فصل: ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- الصفا والمروة من شعائر دين الله وأعلام طاعته التي تعبدنا الله بها.
2- السعي بين الصفا والمروة إحياء لحادثة تاريخية وقعت لأم إسماعيل عليها السلام.
3- تمسّحُ المشركين بالأصنام في الجاهلية عند السعي لا يمنع المؤمنين من السعي بينهما.
4- السعي واجب على من حج بيت الله العتيق أو زاره للعمرة.
5- التطوع بالحج والعمرة في غير الفريضة من مظاهر كمال الإيمان.
6- الله شاكر لعباده يثيب الطائع على طاعته ويجزيه عليها خير الجزاء.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
أمر جل ثناؤه المؤمنين بالسعي بين الصفا والمروة، عند الحج أو العمرة، وجعل السعي من شعائر دين الله، ومن معالم طاعته، وذلك إحياء لحادثة تاريخية من أروع الذكريات في تاريخ الإنسانية، تلك هي حادثة إسماعيل عليه السلام مع أمه (هاجر) المؤمنة الصابرة، بعد أن تركهما الخليل إبراهيم عليه السلام في مكان قفر ليس فيه أنيس، ولا سمير، ولا ساكن.. تركهما امتثالاً لأمر الله سبحانه في هذه الصحراء الشاسعة الواسعة، التي لا يسكنها أحد، لأن الله عز وجل يريد أن يعمرها بالسكان، ويجعل هذه البقعة المباركة مكاناً لبناء بيته العتيق، ومهوى لأفئدة الملايين من البشر.
وكان إسماعيل طفلاً رضيعاً، فلما أراد إبراهيم عليه السلام الرجوع، تبعته (أم إسماعيل) فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا في هذا المكان الفقير، الذي لا أنيس فيه ولا سمير!؟ فجعل لا يلتفت إليها مخافة أن تصرفه عن تنفيذ أمر الله، ثم قالت يا إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيّعنا الله.
ثم رجعت وانطلق إبراهيم عليه السلام، حتى إذا كان عند الثنيّة بحيث يراهم ولا يرونه، استقبل بوجهه جهة البيت ثم دعا بهذه الدعوات المباركات، التي ذكرها القرآن الكريم {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
ثم انطلق يقطع الصحارى والقفار، حتى عاد إلى وطنه الأول في أرض فلسطين، بعد أن ترك زوجه وولده في رعاية الله وحفظه.
بقيت (أم إسماعيل) وحيدة مع طفلها ترضعه، وتشرب من ذلك السقاء الذي معها، وتأكل من الثمر الذي تركه لها إبراهيم عليه السلام، حتى إذا نفذ ما في السقاء، ولم يبق عندها ماء، عطشت عطشاً شديداً، وعطش ولدها (إسماعيل) فجعلت تنظر إليه يتلوّى من شدة العطش، يكاد يهلكه الظمأ، فانطلقت تفتش له عن ماء، فوجدت الصفا أقرب جبل يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ ولكنها لم تر أحداً، فهبطت من الصفا ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى وصلت إلى المروة فلم تر أحداً، فأخذت تهرول وتسعى بين (الصفا والمروة) سبع مرات.
قال ابن عباس: (فذلك سعي الناس بينهما) حتى إذا أشرفت على الهلاك، وتلاشت قواها سمعت صوتاً من بعيد، فقالت: قد أسمعتَ فأغثْ إن كان عندك غواث، ثمّ نظرت فإذا هي برجلٍ جميل الطلعة عند مكان زمزم، فهرولت نحوه تظنه بشراً، فإذا هو ملك من ملائكة الله، فضرب بجناحه الأرض فإذا بالماء يفور كأنه نبع دافق، وكانت (زمزم) التي هي آية من آيات الله، ثم قال لها الملك: لا تخافي الضياع فإن لله هاهنا بيتاً سوف يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ الله لن يضيّع أهله.
هذه خلاصة تلك الحادثة التاريخية، والذكرى الخالدة، التي أراد الله أن يعمر بها بيته العتيق، ويجعل منها مناسك للحج وشعائر لدينه الإسلامي المجيد.

.تفسير الآيات (159- 160):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
[5] كتمان العلم الشرعي:

.التحليل اللفظي:

{يَكْتُمُونَ}: الكتمان: الإخفاء والستر، قال الراغب: الكتمان ستر الحديث يقال كتمته كتماً وكتماناً.
قال الألوسي: الكتم ترك إظهار الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه، وتحقيق الداعي إلى إظهاره، وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه، وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه، واليهود- قاتلهم الله- ارتكبوا كلا الأمرين.
{البينات}: الآيات الواضحات الدالة على الحق، جمع بينة وهي في اللغة الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو حسيّة، وسمي البيان بياناً لكشفه عن المعنى المقصود.
والمراد بالبينات في الآية: ما أنزله الله في التوراة والإنجيل من أمر محمد عليه الصلاة والسلام.
{والهدى}: الهدى كلّ ما يدل على الخير، ويهدي إلى الرشد، من الهداية وهي الدلالة على الشيء.
قال أبو السعود: المراد بالهدى الآيات الهادية إلى وجوب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، عبّر عنها بالمصدر مبالغة.
{يَلعَنُهُمُ الله}: أي يطردهم ويبعدهم من رحمته، وأصل اللعن: الإبعاد والطرد قال الشماخ:
مقام الذئب كالرجل اللعين

أي الطريد.
{اللاعنون}: قال ابن عباس: اللاعنون كلّ شيء على وجه الأرض إلا الثقلين.
وقال مجاهد: هم دواب الأرض وهوامّها، تقول: مُنِعنا القطر بمعاصي بني آدم.
والصحيح أنهم: (الملائكة، والأنبياء، وجميع الناس) لقوله تعالى: بعد هذه الآية: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] والقرآن يفسّر بعضه بعضاً.
{تَابُواْ}: أي رجعوا عن الكتمان. وأصل التوبة الرجوعُ والندم على ما صدر من الإنسان.
{وَأَصْلَحُواْ}: أي أصلحوا ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرّف، أو أصلحوا سيرتهم وأعمالهم.
{وَبَيَّنُواْ}: أي أظهروا للناس ما كانوا كتموه من أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم أو ما كتموه من دين الله.
{التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: أي المبالغ في قبول التوبة، الرحيم بالعباد، وهما من صيغ المبالغة.

.وجه المناسبة:

كان أهل الكتاب (اليهود والنصارى) يكتمون بعض ما في كتبهم بعدم ذكر نصوصه للناس عند الحاجة إليه، أو السؤال عنه، ويتعمدون إخفاء ما ورد من البشارات ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يؤمن به الناس، كما يخفون بعض الأحكام الشرعية كحكم رجم الزاني، ويكتمون بعضها بتحريف الكلم عن مواضعه، والتأويل للآيات على غير معانيها إتباعاً للأهواء، ففضحهم الله تعالى بهذه الآيات، التي سجّلت عليهم وعلى أمثالهم اللعنة العامة الدائمة.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله تعالى ما معناه: إن الذين يخفون ما أنزلناه من الآيات البينات، والدلائل الواضحات التي تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه رسول الله، ويتعمدون أن يكتموا أمر البشارية به عليه السلام مع أنهم يعلمون حق العلم أوصافه. لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] هؤلاء الكاتمون لأوصاف الرسول، المتلاعبون بأحكام الدين، المحرفون للتوراة والإنجيل، يستحقون الطرد والإبعاد من رحمة الله، ويستوجبون اللعنة من الملائكة والناس أجمعين، إلاّ من تاب عن كتمانه، وأصلح أمره بالإيمان بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيّن ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه، فلم يكتمه ولم يُخفه، فهؤلاء يتوب الله عليهم، ويفيض عليهم مغفرته ورحمته، وهو جل ثناؤه كثير التوبة على العباد، يتغمدهم برحمته، ويشملهم بعفوه، ويصفح عمّا فرط منهم من السيئات.

.سبب النزول:

1- نزلت هذه الآية الكريمة من أهل الكتاب حين سئلوا عمّا جاء في كتبهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكتموه، ولم يخبروا عنه حسداً وبغضاً.. روي السيوطي في (الدر المنثور) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ (معاذ بن جبل) وبعض الصحابة سألوا نفراً من أحبار اليهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه، وأبوا أن يخبرونهم، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى}.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: قوله تعالى: {فِي الكتاب} المراد بالكتاب الكتب التي أنزلها الله لهداية البشرية، ف (أل) تكون (للجنس) مثلها في قوله تعالى: {والعصر* إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْر} [العصر: 1-2] وقيل: المراد بالكتاب التوراةُ والإنجيل، فتكون (أل) للعهد الذهني.
اللطيفة الثانية: عبّر باسم الإشارة البعيد {أولئك يَلعَنُهُمُ الله} تنبيهاً على قبح عملهم وغاية بعده في الإجرام، والإفساد، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً لخطورته، وأتى بالفعل المضارع المفيد للتجدد لتجدد مقتضيه، وأبرز اسم الجلالة {يَلعَنُهُمُ الله} على سبيل الإلتفات لتربية المهابة، وإدخال الروعة، إذ لو جرى على نسق الكلام المتقدم لقال (أولئك نلعنهم).
اللطيفة الثالثة: في قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} ضربٌ من البديع يسمى (الجناس المغاير) وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً، والأخرى فعلاً كما في هذه الآية.
اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} جاء اللفظان بصيغة المبالغة، لأن (فعّال) و(فعيل) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك:
فعّال أو مفعال أو فعول ** في كثرةٍ عن فاعل بديل

والمعنى: كثير التوبة، واسع المغفرة والرحمة.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل هذه الآية خاصة بأحبار اليهود والنصارى؟
الآية الكريمة نزلت في أهل الكتاب من أحبار اليهود، وعلماء النصارى، الذين كتموا صفات النبي عليه الصلاة والسلام كما دلّ على ذلك سبب النزول، ولكنها تشمل كل كاتم لآيات الله، مخفٍ لأحكام الشريعة، لأن العبرة- كما يقول علماء الأصول- بعموم اللفظ لا (بخصوص السبب)، والآيات وردت عامة بصيغة اسم الموصول {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} لذلك تعم.
قال أبو حيان: والأظهر عموم الآية في الكاتمين، وفي الناس، وفي الكتاب، وإن نزلت على سبب خاص، فهي تتناول كلّ من كتم علماً من دين الله، يُحتاج إلى بثه ونشره.
وذلك مفسر في قوله صلى الله عليه وسلم: «من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار» وقد فهم الصحابة من هذه الآية العموم، وهم العرب الفُصح، المرجوع إليهم في فهم القرآن، كما روي عن أبي هريرة: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بحديث ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} الآية.
الحكم الثاني: هل يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين؟
استدل العلماء من قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات...} الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن، أو تعليم العلوم الدينية، لأن الآية أمرت بإظهار العلم ونشره وعدم كتمانه، ولا يستحق الإنسان أجراً على عملٍ يلزمه أداؤه، كما لا يستحق الأجر على الصلاة، لأنها قربة وعبادة، لذلك يحرم أخذ الأجرة على تعليمها.
غير أن المتأخرين من العلماء لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم كتاب الله، وسائر العلوم الدينية، فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، لذلك أباحوا أخذ الأجور، بل زعم بعضهم أنه واجب للحفاظ على علوم الدين، وما هذه الأوقاف والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لغرض صيانة القرآن وعلوم الشريعة، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] غير أننا نجد المتقدمين من الفقهاء متفقين على حرمة أخذ الأجرة على علوم الدين. لأن العلم عبادة وأخذ الأجرة على العبادة غير جائز.
قال أبو بكر الجصاص: وقد دلت الآية على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله، ألا ترى أنه لا يجوز استحقاق الأجر على الإسلام؟!
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعاً، لأن قوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه، إذ كان الثمن في اللغة هو البدل، قال عمر بن أبي ربيعة:
إن كنت حاولت دنيا أو أصبت بها ** فما أصبت بترك الحج من ثمن

فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن، وسائر علوم الدين.
وقال الفخر الرازي: احتجوا بهذه الآية على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على التعليم، لأن الآية لما دلت على وجوب التعليم، كان أخذ الأجرة أخذاً على أداء الواجب، وأنه غير جائز، وقوله تعالى: {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] مانعٌ أخذ البدل عليه من جميع الوجوه.
أقول: هذه النظرة الفقهية الدقيقة تسمو بالعلم إلى درجة العبادة، وهي نظرة جديرة بالتقدير، ولكنّ علوم الشريعة تكاد تضيع مع الأخذ بفتوى المتأخرين، من إباحة أخذ الأجرة على التعليم، فكيف لو أخذنا بفتوى المتقدمين ومنعنا أخذ الرواتب والأجور؟ إذن لم يبق من يعلّم أو يتعلم وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.