فصل: تفسير الآية رقم (229):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (229):

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ عْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
{الطلاق مَرَّتَانِ} إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} [البقرة: 228] وهو الرجعي وهو عنى التطليق الذي هو فعل الرجل كالسلام عنى التسليم لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضًا بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ عْرُوفٍ} أي بالرجعة وحسن المعاشرة {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين، أو يطلقها الثالثة وهو المأثور فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلًا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمع الله تعالى يقول: {الطلاق مَرَّتَانِ} فأين الثالث؟ فقال: «التسريح بإحسان هو الثالثة» وهذا يدل على أن معنى {مرتان} اثنتان، ويؤيد العهد كالفاء في الشق الأول فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم المطلقات من العدّة والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة وأوفق بسبب النزول فقد أخرج مالك، والشافعي، والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها؛ ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدًا، فأنزل الله تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التغريق كما في تحفتهم، واستدلوا عليه بأن عويمرًا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثًا قبل أن يخبره صلى الله عليه وسلم بحرمتها عليه رواه الشيخان فلوحرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدًا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة التفريق لما روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا فتطلقها لكل قرء تطليقة» فإنه لم يرد صلى الله عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرًا مباحًا في نفسه لا مندوبًا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين أعني ما لا يستوجب عقابًا وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع والطلاق في الحيض بدعة أي موجب لاستحقاق العقاب وبهذا يندفع ما قيل: إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة، وأمّا إنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى وفي الهداية وقال الشافعي: كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكم والمشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في حالة الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها لا الطلاق ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، وهي في المفرّق على الأطهار ثابتة نظرًا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا تنافي الحظر لمعنى في غيره وهو ما ذكرناه» انتهى.
ومنه يعلم أن المخالف معمم لا مقسم وإذا قلنا إنه مقسم بناءًا على ما فيه كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها واقعة حال فلعلها من المستثنيات لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور؛ وإعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصًا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضًا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ عْرُوفٍ} كرارًا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضًا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكمًا زائدًا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التكرير دون التثنية على حد {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عله إخراج التثنية عن معناها الظاهر، وكذا إخراج الفاء أيضًا وجعل ما بعدها حكمًا مبتدأ وتخييرًا مطلقًا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبًا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل الفاء حينئذ على التركيب الذكري أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح فالإمساك في الرجعي والتسريح في غيره، وإذا كان معنى مرتين التفريق مع التثنية كما قال به المحققون بناءًا على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر، وفيما بعدها أيضًا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادًا من {مَرَّتَانِ} الدالة على التفريق والتثنية.
وعدم الجمع بين الثالثة مستفادًا من قوله سبحانه: {أَوْ تَسْرِيحٌ} حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من دلالة النص هذا، ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيًا، وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه قالوا: لو طلق ثلاثًا بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة احتجاجًا بهذه الآية وقياسًا على شهادات اللعان ورمي الجمرات فإنه لو أتى بالأربع بلفظ واحد لا تعد له أربعًا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعًا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة فإنه لا يكون بارًا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكًا بما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنيتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه.
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضًا لما أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت فراجعها» والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله.
والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصًا في المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولًا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلًا: إنه عجيب فإن صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثًا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لاسيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلاث إلخ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلًا عن كونه أحسن، ثم قال: والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخًا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثَمّ أطبق علماء الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلى الله عليه وسلم انتهى، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعي ظاهرًا، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرًا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثًا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثًا متعلقًا بقال لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقًا ثلاثًا ولا تمييز للإبهام الذي في الجملة قبله؛ وبفم واحدة معناه متتابعًا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود، والبيهقي عن طاوس أن رجلًا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئًا، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلى الله عليه وسلم فيجتهد فيها من أوتي علمًا فيجعلها واحدة؛ وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك، والشافعي، وأبو داود، والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسًا مع عبد الله بن الزبير، وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس بن البكير فقال إن رجلًا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس، وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثًا بلفظ واحد وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقًا بائنًا، فلم يكن أنت طالق إيقاعًا على حدة فيقعن جملة، كان هذا الخبر معارضًا لما رواه مسلم مؤيدًا للنسخ كالخبر الذي أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: «كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثًا قال: فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثًا عند الأقراء أو ثلاثًا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره لراجعتها»، وما أخرجه ابن ماجه عن الشعبي قال: «قلت لفاطمة بنت قيس حديثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثًا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته ألبتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها عليه» وهذا لا يصلح دليلًا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستحلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان ورمي الجمرات قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعًا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالاتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبًا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقًا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضًا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم} [النور: 4] مع قوله سبحانه بعده: {والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات} [النور: 6] إلخ فكما أن شهادة الشهود متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثًا بلفظ واحد ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: «سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثًا بجهالة أو علم فقد برئت»، وعن مسلمة بن جعفر الأحمس قال: «قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثًا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثًا فهو كما قال»، وقد سمعت ما رويناه عن الحسن؛ وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورًا في كتاب.
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} في مقابلة الطلاق {مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقًا بما عنده أو حال من {شَيْئًا} لأنه لو أخر عنه كان صفة له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشًا للنظم الكريم لأن قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَا} أي الزوجان كلاهما أو أحدهما {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج والزواجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدًا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرئ {تَخَافَا} و{تقيما} بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين، وقرأ حمزة ويعقوب {أَن يَخَافَا} على البناء للمفعول وإبدار {ءانٍ} بصلته من ألف الضمير بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حدود الله ويعضده قراءة عبد الله {إِلا أَنْ تَخَافُواْ} وقال ابن عطية: عدى {خاف} إلى مفعولين أحدهما أسند إليه الفعل، والآخر: بتقدير حرف جر محذوف فموضع {ءانٍ} جرّ بالجار المقدر، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما: بحرف الجرّ، وفي قراءة أبيّ {إِلا أَنْ} وهو يؤيد تفسير الظنّ بالخوف.
{وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ} خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} التي حدّها لهم. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح {فِيمَا افتدت بِهِ} نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه، أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس: «أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما» وفي رواية البخاري: أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك، والشافعي، وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين.
{تِلْكَ حُدُودُ الله} إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: {الطلاق مَرَّتَانِ} إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} بالمخالفة والرفض {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون}.
تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرًا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلًا عن الزائد لأن من في {مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة ما في قوله سبحانه: {فِيمَا افتدت} فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في الحكم المذكور بل فاء التفسير في {فَإِنْ خِفْتُمْ} يدل ظاهرًا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصًا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول: ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة».
وقال: «المختلعات هي المنافقات» ويؤيد الثاني: ما روي من بعض الطرق أنه صلى الله عليه وسلم قال لجميلة: «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله عليه وسلم: أما الزائد فلا» وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمى الاختلاع افتداءًا، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخًا احتج بقوله تعالى: