فصل: ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- تحريم الاعتداء على النساء بالظلم والاستبداد، ووجوب الإحسان إليهن وصحبتهن بالمعروف.
2- الصبر على المرأة عند الكراهية، وعدم التضييق عليها حتى تفتدي نفسها بالمال.
3- تحريم أخذ شيء من مهر المرأة عند الطلاق بدون مسوّغ شرعي يبيحه الإسلام.
4- إبطال بعض عادات الجاهلية ومنها الزواج بامرأة الأب بعد الوفاة.
5- المحرمات من النساء اللواتي يحرمن على الرجل بالنسب، والرضاع، والمصاهرة.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
حرّم الباري جلّ وعلا نكاح المحارم من النساء سواء كانت القرابة عن طريق النسب، أو الرضاع، أو المصاهرة، وجعل هذه الحرمة مؤبدة لا تحل بحال من الأحوال، وذلك لحكم عظيمة جليلة نبينها بإيجاز فيما يلي:
أما تحريم النساء من النسب فإن الله جل ثناؤه جعل بين الناس ضروباً من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على جلب المنافع ودفع المضار، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة ولما اقتضت طبيعة الوجود (تكوين الأسرة) وكانت الأسرة محتاجة إلى الاختلاط بين أفرادها بسبب هذه الصلة القوية (صلة النسب) فلو أبيح الزواج من المحارم لتطلعت النفوس إليهن، وكان فيهن مطمع، والنفوس بطبعها مجبولة على الغيرة، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته، وذلك يدعو إلى النزاع والخصام، وتفكك الأسرة، وحدوث القتل الذي يدمّر الأسرة والمجتمع.
ثم إنّ الوليد يتكون جنيناً من دم الأم، ثم يكون طفلاً يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصَّة من ثديها عاطفة جديدة يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحداً في الدنيا مثل أمه، أفليس من الجناية على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والأولاد حب الاستمتاع بالشهوة فيزحمه ويفسده وهو خير ما في هذه الحياة؟!
ولأجل هذا كان تحريم نكاح الأمهات هو الأشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات ثم الأخوات ثم العمات والخالات إلخ.
وقد أودع الله في الإنسان فطرة نقية تحجزه عن التفكير في محارمه فضلاً عن حب الاستمتاع بهن، ولولا ما عهد في الإنسان من الشذوذ والجناية على الفطرة، والعبث بها لكان للمرء أن يتعجب من تحريم الأمهات والبنات لأن هذا من قبيل المستحيلات في نظر الإنسان العاقل، سليم الفطرة والتفكير.
ثم إن هناك حكمة جسدية حيوية عظيمة، وهي أن تزوج الأقارب بعضهم ببعض يكون سبباً لضعف النسل، فإذا تسلسلت واستمرت يتسلسل الضعف والضوى (النحافة) حتى ينقرض النسل، وهذا ما أشار إليه الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه (الإحياء) حيث قال: إنّ من الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة أن لا تكون من القرابة القريبة، فإن الولد يُخْلق ضاوياً أي (نحيفاً) وعلّل ذلك بأن الشهوة إنما تنبعث بقوة الإحسان بالنظر أو اللمس، وإنما يقوى الإحساس بالأمر الغريب الجديد، فأما المعهود فإنه يضعف الحسّ ولا تنبعث به الشهوة وهو تعليل دقيق أقره العلم الحديث.
وأمّا المحرمات بالمصاهرة فإن الله عز وجل أكرم البشرية بهذه الرابطة الإنسانية، وامتنّ على الناس بقرابة الصهر، التي تجمع بين النفوس المتباعدة المتنافرة بروابط الألفة والمحبة {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 54] فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، فينبغي أن تكون أم زوجته بمنزلة أمه في الاحترام، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه، وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزلة ابنته وهكذا.
ومن القبح جداً أن تكون البنت ضرة لأمها، والابن طامعاً في زوجة أبيه، فإن ذلك ينافي حكمة المصاهرة، ويكون سبب فساد العشيرة.
وأما المحرمات بالرضاع فإن الحكمة فيهن ظاهرة، وهي أن من رضع من امرأة كان بعض بدنه جزءاً منها، لأن تكوّن من لبنها فصارت في هذا كأمه التي ولدته، وصار أولادها إخوة له لأن لتكوين أبدانهم أصلاً واحداً هو ذلك اللبن والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (34- 36):

{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)}
[4] وسائل معالجة الشقاق بين الزوجين:

.التحليل اللفظي:

{قوامون}: قوّام: صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته، فالرجل قوام على امرأته كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي، والحفظ والصيانة.
{قانتات}: أصل القنوت دوام الطاعة، ومنه القنوت في الصلاة والمراد أنهن مطيعات لله ولأزواجهن.
{نُشُوزَهُنَّ}: عصيانهن وترفعهن عن طاعتكم، وأصل النشز المكان المرتفع ومنه تلّ ناشز أي مرتفع.
قال في (اللسان): النشوز يكون بين الزوجين، وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه، واشتقاقه من النَشَز وهو ما ارتفع من الأرض، ونشز الرجل إذا كان قاعداً فنهض قائماً ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ} [المجادلة: 11].
{فَعِظُوهُنَّ}: أي ذكّروهن بما أوجب الله عليهن من الطاعة وحسن العشرة للأزواج.
{المضاجع}: المراد بهجر المضاجع هجر الفراش والمضاجعة.
قال ابن عباس: الهجر في المضاجع هو أن يضاجعها ويوليها ظهره ولا يجامعها. وقيل: أن يعزل فراشه عن فراشها.
{شِقَاقَ}: الشقاق: الخلاف والعداوة وهو مأخوذ من الشق بمعنى الجانب، لأن كلاً من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر بسبب العداوة والمباينة.
{حَكَماً}: الحكم من له حق الحكم والفصل بين الخصمين المتنازعين.
{والجار الجنب}: الجار البعيد أو الذي ليس له قرابة تربطه بجاره وأصله من الجنابة ضد القرابة.
{والصاحب بالجنب}: هو الرفيق في السفر، أو طلب العلم، أو الشريك وقيل: هي الزوجة.
{مُخْتَالاً فَخُوراً}: قال ابن عباس: المختال البطر في مشيته، والفخور المفتخر على الناس بكبره.

.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: الرجال لهم درجة الرياسة على النساء، بسبب ما منحهم الله من العقل والتدبير، وخصّهم به من الكسب والإنفاق، فهم يقومون على شؤون النساء كما يقوم الولاة على الرعايا بالحفظ والرعاية وتدبير الشؤون. ثمّ فصّل تعالى حال النساء تحت رياسة الرجل، وذكر أنهن قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فالنساء الصالحات مطيعات للأزواج، حافظات لأوامر الله، قائمات بما عليهن من حقوق، يحفظن أنفسهن عن الفاحشة، وأموال أزواجهن عن التبذير في غيبة الرجال، فهنّ عفيفات، أمينات، فاضلات.
وأما القسم الثاني وهنّ النساء الناشزات المتمردات المترفعات على أزواجهن، اللواتي يتكبرن ويتعالين عن طاعة الأزواج، فعليكم أيها الرجال أن تسلكوا معهن طريق النصح والإرشاد، فإن لم يجد الوعظ والتذكير فعليكم بهجرهن في الفراش مع الإعراض والصد، فلا تكلموهن ولا تقربوهن، فإذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبّرح، ضرباً رفيقاً يؤلم ولا يؤذي، فإن أطعنكم فلا تلتمسوا طريقاً لإيذائهن، فإن الله تعالى العلي الكبير أعلى منكم وأكبر، وهو وليهن ينتقم ممن ظلمهم وبغى عليهن.
ثمّ بيّن تعالى حالةً أخرى، وهي ما إذا كان النفور لا من الزوجة فحسب بل من الزوجين، فأمر بإرسال (حكمين) عدلين، واحد من أقربائها والثاني من أقرباء الزوج، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة، إن رأيا التوفيق وفّقا، وإن رأيا التفريق فرّقا، فإذا كانت النوايا صحيحة، والقلوب ناصحة بورك في وساطتهما، وأوقع الله بطيب نفسهما وحسن سعيهما الوفاق والألفة بين الزوجين، وما شرعه الله إنما جاء وفق الحكمة والمصلحة لأنه من حكيم خبير.
ثم ختم تعالى هذه الآيات بوجوب عبادته تعالى وعدم الإشراك به، وبالإحسان إلى الوالدين، وإلى الأقرباء واليتامى والمساكين، ومن له حق الجوار من الأقارب والأباعد.

.سبب النزول:

نزلت الآية الكريمة في (سعد بن الربيع) مع امرأته (حبيبة بنت زيد) وكان سعد من النقباء وهما من الأنصار، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتقتصّ من زوجها» فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله: {الرجال قوامون عَلَى النسآء} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمراً، وأراد الله أمراً، والذي أراد الله خير»ورفع القصاص.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: علّل تعالى قوامة الرجال على النساء بتعليلين:
أحدهما: وهبي، والآخر كسبي، وأورد العبارة بصيغة المبالغة {قوامون عَلَى النسآء}، للإشارة إلى كامل الرئاسة والولاية عليهن كما يقوم الولاة على الرعايا، فلهم حق الأمر، والنهي، والتدبير والتأديب، وعليهم كامل المسؤولية في الحفظ والرعاية والصيانة، وهذا هو السر في مجيء الجملة اسمية.
اللطيفة الثانية: قال صاحب الكشاف: ذكروا في فضل الرجال أموراً منها: العقل، والحزم، والعزم، والقوة، وأن منهم الأنبياء، وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والشهادة في الحدود، والقصاص، والزيادة في الميراث، والولاية في النكاح، وإليهم الانتساب، وغير ذلك.
اللطيفة الثالثة: ورد النظم الكريم {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ولو قال بما فضلهم عليهن أو قال بتفضيلهم عليهن لكان أوجز وأخصر، ولكنّ التعبير يورد بهذه الصيغة لحكمة جليلة، وهي إفادة أن المرأة من الرجل، والرجل من المرأة بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان، فالرجل بمنزلة الرأس، والمرأة بمنزلة البدن، ولا ينبغي أن يتكبر عضو على عضو لأن كل واحد يؤدي وظيفته في الحياة، فالأذن لا تغني عن العين، واليد لا تغني عن القدم، ولا عار على الشخص أن يكون قلبه أفضل من معدته، ورأسه أشرف من يده، فالكل يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحدٍ عن الآخر. ثم للتعبير حكمة أخرى وهي الإشارة إلى أن هذا التفضيل إنما هو للجنس، لا لجميع أفراد الرجال على جميع أفراد النساء، فكم من امرأة تفضل زوجها في العلم، والدين، والعمل، وكما يقول الشاعر:
ولو كان النساء كمن ذكرنا ** لفضلت النساء على الرجال

وبهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ظهر أن الآية في نهاية الإيجاز والإعجاز.
اللطيفة الرابعة: لم يذكر الله تعالى في الآية إلاّ (الإصلاح) ولم يذكر ما يقابله وهو (التفريق) بين الزوجين، وفي ذلك لطيفة دقيقة، وإرشاد من الله تعالى للحكمين إلى أنه ينبغي أن لا يدَّخراً وسعاً في الإصلاح، فإن في التفريق خراب البيوت، وفي التوفيق الألفة والمودة والرحمة، وغرضُ الإسلام جمع القلوب على المحبة والوئام.
اللطيفة الخامسة: قال الزمخشري: وإنما كان الحكمان من أهلهما، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للصلاح، وإليهم تسكن نفوس الزوجين، ويبرز إليهم ما في ضمائرهما من الحب والبغض، وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات ذلك ومقتضياته، وما يزويانه عن الأجانب، ولا يحبان أن يطلعوا عليه.
اللطيفة السادسة: ذكر الشعبي أن شريحاً تزوج امرأة من بني تميم يقال لها (زينب) فلما تزوجها ندم حتى أراد أن يرسل إليها بطلاقها، ثم قال: لا أعجل حتى يجاء بها، فلما جيء بها تشهّدت ثم قالت: أما بعد فقد نزلنا منزلاً لا ندري متى نظعن منه، فانظر الذي تكره، هل تكره زيارة الأخْتان؟ فقلت: إني شيخ كبير لا أكره المرافقة، وإني لأكره ملال الأخْتان، قال: فما شرطتُ شيئاً إلاّ وفت به، فأقامت سنة ثم جئت يوماً ومعها في الحَجَلة إنس، فقلت: إنّا لله، فقالت: أبا أمية إنها أمي، فسلّم عليها فقالت: انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها، قال: فصحبتني ثم هلكت قبلي، قال: فوددت أني قاسمتها عمري، أو مت أنا وهي في يوم واحد، وأنشد شريح:
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ** فشلّت يميني حين أضرب زينباً

الحكم الأول: ما هي الخطوات التي أرشد إليها الإسلام لمعالجة نشوز المرأة؟
أرشدت الآية الكريمة إلى الطريقة الحكيمة في معالجة نشوز المرأة ودعت إلى الخطوات التالية:
أولاً: النصح والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ}.
ثانياً: الهجران بعزل فراشه عن فراشها وترك معاشرتها لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع}.
ثالثاً: الضرب غير المبرح بسواك ونحوه تأديباً لها، لقوله تعالى: {واضربوهن}.
رابعاً: إذا لم تُجْد كل هذه الوسائل فينبغي التحكيم لقوله تعالى: {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ}.
وأما الضرب فقد وضّحه عليه السلام بقوله: «فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبّرح».
قال ابن عباس وعطاء: الضرب غير المبّرح بالسواك، وقال قتادة: ضرباً غير شائن.
وقال العلماء: ينبغي أن لا يوالي الضرب في محل واحد وأن يتقي الوجه فإنه يجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا عصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأنيب على أبلغ الوجوه.
وقد سُئل عليه السلام: ما حق امرأة أحدنا عليه؟ فقال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت».
ومع أن الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أن تركه أفضل لقوله عليه السلام: «ولن يضرب خياركم».
الحكم الثاني: هل هذه العقوبات مشروعة على الترتيب؟
اختلف العلماء في العقوبات الواردة في الآية الكريمة هل هي مشروعة على الترتيب أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم إنها على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، ثم الضرب، ولا يباح الضرب عند ابتداء النشوز، وهذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
ومنشأ الخلاف بين العلماء اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى الترتيب قال إن (الواو) لا تقتضي الترتيب بل هي لمطلق الجمع، فللزوج أن يقتصر على إحدى العقوبات أياً كانت، وله أن يجمع بينها.
ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ يدل على الترتيب، والآية وردت على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي ثم إلى الأقوى فإنه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بوجوب الترتيب، فإذا حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد.
أقول: لعل هذا هو الأرجح لظاهر الآية الكريمة والله أعلم.
قال ابن العربي: من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير فقد قال: يعظها فإن هي قبلت وإلاّ هجرها، فإن هي قبلت وإلاّ ضربها، فإن هي قبلت وإلا بعث حكماً من أهله وحكماً من أهلها، فينظران ممن الضرر وعند ذلك يكون الخلع.
وروي عن علي كرم الله وجهه ما يؤيد ذلك فإنه قال: (يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين).
الحكم الثالث: هل يجوز في الحكمين أن يكونا من غير الأقارب؟
ظاهر الآية أنه يشترط في الحكمين أن يكونا من الأقارب لقوله تعالى: {حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} وأن ذلك على سبيل الوجوب، ولكن العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، لأن فائدة الحكمين التعرف على أحوال الزوجين وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين، طلباً للإصلاح من الأجانب، وأبعد عن التهمة بالميل لأحد الزوجين، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والآخر من أهل الزوجة.
قال الألوسي: وخُصّ الأهل لأنهم أطلب للصلاح، وأعرف بباطن الحال، وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصّبا من الأجانب جاز.
الحكم الرابع: من المخاطب في الآية الكريمة: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا}.
الخطاب في الآية السابقة للأزواج لقوله تعالى: {واهجروهن فِي المضاجع} وهذا من حق الزوج، والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأن للزوج أن يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، بيّن تعالى أنه إذا لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وهو السلطان الذي بيده سلطة الحكم والتنفيذ.
وروي عن السُدّي أن الخطاب للزوجين. وهذا القول مرجوح.
وظاهر الأمر في قوله تعالى: {فابعثوا} أنه للوجوب وبه قال الشافعي رحمه الله، لأنه من باب رفع الظُّلامات وهو من الفروض العامة الواجبة على الولاة.
الحكم الخامس: هل للحكمين أن يفرقا بين الزوجين بدون إذنهما؟
اختلف الفقهاء في الحكمين هل لهما الجمع والتفريق بدون إذن الزوجين أم ليس لهما تنفيذ أمر بدون إذنهما؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأنهما وكيلان عنهما، ولا بدّ من رضى الزوجين فيما يحكمان به، وهو مروي عن (الحسن البصري) و(قتادة) و(زيد بن أسلم).
وذهب مالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين بدون إذنهما ما يريا فيه المصلحة، فإن رأيا التطليق طلّقا، وإن رأيا أن تفتدي المرأة بشيء من مالها فعلا، فهما حاكمان موليان، من قبل الإمام وينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة وهو مروي عن (علي) و(ابن عباس) و(الشعبي).
وللشافعي في المسألة قولان.
وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلٍ من الرأيين.
فالحجة للرأي الأول: أن الله تعالى لم يضف إلى الحكمين إلا الإصلاح {إِن يُرِيدَآ إصلاحا} وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما، ولأنهما وكيلان ولا ينفذ حكمهما إلا برضى الموكل.
والحجة للرأي الثاني: أن الله تعالى سمّى كلاً منهما حكماً {فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} والحكم هو الحاكم، ومن شأن الحاكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه رضي أم سخط.
قال الجصاص: قال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلاّ أن يرضى الزوج، وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما، ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع، ولا على ردّ مهرها، فكذلك بعد بعث الحكمين لا يجوز إلا برضى الزوجين وهو اختيار الطبري.
قال الطبري: وليس للحكمين ولا لواحد منهما الحكم بالفرقة بينهما، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك.
أقول: ولعلّ الرأي الأول هو الأرجح لقوة الدليل وهذا ما اختاره الطبري رحمه الله والله أعلم.