فصل: تفسير الآية رقم (38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (38):

{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}
{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون له حرج {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسم له صلى الله عليه وسلم وقدر من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به، وقال قتادة: أي فيما أحل له، وقال الحسن: فيما خصه به من صحة النكاح بلا صداق، وقال الضحاك: من الزيادة على الأربع {سُنَّةَ الله} أي سن الله تعالى ذلك سنة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج، وذهب الزمخشري إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر كقولهم: تربًا وجندلًا أي رغمًا وهوانًا وخيبة، وكأنه لم تثبت عنده مصدريته، وقيل منصوب بتقدير الزم ونحوه.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون نصبًا على الإغراء كأنه قيل: فعليه سنة الله. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس يجيد لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضًا تقدير فعليه سنة الله بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغري غائب وقولهم عليه رجلًا ليسني مؤول وهو مع ذلك نادر. واعترض بأن قوله: لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع، وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه كما لا يخفى، ثم قيل: إن ظاهر كلام ابن عطية يشعر بأن النصب بتقدير الزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه اه فتدبر.
{فِى الذين خَلَوْاْ} أي مضوا {مِن قَبْلُ} أي من قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث لم يحرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السلام ألف امرأة، والظاهر أنه عنى بالمرأة ما يقابله السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله. يروى أن اليهود قاتلهم الله تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلى الله عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: {سُنَّةَ الله} الآية.
وقيل: إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداود عليه السلام من تزوجه امرأة أوريا. وأخرج ذلك ابن المنذر. والطبراني عن ابن جريج، واسم تلك الامرأة عنده أليسية وهذا مما لا يلتفت إليه، والقصة عند المحققين لا أصل لها {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه قدور نحو وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد، والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها، والمعنى الأول أظهر، والقضاء والقدريستعمل كل منهما عنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق.
وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر الله تعالى المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل وجبه لازم مقضي في نفسه أو هو كالمقضي في لزوم إتباعه، ولا يخفى تكلفه، وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله. القضاء ما يكون مقصودًا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعًا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه: {زوجناكها} [الأحزاب: 37] ذيله بأمرًا مفعولًا لكونه مقصودًا أصليًا وخيرًا مقضيًا ولما قال جل شأنه: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ} إشارة إلى قصة داود عليه السلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال سبحانه: {قَدَرًا مَّقْدُورًا} لكون الافتتان شرًا غير مقصود أصلي من خلق المكلف، وفيه ما فيه، والجملة اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيقه.

.تفسير الآية رقم (39):

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}
{الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح.
وقرأ عبد الله {بَلَغُواْ} فعلًا ماضيًا، وقرأ أبي {رِسَالَةَ} على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى نزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها {وَيَخْشَوْنَهُ} أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لاسيما في أمر تبليغ الرسالة {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ الله} في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث أن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك، وهذا كالتأكيد لماتقدم من التصريح في قوله سبحانه: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى {وكفى بالله حَسِيبًا} أي كافيًا للمخاوف أو محاسبًا على الكبائر والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير، واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السلام مطلقًا، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} بناء على أن الخشية فيه عنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه كما قاله ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وإن أهل السنة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكى عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلًا، وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفًا من أن يهرب.
ومذهب أهل السنة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة.
وقسموا العدو إلى قسمين: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافًا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنة والشيعة، والثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة. وعلى هذا تكون التقية أيضًا قسمين: أما الأول: فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين حقيقة أو حكمًا وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه الى الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف فأرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفًا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدًا، وأما الثاني: فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية.
وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضم: تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض.
وقال جمع: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن.
وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة: الحق أن الهجرة هاهنا قد تجب أيضًا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته، وقال إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها اه، وفيه بحث وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك. بقى لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل: إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدًا إلا الله وقد أخبر عز وجل عن موسى عليه السلام بأنه قال: {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} [طه: 45] وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى فما وجه الجمع؟ قلت: أجيب بأن الخشية أخص من الخوف.
قال الراغب: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته، وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوص لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكى عن موسى عليه السلام، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادي الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل؛ وهو جواب حسن، وقيل: إن موسى عليه السلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل؛ وهو جواب حسن، وقيل: إن موسى عليه السلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول بينه وبين اتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف لله عز وجل، والمراد بما نفى عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه عنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى الله تعالى هداك.

.تفسير الآية رقم (40):

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)}
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} رد لمنشأ خشيته صلى الله عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه} [الأحزاب: 37] وهو قولهم: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه الصلاة والسلام على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبًا إن شاء الله تعالى، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد، وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الولدان *والاقربون} [النساء: 7] وقوله سبحانه: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة} [النساء: 12] ونحو قوله عليه الصلاة والسلام: «فلأولى رجل ذكر» والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف، وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى: {والمستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان} [النساء: 75] فإن الرجال فيه للبالغين، وفيه بحث، نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ، وأيًا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم، وإن أريد بهم الذكور مطلقًا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقًا كبارًا كانوا أو صغارًا.
والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلى الله عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة، ومن المعلوم أن زيدًا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا له مطلقًا، أما كونه صلى الله عليه وسلم ليس أبًا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه، ومثله كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع، وأما كونه صلى الله عليه وسلم ليس أبًا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعًا على شرائط، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة، وتعميم نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة والأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه كلام في انتفاء الأوليين وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول: تزوج محمد عليه الصلاة والسلام زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقية عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه أصلًا.
ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم، ولعله لهذا أيضًا صرح بنفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام ليعلم نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم، ويؤتي بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلى الله عليه وسلم بتزوجه مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أن هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلى الله عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة وإن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان أبًا لزيد مجازًا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعي بابن محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: {ادعوهم لاِبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فدعوه حينئذ بابن حارثة، ووجه انحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر، وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت، وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس مضافًا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم باعتباره، ومن خص الرجال بالبالغين قال: لا ينتقض العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرًا ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من الهجرة وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب، ومن ولده له صلى الله عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد كة قبل الهجرة وتوفي فيها، وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودًا يوم النزول بل بعده وهو كما ترى، وكما استشكل النفي بما ذكر استشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أبًا لهما حقيقة شرعية، ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار الولادة لدخول علي كرم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه، وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما ولدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا لكن بالواسطة.
فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب. أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفًا، وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر، وقيل: ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد له صلى الله عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى عنهم ولا جواب.
وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان والله تعالى أعلم. واستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجو أن يقال للنبي عليه الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال: ونص الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها، وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه: ويسمى كل من كان سببًا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبًا ولذلك سمي النبي صلى الله عليه وسلم أبا المؤمنين قال الله تعالى: {النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] وفي بعض القراآت {وَهُوَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} وروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: لعلي كرم الله تعالى وجهه «أنا وأنت أبوا هذه الأمة» وإلى هذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» اه فلا تغفل، وعلى جواز الإطلاق قالوا: إن قوله تعالى: {ولكن رَّسُولَ الله} استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلى الله عليه وسلم أبًا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلى الله عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه الصلاة والسلام فإن كان رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلى الله عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضًا إنه لما نفيت أبوته صلى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم مع اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل: إن لوطًا عليه السلام عنى بقوله: {هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلى الله عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة تنبيهًا على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر، وأما قوله سبحانه: {وَخَاتَمَ النبيين} فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلى الله عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى: {ولكن رَّسُولَ الله} أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسول عليهم السلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول را لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالًا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه، وقيل: إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل، وقيل: إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى: {مّن رّجَالِكُمْ} من أنه صلى الله عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيًا فلا يكون هو صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي الله تعالى عنهما، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال: كان إبراهيم يعني ابن النبي صلى الله عليه وسلم قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيًا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السلام، وجاء نحوه في روايات أخر، أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال قلت لعبد الله بن أبي أو رأيت ابراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مات صغيرًا ولو قضى بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده.
وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه.
وأخرج ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن له مرضعًا في الجنة ولو عاش لكان صديقًا نبيًا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي» وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في «تهذيب الأسماء واللغات»: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيًا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم، ومثله ابن عبد البر فقد قال في «التمهيد»: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيًا لكان كل أحد نبيًا لأنهم من نوح عليه السلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الإخبار عن مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيًا لا لكونه ابن النبي صلى الله عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم و{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وحينئذٍ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيًا منع ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيًا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش.
وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السلام ونبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم عليه وأفلضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلى الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السلام ونبينا عليه الصلاة والسلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك.
فإن قيل: إنه عوض صلى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني نزلة هارون من موسى» إلا أنه لا نبي بعدي قلنا. فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسلام أولادًا ذكورًا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلابد من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: {رَسُولِ الله} كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلى الله عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهو تنافي خاتميته اه، وفيه أن الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولًا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقى حكمه صلى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى.
وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا عنى رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريم لكنه شجاع بل عنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: {يا قوم ليس بي سفاهة ولكني من رَبّ العالمين} [الأعراف: 67] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكًا بالمعنى الأول اه فليتأمل.
ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية: إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السلام، ثم نقل عن السبكي كلامًا في حديث: «كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد» حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيًا ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره اه وفيه بحث. وخبر أنه عليه الصلاة والسلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي» في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله، والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد: {خاتم} فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك. وقرأ الجمهور {الله وَخَاتَمَ} بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضًا، وفي حرف ابن مسعود ولكن نبيًا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسلام بها في هذه النشأة.
ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان لأنه كان نبيًا قبل تحلي نبينا صلى الله عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلًا وفرعًا فلا يكون إليه عليه السلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاكمًا من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنة وهو عليه السلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في قوله صلى الله عليه وسلم:«إن عيسى ينزل حكمًا عدلًا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية» فنزوله عليه السلام غاية لإقرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد، وقوله: أنه عليه السلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنها بحال لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسلام ولذا لم يتقدم لإمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السلام فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضًا، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير وت البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكمًا، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في «البحور الزاخرة» وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرًا في الكتاب والسنة فبعيد وإن كان عليه السلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنة على الوجه المعروف.
نعم لا يبعد أن يكون عليه السلام قد علم في السماء بعضًا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة في بعض آخر، وقيل: إنه عليه السلام يأخذ الأحكام من نبينا صلى الله عليه وسلم شفاهًا بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسلام، وأيد بحديث أبي يعلى:«والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه».
وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء: قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعًا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فارتج علي فرأيت عليًا كرم الله تعالى وجهه قائمًا بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستًا فقلت: لم لا تكلمها سبعًا قال: أبدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع، وقال أيضًا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله عليه الصلاة والسلام يقظة ومنامًا فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلى الله عليه وسلم يقظة ومنامًا ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالًا وبلادًا فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدًا.
وفي «تنوير الحلك» لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما أخرجه البخاري. ومسلم. وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».
وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة.
وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل: المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به في حياته ولم يره لكونه حينئذٍ غائبًا عنه فيكون الخبر مبشرًا له بأنه لابد أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري: هذا الحديث يدل على أن من يراه صلى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسلام أو هذا كان في حياته وهل ذلك لكل من رآه مطلقًا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنته عليه الصلاة والسلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلى الله عليه وسلم فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى المراد منه، ثم إن رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى صلى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالًا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال: بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال اه، وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارًا كثيرة تشهد له.
منها ما أخرجه ابن حبان في تاريخه. والطبراني في الكبير. وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحًا» ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يومًا، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح، ومنها ما ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم علي ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروي أكثر من يومين.
والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، ورا يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسلام التي هي أكمل الأرواح تجردًا وتقدسًا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ صفي الدين بن أبي منصور.
والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمان واحد في أقطار متباعدة.
ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد:
كالشمس في كبد السماء وضوؤها ** يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا

وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذٍ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلى الله عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسلام: وآخر مظان تحققها وقت الموت.
ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه، وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ، ثم إن الخبر المذكور فيما مر مذكور في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطاني بي» فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسلام قال: فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت، وإن كان الواقع فكأنما رآني فهو كقوله صلى الله عليه وسلم في خبر آخر: «فقد رآني» وفي آخر أيضًا «فقد رأى الحق» والمعنى أن رؤياه صحيحة، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأوراحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به، والخبر السابق الذي أخرجه ابن حبان. والطبراني. وأبو نعيم. عن أنس وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحًا» قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه وقال فيه ابن حبان: هو باطل والخشني منكر الحديث جدًا يروي عن الثقات ما لا أصل له.
وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث والحديث بتمامه عند الطبراني «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحًا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي وسى وهو قائم يصلي في قبره» وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتًا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحًا بل ترد إليه روحه ويكون حيًا، وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين، والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السلام، وقد ألف البيهقي جزأً في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار.
ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه اله من الشواهد درجة الحسن، والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير، وحياة نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السلام، وخبر «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله تعالى على روحي حتى أرد عليه السلام» محمول على إثبات إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم، ورا يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم، وخبر أبي يعلى. وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعًا أن موسى نقل يوسف من قبره صر، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حيث توفى عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر.
وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدًا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدًا منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه، وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة. والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحث.
وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن مني أن أقول: كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول: إنهم إنما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم منامًا فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا: رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول: إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدًا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلى الله عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنته صلى الله عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك.
ورا يدعي أنه عليه الصلاة والسلام ظهر ولكن كان متسترًا في ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرأة، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى مرآته عليه الصلاة والسلام وملاحظة أنه كثيرًا ما ظهرت فيها صورته حسا ظنه ابن خلدون.
فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فأطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب.
هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة والسلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه هو من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار.
أخرج ابن عدي عن أنس «بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رأينا بردًا ويدًا فقلنا: يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه قالوا: نعم قال: ذلك عيسى ابن مريم سلم علي» وفي رواية ابن عساكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئًا ولم أره قلنا: يا رسول الله صافحت شيئًا ولا نراه قال: ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه» ومن هنا عد عليه السلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: إنه عليه السلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عز وجل وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة، وقد دل قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} على انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه، ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة، ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد كما قال اللقاني عن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السلام مريم وأم موسى في قول ورجلًا خرج لزيارة أخل له في الله تعالى وبلغته أن الله عز وجل يحبه كحبه لأخيه فيه.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال: قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى حامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثنى عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري وارزقني أعمالًا زاكية ترضى بها عني وتب علي فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه فقال: ذاك جبريل عليه السلام، والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه، وكفى دليلًا لما نحن فيه قوله سبحانه: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس: إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى، وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أثناء الكلام على مدح أولئك السادة: ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل: ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للإنسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علمًا دائمًا وعملًا مستمرًا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة، وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة للكافر عقوبة اه.
ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال: إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب، والظاهر من كلامهم أن الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنة مانع كبير عن ذلك، ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم علي حتى اكتويت فترك ثم تركت الكي فعاد، ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفًا لحكم الكتاب والسنة كاذب لا ينبغي أن يصغي إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكًا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه ملكًا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة، فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضًا من وجه آخر قال: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم علي وفي رواية الحاكم في المستدرك اعلم يا مطرف أنه كان يسلم على الملائكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال: فلما برأ كلمه قال: اعلم يا مطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم على حتى أموت، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو أيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين، وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الإطهار وهم رضي الله تعالى عنهم عزل عن قبول قول أولئك الأشرار.
فقد روي أن سديرًا الصيرفي سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه فقال: جعلت فداك إن شيعتكم اختلفت فيكم فاكثرت حتى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك؟ قال: لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج الله تعالى وأمنائه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه، حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار وقد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول، وقد كان يتمكن عرقهم في العراق لولا همة وإليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم نصره الله تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرًا ودفع عنه في الدارين ضيمًا وضيرًا. وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السلام بعد نزوله، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمى فقال: نعم يوحى إليه عليه السلام وحي حقيقي كما في حديث مسلم وغير عن النواس بن سمعان، وفي رواية صحيحة «فبينما هو كذلك إذا وحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادًا لي لايد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السلام إذ هو السفير بين الله تعالى وأنبيائه» لا يعرف ذلك لغيره، وخبر لا وحى بعدي باطل، وما اشتهر أن جبريل عليه السلام لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو لا أصل له، ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله تعالى وهو على طهارة اه، ولعل من نفى الوحي عنه عليه السلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه فتأمل.
وكونه صلى الله عليه وسلم حاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السنة واجمعت عليه الأمة فيكفر مدعى خلافه ويقتل أن أصر.
ومن السنة ما أخرج أحمد. والبخاري. ومسلم. والنسائي. وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني دارًا بناء فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فانا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن جابر مرفوعًا نحو هذا، وكذا عن أبي بن كعب. وأبي سعيد الخدرس رضي الله تعالى عنهم، وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنة والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة، ونصب {رَّسُولٍ} على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردًا، وجوز أن يكون النصب بالعطف على {أَبَا أَحَدٍ} وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو {لَكِنِ} بالتشديد فنصب {رَّسُولٍ} على أنه اسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الزمخشري: تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وإخواتها جائز إذ دل عليه الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ** ولكن زنجيا عظيم المشافر

أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن أبي عبلة بتخفيف {لَكِنِ} ورفع {رَّسُولٍ وَخَاتَمَ} أي ولكن هو رسول الله إلخ كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السفاف فيهم ** ولكن مدرة الحرب العوالي

أي ولكن أنا مدرة {وَكَانَ الله بِكُلّ شَيْء} أعم من أن يكون موجودًا أو معدومًا {عَلِيمًا} فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين.