فصل: وجوه القراءات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.وجوه القراءات:

أولاً: قرأ الجمهور: {غيرَ ناظرين} بفتح راء (غيرَ) نصباً على الحال، وقرأ (ابن أبي عبلة) بالكسر صفة لطعام، قال الزمخشري وليس بالوجه لأنه جرى على غير من هوَ له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ فيقال: غير ناظرين إناه أنتم، قال أبو حيان: وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيّين إذا لم يلبس.
ثانياً: قرأ الجمهور (إناه) مفرداً، وقرأ الأعمش (إناءه) بمدّة بعد النون، وعلى الأول يكون المعنى: غير ناظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى غير ناظرين وقته أو حِينه والله أعلم.

.وجوه الإعراب:

أولاً: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} الآية.
الاستثناء هنا استثناء مفرّع من عموم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون (باء المصاحبة) مقدرة في الكلام.
وذهب الزمخشري: إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء مفرغ من عموم الأوقات، والمعنى: لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلاّ وقت الإذن.
وقد ردّ (أبو حيان) هذا فقال: وهذا ليس بصحيح، وقد نصوا على أنّ (أنْ) المصدرية لا تكون في معنى الظرف، تقول: أجيئك صياح الديك، وقدوم الحاج، ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك، ولا أن يقدم الحاج.
والمسألة خلافية في خلافيات النحاة: والأشهر أنه لا يجوز، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، فتقول: ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا.
ثانياً: قوله تعالى: {غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ} الآية.
غيرَ، منصوب على الحال من الواو في {تَدْخُلُواْ} وإن أُجري وصفاً لطعامٍ {غَيْرَ ناظرين} على القراءة الثانية وجب إبراز الضمير، فكان ينبغي أن يقال: إلى طعامٍ غير ناظرين إناه أنتم، وقد بينا ما فيه عند ذكر وجوه القراءات.
ثالثاً: قوله تعالى: {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} الآية.
{مُسْتَأْنِسِينَ} عطف على {غَيْرَ ناظرين} و(لا) لتأكيد النفي، وجوّز بعض المفسّرين أن تكون (لا) بمعنى غير معطوفة على غير ناظرين إناه ويصبح المعنى: غير ناظرين إناه، وغير مستأنسين لحديث.
ويرى البعض أن {مُسْتَأْنِسِينَ} حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله (لحديث) لام التعليل أي لأجل استماع الحديث، أو هي لام التقوية.
رابعاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} الآية.
أنْ وما بعدها في تأويل مصدر اسم كان، والتقدير: وما كان لكم إيذاء رسول الله، وكذلك قوله تعالى: {وَلاَ أَن تنكحوا} لأنه عطف عليه، أفاده ابن الأنباري.
خامساً: قوله تعالى: {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} اسم الإشارة اسم (إنَّ) وجملة: {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} خبرها والله أعلم.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل يجوز تناول الطعام بدون دعوة؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن. ولا يجوز تناول طعام الإنسان إلا بإذن صريح أو ضمني، لقوله عليه السلام: «لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفسه».
وقد دلت الآية الكريمة على حرمة دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الإذن، وعلى حرمة (التطفل) وهو أن يحضر إلى الوليمة بدون دعوة، وفاعله يسمى ب (الطفيلي)، والحكم عام في جميع البيوت، فلا يجوز لإنسان أن يدخل بيت أحد بدون إذنه، ولا أن يتناول الطعام بدون رضى صاحبه، وهذا أدب رفيع من الآداب الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام.
قال ابن عباس: كان ناس يتحيَّنون طعامه عليه الصلاة والسلام، فيدخلون عليه قبل الطعام، وينتظرون إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت هذه الآية.
وقال ابن كثير رحمه الله: (حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى لهذه الأمة، ومعنى الآية: أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمه.. ثمّ قال: وهذا دليل على تحريم التطفل، وهو الذي تسميه العرب الضيفن).
الحكم الثاني: هل الجلوس بعد تناول طعام الوليمة حرام؟
دلّ قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} على ضرورة الخروج بعد تناول الطعام، وهذا من الآداب الإسلامية التي أدّب الله بها المؤمنين، فالمكث والجلوس بعد تناول الطعام ليس بحرام، ولكنّه مخالف لآداب الإسلام، لما فيه من الإثقال على أهل المنزل سيما إذا كانت الدار ليس فيها سوى بيت واحد، اللهمَّ إلا إذا كان الجلوس بإذن صاحب الدار أو أمره، أو كان جلوساً يسيراً تعارفه الناس، لا يصل إلى حدّ الإثقال المذموم.
ومع ذلك فالأفضل الخروج، ولهذا جاء التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب {فانتشروا}.
فالمكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ولم يبق إلا أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الإثقال غير محمود، يتنافى مع الأدب الرفيع، والذوق السليم.
الحكم الثالث: هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي أم هو عام؟
الآيات الكريمة وردت في شأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، تعظيماً لرسول الله، وتكريماً لشأنه، ولكنّ الأحكام التي فيها عامّة تعمُّ جميع المؤمنين، لأنها آداب اجتماعية، وإرشادات إلهية، يستوي فيها جميع الناس، فالأمر بعدم الاختلاط بالنساء، وبسؤالهن من وراء حجاب، ليس قاصراً على أزواج الرسول، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين، فإذا كان نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز الاختلاط بهن، ولا النظر إليهن، مع أنهن (أمهات المؤمنين) يحرم الزواج بهن، ولا يجوزسؤالهن إلا من وراء حجاب، فلا شكَّ أن الاختلاط بغيرهن من النساء، أو التحدث إليهن بدون حجاب، يكون حراماً من باب أولى، لأن الفتنة بالنساء متحققة.
ثمّ إنّ أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو عام لجميع نساء المؤمنين، بدليل قوله تعالى في آخر السورة: {يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59].
فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟ وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول حتى يزعم بعض المضِلّين، أن الحجاب مفروض على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء؟!
وسنتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن هذا الموضوع عند بحث (الحجاب الشرعي) ونبيّن تلك المزاعم الواهية التي احتج بها بعض المتحللين، ونبطلها بالحجج الدامغة، فارجع إليها هناك واله يتولاّك.
الحكم الرابع: هل الطعام المقدّم للضيف على وجه التمليك أم الإباحة؟
أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} إلى أنّ الطعام الذي يقدّم للضيف لا يكون على وجه التمليك، وإنما هو على وجه الإباحة، فلو أراد الضيف أن يحمل معه الطعام إلى بيته لا يجوز له ذلك لأن المضيف إنما أباح له الأكل فقط دون التملك له أو أخذه أو إعطائه لأحد.
قال العلامة القرطبي: في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه تعالى قال: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله.
الحكم الخامس: هل زال النكاح عن أمهات المؤمنين بموت النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال القرطبي: ف يتفسيره (الجامع لأحكام القرآن): اختلف العلماء في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟
فقيل: عليهن العدة، لأنه تُوفي عنهن، والعدة عبادة.
وقيل: لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة.
قال: والقول الثاني هو الصحيح لقوله عليه السلام: «ما تركتُ بعد نفقة عيالي» وروي (أهلي) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً، بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة، والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام: «كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع، إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة».
فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبيّة وغيرها، فهل كان حيل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها (عكرمة بن أبي جهل) على ما تقدم، وقيل: إن الذي تزوجها (الأشعث بن قيس الكندي).
قال القاضي أبو الطيب: الذي تزوجها (مهاجر بن أبي أمية) ولم ينكر ذلك أحد، فدلّ على أنه إجماع.

