فصل: تفسير الآية رقم (24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (24):

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)}
{الخطاب قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طمعه، وليس هذا ابتداء من داود عليه السلام إثر فراغ المدعى من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل: ذلك على تقدير {لَقَدْ ظَلَمَكَ} إن كان ما تقول حقا؛ وقيل ثم كلام محذوف أي فاقر المدعى عليه فقال: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} إلخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها انه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه، وجاء في رواية أنه عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فاقر فقال له: لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} إلخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه، وقيل: ذهبا نحو السماء رأى منه، وقال الحليمي: إنه عليه السلام رأى في المدعى مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعي عليه فاستعجل بقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرًا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديمًا وحديثًا؛ وفيما وقع من إخوة يوسف عليه السلام ولم يكونوا أنبياء على الأصح ما يزيل الاعتماد في هذا الباب، وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا، وزعم أن ذنب داود عليه السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته، والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل: {لَقَدْ ظَلَمَكَ} بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه {وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ الخلطاء} أي الشركاء الذي خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضًا منه الزمخشري {لَيَبْغِى} ليتعدى {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} غير مراع حق الشركة والصحبة.
{إلاَّ الَّذينَ ءَامَنُوا وَعَملُوا الصالحات} منهم فانهم يتحامون عن البغي والعدوان {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي وهو قليل جدًا فقليل خبر مقدم و{هُمْ} مبتدأ وما زائدة، وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل: ما أقلهم، والجملة اعتراض تذييلي، وقرئ {لَيَبْغِى} بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد:
اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

يريد اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف وذلك القسم وجوابه خبر لأن، وعلى قراءة الجمهور اللام هي الواقعة في خبر ان وجملة {يبغي} إلخ هو الخبر، وقرئ {ليبغ} بحذف الياء للتخفيف كما في قوله تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وقوله:
محمد تفد نفسك كل نفس ** إذا ما خفت من أمر تبالا

والظاهر أن قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ الخلطاء} إلخ من كلام داود عليه السلام تتمة لما ذكره أولًا وقد نظر فيه ما كان عليه التداعي كما هو ظاهر التعبير بالخلطاء فإنه غالب في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في الماشية وجعل على وجه استعارة النعجة ابتداء تمثيل لم ينظر فيه إلى ما كان عليه التداعي كأنه قيل: وان البغي أمر يوجد فيما بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم وترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلى المظلوم عما جرى عليه من خليطة وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل: إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان كثيرًا ما يجرى بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما، قال في الكشف: والمحمل الأظهر هذا.
وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر. ثم قال: ولعل الأظهر حمل الخلطاء على مالتعارفين والمتضادين واضرابهم ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج على نحو:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا

والغلبة في الشركاء الذي خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذا لم ترد الخلطة اه. وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه} الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له، فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه، وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه، وجوز إبقاء الظن على حقيقته، وأنكر ابن عطية مجيء الظن بعد العلم اليقيني وقال: لسنا نجده في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن عنى أيقن إلى آخر ما أطال، ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الاستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز، وظاهر ما بعد أنه هنا عنى العلم و{إِنَّمَا} المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة، ومن قال بإفادتها إياه حملًا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الأطرد فليس المقصود هاهنا قصر الفتة عليه عليه السلام لأنه يقتضي انفصال الضمر، ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز، ومن يدعي الأطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفًا وإلغازًا.
وقرأ عمر بن الخطاب. وأبو رجاء. والحسن بخلاف عنه {فتناه} بتشديد التاء والنون مبالغة، والضحاك {افتناه} كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة:
لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت ** سعيدًا فأمسى قد غوى كل مسلم

وقتادة. وأبو عمرو في رواية {دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه} بضمير التثنية وهو راجع إلى الخصمين {فاستغفر رَبَّهُ} إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب {وَخَرَّ رَاكِعًا} أي ساجدًا على أن الركوع مجاز عن الجسود لأنه لا فضائه إليه جعل كالسبب ثم تجوز به عنه أو هو استعارة لمشابهته له في الانحناء والخضوع والعرب تقول نخلة راكعة ونخلة ساجدة، وقال الشاعر:
فخر على وجهه راكعا ** وتاب إلى الله من كل ذنب

وقيل أي خر للسجود راكعًا أي مصليًا على أن الركوع عنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها، وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه عنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26].
وقال الحسين بن الفضل: أي خر من ركوعه أي سجد بعد إن كان راكعًا، وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر عني سجد. والجمهور على ما قدمنا، واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها. وفي الكشف قالوا أي الحنفية: إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعًا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه.
وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع {فَانٍ قُلْتَ}: إن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت: لا علي في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيًا غناء السجود، ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخصوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن: لا يكون ساجدًا حتى يركع أو خر مصليًا والمعتبر غاية الخضوع وليست في الركوع اه.
ولا يخفى أن المعروف من النبي صلى الله عليه وسلم السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة والسلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية: إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته، وعني صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أخرج النسائي. وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص} وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرًا أي على قبول توبة داود عليه السلام من خلاف الأولى بعلى شأنه وقد لقي عليه السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وآدم عليه السلام وإن لقي أمرًا عظيمًا أيضًا لكنه كان مشوبًا بالحزن على فراق الجنة فجوزى لذلك بأمر هذه الأمة عرفة قدره وانه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة، ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في قصة زينب المقتضى للعتب عليه بقوله تعالى: {وَتُخْفِى فِي نَفْسِكَ} [الأحزاب: 37] الآية فيكون ذكرها مذكرًا له عليه لصلاة والسلام ما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكأن ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له، ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم السلام فتأمله، ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية، وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر، وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية، ومن فسر {خَرَّ رَاكِعًا} بخر للسجود مصليًا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه السلام صلاة مشتملة على الجسود وكانت للاستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة دواد عليه السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد {وَأَنَابَ} أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25)}
{فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي ما استغفرنا منه.
أخرج أحمد. وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال: يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي على كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم؟ أم طمآن فتسقي؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك، وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدًا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال إلخ، وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبًا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر لهحاربه فهزمه.
وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعًا ولم يشرب شرابًا إلا مزجه بدمع عينيه، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه، ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة، فقد أخرج أحمد. والحكيم الترمذي. وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه.
وأخرج أحمد. وغيره عن ثابت عن صفوان. وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} قرية بعد المغفرة.
{وَحُسْنُ مَئَابٍ} وحسن مرجع في الجنة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية: يدنو من ربه سبحانه حتى سضع يده عليه، وهو إن صح من المتشابه. وأخرج أحمد في الزهد. والحكيم الترمذي. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها: يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عز وجل: يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخرمي الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول: يا رب كيف وقد سلبته؟ فيقول: إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة.
هذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه وفي بعض الآثار أنه وزيره فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزًا في شريعته معتادًا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضًا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخًا له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلًا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته.
وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالمًا بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانًا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها.
وقيل أنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلًا طبيعيًا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة، ونقل هذا عن أبي مسلم، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال نصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال نصبه عليه السلام.
ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب: من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العرافي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو حيان: الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانًا أنهم يغتالونه إذ كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه عز وجل فلما اتضلح له أنهم جاؤا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدًا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عز وجل قال: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} ولم يتقدم سوى قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فتناه} [ص: 42] ونعلم قطعًا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر:
ونؤثر حكم العقل في كل شبهة ** إذا آثر الأخبار جلاس قصاص

انتهى؛ ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قومًا قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقوامًا فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به، وقيل: الاستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ} على معنى فغفرنا لأجله، وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال نصب النبوة ولا يقبل تأويلًا يندفع معه ذلك ولابد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلى شأنه والاستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة.