فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (6):

{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)}
{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} أي أقرب السموات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى عنى أقرب أفعل تفضيل {بِزِينَةٍ} عجبية بديعة {الكواكب} بالجر بدل من {زِينَةُ} بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة:
فكأن أجرام النجوم لوامعا ** درر نثرن على بساط أزرق

وجوز أن تكون عطف بيان. وقرأ الأكثرون {بِزِينَةٍ الكواكب} بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانًا لها، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون الزينة مصدرًا كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب، وقرأ ابن وثاب. ومسروق. بخلاف عنهما. والأعمش. وطلحة. وأبو بكر {بِزِينَةٍ} منونًا {الكواكب} نصبًا فاحتمل أن يكون زينة مصدرًا والكواكب مفعول به كقوله تعالى: {أَوْ طَعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا} [البلد: 14، 15] وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح إعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة، وأيضًا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة، واحتمل أن يكون {الكواكب} بدلًا من {السماء} بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر كما قرروه في قوله تعالى: {قُتِلَ أصحاب الاخدود النار} [البروج: 4، 5].
وقيل: اللام بدل منه، وجوز كونه بدلًا من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين، وكونه منصوبًا بتقدير أعني. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {بِزِينَةٍ} منونًا {الكواكب} رفعًا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة، وزعم الفراء أنه ليس سموع. وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض. وحكى النسيابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة. وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)}
{وَحِفْظًا} نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على {زَيَّنَّا} [الصافات: 6] أي وحفظناها حفظًا أو عطف على {زِينَةُ} باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظًا لها، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضع وغير عطف التوهم وجوز كونه مفعولًا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها. وقوله تعالى: {مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئًا، ومنه الأمر لتجرده عن الشعر، وفسر هنا أيضًا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (8):

{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)}
{لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى} أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين، وضمير الجمل لكل شيطان لأنه عنى الشياطين.
وقرأ الجمهور {لاَ يَسْمَعُونَ} بالتخفيف، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤن العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقًا، والمراد بالملأ إلا على الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل.
وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة عليهم السلام، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي.
وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثاب. وعبد الله بن مسلم. وطلحة. والأعمش. وحمزة. والكسائي. وحفص بناءً على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع عنى طلب السماع، قيل: ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل: إنه يركب بعضهم بعضًا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع، وقال أبو حيان: إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع.
وقال ابن كمال: عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ الأعلى وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافًا نحويًا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيامه لعدم الحفظ عمن عداها. وكذا لم يجوز كونها استئنافًا بيانيًا واقعًا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذٍ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية، وكذا كونها حالًا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السموات ممن لا يسمع أو لا يسمع بسبب هذا الحفظ، وهو نظير {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} [المؤمنون: 44] {وَسَخَّرَ لَكُمُ اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ}
[النحل: 12] ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل قتيلًا فله سلبه» من مجاز الأول. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبًا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافًا بيانيًا أيضًا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال: المعنى لا يمكنون من السماع مع الإصغاء أولًا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك، ولابد من ذلك جعلت الجملة وصفًا ولا جمعًا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذٍ يكون الوصف شديد الطباق؛ ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ؟ وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله سبحانه: {وَحِفْظًا مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ} [الصافات: 7] مما يحرك الذهن له فقيل {لاَ يَسْمَعُونَ} جوابًا عما يكون عنده {وَيَقْذِفُونَ} لكيفية الحفظ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس نقطع معنى انتهى.
واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتًا تامًا تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ} [الصافات: 10] إلخ ينادي على صحته، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد، وقيل: إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظًا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعًا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه. وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافًا وكونها حالًا فلا تغفل.
{وَيَقْذِفُونَ} أي يرمون ويرجمون {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود عليها، وليس المراد أن كل واحد يرمي من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمى منه.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو {يقذفون} بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة، وجوز أن يكون الكواكب، وأمر ضمير العقلاء سهل وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (9):

{دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)}
{جَانِبٍ دُحُورًا} مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسًا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورًا مقام قذفًا أو {يقذفون} مقام يدحرون، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير {يقذفون} [الصافات: 8] على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين، وجوز كونه جمع داحر عنى مدحور كقاعد وقعود، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناءً على القراءة الأخرى، وجوز أن يكون منصوبًا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور. وقرأ السلمي. وابن أبي عبلة. والطبراني عن أبي جعفر {جَانِبٍ دُحُورًا} بفتح الدال فاحتمل كونه نصبًا بنزع الخافض أيضًا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولًا بالفتح عنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفًا دحورًا طاردًا لهم، وأن يكون مصدرًا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء عنى السقوط والرسول عنى الرسالة.
{وَلَهُمْ} أي في الآخرة {عَذَابِ} آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب {وَاصِبٌ} أي دائم كما قال قتادة. وعكرمة. وابن عباس، وأنشدوا لأبي الأسود:
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه ** يومًا بذم الدهر أجمع واصبا

وفسره بعضهم بالشديد، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه. والآية على ما سمعت كقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك: 5] وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائمًا وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع.