.ما ترشد إليه الآيات الكريمة:

1- النهي عن دخول بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم بغير إذن، وبدون سابق دعوة.
2- لا ينبغي الحضور قبل نضج الطعام، ولا المكث بعد تناول اطعام الوليمة.
3- وجوب احترام الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأمتثال أوامره وتقديم طاعته على كل شيء.
4- حرمة إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالأقوال أو الأفعال، والتأدب معه في جميع الأحوال.
5- حرمة نكاح أمهات المؤمنين من بعد وفاته لأنهن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6- خلق الرسول الرفيع يمنعه من أمر الناس بالخروج من منزلة فينبغي عدم الإثقال عليه.
7- نساء الرسول صلى الله عليه وسلم هنّ القدوة والأسوة الحسنة لسائر النساء فينبغي مخاطبتهن من وراء حجاب.
8- في عدم الاختلاط بالنساء صفاء النفس، وسلامة القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن مظان التهم.
9- الآداب التي أرشد إليها القرآن ينبغي التمسك بها وتطبيقها تطبيقاً كاملاً.

.خاتمة البحث:

حكمة التشريع:
حرّم الله تعالى على المؤمنين دخول بيوت النبيّ صلى الله عليه وسلم بدون إذن، تكريماً لرسول الله عليه السلام وتعظيماً لشأنه، ومنع الناس من الإثقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءً بالدخول إلى بيوته دون سابق دعوة، أو المكث فيه بعد تناول طعام الوليمة لأن في ذلك إثقالاً على الرسول الكريم، وإيذاءً له، والتطفلُ والإثقال على أهل الدار ليس من أوصاف المؤمنين، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، وكان- كما تقول السيدة عائشة- أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، ولم يكن من خلقة الكريم أن يجابه أحداً بما يكره، مهما أصابه الأذى والضرر، ولا من عادته أن يأمر الزائر بالانصراف مهما طال المكث والبقاء، لأنّ هذا لا يتفق مع خُلُق الداعية، فكيف بخلق النبوة وأوصاف سيد المرسلين!!
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]
وان بعض الناس- ممن لم تتهذب أخلاقهم بعد- يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، ويقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون ولا يخرجون.. فكان الناس بحاجة إلى أن يتعلموا الآداب الرفيعة، وأن يكون عندهم (ذوق اجتماعي) وشعور رقيق، يمنعهم عن ارتكاب النقائض، وفعل ما يخل بالمروءة، لذلك أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة تعلمياً للأمة وإرشاداً لها إلى سلوك الطريق القويم، وقد قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء.
وقال آخر: هذه الآية نزلت في الثقلاء، وحسبُكَ من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ولقد كان هناك من بعض المنافقين إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل أو القول، حتى قال رجل من المنافقين حين تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة: ما بال محمد يتزوج نساءنا!! والله لو قد مات لأجلنا السّهام على نسائه، يريد اقتسمناهن بالقرعة، فنزلت الآية في هذا، فحرّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات تطييباً لخاطره الشريف وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام أب للمؤمنين، وهل يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وهي أُمّه بنصّ القرآن الكريم!! وصدق الله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أزواجه مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً}.

.تفسير الآيات (56- 58):

{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}
[6] الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: