فصل: سورة المجادلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.سورة المجادلة:

.تفسير الآيات (1- 4):

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
سورة المجادلة:
[1] الظهار وكفارته في الإسلام:

.التحليل اللفظي:

{سَمِعَ الله}: السمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما.
ومعنى السميع: المدرك الأصوات من غير أن يكون له أذن لأنها لا تخفى عليه.
قال أبو السعود: ومعنى سمعه تعالى لقولها: إجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك: كما هو المعنيُّ بقوله تعالى: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} أي يعلم تراجعكما الكلام.
{تجادلك}: أي تراجعك في شأن زوجها، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة وفي الحديث: «ما أوتي قوم الجدل إلاّ ضلّوا» والمراد بالحديث الجدل على الباطل، وطلب المغالبة به، لا إظهار الحق فإنّ ذلك محمود لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] والمراد هنا: المراجعة في الكلام.
{وتشتكي}: الشكوى إظهار البث وما انطوت عليه النفس من الهمّ والغم، وفي التنزيل: {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وشكا واشتكى بمعنى واحد.
{تَحَاوُرَكُمآ}: المحاورة المراجعة في الكلام، من حار الشيء يحور حوراً أي رجع يرجع رجوعاً، ومنه حديث: «نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر» ومنه فما أحار بكلمة أي فما أجاب. قال عنترة:
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ** ولكان لو علم الكلام مكلّمي

يريد به فرسه أي لو كان يعلم الكلام لكلَّمني.
{يظاهرون}: الظهار مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي. ومعناه الأصلي: مقابلة الظهر بالظهر يقال: ظاهر فلان فلاناً أي قابل ظهره بظهره، ثم استعمل في تحريم الزوجة بجعلها كظهر أمه.
قال الألوسي: الظهار لغة مصدر ظاهر، وهو (مفاعلة) من الظهر، ويراد به معانٍ مختلفة، راجعة إلى الظهر معنى ولفظاً باختلاف الأغراض.
فيقال: ظاهر زيد عمراً أي قابل ظهره بظهره حقيقة.
وظاهره إذا غايظه وإن لم يقابل حقيقة، باعتبار أن المغايظة تقتضي ذلك.
وظاهره إذا ناصره، باعتبار أنه يقال: قوّى ظهره إذا نصره.
وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر.
وظاهر من امرأته إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي.
وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات.
قال في (الفتح): وإنما خصّ الظهر بذلك دون سائر الأعضاء، لأنه محل الركوب غالباً، ولذلك سُمّي المركوب ظهراً، فشبهت المرأة بذلك لأنها مركوب الرجل.
{اللائي}: جمع التي، فيقال: اللاتي، واللائي قال تعالى: {والاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34].
{مُنكَراً}: المنكر من الأمر خلاف المعروف، وكلّ ما قبّحه الشرع وحرّمه وكرهه فهو منكر.
{وَزُوراً}: الزور: الكذب، والباطل الواضح، ومنه شهادة الزور.
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}: حرّرته أي جعلته حراً لوجه الله. والرقبة في الأصل: العُنُق ثم اطلقت على ذات الإنسان تسمية للشيء ببعضه، والمراد بها المملوك عبداً أو أمة.
قال الألوسي: وذلك من تسمية الكل باسم الجزء.
{يَتَمَآسَّا}: المسّ: مسكُ الشيء باليد، ثم استعير للجماع لأنه لمس والتصاق، لأن فيه التصاقَ الجسم بالجسم، والتماس هنا: كناية عن الجماع.
{مِسْكِيناً}: المسكين الذي لا شيء له، وقيل الذي لا شيء له يكفي عياله، وأصل المسكين في اللغة الخاضع...
والمراد به هنا ما يعم الفقير، والمسكينُ أحسن حالاً من الفقير. وقد قالوا: المسكينُ والفقيرُ إذا اجتمعا يعني (في اللفظ) افترقا (في المعنى) وإذا افترقا اجتمعا.
{حُدُودُ}: الحد: الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو لئلا يتعدى أحدهما على الآخر وجمعه حدود.
وحدود الله: الأشياء التي بيّن تحريمها وتحليلها، وأمرَ أن لا يتعدى شيء منها فيتجاوز إلى غير ما أمر فيها أو نهى عنه منها ومنع من مخالفتها.
وهنا قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} يعني الحدود بين معصيته وطاعته، فمعصيتُه الظهارُ، وطاعتهُ الكفارة.

.المعنى الإجمالي:

إن الله تعالى سميع قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وهذه امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو ظلم زوجها لها، حيث حرّمها على نفسه بلفظٍ كانت الجاهلية تستعمله، أفيبقى هذا اللفظ محرماً في الإسلام؟!
جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجّهت بالدعاء إلى المولى جلّ وعلا، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، تشكو إليه وحدتها، فلا أهل لها، ولا معيل ولا نصير، وقد كبر سنّها، وأولادُها صغارٌ، إن أبقتهم عنده ضاعوا، وإن ضمّتهم إليها جاعوا.... ورسولُ الله صلوات الله عليه لا يشرّع من قبل نفسه، وإنما يتّبع الوحي الذي يأتيه من ربه، ولم يوح إليه في الظهار بشيء، ولذلك ما كان يجزم بالتحريم، وإنما كان يقول: «ما أُرَاك إلا قد حَرُمتِ عليه» فكانت تجادله.
استجاب الله دعاء هذه المرأة الضعيفة الوحيدة، ونزل الوحي ليقول للزوج: زوجُكَ التي ظاهرت منها ليست بأمك، فأمك هي التي ولدتك حقيقة، وحرّمت عليك بذلك، فكيف تصف ما أباحه الله لك بما حرَّمه عليك؟ إنك تقول قولاً يمقته الشرع فضلاً عن كونه كذباً وزوراً، ومع ذلك فإن الله عفوّ عمن أخطأ ثمّ تاب، غفور لمن وقف عند حدود الشرع، واتَّبع أمر الله الذي أنزله على نبيّه.
فمن ظاهر من زوجه وقال لها: أنتِ عليّ كظهر أمي، ثمّ أراد أن ينقض قوله، ويعود إلى ما أحلّه الله له من زوجه، فالواجب عليه أن يحرّر عبداً مملوكاً قبل أن يمسّ زوجه، هذا حكمُ مَنْ ظاهر ليتعظ به المؤمنون، ويعلموا أن الله جلّ وعلا خبير بكل ما يعملونه، فعليهم أن ينتهوا عما نهاهم عنه.
فمن لم يجد الرقبة بأن كان لا يملك ثمنها، أو لا يجد عبداً يشتريه ويعتقه فليصم شهرين متتابعين من قبل أن يقرب زوجه، فإذا كان ضعيفاً لا يقوى على الصوم، أو مريضاً يُضعفه الصوم، فعليه أن يطعم ستين مسكيناً ما يشبعهم، ذلك هو حكم الله في الظهار، لتؤمنوا بأن هذا منزّل من عند الله تعالى وتتبعوه، وتقفوا عند حدود ما شرع لكم فلا تتعدوها.

.سبب النزول:

أولاً: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تبارك الذي وسمع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة، فكلَّمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها، ويخفى عليَّ بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أَبْلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنِّي، وانقطع ولدي ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك.
قالت: فما برحتْ حتى نزل جبريل بهذه الآيات).
ثانياً: وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنتِ علي كظهر أمي، حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام (أوس) ثمّ ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات.
ثالثاً: وعن خولة بن مالك بن ثعلبة قالت:
ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك.
فما برحتُ حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تجادلك فِي زَوْجِهَا...} إلى الفرض قال: يعتق رقبة، قلت لا يجد، قال: فليطعم ستين مسكيناً.
قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعَرَقَ من تمر.
قلت: يا رسول الله وإني أعينه بعَرَق آخر. قال: قد أحسنتِ اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً وارجعي إلى ابن عمك.
قال: والعَرَق ستون صاعاً.

.وجوه القراءات:

أولاً: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله} بإظهار الدال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين.
قال الكسائي: من قرأ: {قَدْ سَمِعَ} فبيَّنَ الدَّال فلسانه أعجمي ليس بعربي.
قال الألوسي: ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر، بل الجمهور على البيان.
ثانياً: قوله تعالى: {تجادلك فِي زَوْجِهَا} قراءة الجمهور تجادلك من المجادلة وهي المراجعة في الكلام.
وقرئ: {تحاروك} أي تراجعك الكلام.
ثالثاً: قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ} قرأ حفص وعاصم: {يُظَاهِرون} بضم الياء وكسر الهاء.
وقرأ نافع وابن كثير وعمر: {يَظَّهَّرون} بتشديد الظاء والهاء وحذف الألف وفتح الياء.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف: {يَظّاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف.
وقرأ الحسن وقتادة: {يَظَهّرون} بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة، والمعنى (يقولون لهنَّ أنتُنَّ كظهور أمهاتنا).
رابعاً: قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} الجمهور بكسر التاء وهي لغة أهل الحجاز.
وقرأ المفضل عن عاصم: {أمهاتُهم} بالرفع على لغة تميم.
وقرأ ابن مسعود: {بأمهاتِهم} بزيادة الباء.

.وجوه الإعراب:

أولاً: قوله تعالى: {وتشتكي إِلَى الله} عطف على {تجادلك} فهو من عطف الجمل لا محل لها من الإعراب لكونها صلة للتي.
وجوّز بعضهم أن تكون حالاً، أي تجادلك شاكية حالها إلى الله ويقدر مبتدأ أي وهي تشتكي؛ لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية.
ثانياً: قوله تعالى: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ} اسم الموصول {الذين} مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله هو قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم} مقامه.
وقال ابن الأنباري: خبره (ما هن أمهاتهم) أي ما نساؤهم أمهاتهم.
ثالثاً: قوله تعالى: {مَّا هُنَّ أمهاتهم إِنْ أمهاتهم}.
قال الفراء: وانتصابُ الأمهات هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله: {ما هن بإمهاتهم} ومثله {ما هذا بشراً} أي ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقى أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز، فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا رفعوا وقالوا: {ما هنّ أمهاتُهم} و{ما هذا بشرٌ}.
وقال أبو حيان: أجرى (ما) مُجْرَى (ليس) في رفع الاسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] وقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47].
أقول: هذا هو الصحيح لأن (ما) بمعنى ليس فهي نافية حجازية وهي لغة القرآن.
رابعاً: قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} انتصب (منكراً وزوراً) على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره وإنهم ليقولون قولاً منكراً، وقولاً زوراً.
خامساً: قوله تعالى: {والذين يظاهرون مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} اسم الموصول (الذين) مبتدأ، وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فكفارتهم تحرير رقبة.
والجملة من المبتدأ وخبره خبر الموصول، ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
سادساً: قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ}.
قال ابن الأنباري: الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق ب (يعودون) و(ما) مصدرية، وتقديره (يعودون لقولهم). والمصدر في موضع المفعول كقولك (هذا الثوب نسج اليمن)، أي منسوجه، ومعناه يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلِّق.
وقيل: اللامُ في {لِمَا قَالُواْ} بمعنى (إلى) أي يعودون إلى قول الكلمة التي قالوها أولاً من قولهم: أنت علي كظهر أمي وهذا من مذهب أهل الظاهر.