.تفسير الآية رقم (10):

{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)}
{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناء متصل من واو {يَسْمَعُونَ} [الصافات: 8] و{مِنْ} بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك: إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في البحر هنا وجهًا ثانيًا، وقيل: هو منقطع على أن {مِنْ} شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرب عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولًا به على إرادة الكلمة. وقرأ الحسن وقتادة {خَطِفَ} بكسر الخاء والطاء مشددة، قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل. وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها. وقرئ {خَطِفَ} بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن. وقتادة. وعيسى، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها، وأما كسر الطاء فلا وجه له، وقيل في توجيهها: إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى، وعن ابن عباس {خَطِفَ} بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في البحر حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم {فَأَتْبَعَهُ} أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال عنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد {شِهَابٌ} هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء {ثَاقِبٌ} مضيء كما قال الحسن. وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاضي أنه قال: يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال: ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوؤه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد {الثاقب} المتوقد وهو قريب مما تقدم.
وأخرج عن السدي {الثاقب} المحرق، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لانتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب عنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلًا.
وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمي به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه: إنه حينئذٍ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضًا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطًا أو صاعدًا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أوذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وأنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارًا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانًا كذوات الأذناب ورا تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمي بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقًا، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم، ولعل أقرب الاحتمالات في أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء متكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت: إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قابل الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال: إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك مسترق، ويمكن أن يقال: إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضًا.
وإن شئت قلت: إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، والله عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداءً عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا: إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا صابيح وجعلناها رُجُومًا للشياطين} [الملك: 5] لأن جعلها رجومًا يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع أشعتها على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجومًا على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول: جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق. وزعم بعضالناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه: {وجعلناها رُجُومًا} على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه والصلاة والسلام خبر، وقيل: يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة السماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين كذلك، وقيل: يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها. وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا صابيح} [الملك: 5] إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها ورا دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفًا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه، نعم يجوز أن يقال: إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارًا ورؤي منقضًا ولا يعجز الله عز وجل شيء، وقد يقال: إن في السماء كواكب صغارًا جدًا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى: {وَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا صابيح وجعلناها رُجُومًا للشياطين} [الملك: 5] من باب عندي درهم ونصفه و{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب وَحِفْظًا} [الصافات: 6، 7] الآية ان كان على معنى وحفظًا بها فهو من ذلك الباب أيضًا وإلا فالأمر أهون فتدبر. واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذي به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك، ولا يأبى تأثير الشهاب في كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، وأيًا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل منهم لأنا نقول: لا نلسم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلًا عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنافيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصه فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولًا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانًا مم حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبًا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلًا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبًا لمثل ذلك، ولعل في وصف الشياطين بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسًا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ان عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطئ من رمي به، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد ياليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال: انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال: إنه حدث بعد عشرين يومًا من مبعثه، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا انه يحتمل انه لم يكن طاردًا للشياطين وأن يكون طاردًا لهم لكن لا بالكلية وان يكون طاردًا لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردًا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السموات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقال قريش: قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا، وقال بعضهم: اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى: {مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8] ولم يقل حرست، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الاعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور، منها إن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن نئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟ وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على {محدبها} والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لاسيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام. وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء.
وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية، و{وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} [الجن: 8] طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم اذا تذهبون؟ فيخبونهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء، وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كان أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم.
عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال: إذا قضي الله تعالى أمرًا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدًا فتحسب الجن أن أمرًا يقضي فتسترق فإذا عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا لأرؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعًا: الحق وهو العلي الكبير. وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة. وعبد بن حميد. وابن المنذر عن إبراهيم التيمي: إذا أراد ذو العرش أمرًا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء الله: الحق وهو العلي الكبيرولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضًا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للافلاك ليس عدم الحجب أغرب منها.
ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع، أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم. وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء، وفيه أيضًا من الحكم ما فيه، ولا يخفى أن مثل هذا الاشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيمًا وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين.