فصل: الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: ما هو حكم النظر إلى الأجنبيات؟
حَرَّمت الشريعة الإسلامية النظر إلى الأجنبيات فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء. أما نظرة الفجأة فلا إثم فيها ولا مؤاخذة لأنها خارجة عن إرادة الإنسان، فلم يكلفنا الله جل ثناؤه ما لا نطيق ولم يأمرنا أن نعصب أعيننا إذا مشينا في الطريق، فالنظرة إذا لم تكن بقصد لا مؤاخذة فيها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية» وعن جرير بن عبد الله البجلي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. والنظرة المفاجئة إنما تكون في أول وهلة ولا يحل لأحد إذا نظر إلى امرأة نظرة مفاجئة وأحس منها اللذة والاجتلاب أن يعود إلى النظرة مرة ثانية فإنْ ذلك مدعاة إلى الفتنة وطريق الفاحشة وقد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بزنى العين؛ فقد ورد في (الصحيحين): «كُتِبَ على ابن آدم حظُه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر وزنى اللسان النطق، وزنى الأذنيين الاستماع، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين الخُطى، والنفس تمَنَّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه».
والمؤمن يؤجر على غض البصر لأنه كف عن المحارم وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها». وعدَّه صلى الله عليه وسلم من حقوق الطريق ففي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا يا رسول الله: ما لنا من مجالسنا بدٌّ نتحدث فيها، قال: غضُّ البصر، وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
الحكم الثاني: ما هو حد العورة بالنسبة للرجل والمرأة؟
أشارة الآية الكريمة: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إلى وجوب ستر العورة فإن حفظ الفرج كما يشمل حفظه عن الزنى، يشمل ستره عن النظر، يشمل ستره عن النظر، كما بيناه فيما سبق وقد اتفق الفقهاء على حرمة كشف العورة ولكنهم اختلفوا في حدودها وسنوضح ذلك بالتفصيل إن شاء الله مع أدلة كل فريق فنقول ومن الله نستمد العون:
1- عورة الرجل مع الرجل.
2- عورة المرأة مع المرأة.
3- عورة الرجل مع المرأة وبالعكس.
أما عورة الرجل مع الرجل: فهي من (السرة إلى الركبة) فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل فيما بين السرة والركبة وما عدا ذلك فيجوز له النظر إليه. وقد قال النبي: «لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة». وجمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة كما صحّ في الأحاديث الكثيرة، وقال مالك رحمه الله: الفخذ ليس بعورة: ومما يدل لقول الجمهور ما روي عن (جرهد الأسلمي) وهو من أصحاب الصفة أنه قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة».
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لا تبرز فخذك» وفي رواية: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتعرى المرء ويكشف عورته حتى إذا لم يكن معه غيره فقال: «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يُفْضي الرجل إلى أهله».
وأما عورة المرأة مع المرأة: فهي كعورة الرجل مع الرجل أي من (السرة إلى الركبة) ويجوز النظر إلى ما سوى ذلك ما عدا المرأة الذمية أو الكافرة فلها حكم خاص سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة: ففيه تفصيل فإن كان من (المحارم) ك (الأب والأخ والعم والخال) فعورته من السرة إلى الركبة. وإن كان (أجنبياً) فكذلك عورته من السرة إلى الركبة. وقيل جميع بدن الرجل عورة فلا يجوز أن تنظر إليه المرأة وكما يحرم نظرة إليها يحرم نظرها إليه والأول أصح، وأما إذا كان (زوجاً) فليس هناك عورة مطلقاً لقوله تعالى: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6].
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل: فجميع بدنها عورة على الصحيح وهو مذهب (الشافعية والحنابلة) وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على ذلك فقال: (وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر)..
وذهب (مالك وأبو حنيفة) إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا (الوجه والكفين) ولكل أدلة سنوضحها بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أدلة المالكية والأحناف:
استدل المالكية والأحناف على أن (الوجه والكفين) ليسا بعورة بما يلي:
أولاً: قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد استثنت الآية ما ظهر منها أي ما دعت الحاجة إلى كشفه وإظهاره وهو الوجه والكفان وقد نقل هذا عن بعض الصحابة والتابعين، فقد قال (سعيد بن جبير) في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الوجه والكف، وقال (عطاء): الكفان والوجه وروي مثله عن الضحاك.
ثانياً: واستدلوا بحديث عائشة ونصه: أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: «يا أسماء إنَّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه.
ثالثاً: وقالوا: مما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة أن المرأة تكشف وجهها وكفيها في صلاتها وتكشفهما أيضاً في الإحرام فلو كانا من العورة لما أبيح لها كشفهما لأن ستر العورة واجب لا تصح صلاة الإنسان إذا كان مكشوف العورة.
أدلة الشافعية والحنابلة:
استدل الشافعية والحنابلة على أنّ الوجه والكفين عورة بالكتاب والسنة والمعقول:
أولاً: أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} فقد حرمت الآية الكريمة إبداء الزينة، والزينةُ على قسمين: خلقية، ومكتسبة، والوجه من الزينة الخلقية بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والكحل والخضاب.. والآية الكريمة منعت المرأة من إبداء الزينة مطلقاً، وحرمت عليها أن تكشف شيئاً من أعضائها أمام الرجال أو تظهر زينتها أمامهم وتأولوا قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أن المراد ما ظهر بدون قصد ولا عمد مثل أن يكشف الريح عن نحرها أو ساقها أي شيء من جسدها، ويصبح معنى الآية على هذا التأويل (ولا يبدين زينتهن أبداً وهنّ مؤاخذاتٍ على إبداء زينتهن إلا ما ظهر منها بنفسه وانكشف بغير قصد ولا عمد، فلسن مؤاخذاتٍ عليه فيكون الوجه والكف من الزينة التي يحرم إبذاؤها).
ثانياً: وأما السنة فما ورد من الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على حرمة النظر منها:
أ- حديث جرير بن عبد الله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: «اصرف نظرك».
ب- حديث علي: «يا علي لا تُتْبع النظرةَ النظرةَ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة».
ج- حديث الخثعمية الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه وكان رجلاً حسن الشعر أبيض وسيماً فجاءته امرأة من خثعم تستفيته فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر...» الحديث في حجة الوداع.
فجميع هذه النصوص تفيد حرمة النظر إلى الأجنبية، ولا شك أن الوجه مما لا يجوز النظر إليه فهو إذاً عورة.
د- واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] فإن الآية صريحة في عدم جواز النظر. والآية وإن كانت قد نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن، والعلة هي أن المرأة كلها عورة.
وأما المعقول: فهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة، والفتنةُ في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق.
فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى باعتبار أنه أصل الجمال، ومصدر الفتنة، ومكمن الخطر وقد قال الشاعر:
كلُّ الحوادث مبداها من النظر ** ومعظمُ النار من مستصغر الشرر

أقول: الآية الكريمة قد عرفتَ تأويلها على رأي (الشافعية والحنابلة) فلم يعد فيها دليل على أن الوجه ليس بعورة. وأما حديث أسماء (إن المرأة إذا بلغت المحيض...) فهو حديث منقطع الإسناد وفي بعض رواته ضعف وفيه كلام وهو في (سنن أبي داود)، قال أبو داود: هذا مرسل خالد بن دُرَيْك لم يدرك عائشة وفي إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن البصري، نزيل دمشق مولى ابن نصر وقد تكلم فيه غير واحد انتهى.
فإذا كان هذا كلام (أبي داود) فيه ولم يروه غيره فكيف يصلح للاحتجاج وعلى فرض صحته فإنه يحتمل أنه كان قبل نزول آية الحجاب ثم نسخ بآية الحجاب، أو أنه منحمول ما إذا كان النظر إلأى لاوجه والكفين لعذر كالخاطب، والشاهد، والقاضي.
قال ابن الجوزي رحمه الله: ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، فإن كان لعذر مثل أ ن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصة، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها، وسواءٌ في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن.
فإن قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟ فالجواب: أن في تغطيته مشقة فعفى عنه.
أقول: الأئمة الذين قالوا بأن (الوجه والكفين) ليسا بعورة اشترطوا بألا يكون عليهما شيء من الزينة وألا يكون هناك فتنة أما ما يضعه النساء في زماننا من الأصباغ والمساحيق على وجوههن وأكفهن بقصد التجميل ويظهرن به أمام الرجال في الطرقات فلا شك في تحريمه عند جميع الأئمة، ثم إن قول بعضهم: أن الوجه والكفين ليسا بعورة ليس معناه أنه يجب كشفهما أو أنه سنة وسترهما بدعة فإن ذلك ما لا يقول به مسلم وإنما معناه أنه لا حرج في كشفهما عند الضرورة، وبشرط أمن الفتنة.
أما في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه أعوان الشيطان، وانتشر فيه الفسق والفجور، فلا يقول أحد بجواز كشفه، لا من العلماء، ولا من العقلاء، إذ من يرى هذا الداء والوباء الذي فشى في الأمة وخاصة بين النساء بتقليدهن لنساء الأجانب، فإنه يقطع بحرمة كشف الوجه لأن الفتنة مؤكدة والفساد محقق ودعاء السوء منتشرون، ولا نجد المجتمع الراقي المهذب الذي يتمسك بالآداب الفاضلة ويستمع لمثل قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ولا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إصرف بصرك» فالاحتياط في مثل هذا العصر والزمان واجب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الحكم الثالث: ما هي الزينة التي يحرم إبداؤها:
دلت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} على حرمة إبداء المرأة زينتها أمام الأجانب خشية الافتتان، والزينة في الأصل اسم لكل ما تتزين به المرأة وتتجمل من أنواع الثياب والحلي والخضاب وغيرها ثم قد تطلق على ما هو أعم وأشمل من أعضاء البدن.. والزينةُ على أربعة أنواع: (خلقية، ومكتسبة، وظاهرة، وباطنة) فمن الزينة ما يقع على محاسن الخلقة التي خلقها الله تعالى كجمال البشرة، واعتدال القامة، زسعة العيون كما قال الشاعر:
إن العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة على الخِلْقة لأنه لا يقال في الخِلْقة إنها من زينتها وإنما يقال فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والقرب أن الخلقة داخلة في الزينة فإن الوجه أصل الزينة وجمال الخلقة وبه تعرف المليحة من القبيحة وقد قال الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} فإن ضرب الخمار وسدله على الوجه والصدر إنما هو لمنع هذه الأعضاء فدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة... فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار... وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا: إنه سبحانه ذكر الزينة، ومن المعلوم أنه لا يراد بها الزينة نفسها المنفصلة عن أعضاء المرأة فإن الحُليَّ والثياب والقرط والقلادة لا يحرم النظر إليها إذا كانت المرأة غير متزينة فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن الخلقية إلا أنهم متفقون على حرمة النظر إلى بدن المرأة وأعضائها فكان إبداء مواقع الزينة ومواضعها من الجسم منهياً عنه من باب أولى.
وأما الزينة الظاهرة فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: ظاهر الزينة الثياب.
وقال مجاهد: الكحل والخاتم والخضاب. وقال سعيد بن جبير: الوجه والكفان وقد عرفت ما فيه من الأقوال للفقهاء. قال بان عطية: (ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية، أن المرأة مأمورة بألا تبدي شيئاً وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ووقع الاستثناء- فيما يظهر- بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه أو إصلاح شأن ونحو ذلك ف {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه).
وأما الزينةُ الباطنة فلا يحل إبداؤها إلا لمن سمَّاهم الله تعالى في هذه الآية: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية وهم الزوج والمحارم من الرجال كما سنذكره قريباً.. وقد كان نساء الجاهلية يشددن خمرهن من خلفهن فتنكشف نحورهن وصدروهن فأمرت المسلمات أن يشددنها من الأمام ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط بالرأس من شعر وزينة من الحلي في الأذن والقلائد في الأعناق وذلك قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} الآية.
الحكم الرابع: من هم المحارم الذين تبدي المرأة أمامهم زينتها؟
استثنى القرآن الكريم من الرجال الذين منعت أن تكشف المرأة أمامهم زينتها (الخفية) أصنافاً هم جميعاً من (المحارم) ما عدا الأزواج.
والعلة في ذلك هي الضرورة الداعية إلى المداخلة والمخالطة والمعاشرة حيث يكثر الدخول عليهن والنظر إليهن بسبب القرابة، والفتنةُ مأمونة من جهتهم وهم كالآتي:
أولاً: البعولة (الأزواج) فهؤلاء يباح لهم النظر إلى جميع البدن والاستمتاع بالزوجة بكل أنواعه الحلال.
قال القرطبي: (فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محلٍ من بدنها حلالٌ له لذة ونظراً ولهذا المعنى بدأ بالبعولة).
ثانياً: الآباء وكذا الأجداد سواء كانوا من جهة الأب أو الأم لقوله تعالى: {أَوْ آبَآئِهِنَّ}.
ثالثاً: آباء الأزواج لقوله تعالى: {أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
رابعاً: أبناؤهن وأبناء أزواجهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن نزلوا لقوله تعالى: {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ}.
خامساً: الإخوة مطلقاً سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم لقوله تعالى: {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ}.
سادساً: أبناء الإخوة والأخوات كذلك لأنهم في حكم الإخوة لقوله تعالى: {أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم من المحارم.
تنبيه: لم تذكر الآية (الأعمام، والأخوال) وهم من المحارم كما لم تذكر المحارم من الرضاع، والفقهاء مجمعون على أن حكم هؤلاء كحكم سائر المحارم المذكورين في الآية... أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فالسر في ذلك أنهم بمنزلة الآباء فأغنى ذكرهم عن ذكر الأعمام والأخوال وكثيراً ما يطلق الأب على العم قال تعالى: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] وإسماعيل عم يعقوب.. وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرها للاكتفاء ببيان السنة المطهرة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
وأما الأنواع الباقية التي استثنتهم الآية الكريمة فهم (النساء، المماليك، التابعين غير أولي الأربة، الأطفال) وسنوضح كل نوع من هذه الأنواع مع بيان ما يتعلق بها من أحكام.
الحكم الخامس: هل يجوز للمسلمة أن تظهر أمام الكافرة؟
اختلف الفقهاء في المراد من قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} فقال بعضهم: المراد بهن (المسلمات) اللاتي هنَّ على دينهن وهذا قول أكثر السلف.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} يعني المسلمات ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئاً من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمَةً لها.. وكره بعضهم أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها وكتب عمر رضي الله عنه إلى (أبي عبيدة بن الجراح) يقول: (إنه بلغني أن نساء أهل الذميَّة عِرْيَةَ المسلمة فقام عند ذلك أبو عبيدة وابتهل) وقال: (أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر، لا تريد إلا أن تبيّضَ وجهها فسوّد الله وجهها يوم تبيض الوجوه).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية لئلا تصفها لزوجها).. وقال بعضهم المراد بقوله تعالى: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} جميع النساء فيدخل في ذلك المسلمة والكافرة.
قال الألوسي: وذهب الفخر الرازي إلى أنها كالمسلمة فقال: والمذهب أنها كالمسلمة والمراد بنسائهن جميع النساء، وقولُ السلف محمول على الاستحباب ثم قال: وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات.
وقال ابن العربي: (والصحيح عندي أن ذلك جائز لجميع النساء. وإنما جاء بالضمير للإتباع فإنها آية الضمائر إذ فهيا خمسة وعشرون ضميراً لم يَرَوْا في القرآن لها نظيراً فجاء هذا للإتباع).
وقال الأستاذ المودودي: والذي يجدر بالذكر في هذا المقام أن الله تعالى لم يقل (أو النساء) ولو أنه قال كذلك لحل للمرأة المسلمة أن تكشف عورتها وتظهر زينتها لكل نوع من النساء من المسلمات، والكافرات، والصالحات والفاسقات ولكنه تعالى جاء بكلمة {نِسَآئِهِنَّ} فمعناها أنه حدّ حرية المرأة المسلمة في إظهار زينتها إلى (دائرة خاصة)، وأما ما هو المراد بهذه الدائرة الخاصة؟ ففيه خلاف بين الفقهاء والمفسرين؟
تقول طائفة: إن المراد بها النساء المسلمات فقط، وهذا ما رآه ابن عباس ومجاهد وابن جريج في هذه الآية واستدلوا بما كتبه عمر لأبي عبيدة بن الجراح.
وتقول طائفة أخرى: إن المراد (بنسائهن) جميع النساء وهذا هو أصح المذاهب عند الفخر الرازي. إلا أننا لا نكاد نفهم لماذا خص النساء بالإضافة وقال (نسائهن).
وتقول طائفة ثالثة: إن المراد (بنسائهن) النساء المختصات بهن بالصحبة والخدمة والتعارف سواء أكن مسلمات أو غير مسلمات وأن الغرض من الآية أن تخرج من دائرة النساء (الأجنبيات) اللاتي لا يعرف شيء عن أخلاقهن وآدابهن وعاداتهن فليست العبرة (بالاختلاف الديني)، بل هي (بالاختلاف الخلقي) فللنساء المسلمات.
أن يظهرن زينتهن بدون حجاب ولا تحرج للنساء الكريمات الفاضلات ولو من غير المسلمات. وأما الفاسقات اللاتي لا حياء عندهن ولا يعتمد على أخلاقهن وآدابهن فيجب أن تحتجب عنهن كل امرأة مؤمنة صالحة ولو كنَّ مسلمات لأن صحبتهن لا تقل عن صحبة الرجال ضرراً على أخلاقها.
أقول: هذا الرأي وجيه وسديد وحبذا لو تمسكت به المسلمات في عصرنا الحاضر إذاً لحافظن على أخلاقهن وآدابهن، وكفين شر هذا التقليد الأعمى للفاسقات الفاجرات في الأزياء والعادات الضارة الذميمة، التي غزتنا بها الحضارة المزيفة (حضارة الغرب) التي يسميها البعض حضارة القرن العشرين، وما هي بحضارة وإنما هي قذارة وفجارة ولقد أحسن من قال:
إيه عصر العشرين ظنوك عصراً ** نيّرَ الوجهِ مسعد الإنسان

لست (نوراً) بل أنت (نارٌ) وظلم ** مذ جعلتَ الإنسان كالحيوان

الحكم السادس: هل يباح للحرة أن تنكشف أمام عبدها؟
ظاهر قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} أنه يشمل (العبيد والإماء) وبهاذ قال بعض العلماء وهو مذهب (الشافعية)؛ فقد نصّ ابن حجر في المنهاج على أن نظر العبد العدل إلى سيدته كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة. وذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة (وهو قول للشافعي أيضاً) إلى أن العبد كالأجنبي فلا يحل نظره إلى سيدته لأنه ليس بمحرم. وتأولوا الآية بأنها في حق الإماء فقط، واستدلوا بما روي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أنه قال: (لا تغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور) يعني قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن} فإنها في الإماء دون العبيد. وعلَّلوا ذلك بأنهم فحول ليسوا أزواجاً ولا محارم، والشهوةُ متحققة فيهم فلا يجوز التكشف وإبداء الزينة أمامهم.
وقالوا إنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء لأن الذين تقدم ذكرهم أحرار فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قال ابن عباس: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته (وهذا مذهب مالك).
ومما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله ما روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى ما تلقى قال: «إنه ليس عليك بأسٌ إنما هو أبوك وغلامك».
الحكم السابع: من هم أولة الإربة من الرجال؟
استثنت الآية الكريمة: {التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة} فسمحت للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم وهم الرجال البُله المغفّلون.
الذين لا يعرفون من أمور النساء شيئاً وليس لهم ميل نحو النساء أو اشتهاء لهن، بحيث يكون عجزهم الجسدي، أو ضعفهم العقلي، أو فقرهم ومسكنتهم، تجعلهم لا ينظرون إلى المرأة بنظر غير طاهر أو يخطر ببالهم شيء من سوء الدخيلة نحوهن.
ونحن ننقل هنا بعض أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين ليتوضح لنا المعنى الصحيح للآية الكريمة، وندرك المراد من قوله تعالى: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال...}.
قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا حاجة له في النساء.
وقال قتادة: هو التابع يتبعك ليصيب من طعامك.
وقال مجاهد: هو الأبلة الذي لا يهمه إلا بطنه ولا يعرف شيئاً من النساء.
وهناك أقوال أخرى: تشير كلها إلى أن (أولي الإربة) المراد به غير أولي الحاجة إلى النساء وليس له شهوة أو ميل نحوهن إما لأنه أبله مغفل لا يعرف من أمور الجنس شيئاً أو لأنه لا شهوة فيه أصلاً.
قصة المخنث:
روى البخاري وغيره عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدُّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وعندها هذا المخنث وعندها أخوها (عبد الله بن أبي أمية) والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليك الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدو الله لقد غلغلت النظر فيها»، ثم قال لأم سلمة: «لا يدخلنَّ هذا عليك».
يقول الأستاذ المودودي: ولعمر الحق إن كل من يقرأ هذا الحكم بنية الطاعة لا بنية أن ينال لنفسه سبيلاً إلى الفرار من الطاعة لا يلبث أن يعرف لأول وهلة أن هؤلاء الخدام والغلمان المكتملين شباباً في البيوت، أو المطاعم والمقاهي، والفنادق، لا يشملهم هذا التعريف للتابعين غير أولي الإربة بحال من الأحوال.
الحكم الثامن: من هو الطفل الذي لا تحتجب منه المرأة؟
اختلف العلماء في قوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} فقال بعضهم: المراد الذين لم يبلغوا حد الشهوة للجماع وقال آخرون: بل المراد الذين لم يعرفوا العورة من غيرها من الصغر.
ولعلَّ هذا الأخير أقرب للصواب، وأنَّ المراد بهم الأطفال الذين لا يثير فيهم جسم المرأة أو حركاتها وسكناتها شعوراً بالجنس، لأنهم لصغرهم لا يعرفون معاني الجنس، وهذا لا يصدق إلا على من كان سنة دون (العاشرة) أما الطفل المراهق فإن الشعور بالجنس يبدأ يثور فيه ولو كان لم يبلغ بعد سنَّ الحلم فينبغي أن تحتجب منه المرأة.
الحكم التاسع: هل صوت المرأة عورة؟
حرم الإسلام كل ما يدعو إلى الفتنة والإغراء.
فنهى المرأة أن تضرب برجلها الأرض حتى لا يسمع صوت الخلخال فتتحرك الشهوة في قلوب بعض الرجال {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}.
وقد استدل الأحناف بهذا النهي على أن صوت المرأة عورة فإذا منعت عن صوت الخلخال فإن المنع عن رفع صوتها أبلغ في النهي.
قال الجصاص في تفسيره: (وفي الآية دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذا كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها. ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت، والمرأةُ منهية عن ذلك، وهو يدل على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة).. ونقل بعض الأحناف أن نغمة المرأة عورة واستدلوا بحديث (التكبير للرجال والتصفيق للنساء) فلا يحسن أن يسمعها الرجل.
وذهب الشافعية وغيرهم إلى أن صوت المرأة ليس بعورة لأن المرأة لها أن تبيع وتشتري وتُدْلي بشهادتها أمام الحكام، ولا بد في مثل هذه الأمور من رفع الصوت بالكلام.
قال الألوسي: (والمذكور في معتبرات كتب الشافعية- وإليه أميل- أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة).
والظاهر أنه إاذ أمنت الفتنة لم يكن صوتهن عورة فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كُنَّ يروين الأخبار، ويحدِّثن الرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم.
وذهب ابن كثير رحمه الله إلى أن المرأة منهية عن كل شيء يلفت النظر إليها، أو يحرك شهوة الرجال نحوها، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها لقوله عليه السلام: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية ومثل ذلك أن تحرك يديها لإظهار أساورها وحليها.
أقول: ينبغي على الرجال أن يمنعوا النساء من كل ما يؤدي إلى الفتنة والإغراء، كخروجهن بملابس ضيقة، أو ذات ألوان جذابة، ورفع أصواتهن وتعطرهن إذا خرجن للأسواق وتبخترهن في المشية وتكسرهن في الكلام وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وأمثال ذلك ممّا لا يتفق مع الآداب الإسلامية، ولا يليق بشهامة الرجل المسلم، فإن الفساد ما انتشر إلا بتهاون الرجال، والتحلل ما ظهر إلا بسبب فقدان (الغيرة) والحمية على العرض والشرف، والذي لا يغار على أهله لا يكون مسلماً وقد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم ديوثاً فقال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها: الرجلة من النساء (أي المتشبهة بالرجال) ومُدْمِنُ الخمر والديوث، قالوا: من هو الديوث يا رسول الله؟ قال الذي يُقِرُّ الخبث في أهله»
وفي رواية الذي يغار على أهله.
وقديماً قال شاعرنا العربي:
جرد السيف لرأس ** طارت النخوة منه

نسأل الله أن يحفظ علينا ديننا وشرفنا وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه سميع مجيب الدعاء.