فصل: تفسير الآية رقم (67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (67):

{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)}
{قُلْ} تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لابد من الاعتناء به أمرًا وائتمارًا {هُوَ} أي ما أنبأتكم به من كوني رسولًا منذرًا وأن الله تعالى واحدًا لا شريك له {عَذَابٌ عظِيمٌ} خبر ذو فائدة عظيمة جدًا لا ريب فيه أصلًا.

.تفسير الآية رقم (68):

{أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)}
{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة. واستظهر بعض الأجلة أن {هُوَ} للقرآن كما روى عن ابن عباس. ومجاهد. وقتادة، واستشهد بآخر السورة وقال: إنه يدخل ما ذكر دخولًا أوليًا، واختار كون هذه الجملة استئنافًا ناعيًا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول؛ وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما في أول السورة من قوله تعالى: {والقرءان ذِى بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1، 2] جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (69):

{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)}
{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} إلخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضًا كذلك؛ وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدًا لإرشاد الطريق وتذكيرًا للباقي وتسلقًا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضًا طريًا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفًا، فلا يقال: إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميمًا لذلك.
وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيًا من عند الله تعالى متلازمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو من صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى: {قُلْ} [ص: 67] فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روى عن ابن عباس ومن معه، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1، 2] وقيل: ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام، وقيل تخاصم أهل النار، وعدى العلم بالباء نظرًا إلى معنى الإحاطة، والملأ الجماعة الإشراف لأنهم يملؤن العيون رواء والنفوس جلالة، وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني {الاعلى} والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وإذ متعلقة حذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملا إلا على وقت اختصامهم، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملا إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضًا من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسا ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضًا، وقيل: إذ بدل اشتمال من {الملا} أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} [البقرة: 30] إلخ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال، وضمير الجمع للملأ. وحكى أبو حيان كونه لقريش وابتعده وكأن في {يَخْتَصِمُونَ} حينئذ التفاتًا من الخطاب في {أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 68] إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى الله عليه وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم، وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (70):

{إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}
{إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرًا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينًا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئًا عن ثبوته الآن، ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه وسلم بشيء من مباديه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتمًا فجعل ذلك أمرًا مسلم الثبوت غنيًا عن الاخبار به قصدًا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له، فالقائم مقام الفاعل ليوحي إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقًا أو ما يعمه وغيره، فالمعنى ما يوحى إلى حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدًا إلى المصدر المفهوم من {يُوحَى} أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني إلخ.
وجوز أيضًا كون الجار والمجرور نائب الفاعل {وَإِنَّمَا} على تقدير اللام، قال في الكشف: ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك: لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد.
وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقامًا مقام الفاعل، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا لأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنًا وإما التزامًا أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إلى، وما ذكر أولًا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيًا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر {إِنَّمَا} بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلى إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمر عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفًا، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلًا فتدبر ولا تغفل.
وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (71):

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)}
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} إلخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ لأن تكليمه تعالى إياهم كان بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملا الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله: {أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة. ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملا الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عز وجل مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال: إن قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} يقتضي أن تكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ومراد، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه تعالى أيضًا، وأريد هذا المعنى من هذا الإيراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفًا، وجعل الله عز وجل من الملا الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائمًا به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عز وجل ينبو المقام عنه نبوًا ظاهرًا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارًا بما كرر مرارًا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقًا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة.
وروعي هذا النسق هاهنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي؛ وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنًا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله صاحب الكشف وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارًا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعًا منه صلى الله عليه وسلم وكان عالمًا بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنًا فاختصرت هاهنا لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضًا: وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال: {أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} [البقرة: 31] تبكيتًا لهم بما نسبوا إليه من قولهم {أَتَجْعَلُ} فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردًا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه لما أسمع.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} إلخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأن من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفًا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضًا لاسيما إذ جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} من {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلًا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله: {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ} [ص: 69] فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَّيَقُولَنَّ خَلْقَهُمْ العزيز العليم الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض} [الزخرف: 9، 10] فالخطاب بلكم نظرًا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك هاهنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول: مخاطبك جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول: يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وإن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقال: إن {إِذْ} قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} ظرف ليختصمون، والمراد بالملا الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} [البقرة: 30] في مقابلة قوله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض} [البقرة: 30] إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم تفصيل الاختصام مطلقًا بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنًا أم لا، ويجرح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضًا وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر.
وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات، فقد أخرج الترمذي وصححه. والطبراني. وغيرهما عن معاذ بن جبل قال: «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال: على مصفاكم ثم التفت إلينا ثم قال: أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد قلت: لبيك ربي قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال: يا محمد قلت: لبيك قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات والكفارات فقال: ما الدرجات؟ فقلت: إطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال: صدقت فما الكفارات؟ قلت: إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الإقدام إلى الجماعات قال: صدقت سل يا محمد فقلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: تعملوهن وادرسوهن فإنهم حق» ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر راحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشكرون له عليه الصلاة والسلام أصلًا، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام، وجعل هؤلاء إذ في {إِذْ قَالَ} منصوبًا باذكر مقدرًا، وكذا كل من قال: إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك.
والشهاب الخفاجي قال: الأظهر أي مطلقًا تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشتمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى {رَبَّكَ} انتهى، وفيه شيء لا يخفى.
ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن آدم عليه السلام والرد به حاصل أيضًا، والمراد بالملائكة في {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} ما يعم إبليس لأنه إذ ذاك كان مغمورًا فيهم، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملا الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جدًا قوله سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} {إِنّى خالق بَشَرًا مّن طِينٍ} وقيل: عبر بذلك إظهارًا للاستغراق في المقول له، والمراد إني خالق فيما سيأتي، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف، والبشر الجسم الكثيق يلاقي ويباشر أو بادي البشرة أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف، والمراد به آدم عليه السلام؛ وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمإ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة في بعض المادة البعيدة، ثم إن ما جرى عند وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلًا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية.