فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (13):

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب} جمع محراب وهو كما قال عطية القصر، وسمي باسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته، فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة اسم لمن يكثر الحرب وليس منقولًا من اسم الآلة وإن جوزه بعضهم، ولابن حيوس:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ** ما أحسن المحراب في محرابه

ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام، وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله.
وقال ابن زيد: المحاريب المساكن، وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف، وقال مجاهد: هي المساجد سميت باسم بعضها تجوزًا على ماق يل، وهو مبني على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد الله تعالى فيها أو لموقف الإمام.
وأخرج ابن المنذر. وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معًا، وجملة {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} استئناف لتفصيل ما ذكر من عملهم، وجوز كونها حالًا وهو كما ترى {وتماثيل} قال الضحاك: كانت صور حيوانات، وقال الزمخشري: صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان اتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزًا كما قال الضحاك وأبو العالية.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس أنه قال في الآية اتخذ سليمان عليه السلام تماثيل من نحاس فقال: يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه واسنفديار من بقاياهم؛ وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة، وأما ما روي من أنهم عملوا له عليه السلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة، وقيل: التماثيل طلسمات فتعمل تمثالًا للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان، وقد اشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية، وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مرارًا أناسًا لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيرًا ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلًا فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة، وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات محذوفة الرؤوس مما جوز في شرعتنا، ولا يحتاج إلى التزام ذلك إلا إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملًا لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلًا.
وحكى مكي في الهداية أن قومًا أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضًا وكذا ابن الفرس واحتجوا بهذه الآية. وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية، وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه رور الزمان اتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سدًا لباب التشبه تخذي الأصنام بالكلية {وَجِفَانٍ} جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقًا كما ذكره غير واحد، وقال بعض اللغويين: الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليه المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد، وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى: {كالجواب} أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبى إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع، وجاء تشبيه الجفنة بالجالية في كلامهم من ذلك قول الأعشى:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة ** كجابية السيح العراقي تفهق

وقول الأفوه الأودي:
وقدور كالربى راسية ** وجفان كالجوابي مترعة

وذكر في سعة جفان سليمان عليه السلام أنها كانت على الواحدة منها ألف رجل. وقرئ {كالجوابي} بياء وهو الأصل وحذفها للاجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه {كالجواب وَقُدُورٍ} جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص {رسيات} ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة، وقيل: كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل لأن الصور ترفع في المحاريب أو تنقش على جدرانها، وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولًا لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبئ عنه قوله تعالى: {رسيات} على ما سمعت أولًا، وكأنه لما بين حال الجفان اشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة.
{اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} بتقدير القول على الاستئناف أو الحالية من فاعل {سَخَّرْنَا} المقدر وآل منادي حذف منه حرف النداء و{شاكرا} نصب على أنه مفعول له، وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لا عملوا لأن الشكر نوع من العمل فهو كقعدت القرفصاء، وقيل: لتضمين {اعملوا} معنى اشكروا، وقيل: لاشكروا محذوفًا أو على أنه حال بتأويل اسم الفاعل أي اعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي اعملوا عملًا شكرًا أو على أنه مفعول به لاعملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة، وقيل: إن اعملوا أقيم مقام اشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون.
وقال ابن الحاجب: أنه جعل مفعولًا به تجوزًا. وأيًا ما كان فقد روي ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما قيل لهم اعملوا آل داود شكرًا، لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي، وفي رواية كان مصلى آل داود لم يخل من قائم يصلي ليلًا ونهارًا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته، والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط؛ وقيل: له في ذلك فقال: أخاف إذا شبعت أن أنسي الجياع، وجوز بعض الأفاضل دخول داود عليه السلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه.
ويؤيده ما أخرجه أحمد في الزهد: وابن المنذر. والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بن عتيبة قال: قال داود عليه السلام يا رب هل بات أحد من خلقك أطول ذكرًا مني فأوحى الله تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه السلام {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} فقال داود عليه السلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم علي ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك؟ فقال جل وعلا: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي.
وجاء في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه السلام قال يا رب: كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه: الآن شكرتني حين علمت النعم مني، وكذا ما أخرجه الفريابي: وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال داود لسليمان عليهما السلام: قد ذكر الله تعالى الشكر فاكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال: لا أستطيع قال: فاكفني صلاة النهار فكفأه {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} قال ابن عباس: هو الذي يشكر على أحواله كلها، وفي الكشاف هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافًا واعتقادًا وكدحًا وأكثر أوقاته، وقال السدي: هو من يشكر على الشكر، وقيل: من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكرًا آخر لا إلى نهاية، وقد نظم هذا بعضهم فقال:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ** علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ** وإن طالت الأيام واتسع العمر

إذا مس بالنعماء عم سرورها ** وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وقد سمعت آنفًا ما روي عن داود عليه السلام، وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داود وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جيء بها إخبارًا لنبينا صلى الله عليه وسلم وفيها تنبيه وتحريض على الشكر.
وقرأ حمزة {عِبَادِى} بسكون الياء وفتحها الباقون.

.تفسير الآية رقم (14):

{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} قيل أي أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه، وفي مجمع البيان أي حكمنا عليه بالموت، وقيل: أوجبناه عليه، وفي البحر أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود، وفيه تكلف، وأيًا ما كان فليس المراد بالقضاء أخا القدر فتدبر، ولما شرطية ما بعدها شرطها وجوابها قوله تعالى: {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأرض} واستدل بذلك على حرفيتها وفيه نظر؛ وضمير {دَلَّهُمْ} عائد على الجن الذين كانوا يعملون له عليه السلام، وقيل: عائد على آل سليمان، ويأباه بحسب الظاهر قوله تعالى بعد: {تَبَيَّنَتِ الجن} والمراد بدابة الأرض الأرضة بفتحات وهي دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى سرفة بضم السين وإسكان الراء المهملة وبالفاء، وفي حياة الحيوان عن ابن السكيت أنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتخذ لنفسها بيتًا مربعًا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها ثم تدخل فيه وتموت، وفي المثل أصنع من سرفة وسماها في البحر بسوسة الخشب، والأرض على ما ذهب إليه أبو حاتم وجماعة مصدر أرضت الدابة الخشب تأرضه إذا أكلته من باب ضرب يضرب فإضافة {دَابَّةٍ} إليه من إضافة الشيء إلى فعله، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس. والعباس بن الفضل {الأرض} بفتح الراء لأنه مصدر أرض من باب علم المطاوع لأرض من باب ضرب يقال أرضت الدابة الخشب بالفتح فأرض بالكسر كما يقال أكلت القوادح الأسنان أكلًا فأكلت أكلًا فالأرض بالسكون الأكل والأرض بالفتح التأثر من ذلك الفعل.
وقد يفسر الأول بالتأثر الذي هو الحاصل بالمصدر لتتوافق القراءتان، وقيل الأرض بالفتح جمع أرضة وإضافة {دَابَّةٍ} إليه من إِضافة العام إلى الخاص، وقيل: إن الأرض بالسكون عناها المعروف وإضافة {دَابَّةٍ} إليها قيل لأن فعلها في الأكثر فيها، وقيل لأنها تؤثر في الخشب ونحوه كما تؤثر الأرض فيه إذا دفن فيها وقيل غير ذلك والأولى التفسير الأول وإن لم تجئ الأرض في القرآن بذلك المعنى في غير هذا الموضع، وقوله تعالى: {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} في موضع الحال من {دَابَّةٍ} أي آكلة منسأته والمنسأة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها أو من نسأته إذا أخرته ومنه النسيء، ويظهر من هذا أنها العصا الكبيرة التي تكون مع الراعي وأضرابه.
وقرأ نافع. وابن عامر. وجماعة {مِنسَأَتَهُ} بألف وأصله منسأته فأبدلت الهمزة ألفًا بدلًا غير قياسي.
وقال أبو عمرو: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا فإن كانت مما لا تهمز فقد احتطت وإن كانت مما تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، ولعله بيان لوجه اختيار القراءة بدون همزة وبالهمز جاءت في قول الشاعر:
ضربت بمنسأة وجهه ** فصار بذاك مهينًا ذليلا

وبدونه في قوله:
إذا دببت على المنسأة من هرم ** فقد تباعد منك اللهو والغزل

وقرأ ابن ذكوان وبكار. والوليد بن أبي عتبة. وابن مسلم. وآخرون {مِنسَأَتَهُ} بهمزة ساكنة وهو من تسكين المتحرك تخفيفًا وليس بقياس، وضعف النحاة هذه القراءة لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنًا غير ألف، وقيل: قياسها التخفيف بين بين والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدًا على السكون في هذه القراءة قول الراجز:
صريع خمر قام من وكأته ** كقومة الشيخ إلى منسأته

وقرئ بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبًا وحذفًا و{منساءته} بالمد على وزن مفعالة كما يقال في الميضأة وهي آلة التوضؤ وتطلق على محله أيضًا ميضاءة، وقرئ {منسيته} بإبدال الهمزة ياء. وقرأت فرقة منهم عمرو بن ثابت عن ابن جبير {صَلَحَ مِنْ} مفصولة حرف جر {ساته} بجر التاء وهي طرف العصا وأصلها ما انعطف من طرفي القوس ويقال فيه سية أيضًا استعيرت لما ذكر إما استعارة اصطلاحية لأنها كانت خضراء فاعوجت بالاتكاء عليها على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في القصة أو لغوية باستعمال المقيد في المطلق، وا ذكر علم رد ما قاله البطليوسي بعدما نقل هذه القراءة عن الفراء أنه تعجرف لا يجوز أن يستعمل في كتاب الله عز وجل ولم يأت به رواية ولا سماع ومع ذلك هو غير موافق لقصة سليمان عليه السلام لأنه لم يكن معتمدًا على قوس وإنما كان معتمدًا على عصا. وقرئ {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} بصيغة الماضي فالجملة إما حال أيضًا بتقدير قد أو بدونه وإما استئناف بياني.
{فَلَمَّا خَرَّ} أي سقط {تَبَيَّنَتِ الجن} أي علمت بعد التباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولًا في الأعمال الشاقة إلى أن خر، والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفى عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روي عن قتادة، وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم االمدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب، وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينًا.
وجوز أن يكون تبين عنى بان وظهر فهو غير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه {أَن لَّوْ كَانُواْ} إلخ وهو في هذا الوجه بدل من {الجن} بدل اشتمال نحو تبين زيد جهله، والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بان للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب، ولا حاجة على ما قرر إلى اعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل {أَن لَّوْ كَانُواْ} إلخ بدلًا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا إلخ، وجعل بعضهم في قوله تعالى: {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} إلخ قياسًا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب، ومجيء تبين عنى بان وظهر لازمًا وعنى أدرك وعلم متعديًا موجود في كلام العرب قال الشاعر:
تبين لي أن القماءة ذلة ** وأن أعزاء الرجال طيالها

وقال الآخر:
أفاطم إني ميت فتبيني ** ولا تجزعي كل الأنام تموت

وفي البحر نقلًا عن ابن عطية قال: ذهب سيبويه إلى أن {ءانٍ} لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل للذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم فما لبثوا جواب القسم لا جواب لو اه فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجهًا يلتفت إليه.
وفي «أمالي» العز بن عبد السلام أن الجن ليس فاعل {تَبَيَّنَتِ} بل هو مبتدأ {وَإِنَّ لُوطًا كَانُواْ يَعْلَمُونَ} خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في {تَبَيَّنَتِ} إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى: {الجن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِي العذاب المهين} اه، والعجب من صدور مثله عن مثله، وما جعله مانعًا عن فاعلية {الجن} مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قرئ {تَبَيَّنَتِ الجن} بالنصب على أن تبينت عنى علمت والفاعل ضمير الإنس {والجن} مفعوله، وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه. ويعقوب بخلاف عنه {تَبَيَّنَتِ} مبنيًا للمفعول، وقرأ أبي {تَبَيَّنَتِ الإنس} عنى تعارقت وتعالمت والضمير في {كَانُواْ} للجن المذكو فيما سبق وقرأ ابن مسعود {تَبَيَّنَتِ الإنس ءانٍ الجن *لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات فروى أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال: ما كان الله تعالى ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له واتخذ منها عصا وقال: اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهون وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فاعلمني فقال: أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة فعدا الجن فبنوا عليه صرحًا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئًا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتًا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارًا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيًا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة، ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والاقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانًا وتترك أحيانًا.
وأما كون بدئها في حياته فبعيد، وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعملوا المدة، وروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن باتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب، وهذا بظاهره مخالف لما روى أن إبراهيم عليه السلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داود ومات قبل أن يتمه، وأيضًا إن موسى عليه السلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه، وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه السلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، وأيضًا قد روى أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرًا لله تعالى على ذلك. وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس، وعن الثاني بأن المراد بفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركًا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه عليه السلام، ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلًا ومرحبًا، وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان.
وقال القرطبي في التذكرة المراد به فرقة منحازة عن غيرها، مجتمعة تشبيهًا بالخيمة، ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول، وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد. واختير أن هذا رواية وذاك رواية والله تعالى أعلم بالصحيح مهما. وروى أنه عليه السلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليًا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال: له كيف دخلت علي بلا إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن فقال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له: طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء على عصاه فقبض روحه وخفي على الجن موته حتى سقط، وروى أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه، ولذا لم تقربه الجن وخفي أمر موته عليهم.
ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى دة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه، وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه السلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها، ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد.
ومن الغريب ما نقل عن ابن عباس أنه عليه السلام مات في متعبده على فراشه، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير {خَرَّ} للباب وإليه ذهب بعضهم، وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة، وأيضًا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر، وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر والله تعالى أعلم.
وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضًا، وكان عمره عليه السلام ثلاثًا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وانقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه، وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضًا.