فصل: المعنى الإجمالي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.المعنى الإجمالي:

افتتح الله جل ثناؤه سورة النساء بخطاب الناس جميعاً ودعوتهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، منبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة وهي (آدم)، وخلق منها زوجها وهي (حواء)، ونشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها خلائق كثيرين، فالناس جميعاً من أبٍ واحد، وهم إخوة في الإنسانية والنسب، فعلى القوي أن يعطف على الضعيف، وعلى الغني أن يساعد الفقير، حتى يتم بنيان المجتمع الإنساني.
وقد أكد تعالى الأمر بتقوى الله في موطنين: في أول الآية وفي آخرها ليشير إلى عظم حق الله على عباده، كما قرن تعالى بين التقوى وصلة الرحم {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} ليدل على أهمية هذه الرابطة العظيمة (رابطة الرحم) فعلى الإنسان أن يرعي هاتين الرابطتين: رابطة الإيمان بالله، ورابطة القرابة والرحم، ولو أدرك الناس هذا لعاشوا في سعادة وأمان، ولما كان هناك حروب طاحنة مدمرة، تلتهب الأخضر واليابس، وتقضي على الكهل والوليد!
وقد عقّب تعالى في الآية الثانية على (حق اليتامى) فأمر بالمحافظة على أموالهم، وعدم الاعتداء عليها لأنهم بحاجة إلى رعاية وحماية، وإلى مساعدة ومواساة، فإن الطفل اليتيم ضعيف، وظلم الضعيف ذنب عظيم عند الله.
ثم أمر تعالى الرجال إذا كان في حجْر أحدهم يتيمة، ورغب في الزواج بها، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، أو يعدل إلى ما سواها من النساء، فلم يضيّق الله عليه، وأباح له أن يتزوج اثنتين، وثلاثاً، إلى أربع، فإذا خشي عدم العدل فعليه أن يقتصر على واحدة.
وختم تعالى هذه الآيات بأمر الرجال بإعطاء النساء مهورهن عن طيب نفس، عطّية وهبة بسخاء، لا منّة فيها ولا استعلاء، فإذا طابت نفوسهن عن شيء منه فليأكله الزوج حلالاً طيباً.

.سبب النزول:

أولاً: روي أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم، فلما بلغ طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ...} قاله سعيد بن جبير.
ثانياً: عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى...}).
ثالثاً: وروى البخاري عن (عروة بن الزبير) أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن ذلك إلاّ أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.. وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء...} [النساء: 127] الآية.

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور: {تَسَآءَلُونَ بِهِ} بالتخفيف، وقرأ ابن كثير ونافع: {تَسّاءلون به} بالتشديد.
قال الزجاج: فمن قرأ بالتشديد أدغم التاء في السين لقرب مكانهما، ومن قرأ بالتخفيف حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين.
2- قرأ الجمهور: {والأرحام} بالنصب على معنى واتقوا الأرحام، وقرأ الحسن وحمزة {والأرحامِ}.
قال الزجاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلفوا بآبائكم» وإليه ذهب الفراء.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: إنما سميت هذه السورة سورة النساء لأن ما نزل منها في أحكامهن أكثر ممّا نزل في غيرها من السور، وفي الافتتاح بتذكير الناس أنهم خلقوا من نفسٍ واحدة، تمهيد جميل وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام الأنكحة، والمواريث، والحقوق الزوجية، وأحكام تتعلق بالنسب والمصاهرة وغيرها من الأحكام الشرعية.
اللطيفة الثانية: الناس جميعاً يجمعهم نسب واحد، ويرجعون إلى أصل واحد هو (آدم) عليه السلام، ونظرية (النشوء والتطور) التي اخترعها اليهودي (داروين) تعارض صريح القرآن، القائل: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} فقد زعم (داروين) أن الإنسان بدأت حياته بجرثومة ظهرت على سطح الماء، ثم تحولت إلى حيوان صغير، ثم تدرّج هذا الحيوان فأصبح ضفدعاً، فسمكة، فقرداً، ثم ترقى هذا القرد فصار إنساناً.. إلخ فهذه النظرية مجرد افتراضات وهمية، ردّها العلماء بالأدلة القاطعة.
اللطيفة الثالثة: سميت حواء لأنها خلقت من حي كما قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهذا رأي الجمهور، وأنكر (أبو مسلم) خلقها من ضلع آدم وقال: أي فائدة في خلقها من الضلع والله قادر على أن يخلقها من التراب؟ وزعم أن قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا} أي من جنسها، وإلى هذا الرأي ذهب الشيخ (محمد عبده) في (تفسير المنار)، وهو باطل إذ لو كان تأويل الآية كذلك لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفسٍ واحدة، وهو خلاف النص، وخلاف ما نطقت به الأحاديث الصحيحة: «إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج».
وأما الفائدة فهي بيان قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يخلق حياً من حي لا على سبيل التوالد، كما أنه قادر على أن يخلق حياً من جماد كذلك، فآدم خلق من تراب، وعيسى خلق من أنثى بدون رجل، وحواء خلقت من رجل بدون أنثى، والله على كل شيء قدير.
اللطيفة الرابعة: التعبير عن الحلال والحرام بالخبيث والطيب {أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} للتنفير من أكل أموال اليتامى والترغيب فيما رزقهم الله من الكسب الحلال بالاكتفاء به وعدم التشوف إلى مال اليتيم فإنه ظلم وسحت.
اللطيفة الخامسة: قال أبو السعود: أوثر التعبير عن الكبار باليتامى {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} لقرب العهد بالصغر وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم، حتى كأنّ اسم اليتيم باق غير زائل عنهم.
أقول: وهذا الإطلاق يسمى عند علماء البيان (المجاز المرسل) وعلاقته اعتبار ما كان، أي الذين كانوا يتامى.
اللطيفة السادسة: أكل مال اليتيم حرام، وإن لم يضمّ إلى مال الوصي، والتقييد في الآية الكريمة: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} لزيادة التشنيع عليهم لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح وأشنع فلذلك خُصّ النهيُ به.
اللطيفة السابعة: وجه المناسبة بين ذكر اليتامى ونكاح النساء في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} هو أن النساء في الضعف كاليتامى، ومن ناحية أخرى فقد كانت اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بدون أن يعدل معها في الصداق فنهوا عن ذلك، وقد تقدم حديث عائشة.
قال أبو السعود: وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات، مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: ما هو حكم التساؤل بالأرحام؟
دلّ قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} على أن التساؤل بالرحم جائز ولا سميا على قراءة (حمزة) الذي قرأها بالجر (والأرحامِ) وبهذا قال بعض العلماء، لأنه ليس بقسم وإنما هو استعطاف فقول الرجل للآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا لا يراد منه الحلف الممنوع، وإنما هو سؤال بحرمة الأرحام التي أمر الله بصلتها، واستدلوا بحديث: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا...» الحديث.
وكره بعضهم ذلك وقال: إن الحديث الصحيح يردّه: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» فاعتبره نوعاً من أنواع القسم، وهو قول ابن عطية.
قال الزجاج: قراءة حمزة مع ضعفها وقبحها في اللغة العربية، خطأ عظيم في أصول الدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحلفوا بآبائكم» فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم؟.
ونقل القرطبي عن (المبرّد) أنه قال: لو صليت خلف إمام يقرأ: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} لأخذت نعلي ومضيتُ.
قال القشيري: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد في فصاحته. ثم النهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه.
الحكم الثاني: هل يعطى اليتيم ماله قبل البلوغ؟
دلّ قوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} على وجوب دفع المال لليتيم، وقد اتفق العلماء على أن اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ لقوله تعالى في الآيات التالية: {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فقد شرطت البلوغ، وإيناس الرشد، والحكمة أن الصغير لا يحسن التصرف في ماله وربما صرفه في غير وجوه النفع، وللعلماء في تفسير هذه الآية وجهان:
الوجه الأول: أن يكون المراد باليتامى البالغين الذين بلغوا سن الرشد، وسمّوا يتامى (مجازاً) باعتبار ما كان أي الذين كانوا أيتاماً.
الوجه الثاني: أن المراد باليتامى الصغار، الذين هم دون سن البلوغ، والمراد بالإيتاء الإنفاق عليهم بالطعام والكسوة، أو المراد بالإيتاء ترك الأموال وحفظها لهم وعدم التعرض لها بسوء. وهذا الوجه قوي وذلك أن بعض الأوصياء كانوا يتعجلون في إنفاق مال اليتيم وتبذيره، فأمروا بالحفاظ عليه واستثماره فيما يعود بالنفع على اليتيم، حتى إذا بلغ سن الرشد سلّموه له تاماً موفوراً، ولعلّ الوجه الأول أقوى وأرجح والله أعلم.
الحكم الثالث: هل الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} للوجوب أم للإباحة؟
ذهب الجمهور إلى أن الأمر في قوله تعالى: {فانكحوا} للإباحة مثل الأمر في قوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187] وفي قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57].
وقال أهل الظاهر: النكاح واجب وتمسكوا بظاهر هذه الآية، لأن الأمر للوجوب، وهم محجوبون بقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} إلى قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النساء: 25].
قال الإمام الفخر: فحكَمَ تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خيرٌ من فعله، فدل ذلك على أنه ليس بمندوب فضلاً عن أنه واجب.
الحكم الرابع: ما معنى قوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع}؟
اتفق علماء اللغة على أن هذه الكلمات من ألفاظ العدد، وتدل كل واحدة منها على المذكور من نوعها، فمثنى تدل على اثنين اثنين، وثُلاث تدل على ثلاثة ثلاثة، ورُباع تدل على أربعة أربعة، والمعنى: انكحوا ما اشتهت نفوسكم من النساء، ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً حسبما تريدون.
قال الزمخشري: ولما كان الخطاب للجميع وجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد، كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. أي لو قلت للجَمع اقتسموا المال الكثير درهمين لم يضح الكلام، فإذا قلت: درهمين درهمين كان المعنى أن كل واحد يأخذ درهمين فقط لا أربعة دراهم.
وفي هذه الآية دلالة على حرمة الزيادة على أربع، وقد أجمع العلماء والفقهاء على ذلك ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوج بتسع نسوة بناء على أن الواو للجمع وأن المراد أن يجمع الإنسان اثنتين وثلاثاً وأربعاً.
قال العلامة القرطبي: إعلم أن هذا العدد (مثنى وثلاث ورباع) لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَنْ بَعُد للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعَضَد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعاً وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة، والرافضةُ وبعض أهل الظاهر، وذهب بعضهم إلى أقبح من ذلك، فقالوا بإباحة الجمع بين ثمان عشرة وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع، وقد أسلم غيلان وتحته عشر نسوة فأمره عليه السلام أن يختار أربعاً منهن ويفارق سائرهن.
وقد خاطب تعالى العرب بأفصح اللغات، والعرب لا تدع أن تقول تسعة وتقول: اثنين وثلاثة وأربعة، وكذلك تستقبح ممن يقول: أعط فلاناً أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول ثمانية عشر.
أقول: إن الإجماع قد حصل على حرمة الزيادة على أربع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشذّاذ المخالفين، فلا عبرة بقولهم فإنما هو محض جهل وغباء وكما يقول الشاعر:
ومن أخذ العلوم بغير شيخ ** يضل عن الصراط المستقيم

وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم السقيم

أعاذنا الله من حماقة السفهاء وتطاول الجهلاء؟!