فصل: وجوه الإعراب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.وجوه الإعراب:

أولاً: قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ}. (شهداء): اسم كان و(لهم) خبرها، و(إلاّ) أداة حصر، و(أنفسُهم) بدل من شهداء مرفوع بالضمة الظاهرة وهو مضاف.
ويصح أن تكون كان تامة والمعنى: ولم يوجد شهداء إلا أنفُسهم، فيكون (شهداء) فاعل، و(أنفسُهم) بدل من شهداء، ومثلها (وإن كان ذو عسرة) أي إن وجد ذو عسرة.
ثانياً: قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}.
(شهادة) مبتدأ، و(أربع) خبره، كما تقول: صلاة العصر أربعُ ركعات. ويجوز أن يكون (شهادة) خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: فالحكم شهادة أحدهم.
ثالثاً: قوله تعالى: {والخامسة أَنَّ لَعْنَتَ الله عَلَيْهِ}.
(الخامسةُ) مبتدأ، وجملة (أنّ لعنتَ الله) هي الخبر، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم.
رابعاً: قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله}.
(أن تشهد) أن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل ل (يدرأ) وتقديره: ويدرأ عنها العذاب شهادتها، وجملة (إنه لمن الكاذبين) في محل نصب ب (تشهد) إلاّ أنه كسرت الهمزة من (أنّه) لدخول اللام في الخبر.
خامساً: قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
قال أبو البركات ابن الأنباري: لم يذكر جواب (لولا) إيجازاً واختصاراً لدلالة الكلام عليه، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لعاجلكم بالعقوبة، أو لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: متى يجب اللعان؟
إذا رمى الرجل امرأته بالزنى ولم تعترف بذلك ولم يرجع عن ريمه فقد شرع لهما اللعان ويجب اللعان في حالتين:
أ- الحالة الأولى: إذا رمى امرأته بالزنى كأن يقول لها: زنيتِ أو رأيتك تزنين وليس عنده أربعة شهود يشهدون بما رماها به، وإذا قال لها: يا زانية، فالجمهور أنه يلاعن خلافاً لمالك.
ب- الحالة الثانية: أن ينفي حملها منه فيقول: هذا الحمل ليس مني أو ينفي ولداً له منها.
الحكم الثاني: هل اللعان يمين أم شهادة؟
اختلف الفقهاء في اللعان هل هو يمين أم شهادة على مذهبين:
أ- المذهب الأول: أنه شهادة فيأخذ أحكام الشهادة وهو مذهب الإمام أبي حنيفة.
ب- المذهب الثاني: أنه يمين وليس بشهادة فيأخذ أحكام اليمين وهو مذهب الجمهور (مالك والشافعي وأحمد).
أدلة الأحناف:
1- استدل الأحناف على أن اللعان شهادة بقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} وقالوا الملاعن يقول في لعانه: أشهد بالله فدل على أنه شهادة.
2- واستدلوا بحديث ابن عباس المتقدم في قصة (هلال بن أمية) وفيه: (فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت)... الحديث وفيه لفظ الشهادة صراحة.
3- وقالوا: إن كلمات الزوج في اللعان قائمة مقام الشهود، فتكون هذه الألفاظ شهادة.
أدلة الجمهور:
1- واستدل الجمهور بأن لفظ الشهادة قد يراد به (اليمين) بقوله تعالى: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] ثم قال تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] فسمى الشهادة يميناً.
2- واستدلوا بقوله سبحانه (أربع شهادات بالله) فقد قرن لفظ الجلالة (الله) بالشهادة فدل على أنه أراد بها اليمين، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل بخلاف يمينه.
3- واستدلوا بما ورد في بعض روايات حديث ابن عباس من قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن».
والخلاصة: فإن الأحناف يقولون: ألفاظ اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان... والجمهور يقولون: إنها أيمان مؤكدة بالشهادة وردت بهذه الصيغة للتغليظ. فالأولون غلّبوا جانب الشهادة والآخرون غلبوا جانب اليمين.
الحكم الثالث: هل يجوز اللعان من الكافر والعبد والمحدود في القذف؟
وبناء على اختلاف الفقهاء في (اللعان) هو هو شهادة أم يمين ترتب عليه اختلافهم فيمن يجوز لعانه، فشرط الأحناف: في الزوج الذي يصح لعانه أن يكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم وكذلك الزوجة أن تكون أهلاً لأداء الشهادة على المسلم (فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولابين المختلفين ديناً، ولا بين محدودين في قذف) واستدلوا على مذهبهم بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان».
واحتجوا بأن الأزواج لما استثنوا من جملة الشهداء بقوله: (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم) وجب ألاّ يلاعن إلا من تجوز شهادته فلا يصح اللعان إلا من (زوجين، حرين، مسلمين).
وذهب الشافعي ومالك وهو رواية عن أحمد: إلى أن كل من يصح يمينه يصح قذفه ولعانه فيجوز اللعان من كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين أو عدلين. وحجتهم أن قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} عام يتناول جميع الأزواج، والآية لم تخصص زوجاً دون زوج فوجب أن يكون اللعان بين كل الأزواج... وقالوا إن المقصود من اللعان دع العار عن النفس، ودفع ولد الزنى عن النفس، فكما يحتاج إليه المسلم يحتاج إليه غير المسلم، وكما يدفع الحر العار عن نفسه يدفع العبد العار عن نفسه والخلاصة: فإنَّ كلَّ من يجوز يمينه يجوز لعانه عند الجمهور.
قال ابن العربي: (والفصل في أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب وكيف يجوز لأحد أن يدعيَ في الشريعة أن شاهداً يشهد لنفسه بما يوجب حكماً على غيره، هذا بعيد في الأصل معدوم في النظر).
وقال ابن القيم رحمه الله: (والصحيح أن لعانهم يجمع الوصفين: اليمين والشهادة فهو شهادة مؤكدة بالقسم. والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الأمر، ولهذا اعتبر فيه من التأكيد عشرة أنواع... ثم سرد تلك الأنواع).
الحكم الرابع: هل يجوز اللعان بدون حضور الحاكم؟
اتفق الفقهاء على أن اللعان لا يجوز إلا بحضرة الحاكم أو من ينيبه الحاكم لأنه إذا نكل أحدهما أو ثبت عليه الأمر وجب الحد. وإقامة الحد من خصائص الحكام.. وينبغي أن يعظ الإمام الزوجين ويذكرهما بعذاب الله ويقول لكل واحد منهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ويخوفهما بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة... وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين».
الحكم الخامس: كيفية اللعان وطريقته.
وضحت الآيات الكريمة طريقة اللعان وكيفيته بشكل جلي واضح وهي: أن يبدأ الزوج فيقول أربع مرات الصيغة التالية: (اشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى) ثم يختم في المرة الخامسة بقوله: (لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما زماني به من الزنى) ثم تختم في المرة الخامسة بقولها: (غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنى).
وظاهر الآية الكريمة أنه لا يقبل من الرجل أقل من خمس مرات ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة، والبداءة تكون بالرجل في اللعان وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: يُعْتد بلعانها إذا بدئ به. ومرجع الخلاف أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخراً عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجباً للحد على الزوجة لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود، أو بالإقرار، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه.
هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن ويزاد عليها من السنة أنه إذا كانت المرأة حاملاً وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه فيقول: (وإن هذا الحمل ليس مني) وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه وجب التعرض لذلك في اللعان، ويندب أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد ويستحب التغليظ بالزمان والمكان وبحضور جمع من عدول المسلمين، وكل ذلك إنما ثبت بالسنة المطهرة، فيجري اللعان في مسجد جامع وأمام جمع غفير للتغليظ والله أعلم.
الحكم السادس: النكول عن اللعان هل يوجب الحد؟
اختلف الفقهاء فيما إذ نكل أحد الزوجين عن اللعان هل يجب عليه الحد؟ على مذهبين:
أ- مذهب الجمهور: (مالك والشافعي وأحمد) أن الزوج إذا نكل عن اللعان فعليه (حد القذف) وإذا نكلت الزوجة عن اللعان فعليها (حد الزنى).
ب- وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن أو يكذب نفسه... وإذ نكلت المرأة حبست حتى تلاعن أو تقر بالزنى فيقام عليه حينئذ الحد.
أدلة الجمهور:
استدل الجمهور على وجوب الحد بأدلة نلخصها فيما يأتي:
أولاً: إن الله تعالى قال في أول السورة: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد، فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد.
ثانياً: قوله تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} لا يصح أن يراد منه عذاب الآخرة، لنه الزوجة إن كات كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذاباً في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة، فتعين أن يراد به عذاب الدنيا وهو المذكور في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] وهو حد الزنى.
ثالثاً: قالوا: ويؤيد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لخولة زوج هلال: «الرجم أهون عليك من غضب الله» وهو نص في الباب. وقوله لهلال بن أمية: البينة أو حد في ظهرك.
أدلة أبي حنيفة:
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} يُفهم منه أ ن الواجب في قذف الزوجات (اللعان) لا الحد وهذه الآية إمّا ناسخة لآية القذف، وإمَّا مخصّصة فلا يجب على كلا الحالين سوى (اللعان) فإذا امتنع الزوج حبس حتى يلاعن وإذا امتنعت الزوجة حبست حتى تلاعن.
ثانياً: إن المرأة إذا امتنعت لم تفعل شيئاً سوى أنها تركت اللعان وهذا الترك ليس ببينة على الزنى فلا يجوز رجمها لقوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفس بغير نفس».
ثالثاً: النكول عن اللعان ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنى وغيره لا يجوز إثبات الحد به.
قال العلامة الألوسي: في الانتصار لمذهب أبي حنيفة: والعَجَبُ من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنى مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبداً فاسقاً... وأعجب منه أن (اللعان) يمين عنده وهولا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب، وأسقط به كلٌ من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به (الرجم) الذي هو أغلظ الحدود على المرأة!! وكون النكول إقراراً به شبهة، (والحدود تدرأ بالشبهات).
ووافق الإمام (أحمد) رحمه الله الأحناف في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه بأنها تحبس ولا ترجم وفي رواية أخرى عنه: لا تحبس ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة.
وجاء في كتاب (فقه السنة) للسيد سابق ما نصه:
قال ابن رشد: (وبالجملة فقاعدة الدماء مبناها في الشرع على أنها لا تراق إلا بالبينة العادلة أو الاعتراف، ومن الواجب ألاّ تخصص هذه القاعدة بالاسم المشترك).. فأبو حنيفة في هذه المسألة أولى بالصواب إن شاء الله وقد اعترف أبو المعالي في كتابه (البرهان) بقوة الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة وهو شافعي انتهى.
أقول: رأي أبي حنيفة وإن كان وجيهاً إلا أنه ليس بقوة رأي الجمهور لظهور أدلتهم النقلية، وهو ما نختاره كما اختاره شيخ المفسرين الطبري وغيره من الجهابذة الأعلام.
الحكم السابع: هل آية اللعان ناسخة لآية القذف؟
إنّ الروايات التي ذكرت في سبب النزول متفقة كلها على ثلاثة أمور: أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية القذف أن حكم من رمى زوجة كحكم من رمى الأجنبية.
ثالثها: أن آية (اللعان) نزلت تخفيفاً على الزوج وبياناً للمخرج مما وقع فيه من القذف.
وبناء على ذلك فإن قواعد أصول الحنيفية تقضي بأن آيات اللعان ناسخة لعموم آية القذف {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] لتراخي نزولها عنها.
وعلى مذهب الأحناف: يكون ثبوت (حد القذف) على من قذف زوجته منسوخاً بآيات اللعان وليس على الزوج سوى الملاعنة لا غير... وعلىمذهب الأئمة الثلاثة: تتكون آيات اللعان مخصّصة للعموم في آية القذف لا ناسخة لها.
ويصبح معنى الآيتين: كل من قذف محصنة ولم يأتي بأربعة شهداء فعليه (حد القذف) إلا من قذف زوجته فعليه (الحد أو اللعان)، والخلاف في الحقيقة شكلي لا جوهري.
الحكم الثامن: هل يُفَرّقُ بين المتلاعنَيْن؟
قضت السنة النبوية أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً، فإذا تلاعن الزوجان وقعت الفرقة بينهما على سبيل (التأبيد) لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً». وعن علي وابن مسعود قالا: (مضت السنة ألاّ يجتمع المتلاعنان).. والحكمة في ذلك (التحريم المؤبد) أنه قد وقع بينهما من التباغض والتقاطع ما أوجب القطيعة بينهما بصفة دائمة. فإن الرجل إنْ كان صادقاً فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذباً فقد أضاف إلى ذلك أنه بهتها وزاد في إيلامها وحسرتها وغيظها.
وكذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة. فقد حصل بينهما النفرة الدائمة والوحشة البالغة. ومن المعلوم أنَّ أساس الحياة الزوجية السكنُ والمودة، والرحمة، وقد زالت هذه باللعان فكانت عقوبتهما الفرقة المؤبدة.
وقد اتفق الفقهاء على وجوب التفريق بين المتلاعنين وعلى أن الحرمة بينهما. تكون (مؤبدة) لم يخالف في ذلك أحد إلاّ ما روي عن (عثمان البتي) أنه قال: لا يقع باللعان فرقة إلا أن يطلقها وهو قول مردود للنصوص المتقدمة.
ولكنّ الفقهاء اختلفوا متى تقع الفرقة بين المتلاعنين؟
فذهب (الشافعي) رحمه الله إلى أن الفرقة تقع بمجرد لعان الزوج وحده ولو لم تلاعن الزوجة.
وذهب (مالك وأحمد) في إحدى الروايتين عنه إلى أن الفرقة لا تقع إلا بلعانهما جميعاً.
وذهب (أبو حنيفة وأحمد) في روايته الأخرى إلى أن الفرقة لا تقع إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما.
أما حجة الشافعي: فهي أن الفرقة حاصلة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها كما قال تعالى: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} فدل على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها.
أما حجة مالك: فهي أن الشارع قد أمر بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده.. وأيضاً لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لأصبحت المرأة أجنبية عنه فتكون الملاعِنَةُ أجنبية وقد أوجب الله اللعان بين الزوجين.
أما حجة أبي حنيفة وأحمد: فهي أن الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما وتفريق الحاكم بينهما عملاً بالسنة المطهرة ففي حديث ابن عباس السابق (ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما) وهذا يتقضي أن الفرقة لم تحصل قبله، ولأن اللعان نوع من الحدود، والحدودُ إنما يجريها الحاكم فلا بد إذاً من تفريق الحاكم... ولعلّ هذا الرأي هو الأصح والأرجح.
الحكم التاسع: إذا أكذب الرجل نفسه فهل تعود إليه زوجته؟
وإذا تلاعن الزوجان ثم أكذب الرجل نفسه فحُدَّ حد القذف فهل تحل له زوجته؟
قال (مالك والشافعي) لا تحل له زوجته لأن الفرقة مؤبدة وقد قضت السنة بأنهما لا يجتمعان أبداً فلا طريق إلى العودة عملاً بالنصوص المتقدمة كما في المطلقة ثلاثاً وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين.
وقال (أبو حنيفة) إذا أكذب الرجل نفسه فهو خاطب من الخطاب لأنه إذا اعترف بكذبه وحُدَّ حدَّ القذف لم يبق ملاعنا وإنما أصبح كاذباً فيحل له العودة إلى زوجته. قال ابن الجوزي: وروي عن أحمد روياتان أصحهما أنه لا تحل له زوجته، والثانية يجتمعان بعد التكذيب وهو قول أبي حنيفة.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن اللعان يوجب الحرمة المؤبدة كما دلت بذلك الآثار سواء أكذب نفسه أم لا والله أعلم.
الحكم العاشر: هل يلحق ولد اللعان بأمه؟
إذا نفى الرجل ابنه وتم اللعان بنفيه له انتقى نسبه من أبيه وسقطت نفقته عنه، وانتفى التوارث بينهما ولحق بأمه فهي ترثه وهو يرثها لحديث (عمرو بن شعيب): وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن رماها به جلد ثمانين ويؤيد هذا الحديث الأدلة الدالة على أن الولد للقراش ولا فراش هنا لنفي الزوج إياه.. وأما من رماها به اعتبر قاذفاً وجلد ثمانين جلدة لأن (الملاعِنة) داخلة في المحصنات ولم يثبت عليها ما يخالف ذلك فيجب على من رماها بابنها حد القذف ومن قذف ولدها يجب حده كمن قذف أمه سواء بسواء...
أما بالنسبة للأحكام الشرعية فإنه يعامل كأنه أبوه من باب الاحتياط فلا يعطيه زكاة المال، ولو قتله لا قصاص عليه، ولا تجوز شهادة كل منهما للآخر، ولا يعد مجهول النسب فلا يصح أن يدعيه غيره، وإذا أكذب نفسه ثبت نسب الولد منه ويزول كل أثر اللعان بالنسبة للولد.
وروى الإمام الفخر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: يتعلق باللعان خمسة أحكام: (درء الحدّ، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبّد، ووجوب الحدّ عليها)، وكلها تثبت بمجرد لعانه، ولا تفتقر إلى حكم الحاكم.