فصل: سبب النزول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.سبب النزول:

أولاً: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً}.
ثانياً: وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله، وألقى عليها ثوباً، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً}.
ثالثاً: وروي أن (أبا قيس بن الأسلت) لما توفي خطب ابنه (قيس) امرأته فقالت: إنما أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه وقالت: إنما كنت أعده ولداً فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} الآية.

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور: {أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} بفتح الكاف، وقرأ حمزة والكسائي (كُرْهاً) بضمها.
2- قرأ الجمهور: {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} بكسر الياء، وقرأ ابن كثير وعاصم (مبيَّنة) بفتح الياء.
3- قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بالضم وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء.
أولاً: قوله تعالى: {أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و(كرهاً) مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير: لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ.
ثانياً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره: ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة.
ثالثاً: قوله تعالى: {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي اتأخذونه باهتين وآثمين و(مبيناً) صفة منصوب.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: التعليل في قوله تعالى: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء، وهذا هو السر في قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} ولم يقل: وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء، فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة الثانية: كنى الله عز وجل عن الجماع بلفظ الإفضاء {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وهي كناية لطيفة مثل (الملامسة، والمماسة، والقربان، والغشيان) وكلها كنايات عن الجماع، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس: (الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني) والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به.
اللطيفة الثالثة: قال القرطبي: خطب عمر رضي الله عنه فقال: أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء (مهورهن) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحداً من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار.
اللطيفة الرابعة: قال صاحب الكشاف: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.... قال الشهاب الخفاجي: بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا:
صحبةُ يوم نسبٌ قريبُ ** وذمةٌ يعرفها اللبيبُ

اللطيفة الخامسة: قال الرازي: مراتب القبح ثلاثة، القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات، فقوله (إنه كان فاحشة) إشارة إلى القبح العقلي، وقوله (مقتاً) إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله (وساء سبيلاً) إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟
المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية، وليس له قدر محدّد، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً}.
قال العلامة القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح، وذكر قصة عمر وفيها قوله (أصابت امرأة وأخطأ عمر) وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة» ثم قال: وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق.
وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال:
أ- أقلة ثلاثة دراهم (ربع دينار) وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ب- أقله عشرة دراهم (دينار) وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ج- لا حدّ لأقله ويجوز بكل شيء له قيمة وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله.
قال الحافظ وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء.
قال العلامة القرطبي: تعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بأموالكم} في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح ويعضده قوله عليه السلام لو أن رجلاً أعطى ملء يديه طعاماً كانت به حلالاً وأنكح سعيد بن المسيب ابنته من (عبد الله بن وَدَاعة) بدرهمين.
قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمناً لشيء أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقاً، وهذا قول جمهور أهل العلم وأهل الحديث، كلهم أجاز الصداق بقليل المال وكثيره.
حجة المالكية والأحناف: أن الشيء الحقير لا يصلح مهراً، ولا بدّ في المهر من قدر معلوم من المال، ولما كانت يد السارق لا تقطع إلاّ في دينار (على قول أبي حنيفة) وفي ربع دينار (على قول مالك) اعتبر هذا القدر في المهر قياساً على حد السرقة.
واستدل أبو حنيفة: بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صداق دون عشرة دراهم».
الترجيح: أقول ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح فقد زوّج عليه السلام أحد الصحابة على ما يحفظه من القرآن (زوجتكها بما معك من القرآن) وقال لشخص: (التمس ولو خاتماً من حديد)، وزوج سيد التابعين (سعيد بن المسيب) ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، والأصل في المقادير إثباتها بطريق الشرع، وليس ثمة حديث صحيح في أقل الصداق يصلح حجة كما قال الحافظ والله أعلم.
الحكم الثاني: ما المراد بالميثاق الغليظ في الآية الكريمة؟
قال الضحاك وقتادة: هو العهد الذي أخذ عليهم من إحسان العشرة إلى النساء في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229].
وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالميثاق الغليظ هو (عقد النكاح) وقد دل عليه قوله عليه السلام: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».
الحكم الثالث: ما هي المحرمات التي أرشدت إليها الآية الكريمة؟
المحرمات التي يحرم الزواج بهن ثلاثة أنواع وهن كالآتي:
1- محرمات بالنسب 2- محرمات بالرضاع 3- محرمات بالمصاهرة.
المحرمات من النسب:
أشارت الآية الكريمة إلى تحريم سبعة من النسب وهنّ: (الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنت الأخت) وهؤلاء يحرم الزواج بهن على التأبيد، أي أنه لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال، ويدخل في الأمهات الجدات وإن علون، كما يدخل في البنات بناتهن وإن سفلن، وكذلك الأخوات سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالت وإن علون سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالات وإن علون سواء كن من جهة الأب أو الأم.
المحرمات من الرضاع:
والمحرمات من الرضاع سبع أيضاً كما هو الحال في النسب لقوله عليه الصلاة والسلام: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» والآية الكريمة لم تذكر من المحرمات بالرضاع سوى (الأمهات، والأخوات) والأم أصل والأخت فرع، فنبّه بذلك على جميع الأصول والفروع، ووضحت السنة النبوية ذلك بالتفصيل وبصريح العبارة كما في الحديث السابق، وقد ثبت في الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابنة حمزة: «إنها ابنة أخي من الرضاعة».
المحرمات بسبب المصاهرة:
وأما المحرمات بسبب المصاهرة فقد ذكرت الآية الكريمة منهن أربعاً وهنّ كالتالي:
أ- زوجة الأب لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء}.
ب- زوجة الابن لقوله تعالى: {وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم}.
ج- أم الزوجة لقوله تعالى: {وأمهات نِسَآئِكُمْ}.
د- بنت الزوجة إذا دخل بأمها لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.
والأصل في هذا أن أم الزوجة تحرم بمجرد العقد على البنت، ولا تحرم البنت إلا بالدخول بالأم الآية الكريمة: {الاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وقد استنبط العلماء من ذلك هذه القاعدة الأصولية وهي: (العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات).
تنبيه: الربيبة (بنت الزوجة) التي دخل بأمها تحرم على الزوج سواء كانت في حَجْره أو لم تكن في حجره، والتقييد في قوله: {الاتي فِي حُجُورِكُمْ} ليس للشرط أو للقيد وإنما هو لبيان الغالب، لأن الغالب أنها تكون مع أمها ويتولى الزوج تربيتها وهذا بإجماع الفقهاء فتدبره.
المحرمات حرمة مؤقتة:
وقد أشارت الآية الكريمة إلى من يحرم الزواج بهن حرمة مؤقتة وذكرت نوعين:
أ- الجمع بين الأختين لقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين} وألحقت السنة المطهرة (الجمع بين المرأة وعمتها) و(الجمع بين المرأة وخالتها) زيادة على الجمع بين الأختين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
والحكمة في ذلك خشية القطيعة لحديث ابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطّعتم أرحامكم».
ب- زوجة الغير أو معتدته رعاية لحق الزوج لقوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النسآء} أي المتزوجات من النساء، والمعتدة حكمها حكم المتزوجة ما دامت في العدة، وقد مر حكمها سابقاً في سورة البقرة [235] في قوله تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} وبينّا الحكمة في ذلك فارجع إليها هناك والله يتولاك.
الحكم الرابع: هل وطء أم الزوجة يحرّم الزوجية؟
اختلف العلماء في الزنى بأم الزوجة أو بنتها هل يحرّم الزوجية أم لا؟
فذهب أبو حنيفة والصاحبان إلى القول بالتحريم، وهو قول الثوري والأوزاعي وقتادة.
وذهب الشافعي إلى القول بعدم التحريم لأن الحرام لا يحرّم الحلال وهو قول الليث والزهري ومذهب (مالك) رحمه الله وهي رواية (الموطأ).
وسبب الخلاف هو اختلافهم في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء أم في العقد؟ فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ون قال: إن المراد به العقد لم يحرم الزنى.
فالحنفية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح الوطء، وقالوا: إن النكاح في الوطء حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى حتى يقوم الدليل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال، والوطء الحرام.
والشافعية رجحوا أن يكون المراد بالنكاح العقد، وقالوا: مما يدل له من جهة النظر أن الله جعل الحرمة للمصاهرة تكريماً لها، كما جعل الحرمة من النسب تكريماً للنسب، فكيف تجعل هذه الحرمة للزنى وهو فاحشة ومقت؟!
قال الشافعي في (الأم): فإن زنى بامرأة أبيه، أو أم امرأته فقد عصى الله ولا تحرم عليه امرأته ولا على أبيه ولا على ابنه، لأن الله إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزاً لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، وأثبت به الحرم التي لم تكن قبله وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال.
الترجيح: ولعل ما ذهب إليه الشافعية يكون أرجح لقوة دليلهم فقد روى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزنى بأم امرأته بعدما يدخل بها فقال: تخطّى حرمتين ولم تحرم عليه امرأته، وروي أنه قال: لا يحرم الحرام الحلال.
الحكم الخامس: حكم المتعة وآراء الفقهاء فيها.
تعريف المتعة: المتعة هي أن يستأجر الرجل المرأة إلى أجل معين بقدر معلوم، وقد كان الرجل ينكح امرأة وقتاً معلوماً شهراً أو شهرين، أو يوماً أو يومين ثم يتركها بعد أن يقضي منها وطره، فحرمت الشريعة الإسلامية ذلك، ولم تبح إلا النكاح الدائم الذي يقصد منه الدوام والاستمرار، وكل نكاح إلى أجل فهو باطل، لأنه لا يحقّق الهدف من الزواج.
وقد أجمع العلماء وفقهاء الامصار قاطبة على حرمة (نكاح المتعة) لم يخالف فيه إلاّ الروافض والشيعة، وقولهم مردود لأنه يصادم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويخالف إجماع علماء المسلمين والأئمة المجتهدين.
وقد كانت المتعة في صدر الإسلام جائزة ثم نسخت واستقر على ذلك النهي والتحريم، وما روي عن ابن عباس من القول بحلها فقد ثبت رجوعه عنه كما أخرج الترمذي عنه رضي الله عنه أنه قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم، فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت الآية الكريمة: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج: 30] فكل فرج سواهما فهو حرام.
فقد ثبت رجوعه عن قوله وهو الصحيح. وحكي أنه إنما أباحها حالة الاضطرار، والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت قالوا:
قد قلت للشيخ لا طال مجلسه ** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة ** تكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال: سبحان الله ما بهذا أفتيت!! وما هي إلاّ كالميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا تحل إلاّ للمضطر.
ومن هنا قال الحازمي: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات، حتى حرّمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد.
الأدلة الشرعية والعقلية على تحريم المتعة:
احتج أهل السُنَّة على حرمة المتعة بوجوه نلخصها فيما يلي:
أولاً: إن الوطء لا يحل إلاّ في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5-6] وهذه ليست زوجة وليست مملوكة، لأنها لو كانت زوجة لحصل التوارث، وثبت النسب ووجبت العدة، وهذه لا تثبت باتفاق فيكون باطلاً.
ثانياً: إن الأحاديث الشريفة جاءت مصرحة بتحريمه، منها ما رواه مالك عن الزهري بسنده عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية.
ثالثاً: ما رواه ابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم المتعة فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة».
رابعاً: أن عمر رضي الله عنه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة رضي الله عنهم، وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئاً فكان ذلك منهم إجماعاً.
خامساً: إن نكاح المتعة لا يقصد به إلاّ قضاء الشهوة، ولا يقصد به التناسل، ولا المحافظة على الأولاد، وهي المقاصد الأصلية للزواج، فهو يشبه الزنى من حيث قصد الاستمتاع دون غيره، وقد قال الله تعالى: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين} وليس مقصود المتمتع إلا قضاء الشهوة، وصب الماء، واستفراغ أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد.
قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى (علي) رضي الله عنه فقد صحّ عنه أنها نسخت، ونقل البيهقي عن (جعفر بن محمد) أنه سئل عن المتعة فقال: هي الزنى بعينه، فبطل بذلك كل مزاعم الشيعة.
تحقيق العلامة الشوكاني:
قال الشوكاني: (وعلى كل حال فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد، ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به ورووه لنا، حتى قال ابن عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها، واللهِ لا أعلم أحداً تمتَّع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة).
وقال ابن الجوزي: وقد تكلف قوم من المفسّرين فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا يحتاج إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المتعة ثم منع منها فكان قوله منسوخاً بقوله (يعني بالسنة) وأما الآية فإنها لا تتضمن جواز المتعة وإنما المراد بها الاستمتاع في النكاح.