فصل: تفسير الآية رقم (70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (70):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} في كل ما تأتون وتذرون لاسيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلًا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلى الله عليه وسلم {وَقُولُواْ} في كل شأن من الشؤن {قَوْلًا سَدِيدًا} قاصدًا ومتوجهًا إلى هدف الحق من سد يسد بقكسر السين سدادًا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته، والمراد على ماقيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسلام، وعن مقاتل. وقتادة أن المعنى وقولوا قولًا سديدًا في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وزيد. وزينب، وعن ابن عباس. وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله، وقيل: هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل: ما فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى.

.تفسير الآية رقم (71):

{يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}
{يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} بالقبول والإثابة عليها على ما روى عن ابن عباس. ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويَجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعمل {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات {فَقَدْ فَازَ} في الدارين {فَوْزًا عَظِيمًا} لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته.
قال في الكشاف وهذه الآية يعني {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله} [الأحزاب: 70] إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام لأن وصفه بوجهاته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل.

.تفسير الآية رقم (72):

{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}
{إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السموات والأرض *والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيهًا على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم راعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى الاستعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الإعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه.
{وَحَمَلَهَا الإنسان} أي هذا الجنس نحو {إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] و{إِنَّ الإنسان ليطغى} [العلق: 6] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزامها مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو إما عبارة عن قبولها وجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق، وتخيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضًا وكذا الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه، وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطًا في الظلم مبالغًا فـ يالجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا وجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلًا، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلًا عن وجوده في غالبها، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (73):

{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}
{لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضًا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير بقوله سبحانه: {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولًا لتهويل الخطاب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار ثانيًا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض الأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبئ عنه قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف عزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولًا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيًا، وقد يقال: مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عز وجل بها وأن قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ} إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروى نحوه عن سعيد بن جبير. وهو غير ما ذكر أولًا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل: الصلاة فقد روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال: إنه دخل على وقت أمانة عرضها الله تعالى على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل: الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق.
وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الأمانة ثلاثة الصلاة والصيام والغسل من الجنابة» وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنًا ولا معاهدًا في شيء قليل ولا كثير، وقيل: هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع. والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال: «أول ماخلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة».
ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبر إن صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السموات إلخ.
وحكى ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عز وجل خلق للسماوات والأرض والجبال فهمًا وتمييزًا فخيرت في الحمل فأبت وروى ذلك عن ابن عباس.
وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم. وابن الأنباري عن ابن جريج قال: بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال: إني فارض فريضة وخالق جنة ونارًا وثوبًا لمن أطاعني وعقابًا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابًا ولا عقابًا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال، ويعلم مما ذكر أن الاباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل، وقيل: لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولًا.
وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السلام، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض.
فقد أخرج ابن جرير.
وابن المنذر. وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر وقيل: بدونه.
قال ابن الجوزي: لما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال: للسماوات احملي هذه فأبت وقالت: إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه: للأرض احمليها فقالت: لا طاقة لي بها وقال تعالى للجبال: احمليها فقالت: لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانها لا تضعها فهذه الأمة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان سمع من آدم عليه السلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السلام.
أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السلام عرضها عليه فقال: يا رب وما هي؟ قال سبحانه: هي إن أحسنت أجرتك وأن أسأت عذبتك قال: فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطائهم الفهم والتمييز كان سمع من آدم عليه السلام وأنه بعد أن سمع الاباء حملته الغيرة على الحمل، ورا يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عز وجل بنص {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ} [آل عمران: 33] زيد الظلم والجهل؛ وكون المعنى كان ظلومًا جهولًا بزعم الملائكة عليهم السلام قول بارد، وحمله على معنى كان ظلومًا لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولًا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبه ما تحمل لا يزيل البعد، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلى ونفسه ذلك كما قيل:
الظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلة لا يظلم

إلا على القول بإرادة الجنس، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظًا ومعنى، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها، ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ** وتحمل أخرى أخرجتك الودائع

فيكون الإباء امتناعًا من الخيانة وإتيانًا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلومًا جهولًا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون: إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض: هذا أمانة عندك كذا شهرًا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرًا، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال: عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفًا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصًا في الخيانة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبابائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلومًا جهولًا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه عنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل: حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسى سورتها، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفًا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده، وقوله سبحانه: {لّيُعَذّبَ} تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة: إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلومًا جهولًا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا أختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عز وجل قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} في موضع التعليل للحمل.
ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلًا أو بعضًا على وجه المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى: {لّيُعَذّبَ} إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل، وقيل: لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه، وأيضًا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71] فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك حض الفضل وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم.
وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} أي مبالغًا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم.
ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة: {ياأيها النبى اتق الله} [الأحزاب: 1] إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهي يتعلقان به عليه الصلاة والسلام، وفيه أيضًا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عز وجل حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر «إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما».
وقيل: إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول: إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة، والثاني: إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلًا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول {وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} [الأحزاب: 4] فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل: الولد سر أبيه، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثًا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} [الأنعام: 95] {فإن لم تعلموا آباءهم ف‘خوانكم في الدين ومواليكم}
[الأحزاب: 5] فيه إشارة إلى أن للدين نوعًا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث {النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] لأنه عليه الصلاة والسلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية {وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب: 7] أي في الأزل إذ كانوا أعيانًا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين {ليسئل الصادقين عن صدقهم} [الأحزاب: 8] سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقًا إلى الوجود الحقيقي {ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب: 9] إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسمًا يقال لهم اليثربيون وقال: هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين: {ياأهل. يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَذَكَرَ الله كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] لأنه عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عز وجل كثيرًا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] أي رجال كاملون، وقول بعضهم: أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح.
{ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحًا جميلًا} [الأحزاب: 28] إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببًا لمفارقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسلام تكون سببًا للأجر العظيم {يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ} [الأحزاب: 30] إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام.
ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الامانة} [الأحزاب: 72] الآية فلنذكر بعضًا من ذلك فنقول: قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص: إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانهب السعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى.
وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرًا جامعًا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفى، وقال آخر: هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلومًا أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرًا عظيمًا وكونه جهولًا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدى حقها من حيث أنهما صارتا سببًا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذمًا في حق شخص ومدحًا في حق آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل.