فصل: تفسير الآية رقم (21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (21):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عز وجل، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز ورا قال بعضهم: إنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثمًا بترك النظر على الأول؛ وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذًا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعًا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزمًا فيكفي عند الأشعري وغيره خلافًا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لابد لصحة الإيمان من النظر، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند إلى دليل حق، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي.
{أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل: فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى: {أَوْ لَّوْ كَانَ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ} بعد قوله سبحانه: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} [البقرة: 170] ويعلم منه حال رجوع الضمير إلى المجموع أي أولئك المجادلين وآباءهم {إلى عَذَابِ السعير} أي إلى ما يؤول إليه أو يتسبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عز وجل للبعث ونحو ذلك من الضلالات، وجوز بقاء {عَذَابِ السعير} على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السايق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم إلى العذاب ولو كان يدعوهم إليه، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على {لَوْ} الوصلية ونحوها، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهو مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر، وقد مر الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأن فرض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه، فالإسلام كالتسليم التفويض، والوجه الذات، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسليم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عز وجل وقد يعدى الإسلام باللام قصدًا لمعنى الإخلاص.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعبد الله بن مسلم بن يسار {يُسْلِمْ} بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعماله والجملة في موضع الحال.
{فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عز وجل المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمور انقطاعه، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له {وإلى الله عاقبة الامور} أي هي صائرة إليه عز وجل لا إلى غيره جل جلاله فلا يكون لأحد سواه جل وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء، وقيل: فيجازي كلًا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به قتضى الحكمة، وأل في الأمور للاستغراق، وقيل: تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها، وتقديم {إِلَى الله} للحصر ردًا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور.
واختار بعضهم كونه إجلالًا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنًا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}
{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} أي فلا يهمنك ذلك {إِلَيْنَا} لا إلى غيرنا {مَرْجِعُهُمْ} رجوعهم بالبعث يوم القيامة {فَنُنَبّئُهُم بما عَمِلُواْ} أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب، وقيل: إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيًا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل: لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الأول باعتبار لفظها، وقرئ في السبع {وَلاَ يَحْزُنكَ} مضارع أحزن مزيد حزم اللام؛ وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أن يجازيهم سبحانه لأنه عز وجل عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها.

.تفسير الآية رقم (24):

{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}
{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلًا} تمتيعًا قليلًا أو زمانًا قليلًا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} ثقيل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد الزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارًا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال:
يرون الموت قدامًا وخلفا ** فيختارون والموت اضطرار

وقيل: المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل.

.تفسير الآية رقم (25):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)}
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} أي خلقهن الله تعالى، وجوز أن يكون التقدير الله خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جل شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي.
وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضًا {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن ذلك يلزمهم قيل: وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه: وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله ما موقعه في هذا المقام، وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر.

.تفسير الآية رقم (26):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}
{للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} خلقًا وملكًا وتصرفًا ليس لأحد سواه عز وجل استقلالًا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه، وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكًا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن كل شيء {الحميد} المستحق للحمد وإن لم يحمده جل وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال، وكأن الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل اختصاص ما في السماوات والأرض به عز وجل لحاجته سبحانه إليه، وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن الله غني إلا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضًا تأكيدًا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منهم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدًا، وقال الطيبي: إن قوله تعالى: {للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه: {إِنَّ الله هُوَ الغنى} أي عن حمد الحامدين {الحميد} أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوه عز وجل.

.تفسير الآية رقم (27):

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما فإن وما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون {ءانٍ} دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد، وقال سيبويه: إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده، وقيل: مبتدأ خبره مقدر قبله، وقال ابن عصفور: بعده: و{مَّا فِي الأرض} اسم أن و{مِن شَجَرَةٍ} بيان لما أو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه أي ولو ثبت أن الذي استقر في الأرض كائنًا من شجرة، و{أَقْلاَمٌ} خبر أن قال أبو حيان: وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائة بعد لو لا يكون إسمًا جامدًا ولا إسمًا مشتقًا بل يجب أن يكون فعلًا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه، قال الشاعر:
ولو أنها عصفورة لحسبتها ** مسومة تدعو عبيدًا وأزنمًا

وقال آخر:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر ** تنبو الحوادث عنه وهو ملموم

إلى غير ذلك، وتعقب بأن اشتراط كون خبرها فعلًا إنما هو إذا كان مشتقًا فلا يرد {أَقْلاَمٌ} هنا ولا ما ذكر في البيتين، وأما قوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ} [الأحزاب: 20] فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية، والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] وقول ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها؟ تمرة خير من جرادة على ما اختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذا التاء فكأنه قيل: ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ، وكون كل شجرة أقلامًا باعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤل المعنى إلى لو أن أجراء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلامًا إلخ، ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطًا بلو وللشرط. مطلقًا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطًا بها وإن كانت هنا ليست عناها المشهور من انتفاء الجواب لانتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المغنى، واختيار {شَجَرَةٍ} على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن ابعتار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل قتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه: وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة، ونظيره{مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} [البقرة: 106] {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السموات ومَا فِي والأرض مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 49] وقول العرب: هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار اه فلا تغفل.
وقال الزمخشري: إنه قال سبحانه: {شَجَرَةٍ} على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحد إلا وقد بريت أقلامًا. وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤوني رجلًا رجلًا فتأمل، واختيار جمع القلة في {أَقْلاَمٌ} مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله {والبحر} أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الإنهار العظام كدجلة والفرات، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلع {يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نفاده وقيل من ورائه {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلًا لا خصوص العدد المعروف كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 169] وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقة وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضًا رمزًا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبجر واستعمل فيه أيضًا، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجرة أقلام أن يقال: والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغنى عن ذكر المداد لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الإمداد المستمر حالًا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط نزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادًا فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبا لا ينقطع، ورفع {البحر} على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلامًا في حال كون البحر ممدودًا بسبعة أبحر، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها ** بمنجرد فيد الأوابد هيكل

وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلًا ومعنى جئت وقد اصطفاف الجيش واحد وحيث أن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالًا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالًا ففي العامل فيه ضمير ينتقل إلى الظرف، والجملة الإسمية إذا كانت حالًا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال إنها في حكم الظرف. نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المؤنة، وجوز أن تكون الجملة حالًا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في {البحر} بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضًا عن الضمير كما في قوله تعالى: {جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} [ص: 50] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلامًا حال كون بحرها ممدودًا بسبعة أبحر قال في الكشف: ولابد أن يجعل {مِن شَجَرَةٍ} بيانًا للضمير العائد إلى {مَا} لئلا يلزم الفصل بين أجزاء الصلة بالأجنبي. و{البحر} على تقدير جعل أل فيه عوضًا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره، وقال الطيبي: إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب. ورد بأن لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها، وجملة {يَمُدُّهُ} حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلامًا وثبت البحر ممدودًا بسبعة أبحر، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن افضاء المحذوف إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد على المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلًا لثبت وهو مفرد لا جملة، وجوز أن يكون العطف على ذلك أيضًا بناء على رأي من يجعله مبتدأ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير التقدير ولو البحر وذلك على ما قال أبو حيان لا يجوز إلا في ضرورة شعر نحو قوله:
لو بغير الماء حلقي شرق ** كنت كالغصان بالماء اعتصاري

وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك، وقال بعضهم: إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضًا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل، وجوز كون الرفع على الابتداء، وجملة {يَمُدُّهُ} خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن عشام ولا يخفى بعده، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل: ما المداد حينئذ فقيل: والبحر إلخ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود، وما قيل: إنه يقترن بها إذا كان جوابًا للسؤال على وجه المناقشة لا للإستعلام مما لا يعتمد عليه، ومن هنا قيل: الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويًا، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الأعراب أيضًا.
وقرأ البصريان {والبحر} بالنصب على أنه معطوف على اسم أن و{ده} خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر.
قال ابن الحاجب في أماليه: ولا يستقيم أن يكون {والبحر يَمُدُّهُ} حالًا لأنه يؤدي إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها لبيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي أيضًا إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون {أَقْلاَمٌ} خبرًا له لأنه خبر الأول اه، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر.
وجوز أن يكون منصوبًا على شرطية التفسير عطفًا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائز، وجملة {يَمُدُّهُ} إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب.
وقرأ عبد الله {وبحر} بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جنى على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ، والواو واو الحال لا محالة، ولا يجوز أن يعطف على {شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد.
وفي البحران الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم، وإذا كانت للحال كان {بَحْرٍ} مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات الابتداء بالنكرة كما في قوله:
سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ** محياك أخفى ضوءه كل شارق

اه ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة {يَمُدُّهُ} في موضع الصفة له لا حال منه؛ وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفًا كما فعل ابن جنى.
وقرأ ابن مسعود. وأبي {تمده} بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور. وقرأ ابن مسعود أيضًا. والحسن. وابن مصرف. وابن هرمز {والبحر يَمُدُّهُ} بضم الياء التحتية من الأمداد. قال ابن الشيخ: يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان عنى. وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما {والبحر} أي ما يكتب به من الحبر، وقال ابن عطية: هو مصدر {مَّا نَفِدَتْ كلمات الله} جواب {لَوْ} وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى: {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جل شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروم فأنزل سبحانه: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلًا وقد أوتنيا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا فنزلت {وَلَوْ أَنَّ} إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا: ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية، وقيل: إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول: أنها مكية، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرًا كثيرًا لكونه حكمة إلا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عز وجل. وفي رواية أنه نزل كة قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ} إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم:
«كلا عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك إن أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية: «هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به نجوتم» قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] فكيف يجتمع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهذا نص في أن الآية مدنية، وقيل: المراد بها مقدوراته جل وعلا وعجائبه عز وجل التي إذا أراد سبحانه شيئًا منها قال تبارك وتعالى له: {كُنْ فَيَكُونُ} [117] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى: {وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ} [النساء: 171] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من اطلاق السبب على المسبب، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال: {للَّهِ مَا فِي السموات والأرض} [لقمان: 26] وكان موهما لتناهي ملكه جل جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام في المراد بكلماته تعالى إلا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جل شأنه به أهل معصيته من العقاب، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر، وقيل: المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم عن قتادة قال: قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفد فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلا أنه لا يقتضي كونها مدنية، وإيثار الجمع المؤنث السالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لاشعاره وان اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرًا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن. {مَّا نَفِدَتْ} بغير تاء {كَلاَمَ الله} بدل كلمات الله {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يعجزه جل شأنه شيء {حَكِيمٌ} لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.