فصل: تفسير الآية رقم (15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (15):

{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا} استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل: إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون وجبها عملًا صالحًا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن {الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا} أي وعظوا {خَرُّواْ سُجَّدًا} أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلًا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعًا لله تعالى وخشوعًا وخوفًا من عذابه عز وجل، قال أبو حيان: هذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا الركوع.
وروي عن ابن جريج. ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 42] اه.
ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال: {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما لاحظة ربوبيته تعالى لهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمع الآيات، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري {خَرُّواْ} و{سَبَّحُواْ} وجوز عطفها على أحد الفعلين، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (16):

{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)}
{تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم.
وجوز أن تكون حالية أو خبرًا ثانيًا للمبتدأ، والتجافي البعد والارتفاع؛ والجنوب جمع جنب الشقوق، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، و{المضاجع} جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله عليه وسلم:
نبي تجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن. ومجاهد. ومالك. والأوزاعي. وغيرهم. وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له، أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي. وابن ماجه. ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والحاكم. وصححه. وابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم وأنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} حتى بلغ {يعملون}...» الحديث.
وقال أبو الدرداء. وقتادة. والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة، وعن الحسن. وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء، أخرج الترمذي وصححه. وابن جرير. وغيرهما عن أنس قال: إن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد. وابن عدي. وابن مردويه عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} قال: كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وقال قتادة. وعكرمة: هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء؛ واستدل به بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد الله بن عيسى قال: كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى، وروى نحوه هو. ومحمد بن نصر عن الضحاك. والجمهور عولوا على ما هو المشهور، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حال من ضمير {جُنُوبُهُمْ} وقد أضيف إليه ما هو جزء، وجوز على احتمال كون جملة {تتجافى} إلخ حالية أن تكون حالًا ثانية مما جعلت تلك حالًا منه وعلى احتمال كونها خبرًا ثانيًا للمبتدأ أن تكون خبرًا ثالثًا، وجوز كونها مستأنفة، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر، وقيل: المراد به الصلاة {خَوْفًا} أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عز وجل وعدم قبول عبادتهم {وَطَمَعًا} في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير {يَدَّعُونَ} وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفًا ويطمعون طمعًا وتكون الجملة حينئذٍ حالًا، وأن يكونا مفعولًا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح.
{وَمِمَّا رزقناهم} إياه من المال {يُنفِقُونَ} في وجوه الخير.

.تفسير الآية رقم (17):

{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بما كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلًا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم، والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق رجاءهم فلا تعلم نفس {مَّا أُخْفِىَ لَهُم} أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجلية {مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي مما تقر به أعين، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال.
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» وأخرج القريابي. وابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع إذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين {جَزَاء بما كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جوزوا جزاءً بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة.
وجوز جعلها حالية، وقيل: يجوز جعله مصدرًا مؤكدًا لمضمون الجملة المتقدمة، وقيل: يجوز أن يكون مفعولًا له لقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَفْسٌ} على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفي فإن إخفاءه لعلو شأنه، وعن الحسن أنه قال: أخفى القوم أعمالًا في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفي ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل.
وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ} رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء، وعدم ذكر الفاعل في {أُخْفِىَ} ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل.
وقرأ حمزة. ويعقوب. والأعمش {أُخْفِىَ} بسكون الياء فعلًا مضارعًا للمتكلم، وابن مسعود {نُخْفِى} بنون العظمة، والأعمش أيضًا {أخفيت} بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده، ومحمد بن كعب {مَّا أُخْفِىَ} فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل. و{مَا} في جميع ذلك اسم موصول مفعول {تَعْلَمْ} والعلم عنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها، وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون {مَا} استفهامية وموضعها رفع بالابتداء و{أُخْفِىَ لَهُم} خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل {أُخْفِىَ} مضارعًا يكون {مَا} في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم عنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإبهام للتعظيم. وقرأ عبد الله. وأبو الدرداء. وأبو هريرة. وعون. والعقيلي {مِنْ قَرَأْتَ} على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي عمرو. وأبي جعفر والأعمش، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة، والجار والمجرور في موضع الحال.

.تفسير الآية رقم (18):

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا} أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة، وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم استعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقًا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} [النور: 55] وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى: {لاَّ يَسْتَوُونَ} التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة التأكيد وبناء التفصيل الآتي عليه، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها، وقيل: الضمير لاثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بما كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)}
{أَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي استوائهما وقيل: بعد ذكر أحوالهما في الدنيا، وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، وقيل: المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن، وقيل: جنة المأوى لما روي عن ابن عباس، أنها تأوي إليها أرواح الشهداء، وروي أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علمًا من البعد وأيًا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا.
وقرأ طلحة {جَنَّةُ المأوى} بالأفراد {نُزُلًا} أي ثوابًا وهو في الأرض ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء، وانتصابه على أنه حال من {جنات} والعامل فيه الظرف، وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالًا من ضمير {الذين كَفَرُواْ} وقرأ أبو حيوة {نُزُلًا} بإسكان الزاي كما في قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلًا

{ا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية، وكون ذلك سببًا قتضى فضله تعالى ووعده عز وجل فلا ينافي حديث: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعاوضة كعلى في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
{وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وارتكبوا المعاصي {فَمَأْوَاهُمُ} أي فمسكنهم ومحلهم {النار} وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفًا فيما يكون ملجأ للشخص ومستراحًا يستريح إليه من الحر والبرد ونحوها فإذا أريد هنا يكون في الكلام استعارة تهكمية كما في قوله تعالى: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٌ} [آل عمران: 21]، وجوز أن يكون استعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر {فَمَأْوَاهُمُ النار} {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ} استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] على ما قيل، والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها، فقد روي أنهم يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدًا، وقيل: الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفًا أي كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها، ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى: {فِيهَا} دون إليها، أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها، وأيًا ما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} [البقرة: 167] {وَقِيلَ لَهُمْ} تشديدًا عليهم وزيادة في غيظهم.
{ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ} أي بعذاب النار {تُكَذّبُونَ} على الاستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر، وذكر ابن الحاجب في أماليه وجهًا آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذٍ مقدمًا عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل إخبارًا عن أحوالهم، ونظر فيه الطيبي عليه الرحمة بأن هذا القول داخل أيضًا في حيز الإخبار لعطفه على {أُعِيدُواْ} الواقع جوابًا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضًا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف.
ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه. وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلابد من مرجح.
وقال بعض المحققين: أراد ابن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرًا إلى ذاتها ونظرًا إلى سياقها أما الأول: فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار، وأما الثاني: فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار جائز وأنه رجح الإظهار اقتضاء السياق لذلك.
ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في «درة التنزيل»: إنه تعالى قال هاهنا {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} وقال سبحانه في آية أخرى: {عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} [سبأ: 42] فذكر جل وعلا هاهنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار هاهنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل.