في حق الصلاة عليه إذا مات وكذا يمتنعون من النطق بالشهادتين أشد الامتناع فإذا أتى بهما طائعا يجب الحكم بإسلامه لأنه فوق السيما، إذ لا شك أن محمدا إنما اشترط التبري بناء على ما كان في زمنه من إقرارهم بالرسالة على خلاف ما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من إنكارها فإذا أنكروها في زماننا وامتنعوا من النطق بالشهادتين يجب أن يرجع الأمر إلى ما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم إذ لم يبق وجه للعدول عنه‏.‏ على أن محمدا إنما حكم على ما كان في بلاد العراق لا مطلقا كما يوهمه ما في الدرر، وعن هذا ذكر العلامة قاسم أنه سئل عن سامري أتى بالشهادتين ثم رجع‏.‏ فأجاب بما حاصله أنه ينظر في اعتقاده، فإنهم ذكروا أن بعض اليهود يخصص رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم بالعرب وهذا لا يكفيه مجرد الشهادتين، بخلاف من ينكر الرسالة أصلا، وبعض من أعمى الله قلبه جعلهم فرقة واحدة في جميع البلاد حتى حكم في نصراني منكر للرسالة تلفظ بالشهادتين ببقائه على النصرانية لأنه لم يتبرأ ا هـ‏.‏ ملخصا‏.‏ والحاصل‏:‏ أن الذي يجب التعويل عليه أنه إن جهل يستفسر عنه، وإن علم كما في زماننا، فالأمر ظاهر، وهذا وجه ما يأتي عن قارئ الهداية ‏(‏قوله لأن التلفظ به صار علامة على الإسلام إلخ‏)‏ أفاد بقوله صار إلى أن ما كان في زمن الإمام محمد تغير لأنهم في زمنه ما كانوا يمتنعون عن النطق بها فلم تكن علامة الإسلام فلذا شرط معها التبري‏.‏ أما في زمن قارئ الهداية فقد صارت علامة الإسلام لأنه لا يأتي بها إلا المسلم كما في زماننا هذا ولذا نقل في البحر أول كتاب الجهاد كلام قارئ الهداية ثم أعقبه بقوله وهذا يجب المصير إليه في ديار مصر بالقاهرة لأنه لا يسمع من أهل الكتاب فيها الشهادتان، ولذا قيده محمد بالعراق ا هـ‏.‏ ومثله في شرح العلامة المقدسي‏.‏ ونقل أيضا في الدر المنتقى كلام قارئ الهداية ثم قال‏:‏ وبه أفتى أحمد بن كمال باشا‏.‏ وفي شرح الملتقى لعبد الرحمن أفندي داماد‏:‏ وأفتى البعض في ديارنا بإسلامه من غير تبر وهو المعمول به ا هـ‏.‏ فليحفظ ا هـ‏.‏ وقد أسمعناك آنفا ما فيه الكفاية‏.‏

مطلب الإسلام يكون بالفعل كالصلاة بجماعة

‏[‏خاتمة‏]‏

اعلم أن الإسلام يكون بالفعل أيضا كالصلاة بجماعة أو الإقرار بها أو الأذان في بعض المساجد أو الحج وشهود المناسك لا الصلاة وحده ومجرد الإحرام بحر وقدم الشارح ذلك نظما في أول كتاب الصلاة، وقدمنا الكلام عليه مستوفى وذكرنا هناك أنه لا فرق في الإسلام بالفعل بين العيسوي وغيره، والمراد أنه دليل الإسلام فيحكم على فاعل ذلك به، وإلا فحقيقة الإسلام المنجية في الآخرة لا بد فيها من التصديق الجازم مع الإقرار بالشهادتين أو بدونه على الخلاف المار

‏(‏قوله لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن‏)‏ ظاهره أنه لا يفتى به من حيث استحقاقه للقتل ولا من حيث الحكم ببينونة زوجته‏.‏ وقد يقال‏:‏ المراد الأول فقط، لأن تأويل كلامه للتباعد عن قتل المسلم بأن يكون قصد ذلك التأويل، وهذا لا ينافي معاملته بظاهر كلامه فيما هو حق العبد وهو طلاق الزوجة وملكها لنفسها، بدليل ما صرحوا به من أنهم إذا أراد أن يتكلم بكلمة مباحة فجرى على لسانه كلمة الكفر خطأ بلا قصد لا يصدقه القاضي وإن كان لا يكفر فيما بينه وبين ربه تعالى، فتأمل‏.‏ ذلك وحرره نقلا فإني لم أر التصريح به، نعم سيذكر الشارح أن ما يكون كفرا اتفاقا يبطل العمل والنكاح، وما فيه خلاف يؤمر بالاستغفار والتوبة وتجديد النكاح وظاهره أنه أمر احتياط‏.‏

مطلب في حكم من شتم دين مسلم

ثم إن مقتضى كلامهم أيضا أنه لا يكفر بشتم دين مسلم‏:‏ أي لا يحكم بكفره لإمكان التأويل‏.‏ ثم رأيته في جامع الفصولين حيث قال بعد كلام أقول‏:‏ وعلى هذا ينبغي أن يكفر من شتم دين مسلم، ولكن يمكن التأويل بأن مراده أخلاقه الرديئة ومعاملته القبيحة لا حقيقة دين الإسلام، فينبغي أن لا يكفر حينئذ، والله تعالى أعلم‏.‏ ا هـ‏.‏ وأقره في ‏[‏نور العين‏]‏ ومفهومه أنه لا يحكم بفسخ النكاح، وفيه البحث الذي قلناه‏.‏ وأما أمره بتجديد النكاح فهو لا شك فيه احتياطا خصوصا في حق الهمج الأرذال الذين يشتمون بهذه الكلمة فإنهم لا يخطر على بالهم هذا المعنى أصلا‏.‏ وقد سئل في الخيرية عمن قال له الحاكم ارض بالشرع فقال لا أقبل فأفتى مفت بأنه كفر وبانت زوجته فهل يثبت كفره بذلك‏؟‏ فأجاب‏:‏ بأنه لا ينبغي للعالم أن يبادر بتكفير أهل الإسلام إلى آخر ما حرره في البحر‏.‏ وأجاب قبله في مثله بوجوب تعزيره وعقوبته ‏(‏قوله ولو رواية ضعيفة‏)‏ قال الخير الرملي‏:‏ أقول ولو كانت الرواية لغير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعا عليه ‏(‏قوله كما حرره في البحر‏)‏ قدمنا عبارته قبيل قوله وشرائط صحتها ‏(‏قوله وجوه‏)‏ أي احتمالات لما مر في عبارة البحر عن التتارخانية أنه لا يكفر بالمحتمل ‏(‏قوله وإلا‏)‏ أي وإن لم تكن له نية ذلك الوجه الذي يمنع الكفر بأن أراد الوجه المكفر أو لم تكن له نية أصلا لم ينفعه تأويل المفتي لكلامه وحمله إياه على المعنى الذي لا يكفر، كما لو شتم دين مسلم وحمل المفتي الدين على الأخلاق الرديئة لنفي القتل عنه فلا ينفعه ذلك التأويل فيما بينه وبين ربه تعالى إلا إذا نواه ‏(‏قوله وينبغي التعوذ بهذا الدعاء صباحا ومساء‏)‏ تدخل أوراد الصباح من نصف الليل الأخير والمساء من الزوال، هذا فيما عبر فيه بهما‏.‏ وأما إذا عبر باليوم والليلة فيعتبران تحديدا من أولهما، فلو قدم المأمور به فيهما عليه لا يحصل له الموعود به، أفاده بعض من كتب على الجامع الصغير للسيوطي ط‏.‏ قلت‏:‏ ولم أر في الحديث ذكر صباحا ومساء بل فيه ذكر ثلاثا كما في الزواجر عن الحكيم الترمذي «أفلا أدلك على ما يذهب الله به عنك صغار الشرك وكباره، تقول كل يوم ثلاث مرات‏:‏ اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم» وعند أحمد والطبراني‏:‏ «أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل وقالوا‏:‏ كيف نتقيه يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه»‏.‏

مطلب توبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس

‏(‏قوله وتوبة اليأس مقبولة دون إيمان اليأس‏)‏ هو بالمثناة التحتية ضد الرجاء وقطع الطمع عن الحياة وعلل قبولها في الدرر تبعا للبزازية بأن الكافر أجنبي غير عارف بالله تعالى وابتدأ إيمانا وعرفانا، والفاسق حاله حالة البقاء، والبقاء أسهل من الابتداء‏.‏ والدليل على قبولها مطلقا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏ ا هـ‏.‏ وقد أطال في آخر البزازية في هذه المسألة، ونقل قبله القول بعدم قبول كل منهما، وعزاه أيضا إلى الحنفية والمالكية والشافعية، وانتصر له منلا علي القاري في شرح ‏[‏بدء الأمالي‏]‏ وقدمنا ذلك مبسوطا في أول باب صلاة الجنائز‏.‏

مطلب أجمعوا على كفر فرعون

وأما إيمان اليأس، فذهب أهل الحق أنه لا ينفع عند الغرغرة، ولا عند معاينة عذاب الاستئصال، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏ ولذا أجمعوا على كفر فرعون كما رواه الترمذي في تفسيره في سورة يونس وإن خالف في ذلك الإمام العارف المحقق سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات‏.‏ قال العلامة ابن حجر في الزواجر‏:‏ فإنا وإن كنا نعتقد جلالة قائله فهو مردود، فإن العصمة ليست إلا للأنبياء مع أنه نقل عن بعض كتبه أنه صرح فيها بأن فرعون مع هامان وقارون في النار‏.‏ وإذا اختلف كلام إمام فيؤخذ بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها ثم أطال في بيان رده‏.‏

مطلب في استثناء قوم يونس

وذكر أيضا أنه يستثنى من إيمان اليأس قوم يونس عليه السلام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا قوم يونس‏}‏ الآية، بناء على أن الاستثناء متصل، وأن إيمانهم كان عند معاينة عذاب الاستئصال، وهو قول بعض المفسرين بجعله كرامة وخصوصية لنبيهم فلا يقاس عليها‏.‏

مطلب في إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتهما

ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أكرمه الله تعالى بحياة أبويه له حتى آمنا به كما في حديث صححه القرطبي وابن ناصر الدين حافظ الشام وغيرهما، فانتفعا بالإيمان بعد الموت على خلاف القاعدة إكراما لنبيه صلى الله عليه وسلم كما أحيا قتيل بني إسرائيل ليخبر بقاتله‏.‏ وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى‏.‏ وقد صح أن الله تعالى رد عليه صلى الله عليه وسلم الشمس بعد مغيبها حتى صلى علي كرم الله وجهه العصر، فكما أكرم بعود الشمس والوقت بعد فواته فكذلك أكرم بعود الحياة ووقت الإيمان بعد فواته‏.‏ وما قيل إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تسأل عن أصحاب الجحيم‏}‏ نزل فيهما لم يصح وخبر مسلم‏:‏ «أبي وأبوك في النار» كان قبل علمه ا هـ‏.‏ ملخصا وقدمنا تمام الكلام على ذلك في باب نكاح الكافر ‏(‏قوله وفيها أيضا شهد نصرانيان إلخ‏)‏ هذا ساقط من بعض النسخ وسيذكره بعد قوله وكل مسلم ارتد إلخ‏.‏

‏(‏قوله على ما مر‏)‏ أي عن الخانية معزيا للبلخي، لكن قدمنا أن المروي عن أصحابنا جميعا خلافه‏.‏مطلب مهم في حكم ساب الأنبياء

‏(‏قوله الكافر بسب نبي‏)‏ في بعض النسخ والكافر بواو العطف وهو المناسب ‏(‏قوله فإنه يقتل حدا‏)‏ يعني أن جزاءه القتل على وجه كونه حدا، ولذا عطف عليه قوله ولا تقبل توبته لأن الحد لا يسقط بالتوبة فهو عطف تفسير؛ وأفاد أنه حكم الدنيا، أما عند الله تعالى فهي مقبولة كما في البحر‏.‏ ثم اعلم أن هذا ذكره الشارح مجاراة لصاحب الدرر والبزازية، وإلا فسيذكر خلافه ويأتي تحقيقه ‏(‏قوله مطلقا‏)‏ أي سواء جاء تائبا بنفسه أو شهد عليه بذلك بحر ‏(‏قوله لأنه حق عبد‏)‏ فيه أن حق العبد لا يسقط إذا طالب به كحد القذف، فلا بد هنا من دليل يدل على أن الحاكم له هذه المطالبة ولم يثبت، وإنما الثابت أنه صلى الله عليه وسلم عفا عن كثيرين ممن آذوه وشتموه وقبل إسلامهم كأبي سفيان وغيره ‏(‏قوله وتمامه في الدرر‏)‏ حيث قال نقلا عن البزازية‏.‏ وقال ابن سحنون المالكي‏:‏ أجمع المسلمون أن شاتمه كافر، وحكمه القتل، ومن شك في عذابه وكفره كفر‏.‏ ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ وهذه العبارة مذكورة في الشفاء للقاضي عياض المالكي نقلها عنه البزازي وأخطأ في فهمها، لأن المراد بها ما قبل التوبة، وإلا لزم تكفير كثير من الأئمة المجتهدين القائلين بقبول توبته وسقوط القتل بها عنه‏.‏ على أن من قال يقتل وإن تاب يقول إنه إذا تاب لا يعذب في الآخرة كما صرحوا به، وقدمناه آنفا، فعلم أن المراد ما قلناه قطعا ‏(‏قوله والديك ووالدي الذين خلفوك‏)‏ بكسر الدال على لفظ الجمع فيهما أو في أحدهما ‏(‏قوله فيعم حضرة الرسالة‏)‏ أي صاحبها صلى الله عليه وسلم وعليه لا يختص الحكم بالشريف بل غيره مثله، لأن آدم عليه السلام أبو جميع الناس ونوح الأب الثاني ‏(‏قوله باحتمال العهد‏)‏ المفهوم من العبارة السابقة أنهما يقولان بأنه لا يعم وإن لم يتحقق عهد ‏(‏قوله فلا كفر‏)‏ أي لوجود الخلاف في عمومه وتحقق الاحتمال فيه ‏(‏قوله لكن صرح في آخر الشفاء إلخ‏)‏ هذا استدراك على ما في فتاوى المصنف‏.‏ وعبارة الشفاء هكذا‏:‏ قال أبو بكر بن المنذر‏:‏ أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي، وهو مقتضى قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولا تقبل توبته عند هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلم، لكنهم قالوا هي ردة‏.‏ وروى مثله الوليد بن مسلم عن مالك‏.‏ وروى الطبراني مثله عن أبي حنيفة وأصحابه فيمن ينقصه صلى الله عليه وسلم أو برئ منه أو كذبه‏.‏ ا هـ‏.‏ وحاصله أنه نقل الإجماع على كفر الساب، ثم نقل عن مالك ومن ذكر بعده أنه لا تقبل توبته‏.‏ فعلم أن المراد من نقل الإجماع على قتله قبل التوبة‏.‏ ثم قال‏:‏ وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه إلخ أي قال إنه يقتل يعني قبل التوبة لا مطلقا، ولذا استدرك بقوله لكنهم قالوا هي ردة‏:‏ يعني ليست حدا ثم ذكر أن الوليد روى عن مالك مثل قول أبي حنيفة فصار عن مالك روايتان في قبول التوبة وعدمه والمشهور عنه العدم ولذا قدمه‏.‏ وقال في الشفاء في موضع آخر‏:‏ قال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ من برئ من محمد صلى الله عليه وسلم أو كذب به فهو مرتد حلال الدم إلا أن يرجع فهذا تصريح بما علم من عبارته الأولى‏.‏ وقال في موضع بعد أن ذكر عن جماعة من المالكية عدم قبول توبته، وكلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله حدا لا كفرا‏.‏ وأما على رواية الوليد عن مالك ومن وافقه على ذلك من أهل العلم قد صرحوا أنه ردة قالوا، ويستتاب منها، إن تاب نكل وإن أبى قتل، فحكموا له بحكم المرتد مطلقا، والوجه الأول أشهر وأظهر‏.‏ ا هـ‏.‏ يعني أن قول مالك بعدم قبول التوبة أشهر وأظهر مما رواه عنه الوليد، فهذا كلام الشفاء صريح في أن مذهب أبي حنيفة وأصحابه القول بقبول التوبة كما هو رواية الوليد عن مالك، وهو أيضا قول الثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلم أي بخلاف الذمي إذا سب فإنه لا ينقض عهده عندهم كما مر تحريره في الباب السابق‏.‏ ثم إن ما نقله عن الشافعي خلاف المشهور عنه والمشهور قبول التوبة على تفصيل فيه‏.‏ قال الإمام خاتمة المجتهدين الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه ‏[‏السيف المسلول على من سب الرسول‏]‏‏:‏ حاصل المنقول عند الشافعية أنه متى لم يسلم قتل قطعا ومتى أسلم، فإن كان السب قذفا فالأوجه الثلاثة هل يقتل أو يجلد أو لا شيء، وإن كان غير قذف فلا أعرف فيه نقلا للشافعية غير قبول توبته‏.‏ وللحنفية في قبول توبته قريب من الشافعية، ولا يوجد للحنيفة غير قبول التوبة‏.‏ وأما الحنابلة فكلامهم قريب من كلام المالكية والمشهور عن أحمد عدم قبول توبته وعنه رواية بقبولها فمذهبه كمذهب مالك سواء، هذا تحرير المنقول في ذلك ا هـ‏.‏ ملخصا، فهذا أيضا صريح في أن مذهب الحنفية القبول وأنه لا قول لهم بخلافه‏.‏ وقد سبقه إلى نقل ذلك أيضا شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحنبلي في كتابه ‏[‏الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم‏]‏ كما رأيته في نسخة منه قديمة عليها خطه حيث قال‏:‏ وكذلك ذكر جماعة آخرون من أصحابنا أي الحنابلة أنه يقتل ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تقبل توبته سواء كان مسلما أو كافرا، وعامة هؤلاء لما ذكروا المسألة قالوا خلافا لأبي حنيفة والشافعي وقولهما أي أبي حنيفة والشافعي وإن كان مسلما يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كالمرتد وإن كان ذميا، فقال أبو حنيفة لا ينقض عهده ثم قال بعد ورقة قال أبو الخطاب‏:‏ إذا قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته، وفي الكافر إذا سبها ثم أسلم روايتان‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ تقبل توبته في الحالين ا هـ‏.‏ ثم قال في محل آخر قد ذكرنا أن المشهور عن مالك وأحمد أنه لا يستتاب ولا يسقط القتل عنه، وهو قول الليث بن سعد‏.‏ وذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي‏.‏ وحكي عن مالك وأحمد أنه تقبل توبته، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد‏.‏ ا هـ‏.‏ فهذا صريح كلام القاضي عياض في الشفاء والسبكي وابن تيمية وأئمة مذهبه على أن مذهب الحنفية قبول التوبة بلا حكاية قول آخر عنهم، وإنما حكوا الخلاف في بقية المذاهب، وكفى بهؤلاء حجة لو لم يوجد النقل كذلك في كتب مذهبنا التي قبل البزازي ومن تبعه مع أنه موجود أيضا كما يأتي في كلام الشارح قريبا، وقد استوفيت الكلام على ذلك في كتاب سميته‏:‏ ‏[‏تنبيه الولاة والحكام على أحكام شاتم خير الأنام‏]‏ أو أحد أصحابه الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام ‏(‏قوله ومفاده قبول التوبة‏)‏ أقول‏:‏ بل هو صريح، ونص في ذلك كما علمته قوله والبزازي تبع صاحب السيف المسلول‏)‏ الذي قاله البزازي إنه يقتل حدا، ولا توبة له أصلا، سواء بعد القدرة عليه والشهادة أو جاء تائبا من قبل نفسه كالزنديق لأنه حد وجب، فلا يسقط بالتوبة ولا يتصور فيه خلاف لأحد لأنه تعلق به حق العبد إلى أن قال ودلائل المسألة تعرف في كتاب ‏[‏الصارم المسلول على شاتم الرسول‏]‏ ا هـ‏.‏ وهذا كلام يقضي منه غاية العجب، كيف يقول لا يتصور فيه خلاف لأحد بعد ما وقع فيه اختلاف الأئمة المجتهدين مع صدق الناقلين عنهم كما أسمعناك وعزوه المسألة إلى كتاب ‏[‏الصارم المسلول‏]‏ وهو لابن تيمية الحنبلي يدل على أنه لم يتصفح ما نقلناه عنه من التصريح بأن مذهب الحنفية والشافعية قبول التوبة في مواضع متعددة، وكذلك صرح به السبكي في السيف المسلول والقاضي عياض في الشفاء كما سمعته مع أن عبارة البزازي بطولها أكثرها مأخوذ من الشفاء‏.‏ فقد علم أن البزازي قد تساهل غاية التساهل في نقل هذه المسألة وليته حيث لم ينقلها عن أحد من أهل مذهبنا بل استند إلى ما في الشفاء والصارم أمعن النظر في المراجعة حتى يرى ما هو صريح في خلاف ما فهمه ممن نقل المسألة عنهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ فلقد صار هذا التساهل سببا لوقوع عامة المتأخرين عنه في الخطأ حيث اعتمدوا على نقله وقلدوه في ذلك ولم ينقل أحد منهم المسألة عن كتاب من كتب الحنفية، بل المنقول قبل حدوث هذا القول من البزازي في كتبنا وكتب غيرنا خلافه ‏(‏قوله وقد صرح في النتف إلخ‏)‏ أقول‏:‏ ورأيت في كتاب الخراج لأبي يوسف ما نصه‏:‏ وأيما رجل مسلم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كذبه أو عابه أو تنقصه فقد كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلا قتل، وكذلك المرأة إلا أن أبا حنيفة قال لا تقتل المرأة وتجبر على الإسلام ا هـ‏.‏ وهكذا نقل الخير الرملي في حاشية البحر أن المسطور في كتب المذهب أنها ردة، وحكمها حكمها، ثم نقل عبارة النتف ومعين الحكام‏:‏ والعجب منه أنه أفتى بخلافه في الفتاوى الخيرية‏.‏ رأيت بخط شيخ مشايخنا السائحاني في هذا المحل والعجب كل العجب حيث سمع المصنف كلام شيخ الإسلام يعني ابن عبد العال، ورأى هذه النقول كيف لا يشطب متنه عن ذلك‏.‏ وقد أسمعني بعض مشايخي رسالة حاصلها أنه لا يقتل بعد الإسلام وأن هذا هو المذهب ا هـ‏.‏ وكذلك كتب شيخ مشايخنا الرحمتي هنا على نسخته أن مقتضى كلام الشفاء وابن أبي جمرة في شرح مختصر البخاري في حديث‏:‏ «إن فريضة الحج أدركت أبي» إلخ ‏"‏ أن مذهب أبي حنيفة والشافعي حكمه حكم المرتد، وقد علم أن المرتد تقبل توبته كما نقله هنا عن النتف وغيره، فإذا كان هذا في ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ففي ساب الشيخين أو أحدهما بالأولى، فقد تحرر أن المذهب كمذهب الشافعي قبول توبته كما هو رواية ضعيفة عن مالك وأن تحتم قتله مذهب مالك، وما عداه فإنه إما نقل غير أهل المذهب أو طرة مجهول لم يعلم كاتبها، فكن على بصيرة في الأحكام، ولا تغتر بكل أمر مستغرب وتغفل عن الصواب، والله تعالى أعلم‏.‏ا هـ‏.‏ وكذلك قال الحموي في حاشية الأشباه نقلا عن بعض العلماء‏:‏ إن ما ذكره صاحب الأشباه من عدم قبول التوبة قد أنكره عليه أهل عصره وأن ذلك إنما يحفظ لبعض أصحاب مالك كما نقله القاضي عياض وغيره‏.‏ أما على طريقتنا فلا‏.‏ ا هـ‏.‏ وذكر في آخر كتاب ‏[‏نور العين‏]‏ أن العلامة النحرير الشهير بحسام جلبي ألف رسالة في الرد على البزازي وقال في آخرها‏:‏ وبالجملة قد تتبعنا كتب الحنفية فلم نجد القول بعدم قبول توبة الساب عندهم سوى ما في البزازية، وقد علمت بطلانه ومنشأ غلطه أول الرسالة‏.‏ ا هـ‏.‏ وسيذكر الشارح عن المحقق المفتي أبي السعود التصريح بأن مذهب الإمام الأعظم أنه لا يقتل إذا تاب ويكتفى بتعزيره، فهذا صريح المنقول عمن تقدم على البزازي ومن تبعه، ولم يستند هو ولا من تبعه إلى كتاب من كتب الحنفية، وإنما استند إلى فهم أخطأ فيه حيث نقل عمن صرح، بخلاف ما فهمه كما قدمناه، وإن أردت زيادة البيان في المقام فارجع إلى كتابنا تنبيه الولاة والحكام ‏(‏قوله وهو ظاهر في قبول توبته‏)‏ المراد بقبول التوبة في الدنيا بدفع القتل عنه أما قبولها في الآخرة فهو محل وفاق، وأصرح منه ما قدمناه عن كتاب الخراج لأبي يوسف، فإن تاب وإلا قتل ‏(‏قوله كذلك‏)‏ أي يكون شاتما لنبي، لكن قوله يا ابن مائة كلب، وإن قاله لشريف فهو ممكن فيجري فيه الخلاف المار في قبول توبته وعدمه، وإلا فقد يكون له مائة أب ليس فيهم نبي‏.‏ على أنه يمكن أن يكون مراده أنه اجتمع على أم المشتوم مائة كلب أو ألف خنزير، فلا يدخل أجداده في ذلك، وحيث احتمل التأويل فلا يحكم بالكفر عندنا كما مر ‏(‏قوله وأن شتم الملائكة كالأنبياء‏)‏ هو مصرح به عندنا فقالوا‏:‏ إذا شتم أحدا من الأنبياء أو الملائكة كفر، وقد علمت أن الكفر بشتم الأنبياء كفر ردة فكذا الملائكة، فإن تاب فبها وإلا قتل ‏(‏قوله فليحرر‏)‏ قد علمت تحريره بما قلنا ‏(‏قوله هل للشافعي أن يحكم بقبول توبته‏)‏ أي في إسقاط القتل عنه، وهو مبني على ما ذكره البزازي، وقد علمت أن أهل المذهب قائلون بقبول توبته فلا وجه لما ذكره‏.‏ ا هـ‏.‏ ط‏.‏ وكذا قال الرحمتي‏:‏ قد علمت أن هذا ليس مذهبا للحنفية كما نطقت به كتبهم ونقله عنهم الأئمة كالقاضي عياض وابن أبي جمرة ‏(‏قوله لأنها حادثة أخرى إلخ‏)‏ يعني أن حكم الحنفي بكفره بناء على أن مذهبه عدم قبول التوبة لا يرفع الخلاف في عدم قبول التوبة لأن عدم قبولها حادثة أخرى لم يحكم بها الحنفي فيسوغ للشافعي الحكم بقبولها وإن قال الحنفي حكمت بالكفر وموجبه لأن موجب الكفر القتل إن لم يتب وهو المتفق عليه، ولا يلزم منه القتل أيضا إن تاب على أنه له موجبات أخر من فسخ النكاح وحبط العمل وغير ذلك، فلا يكون قول الحنفي حكمت بموجبه حكما بقتله، وإن تاب فللشافعي أن يحكم بعدم قتله إذا تاب‏.‏ والعجب من الشارح حيث نقل صريح ما في كتب المذهب من أن الحنفي كالشافعي في قبول توبته كيف جارى صاحب النهر في هذه المسألة، فكان الصواب أن يبدل الحنفي بالمالكي أو الحنبلي‏.‏ ‏(‏قوله سؤالا‏)‏ مفعول رأيت‏.‏ وفي بعض النسخ سؤال بالرفع وهو تحريف ‏(‏قوله فأجاب بأنه يكفر إلخ‏)‏ قال السائحاني‏:‏ أقول هذا لا يصدر عن أبي السعود لأن كلام القائل يحتمل أن كل الأحاديث الموجودة ليست صدقا لأن فيها الموضوع، وهذا الاحتمال أقرب من غيره، وتقدم عن الدرر إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي الميل لما يمنعه وقوله والثاني‏:‏ أي إلحاق الشين يفيد الزندقة‏.‏ أقول‏:‏ لا إفادة فيه لأن الزندقة أن لا يتدين بدين ا هـ‏.‏ وكتب ط نحوه ‏(‏قوله فبعد أخذه إلخ‏)‏ تفريع على كونه صار زنديقا‏.‏ وحاصل كلامه أن الزنديق لو تاب قبل أخذه‏:‏ أي قبل أن يرفع إلى الحاكم تقبل توبته عندنا وبعده لا، اتفاقا‏.‏ وورد الأمر السلطاني للقضاة بأن ينظر في حال ذلك الرجل إن ظهر حسن توبته يعمل بقول أبي حنيفة وإلا فبقول باقي الأئمة، وأنت خبير بأن هذا مبني على ما مشى عليه القاضي عياض من مشهور مذهب مالك وهو عدم قبول توبته وأن حكمه حكم الزنديق عندهم، وتبعه البزازي كما قدمناه عنه، وكذا تبعه في الفتح، وقد علمت أن صريح مذهبنا خلافه كما صرح به القاضي عياض وغيره‏.‏ ‏(‏قوله وليكن التوفيق‏)‏ أي يحمل ما مر عن النتف وغيره من أنه يفعل به ما يفعل بالمرتد على ما إذا تاب قبل أخذه، وحمل ما في البزازية على ما بعد أخذه، وأنت خبير بأن هذا التوفيق غير ممكن لتصريح علمائنا بأن حكمه حكم المرتد، ولا شك أن حكم المرتد غير حكم الزنديق ولم يفصل أحد منهم هذا التفصيل؛ ولأن البزازي ومن تابعه قالوا إنه لا توبة له أصلا سواء بعد القدرة عليه والشهادة أو جاء تائبا من قبل نفسه كما هو مذهب المالكية والحنابلة، فعلم أنهما قولان مختلفان، بل مذهبان متباينان‏.‏ على أن الزنديق الذي لا تقبل توبته بعد الأخذ هو المعروف بالزندقة الداعي إلى زندقته كما يأتي، ومن صدرت منه كلمة الشتم مرة عن غيظ أو نحوه لا يصير زنديقا بهذا المعنى

‏.‏ ‏(‏قوله وهو الذي ينبغي التعويل عليه‏)‏ قلت‏:‏ الذي ينبغي التعويل عليه ما نص عليه أهل المذهب فإن اتباعنا له واجب ط ‏(‏قوله رعاية لجانب حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم‏)‏ أقول‏:‏ رعاية جانبه في اتباع ما ثبت عنه عند المجتهد ‏(‏قوله لكن في النهر إلخ‏)‏ قال السيد الحموي في حاشية الأشباه‏:‏ حكي عن عمر بن نجيم أن أخاه أفتى بذلك فطلب منه النقل فلم يوجد إلا على طرة الجوهرة وذلك بعد حرق الرجل‏.‏ ا هـ‏.‏

مطلب مهم في حكم سب الشيخين

وأقول‏:‏ على فرض ثبوت ذلك في عامة نسخ الجوهرة لا وجه له يظهر، لما قدمناه من قبول توبة من سب الأنبياء عندنا خلافا للمالكية والحنابلة، وإذا كان كذلك فلا وجه للقول بعدم قبول توبة من سب الشيخين بل لم يثبت ذلك عن أحد من الأئمة فيما أعلم ا هـ‏.‏ ونقله عنه السيد أبو السعود الأزهري في حاشية الأشباه ط‏.‏ أقول‏:‏ نعم نقل في البزازية عن الخلاصة أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما فهو كافر، وإن كان يفضل عليا عليهما فهو مبتدع‏.‏ ا هـ‏.‏ وهذا لا يستلزم عدم قبول التوبة‏.‏ على أن الحكم عليه بالكفر مشكل، لما في الاختيار اتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا، لكن يضلل إلخ‏.‏ وذكر في فتح القدير أن الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويكفرون الصحابة حكمهم عند جمهور الفقهاء وأهل الحديث حكم البغاة‏.‏ وذهب بعض أهل الحديث إلى أنهم مرتدون‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء‏.‏ وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع‏.‏ وبعضهم يكفرون البعض، وهو من خالف ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة، والنقل الأول أثبت وابن المنذر أعرف بنقل كلام المجتهدين، نعم يقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير ولكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا ا هـ‏.‏ ومما يزيد ذلك وضوحا ما صرحوا به في كتبهم متونا وشروحا من قولهم‏:‏ ولا تقبل شهادة من يظهر سب السلف وتقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية‏.‏ وقال ابن ملك في شرح المجمع‏:‏ وترد شهادة من يظهر سب السلف لأنه يكون ظاهر الفسق، وتقبل من أهل الأهواء الجبر والقدر والرفض والخوارج والتشبيه والتعطيل‏.‏ ا هـ‏.‏ وقال الزيلعي أو يظهر سب السلف يعني الصالحين منهم وهم الصحابة والتابعون؛ لأن هذه الأشياء تدل على قصور عقله وقلة مروءته، ومن لم يمتنع عن مثلها لا يمتنع عن الكذب عادة، بخلاف ما لو كان يخفي السب ا هـ‏.‏ ولم يعلل أحد لعدم قبول شهادتهم بالكفر كما ترى، نعم استثنوا الخطابية لأنهم يرون شهادة الزور لأشياعهم أو للحالف، وكذا نص المحدثون على قبول رواية أهل الأهواء فهذا فيمن يسب عامة الصحابة ويكفرهم بناء على تأويل له فاسد‏.‏ فعلم أن ما ذكره في الخلاصة من أنه كافر قول ضعيف مخالف للمتون والشروح بل هو مخالف لإجماع الفقهاء كما سمعت‏.‏ وقد ألف العلامة منلا علي القاري رسالة في الرد على الخلاصة، وبهذا تعلم قطعا أن ما عزي إلى الجوهرة من الكفر مع عدم قبول التوبة على فرض وجوده في الجوهرة باطل لا أصل له ولا يجوز العمل به، وقد مر أنه إذا كان في المسألة خلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى المفتي أن يميل إلى عدم التكفير، فكيف يميل هنا إلى التكفير المخالف للإجماع فضلا عن ميله إلى قتله وإن تاب، وقد مر أيضا أن المذهب قبول توبة ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف ساب الشيخين‏.‏ والعجب من صاحب البحر حيث تساهل غاية التساهل في الإفتاء بقتله مع قوله‏:‏ وقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء من ألفاظ التكفير المذكورة في كتب الفتاوى، نعم لا شك في تكفير من قذف السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أو أنكر صحبة الصديق، أو اعتقد الألوهية في علي أو أن جبريل غلط في الوحي، أو نحو ذلك من الكفر الصريح المخالف للقرآن، ولكن لو تاب تقبل توبته، هذا خلاصة ما حررناه في كتابنا تنبيه الولاة والحكام، وإن أردت الزيادة فارجع إليه واعتمد عليه ففيه الكفاية لذوي الدراية‏.‏ ‏(‏قوله ويكفينا إلخ‏)‏ هذا مرتبط بقوله وهذا يقوي القول إلخ والمراد بالأمر الأمر السلطاني، وقد علمت ما فيه‏.‏ والحاصل أنه لا شك ولا شبهة في كفر شاتم النبي صلى الله عليه وسلم وفي استباحة قتله، وهو المنقول عن الأئمة الأربعة، وإنما الخلاف في قبول توبته إذا أسلم‏.‏ فعندنا وهو المشهور عند الشافعية القبول‏.‏ وعند المالكية والحنابلة عدمه بناء على أن قتله حدا أو لا‏.‏ وأما الرافضي ساب الشيخين بدون قذف للسيدة عائشة ولا إنكار لصحبة الصديق ونحو ذلك فليس بكفر فضلا عن عدم قبول التوبة بل هو ضلال وبدعة وسيأتي تمامه في أول باب البغاة إن شاء الله تعالى‏.‏

مطلب في حال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن عربي

نفعنا الله تعالى به ‏(‏قوله للشيخ محيي الدين بن العربي‏)‏ هو محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي العارف الكبير ابن عربي، ويقال ابن العربي‏.‏ ولد سنة 560 ومات في ربيع سنة 636 ودفن بالصالحية‏.‏ وحسبك قول زروق وغيره من الفحول ذاكرين بعض فضله، هو أعرف بكل فن من أهله، وإذا أطلق الشيخ الأكبر في عرف القوم فهو المراد، وتمامه في ط عن طبقات المناوي ‏(‏قوله بعض المتصلفين‏)‏ أي المتكلفين ‏(‏قوله لكنا تيقنا إلخ‏)‏ لعل تيقنه بذلك بدليل ثبت عنده أو بسبب عدم اطلاعه على مراد الشيخ فيها وأنه لا يمكن تأويلها فتعين عنده أنها مفتراة عليه؛ كما وقع للعارف الشعراني أنه افترى عليه بعض الحساد في بعض كتبه أشياء مكفرة وأشاعها عنه حتى اجتمع بعلماء عصره وأخرج لهم مسودة كتابه التي عليها خطوط العلماء فإذا هي خالية عما افتري عليه هذا‏.‏ ومن أراد شرح كلماته التي اعترضها المنكرون فليرجع إلى كتاب الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين لسيدي عبد الغني النابلسي ‏(‏قوله فيجب الاحتياط إلخ‏)‏ لأنه إن ثبت افتراؤها فالأمر ظاهر، وإلا فلا يفهم كل أحد مراده فيها، فيخشى على الناظر فيها من الإنكار عليه أو فهم خلاف المراد‏.‏ وللحافظ السيوطي رسالة سماها تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي ذكر فيها أن الناس افترقوا فيه فرقتين‏:‏ الفرقة المصيبة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها‏.‏ ثم قال‏:‏ والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفرقتان، وهي اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه‏.‏ فقد نقل عنه أنه قال‏:‏ نحن قوم يحرم النظر في كتبنا، وذلك أن الصوفية تواطئوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها بين الفقهاء، فمن حملها على معانيها المتعارفة كفر؛ نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه، وقال إنه شبيه بالمتشابه في القرآن والسنة كالوجه واليد والعين والاستواء‏.‏ وإذا ثبت أصل الكتاب عنه فلا بد من ثبوت كل كلمة لاحتمال أن يهدس فيه ما ليس منه من عدو أو ملحد أو زنديق وثبوت أنه قصد بهذه الكلمة المعنى المتعارف، وهذا لا سبيل إليه، ومن ادعاه كفر لأنه من أمور القلب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى‏.‏ وقد سأل بعض أكابر العلماء بعض الصوفية‏:‏ ما حملكم على أنكم اصطلحتم على هذه الألفاظ التي يستشنع ظاهرها فقال غيره‏:‏ على طريقنا هذا أن يدعيه من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس أهله، والمتصدي للنظر في كتبه أو إقرائها لم ينصح نفسه ولا غيره من المسلمين ولا سيما إن كان من القاصرين عن علوم الظاهر فإنه يضل ويضل، وإن كان عارفا فليس من طريقتهم إقراء المريدين لكتبهم، ولا يؤخذ هذا العلم من الكتب ا هـ‏.‏ ملخصا‏.‏ وذكر في محل آخر‏:‏ سمعت أن الفقيه العالم العلامة عز الدين بن عبد السلام كان يطعن في ابن عربي ويقول هو زنديق، فقال له يوما بعض أصحابه‏:‏ أريد أن تريني القطب فأشار إلى ابن عربي، فقال له أنت تطعن فيه‏:‏ فقال حتى أصون ظاهر الشرع أو كما قال‏.‏ وللمحقق ابن كمال باشا فتوى قال فيها بعد ما أبدع في مدحه‏:‏ وله مصنفات كثيرة‏:‏ منها فصوص حكمية وفتوحات مكية بعض مسائلها مفهوم النص والمعنى وموافق للأمر الإلهي والشرع النبوي؛ وبعضها خفي عن إدراك أهل الظاهر دون أهل الكشف والباطن، ومن لم يطلع على المعنى المرام يجب عليه السكوت في هذا المقام ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا‏}‏ ‏(‏قوله شيخ الطريقة حالا وعلما‏)‏ الطريقة‏:‏ هي السيرة المختصة بالسالكين إلى الله تعالى‏:‏ من قطع المنازل والترقي في المقامات، والحال عند أهل الحق معنى يرد على القلب من غير تصنع ولا اجتلاب ولا اكتساب، من طرب أو حزن، أو قبض أو بسط، أو هيبة، ويزول بظهور صفات النفس سواء تعقبه المثل أو لا فإذا دام وصار ملكة يسمى مقاما، فالأحوال مواهب، والمقامات تحصل ببذل المجهود، والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، ومنه فعلي وهو ما لا يؤخذ من الغير وانفعالي ما أخذ من الغير ا هـ‏.‏ من تعريفات السيد الشريف قدس سره‏.‏ ‏(‏قوله وإمام الحقيقة‏)‏ هي مشاهدة الربوبية بالقلب، ويقال هي سر معنوي لا حد له ولا جهة، وهي والطريقة والشريعة متلازمة، لأن الطريق إلى الله تعالى لها ظاهر وباطن؛ فظاهرها الشريعة والطريقة وباطنها الحقيقة فبطون الحقيقة في الشريعة والطريقة كبطون الزبد في لبنه لا يظفر من اللبن بزبده بدون مخضه، والمراد من الثلاثة إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد ا هـ‏.‏ من الفتوحات الإلهية للقاضي زكريا ‏(‏قوله حقيقة ورسما‏)‏ الحقيقة ضد المجاز‏.‏ والرسم الأثر أو بقيته أو ما لا شخص له من الآثار جمعه أرسم ورسوم قاموس، والمراد أنه الإمام من جهة الحقيقة ونفس الأمر، ومن جهة الأثر الظاهر للبصر ‏(‏قوله فعلا واسما‏)‏ أي أحيا آثارها من جهة الفعل والاسم حتى صارت المعارف فاعلة أفعالها ومشهورة بين الناس ‏(‏قوله إذا تغلغل إلخ‏)‏ هذا بيت من بحر البسيط‏.‏ والتغلغل الدخول والإسراع‏.‏ والفكر‏:‏ بالكسر ويفتح إعمال النظر في الشيء‏.‏ والخاطر‏:‏ الهاجس قاموس، وهو ما يخطر في القلب من تدبير أمر مصباح ‏(‏قوله عباب‏)‏ كغراب معظم السيل وكثرته وموجه‏.‏ والدلاء جمع دلو‏:‏ أي لا يتغير بأخذ الدلاء منه، لأنها لا تصل إلى أسفله لكثرته ‏(‏قوله تتقاصى عنه الأنواء‏)‏ التقاصي‏:‏ بالقاف والصاد المهملة التباعد‏.‏ والأنواء‏:‏ جمع نوء وهو النجم‏.‏ واستناءه‏:‏ طلب نوئه أي عطاءه قاموس‏:‏ أي أنه سحاب تتباعد عن مطره وفيضه النجوم التي يكون المطر وقت طلوعها، أو تتباعد عنه عطايا الناس‏:‏ أي لا تشبهه ‏(‏قوله الآفاق‏)‏ جمع أفق بضم وبضمتين الناحية وما ظهر من نواحي الفلك قاموس ‏(‏قوله وهو يقينا‏)‏ مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره أيقنه، جملة معترضة بين المبتدأ والخبر ط ‏(‏قوله وناطق بما كتبته‏)‏ المراد أنه مقر به وأن القول طابق الفعل ط‏.‏ والجملة عطف على أصفه ‏(‏قوله ما أنصفته‏)‏ يقال أنصفته إنصافا عاملته بالعدل والقسط مصباح ‏(‏قوله وما علي‏)‏ ما استفهامية أو نافية‏:‏ أي وما علي شيء ‏(‏قوله يظن الجهل‏)‏ أي يظن الجهل في غيره فهو مفعول أول أو يظن الظن الجهل فهو مفعول مطلق، وقوله عدوانا أي ظلما مفعول لأجله أو حال، وهذا أولى مما قيل إن الجهل بمعنى المجهول مفعول أول وعدوانا مفعول ثان‏:‏ أي ذا عدوان فافهم ‏(‏قوله برهانا‏)‏ هو الحجة قاموس، فهو حال مؤكدة ط ‏(‏قوله من مناقبه‏)‏ جمع منقبة وهي المفخرة قاموس ط ‏(‏قوله إلا لعلي‏)‏ أي لكن أخاف وأشفق أني زدت من جهة النقصان والتقصير في حقه، فنقصانا تمييز لا مفعول زدت لئلا يرد عليه ما قيل في زاد النقص أنه لا مناسبة بين الزيادة والنقص حتى يتسلط أحدهما على الآخر‏.‏

مطلب في الساحر والزنديق

‏(‏قوله والكافر بسبب اعتقاد السحر‏)‏ في الفتح‏:‏ السحر حرام بلا خلاف بين أهل العلم، واعتقاد إباحته كفر‏.‏ وعن أصحابنا ومالك وأحمد يكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد الحرمة أو لا ويقتل وفيه حديث مرفوع‏:‏ «حد الساحر ضربة بالسيف» يعني القتل وعند الشافعي لا يقتل ولا يكفر إلا إذا اعتقد إباحته‏.‏ وأما الكاهن، فقيل هو الساحر، وقيل هو العراف الذي يحدث ويتخرص، وقيل من له من الجن من يأتيه بالأخبار‏.‏ وقال أصحابنا‏:‏ إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر لا إن اعتقد أنه تخييل، وعند الشافعي إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب وأنها تفعل ما يلتمسه كفر‏.‏ وعند أحمد حكمه كالساحر في رواية يقتل، وفي رواية إن لم يتب، ويجب أن لا يعدل عن مذهب الشافعي في كفر الساحر والعراف وعدمه‏.‏ وأما قتله فيجب ولا يستتاب إذا عرفت مزاولته لعمل السحر لسعيه بالفساد في الأرض لا بمجرد علمه إذا لم يكن في اعتقاده ما يوجب كفره‏.‏ ا هـ‏.‏ وحاصله أنه اختار أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد مكفرا، وبه جزم في النهر، وتبعه الشارح، وأنه يقتل مطلقا إن عرف تعاطيه له، ويؤيده ما في الخانية‏:‏ اتخذ لعبة ليفرق بين المرء وزوجه‏.‏ قالوا‏:‏ هو مرتد ويقتل إن كان يعتقد لها أثرا ويعتقد التفريق من اللعبة لأنه كافر‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي نور العين عن المختارات‏:‏ ساحر يسحر ويدعي الخلق من نفسه يكفر ويقتل لردته‏.‏ وساحر يسحر وهو جاحد لا يستتاب منه ويقتل إذا ثبت سحره دفعا للضرر عن الناس‏.‏ وساحر يسحر تجربة ولا يعتقد به لا يكفر‏.‏ قال أبو حنيفة‏:‏ الساحر إذا أقر بسحره أو ثبت بالبينة يقتل ولا يستتاب منه، والمسلم والذمي والحر والعبد فيه سواء‏.‏ وقيل يقتل الساحر المسلم لا الكتابي، والمراد من الساحر غير المشعوذ ولا صاحب الطلسم ولا الذي يعتقد الإسلام‏.‏ والسحر في نفسه حق أمر كائن إلا أنه لا يصلح إلا للشر والضرر بالخلق، والوسيلة إلى الشر شر فيصير مذموما‏.‏ ا هـ‏.‏ والفرق بين الثلاثة‏:‏ أن الأول مصرح بما هو كفر‏.‏ والثاني لا يدري كيف يقول كما وقع التعبير به في الخانية لأنه جاحد، ويعلم منه أن الأول لا يستتاب‏:‏ أي لا يمهل طلبا للتوبة لأنها لا تقبل منه في دفع القتل عنه بعد أخذه كما يأتي دفعا للضرر عن الناس كقطاع الطريق والخناق وإن كانوا مسلمين‏.‏ وبه علم أن الثالث وإن كان لا يكفر لكنه يقتل أيضا للاشتراك في الضرر، وأن تقييد الشارح بكونه كافرا بسبب اعتقاد السحر غير قيد، بل يقتل ولو كان كافرا أصليا أو لم يكفر باعتقاده، نعم لما كان كلام المصنف في المسلم الذي ارتد قيد بذلك تأمل‏.‏ وعلم به وبما نقلناه عن الخانية أنه لا يكفر بمجرد عمل السحر ما لم يكن فيه اعتقاد أو عمل ما هو مكفر، ولذا نقل في ‏[‏تبيين المحارم‏]‏ عن الإمام أبي منصور أن القول بأنه كفر على الإطلاق خطأ ويجب البحث عن حقيقته، فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا‏.‏ ا هـ‏.‏ والظاهر أن ما نقله في الفتح عن أصحابنا مبني على أن السحر لا يكون إلا إذا تضمن كفرا ويأتي تحقيقه وقدمنا في خطبة الكتاب تعداد أنواع السحر وتمام بيان ذلك في رسالتنا المسماة ‏[‏سل الحسام الهندي لنصرة مولانا خالد النقشبندي‏]‏ ‏(‏قوله لسعيها إلخ‏)‏ أي لا بسبب اعتقادها الذي هو ردة لأن المرتدة لا تقتل عندنا، ومقابل الأصح ما في المنتقى أنها لا تقتل بل تحبس وتضرب كالمرتدة كما في الزيلعي‏.‏

مطلب في الفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد

‏(‏قوله وكذا الكافر بسبب الزنديق‏)‏ قال العلامة ابن كمال باشا في رسالته‏:‏ الزنديق في لسان العرب يطلق على من ينفي الباري تعالى، وعلى من يثبت الشريك، وعلى من ينكر حكمته‏.‏ والفرق بينه وبين المرتد العموم الوجهي لأنه قد لا يكون مرتدا، كما لو كان زنديقا أصليا غير منتقل عن دين الإسلام، والمرتد قد لا يكون زنديقا كما لو تنصر أو تهود، وقد يكون مسلما فيتزندق‏.‏ وأما في اصطلاح الشرع، فالفرق أظهر لاعتبارهم فيه إبطان الكفر والاعتراف بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم على ما في شرح المقاصد، لكن القيد الثاني في الزنديق الإسلامي بخلاف غيره‏.‏ والفرق بين الزنديق والمنافق والدهري والملحد مع الاشتراك في إبطان الكفر أن المنافق غير معترف بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والدهري كذلك مع إنكاره إسناد الحوادث إلى الصانع المختار سبحانه وتعالى‏.‏ والملحد‏:‏ وهو من مال عن الشرع القويم إلى جهة من جهات الكفر، من ألحد في الدين‏:‏ حاد وعدل لا يشترط فيه الاعتراف بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولا بوجود الصانع تعالى وبهذا فارق الدهري أيضا، ولا إضمار الكفر وبه فارق المنافق، ولا سبق الإسلام وبه فارق المرتد، فالملحد أوسع فرق الكفر حدا‏:‏ أي هو أعم من الكل ا هـ‏.‏ ملخصا‏.‏ قلت‏:‏ لكن الزنديق باعتبار أنه قد يكون مسلما وقد يكون كافرا من الأصل لا يشترط فيه الاعتراف بالنبوة وسيأتي عن الفتح تفسيره بمن لا يتدين بدين‏.‏ ثم بين حكم الزنديق فقال‏:‏ اعلم أنه لا يخلو، إما أن يكون معروفا داعيا إلى الضلال أو لا‏.‏ والثاني ما ذكره صاحب الهداية في التجنيس من أنه على ثلاثة أوجه‏:‏ إما أن يكون زنديقا من الأصل على الشرك، أو يكون مسلما فيتزندق، أو يكون ذميا فيتزندق، فالأول يترك على شركه إن كان من العجم، أي بخلاف مشرك العرب فإنه لا يترك‏.‏ والثاني يقتل إن لم يسلم لأنه مرتد‏.‏ وفي الثالث يترك على حاله لأن الكفر ملة واحدة ا هـ‏.‏ والأول أي المعروف الداعي لا يخلو من أن يئوب بالاختيار ويرجع عما فيه قبل أن يؤخذ أولا، والثاني يقتل دون الأول ا هـ‏.‏ وتمامه هناك ‏(‏قوله لا توبة له‏)‏ تصريح بوجه الشبه، والمراد بعدم التوبة أنها لا تقبل منه في نفي القتل عنه كما مر في الساب، ولذا نقل البيري عن الشمني بعد نقله اختلاف الرواية في القبول وعدمه أن الخلاف في حق الدنيا، أما فيما بينه وبين الله تعالى فتقبل توبته بلا خلاف ا هـ‏.‏ ونحوه في رسالة ابن كمال ‏(‏قوله لكن في حظر الخانية إلخ‏)‏ استدراك على الفتح حيث لم يذكر هذا التفصيل‏.‏ ونقل في النهر عن الدراية روايتين في القبول وعدمه، ثم قال‏:‏ وينبغي أن يكون هذا التفصيل محمل الروايتين‏.‏ ا هـ‏.‏ ‏(‏قوله المعروف‏)‏ أي بالزندقة الداعي أي الذي يدعو الناس إلى زندقته‏.‏ ا هـ‏.‏ ح‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف يكون معروفا داعيا إلى الضلال، وقد اعتبر في مفهومه الشرعي أن يبطن الكفر‏.‏ قلت‏:‏ لا بعد فيه، فإن الزنديق يموه كفره ويروج عقيدته الفاسدة ويخرجها في الصورة الصحيحة، وهذا معنى إبطال الكفر، فلا ينافي إظهاره الدعوى إلى الضلال وكونه معروفا بالإضلال ا هـ‏.‏ ابن كمال ‏(‏قوله أن الخناق لا توبة له‏)‏ أفاد بصيغة المبالغة أن من خنق مرة لا يقتل‏.‏ قال المصنف قبيل الجهاد‏:‏ ومن تكرر الخنق منه في المصر قتل به وإلا لا‏.‏ ا هـ‏.‏ ط‏.‏ قلت‏:‏ ذكر الخناق هنا استطرادي لأن الكلام في الكافر الذي لا تقبل توبته والخناق غير كافر، وإنما لا تقبل توبته لسعيه في الأرض بالفساد ودفع ضرره عن العباد، ومثله قطاع الطريق‏.‏

مطلب في الكاهن والعراف

‏(‏قوله الكاهن قيل كالساحر‏)‏ في الحديث‏:‏ «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الحاكم عن أبي هريرة‏.‏ والكاهن كما في مختصر النهاية للسيوطي‏:‏ من يتعاطى الخبر عن الكائنات في المستقبل ويدعي معرفة الأسرار‏.‏ والعراف‏:‏ المنجم‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق والضالة ونحوهما‏.‏ ا هـ‏.‏ والحاصل أن الكاهن من يدعي معرفة الغيب بأسباب وهي مختلفة فلذا انقسم إلى أنواع متعددة كالعراف‏.‏ والرمال والمنجم‏:‏ وهو الذي يخبر عن المستقبل بطلوع النجم وغروبه، والذي يضرب بالحصى، والذي يدعي أن له صاحبا من الجن يخبره عما سيكون، والكل مذموم شرعا، محكوم عليهم وعلى مصدقهم بالكفر‏.‏ وفي البزازية‏:‏ يكفر بادعاء علم الغيب وبإتيان الكاهن وتصديقه‏.‏ وفي التتارخانية‏:‏ يكفر بقوله أنا أعلم المسروقات أو أنا أخبر عن إخبار الجن إياي ا هـ‏.‏ قلت‏:‏ فعلى هذا أرباب التقاويم من أنواع الكاهن لادعائهم العلم بالحوادث الكائنة‏.‏ وأما ما وقع لبعض الخواص كالأنبياء والأولياء بالوحي أو الإلهام فهو بإعلام من الله تعالى فليس مما نحن فيه ا هـ‏.‏ ملخصا من حاشية نوح من كتاب الصوم‏.‏

مطلب في دعوى علم الغيب

قلت‏:‏ وحاصله أن دعوى علم الغيب معارضة لنص القرآن فيكفر بها، إلا إذا أسند ذلك صريحا أو دلالة إلى سبب من الله تعالى كوحي أو إلهام، وكذا لو أسنده إلى أمارة عادية يجعل الله تعالى‏.‏ قال صاحب الهداية في كتابه مختارات النوازل‏:‏ وأما علم النجوم فهو في نفسه حسن غير مذموم، إذ هو قسمان‏:‏ حسابي وإنه حق وقد نطق به الكتاب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏ أي سيرهما بحسبان‏.‏ واستدلالي بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره، وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض، ولو لم يعتقد بقضاء الله تعالى أو ادعى علم الغيب بنفسه يكفر ا هـ‏.‏ وتمام تحقيق هذا المقام يطلب من رسالتنا سل الحسام الهندي ‏(‏قوله الداعي إلى الإلحاد‏)‏ قدمنا عن ابن كمال بيانه ‏(‏قوله والإباحي‏)‏ أي الذي يعتقد إباحة المحرمات وهو معتقد الزنادقة‏.‏ ففي فتاوى قارئ الهداية الزنديق هو الذي يقول ببقاء الدهري ويعتقد أن الأموال والحرم مشتركة‏.‏ ا هـ‏.‏ وفي رسالة ابن كمال عن الإمام الغزالي في كتاب ‏[‏التفرقة بين الإسلام والزندقة‏]‏ ومن جنس ذلك ما يدعيه بعض من يدعي التصوف أنه بلغ حالة بينه وبين الله تعالى أسقطت عنه الصلاة وحل له شرب المسكر والمعاصي وأكل مال السلطان، فهذا مما لا أشك في وجوب قتله إذ ضرره في الدين أعظم؛ وينفتح به باب من الإباحة لا ينسد؛ وضرر هذا فوق ضرر من يقول بالإباحة مطلقا؛ فإنه يمتنع عن الإصغاء إليه لظهور كفره‏.‏ أما هذا فيزعم أنه لم يرتكب إلا تخصيص عموم التكليف بمن ليس له مثل درجته في الدين ويتداعى هذا إلى أن يدعي كل فاسق مثل حاله ا هـ‏.‏ ملخصا‏.‏

مطلب في أهل الأهواء إذا ظهرت بدعتهم

وفي نور العين عن التمهيد‏:‏ أهل الأهواء إذا ظهرت بدعتهم بحيث توجب الكفر فإنه يباح قتلهم جميعا إذا لم يرجعوا ولم يتوبوا، وإذا تابوا وأسلموا تقبل توبتهم جميعا إلا الإباحية والغالية والشيعة من الروافض والقرامطة والزنادقة من الفلاسفة لا تقبل توبتهم بحال من الأحوال، ويقتل بعد التوبة وقبلها لأنهم لم يعتقدوا بالصانع تعالى حتى يتوبوا ويرجعوا إليه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن تاب قبل الأخذ والإظهار تقبل توبته وإلا فلا، وهو قياس قول أبي حنيفة، وهو حسن جدا، فأما في بدعة لا توجب الكفر فإنه يجب التعزير بأي وجه يمكن أن يمنع من ذلك، فإن لم يمكن بلا حبس وضرب يجوز حبسه وضربه، وكذا لو لم يمكن المنع بلا سيف إن كان رئيسهم ومقتداهم جاز قتله سياسة وامتناعا‏.‏ والمبتدع لو له دلالة ودعوة للناس إلى بدعته ويتوهم منه أن ينشر البدعة وإن لم يحكم بكفره جاز للسلطان قتله سياسة وزجرا لأن فساده أعلى وأعم حيث يؤثر في الدين‏.‏ والبدعة لو كانت كفرا يباح قتل أصحابها عاما، ولو لم تكن كفرا يقتل معلمهم ورئيسهم زجرا وامتناعا‏.‏ ا هـ‏.‏ ‏(‏قوله الذي لا يتدين بدين‏)‏ يحتمل أن يكون المراد به الذي لا يستقر على دين، أو الذي يكون اعتقاده خارجا عن جميع الأديان‏.‏ والثاني هو الظاهر من كلامه الذي سيذكره عنه، وقدمنا عن رسالة ابن كمال تفسيره شرعا بمن يبطن الكفر وهذا أعم ‏(‏قوله وتمامه فيه‏)‏ أي في الفتح حيث قال‏:‏ ويجب أن يكون حكم المنافق في عدم قبولنا توبته كالزنديق لأن ذلك في الزنديق لعدم الاطمئنان إلى ما يظهر من التوبة إذا كان يخفي كفره الذي هو عدم اعتقاده دينا، والمنافق مثله في الإخفاء‏.‏ وعلى هذا فطريق العلم بحاله إما بأن يعثر بعض الناس عليه أو يسره إلى من أمن إليه ا هـ‏.‏

مطلب حكم الدروز والتيامنة والنصيرية والإسماعيلية

‏[‏تنبيه‏]‏

يعلم مما هنا حكم الدروز والتيامنة فإنهم في البلاد الشامية يظهرون الإسلام والصوم والصلاة مع أنهم يعتقدون تناسخ الأرواح وحل الخمر والزنا وأن الألوهية تظهر في شخص بعد شخص ويجحدون الحشر والصوم والصلاة والحج، ويقولون المسمى به غير المعنى المراد ويتكلمون في جناب نبينا صلى الله عليه وسلم كلمات فظيعة‏.‏ وللعلامة المحقق عبد الرحمن العمادي فيهم فتوى مطولة، وذكر فيها أنهم ينتحلون عقائد النصيرية والإسماعيلية الذين يلقبون بالقرامطة والباطنية الذين ذكرهم صاحب المواقف‏.‏ ونقل عن علماء المذاهب الأربعة أنه لا يحل إقرارهم في ديار الإسلام بجزية ولا غيرها، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، وفيهم فتوى في الخيرية أيضا فراجعها‏.‏

مطلب جملة من لا تقبل توبته

والحاصل أنهم يصدق عليهم اسم الزنديق والمنافق والملحد‏.‏ ولا يخفى أن إقرارهم بالشهادتين مع هذا الاعتقاد الخبيث لا يجعلهم في حكم المرتد لعدم التصديق، ولا يصح إسلام أحدهم ظاهرا إلا بشرط التبري عن جميع ما يخالف دين الإسلام لأنهم يدعون الإسلام ويقرون بالشهادتين وبعد الظفر بهم لا تقبل توبتهم أصلا‏.‏ وذكر في التتارخانية أنه سأل فقهاء سمرقند عن رجل يظهر الإسلام والإيمان ثم أقر بأني كنت أعتقد مع ذلك مذهب القرامطة وأدعو إليه والآن تبت ورجعت وهو يظهر الآن ما كان يظهره قبل من الإسلام والإيمان‏.‏ قال أبو عبد الكريم بن محمد‏:‏ قتل القرامطة واستئصالهم فرض‏.‏ وأما هذا الرجل الواحد، فبعض مشايخنا قال يتغفل ويقتل‏:‏ أي تطلب غفلته في عرفان مذهبه‏.‏ وقال بعضهم يقتل بلا استغفال لأن من ظهر منه ذلك ودعا الناس لا يصدق فيما يدعي بعد من التوبة ولو قبل منه ذلك لهدموا الإسلام وأضلوا المسلمين من غير أن يمكن قتلهم، وأطال في ذلك، ونقل عدة فتاوى عن أئمتنا وغيرهم بنحو ذلك، لكن تقدم اعتماد قبول التوبة قبل الأخذ لا بعده‏.‏ ‏(‏قوله لكن في حظر الخانية‏)‏ أي في كتاب الحظر والإباحة منها والاستدراك على قول الفتح أو لا‏:‏ أي أو لم يعتقد تحريمه، وقدمنا أنه في الفتح نقل ذلك عن أصحابنا وأنه اختار أنه لا يكفر ما لم يعتقد ما يوجب الكفر لكنه يقتل، ولعل ما نقله عن الأصحاب مبني على أن السحر لا يتم إلا بما هو كفر كما يفيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر‏}‏ وعلى هذا فغير المكفر لا يسمى سحرا، ويؤيد ما قدمناه عن المختارات من أن المراد بالساحر غير المشعوذ ولا صاحب الطلسم ولا من يعتقد الإسلام‏:‏ أي بأن لم يفعل أو يعتقد ما ينافي الإسلام، ولذا قال هنا ولا يعتقده فقد علم أنه يسمى ساحرا ما لم يعتقد أو يفعل ما هو كفر، والله سبحانه أعلم‏.‏